اجتمع رئيس الجمهورية، السيد أحمد الشرع، مع رئيس الهيئة الوطنية للمفقودين، الدكتور محمد رضا جلخي، لبحث أعمال الهيئة وخططها التنفيذية في معالجة ملف المفقودين في سوريا، الذي يُعد من أبرز أولويات العدالة الانتقالية في المرحلة الراهنة.
واستعرض اللقاء الخطوات العملية التي تقوم بها الهيئة، وفي مقدمتها تشكيل فريق استشاري موسّع يضم خبراء في مجالات القانون وحقوق الإنسان، إلى جانب ممثلين عن عائلات المفقودين والمؤسسات ذات الصلة، بما يكرّس التشاركية ويعزز ثقة الضحايا بالعملية الوطنية لكشف مصير أبنائهم.
كما تناول الاجتماع مشروع إنشاء قاعدة بيانات وطنية شاملة للمفقودين، تعتمد أحدث أدوات التوثيق والتحقق، وتضمن توحيد الجهود بين الجهات الرسمية والمجتمع المدني في جمع البيانات، وحفظها بطريقة مؤمنة ومهنية.
وأكد الجانبان على ضرورة تنظيم عمليات التوثيق وفق معايير شفافة وواضحة، مع تقديم الدعم القانوني والنفسي والمعنوي لعائلات المفقودين، وتمكينهم من الوصول إلى حقوقهم في المعرفة والإنصاف.
وشدّد الرئيس الشرع على أن الشفافية والتشاركية يجب أن تكونا الركيزتين الأساسيتين في عمل الهيئة، بما يضمن حماية حقوق المفقودين وكرامة ذويهم، ويعكس التزام الدولة السورية بمبادئ العدالة والمحاسبة، في سبيل بناء مجتمع قائم على الحقيقة والإنصاف وسيادة القانون.
وسبق أن أعربت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا عن ترحيبها بقرار الرئاسة السورية تشكيل لجنة وطنية مختصة بملف المفقودين، معتبرة هذه الخطوة "إيجابية وبداية ضرورية" على طريق إيجاد حل حقيقي ومستدام لأحد أكثر الملفات الإنسانية تعقيداً في البلاد.
كما رحّبت اللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) بإصدار مرسوم رئاسي في 17 أيار/مايو 2025، يقضي بتأسيس اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية واللجنة الوطنية لشؤون المفقودين في سوريا، معتبرة أن هذه الخطوة تمثل انطلاقة مهمة على طريق تحقيق العدالة والمساءلة.
وأكدت اللجنة أن تأسيس هاتين المؤسستين يوفر فرصة حقيقية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي ارتُكبت خلال العقود الماضية، والكشف عن مصير نحو 200 ألف شخص لا يزالون في عداد المفقودين، في واحدة من أكبر القضايا الحقوقية في المنطقة.
ورأت اللجنة الدولية أن هذا الإعلان الرسمي يُظهر التزام الدولة السورية بتحمل مسؤولياتها تجاه الجرائم والانتهاكات، وخاصة تلك المتعلقة بملف المفقودين، مشيرة إلى أن إنشاء مثل هذه اللجان يُعد من الممارسات الفضلى المعترف بها دوليًا في سبيل الكشف عن مصير آلاف الأشخاص المفقودين في ظروف مختلفة.
من جهته، كان أكد "فضل عبد الغني" مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، في مقال نُشر على موقع تلفزيون سوريا، أن "الاختفاء القسري" يُعد من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في سجل الانتهاكات التي شهدتها سوريا منذ عام 2011، مشيرًا إلى أن نظام الأسد البائد استخدم هذا الأسلوب كأداة لإرهاب المجتمع وتفكيك نسيجه الاجتماعي عبر استهداف الأفراد وعائلاتهم ومحيطهم.
وأوضح عبد الغني أن الشبكة السورية وثّقت ما لا يقل عن 177 ألف حالة اختفاء قسري على يد مختلف أطراف النزاع، ما يجعل هذا الملف من الركائز الأساسية لمسار العدالة الانتقالية بعد سقوط النظام في ديسمبر 2024، محذرًا من التعامل معه بشكل معزول أو إداري بعيد عن المسار المؤسسي الأشمل.
ولفت عبد الغني إلى أن المرسوم الرئاسي رقم 19 لعام 2025، الذي نصّ على إنشاء "الهيئة الوطنية للمفقودين"، يثير قلقًا حقيقيًا من ناحية البنية المؤسسية، إذ جاء بإنشاء كيان مستقل عن بقية هيئات العدالة الانتقالية، ما قد يؤدي إلى تضارب وظيفي وبيروقراطي يضعف فعالية الاستجابة الحقوقية المتكاملة.
وأوضح أن التعامل مع حالات الاختفاء القسري لا يقتصر على توثيق أسماء المفقودين أو تحديد مواقعهم، بل يتطلب ترابطًا مباشرًا مع آليات المحاسبة القضائية، ولجان التعويض، والإصلاح المؤسسي، وهي كلها أدوات لا يمكن فصلها عن مهام لجنة الحقيقة، وأكد أن هذا الفصل قد يُنتج فجوات معرفية ويُعيق تبادل البيانات والأدلة، ما يؤدي إلى ضعف التنسيق وتضارب التوصيات.
أوضح عبد الغني أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان كانت قد طرحت، في نيسان الماضي، رؤية تنص على دمج هيئة المفقودين ضمن لجنة الحقيقة، معتبرًا أن هذا الخيار يُمثل ضرورة منهجية وعملية، بالنظر إلى الطبيعة المركبة لجريمة الاختفاء القسري، وما تتطلبه من معالجة شاملة تأخذ في الحسبان الأبعاد السياسية والقانونية والاجتماعية.
وأشار إلى أن وجود وحدة مختصة بالمفقودين ضمن لجنة الحقيقة يُعزز من كفاءة العمل المؤسسي، ويسهم في الاستفادة من الموارد القانونية والتقنية وآليات الإحالة والتوثيق، كما يُجنّب ازدواجية التمثيل ويُرسّخ الثقة لدى الضحايا وذويهم، ويُمهّد لمسار أكثر تكاملًا وعدالة.
اختتم عبد الغني مقاله بالتأكيد على أن ملف المفقودين يمثل اختبارًا لجدّية الدولة السورية الجديدة في التزامها بمبادئ العدالة والمحاسبة، موضحًا أن الانتصار لهذا الملف لا يكون فقط بالكشف عن الأسماء أو المصير، بل من خلال تصميم بنية مؤسسية موحّدة تُبنى على التنسيق والتكامل بين الجهات، بما يضمن الإنصاف، وجبر الضرر، وعدم التكرار.
وأشار الحقوقي إلى أن نجاح العدالة الانتقالية في سوريا مرهون بقدرتها على توحيد المسارات والجهود، لا بتفكيكها إلى كيانات متوازية، مؤكّدًا أن تجاوز إرث الغياب والإنكار لا يتحقق إلا عبر مقاربة جماعية تضع "الضحايا في قلب السياسات الجديدة"، وتضمن حقهم في الحقيقة، والعدالة، والكرامة.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد أصدر في 17 أيار/مايو 2025 مرسومين رئاسيين يقضيان بتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" و"الهيئة الوطنية للمفقودين"، بهدف التصدي لإرث الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت خلال حكم النظام السابق، والكشف عن مصير أكثر من 100 ألف مفقود.
وتتمتع الهيئتان بالاستقلالين المالي والإداري، وتُكلفان بتوثيق الانتهاكات، ومساءلة المسؤولين عنها، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلات الضحايا، إلى جانب إنشاء قاعدة بيانات وطنية تُعنى بملف المفقودين.
وقد لاقت هذه الخطوة إشادة واسعة من أطراف دولية ومنظمات حقوقية، واعتبرتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مؤشراً واضحاً على التزام الحكومة السورية الجديدة بالمسار الحقوقي، وتحقيق العدالة والمصالحة الوطنية، في إطار أوسع لبناء بيئة مستقرة وآمنة تُمهّد لإعادة بناء الدولة على أسس القانون والحقوق.