
التعليم تحت قبضة الاستبداد: كيف غرس نظام الأسد الولاء في نفوس الأجيال السورية
تُعد الأنظمة الاستبدادية من أكثر الكيانات حرصاً على اختراق النسيج المجتمعي والتحكم في أدوات التشكيل الفكري، وكان نظام بشار الأسد نموذجاً صارخاً لهذا التوجه، حيث عمد إلى تحويل المنظومة التعليمية من فضاء معرفي حر إلى ساحة لتكريس الولاء السياسي وبناء أجيال تدين بالولاء المطلق للحاكم، وتتعاطى مع السلطة كقدر مقدس لا يُناقش.
من المدرسة إلى القصر: الولاء يبدأ من الطفولة
منذ السنوات الأولى لدخول الطفل السوري إلى المدرسة، تبدأ عملية ممنهجة لغرس مفاهيم الولاء للنظام. لم تكن المدارس مجرّد أماكن لتلقي العلم، بل تحوّلت إلى مؤسسات أيديولوجية خاضعة لسيطرة الدولة الأمنية، تشرف على كل تفصيل فيها، بدءاً من الكتب والمناهج، وصولاً إلى المعلمين والأنشطة.
وشكل الأطفال دون سن 18 هدفاً مباشراً لهذه العملية، باعتبارهم الأسهل في التلقين والأكثر قابلية للتطويع. المناهج الدراسية حفلت بشعارات التمجيد لشخص الحاكم، ووصفت حافظ الأسد بـ"القائد الخالد" وبشار بـ"الضامن للأمن والاستقرار"، لتتحول الحصة الدراسية إلى منصة لتأليه الحاكم لا لتعليم الطفل.
رمزية الصورة... والسلاح النفسي
صور حافظ وبشار الأسد تملأ الصفوف، تتوسط الجدران، تتكرر على أغلفة الكتب، وتُرفق بأناشيد مثل "بالروح بالدم نفديك يا بشار"، و"سوريا الأسد"، و"الله، سوريا، بشار وبس"، إلى جانب شعارات حزب البعث التي تُفرض على الطلاب بوصفها مسلمات. هذه الشعارات لم تكن مجرد ديكور بل كانت أداة نفسية لترويض الطلاب وتخويفهم من مجرد التفكير في الخروج عن "النص الرسمي".
الأدلجة في كل مادة
لم يقتصر التسييس على مواد التربية الوطنية أو التاريخ، بل امتد إلى الجغرافيا والكيمياء والرياضيات، حيث كانت كل مناسبة تُستغل لربط أي مفهوم بـ"عظمة القائد" و"بصيرته". حتى الكوارث الطبيعية كانت تُدرّس على أنها محن تجاوزها الشعب السوري بفضل "حكمة الرئيس". أما التاريخ، فتمت إعادة كتابته بما يخدم الرواية الرسمية: من تهميش الثورات الحقيقية إلى تضخيم دور الأسد الأب والابن.
"طلائع البعث" و"الشبيبة"... أذرع أمنية بثوب تربوي
أنشأ النظام مؤسسات مثل "طلائع البعث" للأطفال، و"اتحاد شبيبة الثورة" للمراهقين، وهي كيانات تمارس أدواراً رقابية وتعبوية، وتُستخدم في مراقبة أفكار التلاميذ ورفع التقارير الأمنية، وتحويل الانتماء الفكري إلى "بلاغ أمني". من خلالها، يندمج الطالب مبكراً في بنية الولاء للحزب الحاكم، ويتم فصله تماماً عن أية مساحات تفكير حر أو نقاش سياسي نقدي.
الخوف... المعلّم الصامت في كل صف
أُجبر الطلاب على مراقبة بعضهم البعض، وتحولت المدرسة إلى فضاء قائم على الشك والريبة. تسود ثقافة الوشاية، ويُكافَأ من يبلغ عن زميله، سواء في حديث خاص أو رأي مشكك. وهكذا، تربّى جيل على الخوف من الكلمة، وعلى قمع التفكير الذاتي حتى في أحاديثه الداخلية. فنتج عن ذلك طلاب يحملون وعيًا مشوهًا، لا يعرفون إن كانوا يؤمنون بما يقولون أو يرددونه تحت الضغط، وعاجزين عن فهم الفرق بين الوطن والنظام، وبين الاحترام والخنوع.
نتائج مدمّرة على الوعي الجمعي
هذا النظام التعليمي المفخخ ترك آثارًا نفسية عميقة على أجيال كاملة: هوية مشوشة، خوف مرضي من التعبير، فقدان القدرة على بناء رأي مستقل، وتضليل فكري مزمن. بات الطالب، وحتى بعد تخرجه، مشلولاً معرفياً لا يستطيع مناقشة ما تعلمه ولا نقده، خشية أن يُتهم بالخيانة أو التمرّد على "الثوابت الوطنية".
جريمة تربوية ممنهجة
إن ما قام به نظام الأسد من تحويل التعليم إلى أداة للهيمنة الفكرية والسياسية يُعدّ جريمة تربوية حقيقية. لا تقتصر آثارها على اللحظة الراهنة، بل تمتد لتقوّض مستقبل البلاد، لأنها تفرغ الأجيال من قدرتها على التفكير الحر والإبداع والاستقلال. فبدلاً من أن يكون التعليم جسراً للوعي والتحرر، حوّله النظام إلى سجن ذهني مغلق، لا يسمح بالخروج منه إلا من بوابة الولاء المطلق.
من هنا، فإن أي حديث عن إعادة إعمار سوريا لا يكتمل دون إصلاح جذري للمؤسسة التعليمية، يعيد لها جوهرها كمساحة للمعرفة، ويُنقذ الأجيال القادمة من التلوث الأيديولوجي الذي رسّخه النظام. لا مستقبل لسوريا دون تعليم حرّ يفتح العقول لا يكمّمها، ويحرر النفوس لا يُخضعها.