«أحياناً لا تجد الإجابات عن الأسئلة التي تحاصرك، فلا تملك إلا التململ أو التجاهل أو الوقوف على سطح مبنى قديم؛ لتتأمل زرقة السماء، وحركة المجرات، وتعُد النجوم، وأنت ترتشف قهوة داكنةَ السواد، تشبه واقع الحال العربي «المقطع الأوصال»، ثم تزفر من قسوة الصورة، تظل واقفاً «بائساً» «مختشباً»، على شرفة عربية «آيلة للسقوط»، وأنت تستعرض شريط الأحداث السياسية، والشعارات والكلمات والتصريحات، ثم تدير ظهرك لتلك النافذة «الخجولة»، مصوِّباً عينيك على الشاشات الإخبارية، لتشاهد أخباراً مأسوية عاجلة تنقل عمليات قتل واغتيالات ومآسي ومذابح، لا يسلم منها أحد حتى النساء والأطفال الأبرياء.
تحل نوبات البكاء، وتمسح عينيك بمنديل من دم، ويظل قلبك يرتجف، ورئتاك تنهمران بالدموع. هكذا هي الحال في سورية وأنت تشاهد الموت والجثث وأشلاء الأطفال الأبرياء في كل البلدات وتحت الأنقاض».
هكذا بعض ما كتبت متلوعاً في عام 2012، على وقع حمام الدم في سورية.
تأملوا.. بعد مضي أعوام عدة لم يتغير شيء، فما لبثت أن وقعت مجزرة «الكيماوي» في الغوطة الشرقية (21 أغسطس 2013)، التي راح ضحيتها 1127 مدنياً سورياً، 201 منهم نساء، و101 طفل، ها أنا أكتب الآن على وقع مذبحة خان شيخون في 2017 التي لقي فيها أكثر من 100 مدني مصرعهم، بينهم 20 طفلاً بريئاً وبالكيماوي نفسه!
ما أظلم النظام البعثي في سورية وما أكثر جرائمه، وما أظلم القوى التي تدعمه: روسيا وإيران وتابعها «حزب الله» وتلك الميليشيات الطائفية. لا شك أن الضربة الأمريكية لنظام الأسد تبعث الأمل لكنها ليست كافية بل تحتاج إلى تكتل وتكامل دولي لإسقاط نظام المجرم.
وعلى رغم مرور أكثر من ستة أعوام.. لا يزال العالم غارقاً في الجدل أمام نفس الصورة، وعاجزاً في أكبر مؤسساته الأممية (مجلس الأمن) عن اتخاذ قرار ينقذ شعباً.
وتنتهي الاجتماعات المغلقة والمفتوحة إلى دماء وإحباطات.
روسيا مسلحة بالفيتو، وتتنزه بالطائرات في أجواء سورية كل يوم لإفناء شعب لا ذنب له. كم من السوريين هجِّروا من ديارهم بسبب النزاع؟ ثمانية ملايين سوري يعيشون لاجئين ومشردين، كأتعس ما تكون الحال. آلة بشار الأسد العسكرية التي تعززها الطائرات الروسية والميليشيات الإيرانية الأصيلة والوكيلة أبادت 500 ألف سوري، نصفهم من الأطفال والنساء..
والعالم يتفرج.. والجامعة العربية تجتمع وتنفضّ.. ومجلس الأمن يتلقى لطمات الفيتو الروسي مذبحة تلو مجزرة، والسوريون يموتون، وبراميل المتفجرات، وبراميل الغاز السام، وقذائف
الدبابات وصواريخ الطائرات لا تتوقف. والأسد يتفنن ويتلذذ بأكل لحم شعبه مشوياً، ومشوهاً، ومُدمىً.
عام سابع بدأ وبارود ونيران بشار وحلفائه لا تنتهي. و«داعش» يجز الرؤوس. والسوريون يُهجَّرون ويشردون وينزحون نحو موت جديد. ستة أعوام مضت وروائح الجثث أضحت مقيمة في كل بلدة وقرية ومحافظة سورية.
أين إرادة المجتمع الدولي لإسقاط نظام المجرم؟ ماذا أصاب العرب بعد أيام فقط من لقاء قادتهم على شط البحر الميت حيث رفرفت أعلام النظام السوري القاتل؟
كيف تجرأ النظام الأسدي على زيادة وتيرة سفك الدماء، وتدشين المجازر والمذابح، ونحر النسوة والأطفال، وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها؟ لقد تجرأ على تلك الفظائع؛ لأنه أَمِن العقاب الدولي، مطمئن إلى أن هناك قوى أكثر شراً منه تدعمه لا تبالي مثل «نيرون» تتفنن بحرق النظام العالمي في سبيل ضمان هيمنتها، وتحقيقها ما تعتبره نصراً على القوى التي تنافسها.
كيف يمكن إرساء مبدأ العدالة للشعوب لئلا تجد الأمم المتحدة مصير عصبة الأمم، وتصبح شريعة الغاب، و«القروش الكبيرة تأكل الأسماك الصغيرة» أساساً للنظام العالمي في القرن الـ 21.
الأكيد أن سورية تقطع من الوريد إلى الوريد، وأضحت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تكون، أو لا تكون.
إما أن يرفع العالم المعاناة عن شعبها، وإما نشيعها إلى مصير قاتم.
السؤال اليوم..
هل العالم على شفير مواجهة عالمية كبرى على الأراضي السورية؟!
هل سيبقى الدور العربي على الهامش حيال كارثة تواجه شعباً عربياً؟. الموقف السعودي السريع المؤيد للضربة العسكرية الأمريكية ضد نظام الأسد مهم و«متقدم»، ولو كانت الضربة محددة.
المخالب الأمريكية تعود للمنطقة.. والدب الروسي يدرس حلوله مع القتلة، ولكنه يعرف أن «نزهة أوباما ولت» وصرامة ترمب حضرت.
ترمب قال وفعل.. الرسالة الأمريكية وصلت للكرملين والملالي والأسد، لكنها ليست كافية قبل الشروع في خطة إسقاط نظام المجرم بشار الأسد ووضعه في «الزنزانة» ومحاكمته كمجرم حرب.
عهد ترمب ليس كعهد أوباما. المرحلة مختلفة. المنطقة ملتهبة، ومقبلة على المزيد من النار والبارود، والتضحيات، والمواجهات الكبيرة لحسم الملفات المؤجلة والمعلقة.
نام السوريون أمس على فراش وسير من الإشاعات والتكهنات ملأت صفحات التواصل، إثر اجتماع مجلس الأمن، والتسريبات الواردة من أمريكا التي لم تثبت حتى الصباح عندما استيقظ الجميع على ضربات التوماهوك الأمريكية للنظام السوري.
تتكرر هذه الحالة مع كل تلويح بتهديد يستهدف النظام الأسدي، فتعود أسطوانة انشقاق فاروق الشرع، وهروب الضباط من دمشق إلى الساحل، واستنفار أمني في محيط مشفى الشامي بدمشق، وسماع دوي انفجارات ضخمة في العاصمة دمشق.
من المضحك والمبكي في آن واحد!
أن تلامس فرحة ضربات التوماهوك الأمريكية لمطار الشعيرات قلوب الملايين، فانطلقوا للتعبير عن فرحتهم بكافة الطرق على وسائل التواصل المتاحة.
يرى الكثيرون أن هذه الضربات تهدف إلى إضعاف النظام، وضرب البنية التحتية له لا أكثر، بهدف فرض مناطق آمنة مستقبلاً، أو إجباره على الانحسار للساحل تمهيداً لفرض مناطق الحكم الذاتي التي ظهرت ملامحها في الآونة الأخيرة.
بينما يستبشر آخرون، ويعتبر ما حصل بداية حرب روسية أمريكية، ستوجع إيران حتماً، وتوقف احتلال المليشيات الشيعية لمناطق السنة، وتهجير أهلها أمام أعين المجتمع الدولي.
مما سيؤدي لقطع الحاضنة الشيعية في لبنان عن أختها في العراق، والتي كانت ستصل بحاضنة مصطنعة في سوريا بعد سياسة هدم مناطق السنة وتهجير أهلها منها.
كما أنها ستؤدي حتماً لإضعاف مليشيا حزب الله في المنطقة.
فهل ستصدق أمريكا وتتابع العمل، أم ستكتفي بتلك الضربات، لتكون رسالة لنظام الأسد، وعملية لابتزاز الروس والحصول على حصة أكبر؟
هذا ما سيظهر قريباً.
يوم 4 – 4 – 2017 هو يوم مأساة في سوريا، وسيكون أيضاً يوم واجه دونالد ترمب حقيقة أن يكون رئيساً للولايات المتحدة الأميركية!
ما حدث قبل ذلك كان انتخابات وخاضها ترمب بكل قوته وذكائه وماله. دخل واشنطن مثل قائد روماني عاد منتصراً من أرض المعركة، ودخل إلى البيت الأبيض بعقلية صانع التغيير في الولايات المتحدة وفي الساحة الدولية، ومن حينه حدثت أشياء.
أولها أن الرئيس الجديد أمر بعملية كوماندوس في اليمن، وقد قتل جندي أميركي من الوحدات الخاصة. ذهب ترمب لاستقبال الجثمان والتقى أهل الجندي القتيل. تحدث ترمب عن تلك التجربة، وقد ضاع منه الكلام، وقال "إن ما رآه كان جميلاً جداً".
بعد ذلك أخذ ترمب قرارات مهمة، مثل الذهاب مع "قوات سوريا الديمقراطية" إلى الرقة، وزيادة عدد المستشارين العسكريين في سوريا والعراق، وبدا حذراً جداً وكأن تجربة اليمن كانت درساً أول.
يوم 4 – 4 - 2017 قصف النظام السوري خان شيخون، وشاهد دونالد ترمب صور الأطفال القتلى! مات أكثر من ستين سورياً على يد نظام الأسد، ومات أيضاً "المرشح" في دونالد ترمب.
خلال المؤتمر الصحافي مع الملك عبدالله الثاني في حديقة الورود بالبيت الأبيض قال ترمب ما ترجمته حرفياً "وأقول لكم إن الهجوم على الأطفال أمس كان له أثر كبير عليّ، أثر كبير!". وأضاف أن أمراً آخر حدث "وهو أن موقفي تجاه سوريا والأسد تغيّر كثيراً".
كلام ترمب هذا يجب أن يثير لدينا بعضاً من المرارة، لأن كل الرؤساء الأميركيين يصبحون رؤساء فعلاً، بعد أسابيع من حفل تنصيبهم ودخولهم البيت الأبيض. دونالد ترمب مثله مثل أي رئيس قبله تصنعه اللحظات ويصبح إنساناً آخر عندما يقف أمامه مستشار الأمن القومي أو كبير الموظفين وهما يخبرانه أن مأساة وقعت، ومسؤوليته الآن هي التعاطي مع الواقع.
كلام ترمب يجب أن يذكّرنا أن المجرمين هم الذين يفرضون على الرؤساء الأميركيين الواقع المر حول العالم، وهذا ما فعله بشار الأسد عندما استعمل سلاحاً كيمياوياً في خان شيخون، وهذا ما فعله رئيس كوريا الشمالية عندما أطلق صاروخاً باليستياً باتجاه بحر اليابان في اليوم ذاته، وهذا ما فعله أسامة بن لادن عندما شنّت القاعدة هجوماً رباعياً بالطائرات المخطوفة يوم 11 – 9 –2001.
يجب القول الآن إن كل ما سمعناه من ترمب وعن ترمب أصبح من الماضي.
دونالد ترمب واجه حقيقة أن يكون رئيساً للولايات المتحدة، ومن الآن فصاعداً عليه أن يقرّر إرسال جندي أميركي إلى ساحة المعركة أو يترك العالم في مصائبه؟ أن ينغمس أكثر في سوريا أو يحبس أميركا خلف البحر ووراء السياج؟
يوم 4 – 4- 2017 سقط فلاديمير بوتين الحليف من عقل ترمب وجاء بوتين الذي يتحمّل المسؤولية عن تصرفات الأسد! ويوم 4 – 4 – 2017 كان يستعد رئيس الصين لزيارة ترمب في فندقه للتحدث إليه عن التجارة وأصبح رئيس الصين الذي عليه أن يتحدث عن ضبط صواريخ.
كوريا الشمالية ومنعه من تهديد اليابان وكوريا الجنوبية والسفن الأميركية في المياه الدولية!
يوم 4 – 4 – 2017 مات الأطفال وصار لنا رئيس يعرف الآن أن البيت الأبيض ليس استوديو تلفزيون، ويعرف أن العالم مليء بالمجرمين!
حاول إيران اختراق الدول العربية عبر مسارات ثلاثة تؤدي إلى نتيجة واحدة، أولها: تقديم نفسها بديلاً عن الحكومات والأنظمة القائمة في مقاومة العدو الإسرائيلي، مستغلة تعاطف الشعوب العربية والإسلامية مع القضية الفلسطينية، وذلك عبر دعم فريق على حساب آخر، وعلى عكس ما يحدث داخل إيران من تمتع النظام الحاكم بسلطة مطلقة، ورفض للمعارضة، فإنها في الدول العربية «تشرعن» وتدعم وجود ميليشيات، والنماذج ماثلة أمامنا في كل من: لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، أي أنها تعمل على تفتيت الدولة الوطنية العربية، وتحل بدلاً منها جماعات متصارعة.
المسار الثاني: تحويل القومي الوطني لديها إلى دافع مذهبي داخل دولنا العربية، حيث تطرح الدين كمنطلق لنصرة المستضعفين في مواجهة «استكبار» تراه في الأنطمة العربية الحاكمة، مع عملية فرز لتلك الأنظمة، فهي لا تشمل من يدور في فلكها، ولا من يؤيِّدها أو يُهادنها، والتعامل معها متغير وليس ثابتاً، ويمكن القول: إن هذا المسار يجمع بين السياسي والأيديولوجي والعقائدي، وهو خاص بالتابعبن لها بشكل مباشر، أو أولئك الذين تعتمد عليهم لترجيح الكفة لصالحها، وخاصة في دول الجوار العربي.
المسار الثالث: ثقافي، وهو يخصُّ الدول العربية البعيدة بداية من السودان التي أغلقت كل مراكزها منذ انطلاق حرب اليمن وانتهاء بموريتانيا، وعلى درجة أقل من هؤلاء تأتي مصر، وعلى درجة أكبر بعض دول غرب أفريقيا، ويتجلَّى هذا المسار أكثر في تلك العلاقات التي قامت في الماضي مع ليبيا أثناء حكم معمر القذافي وإن تم التخلي عنها بعد سنوات، وفي الحاضر نراها جليّة على المستوى الرسمي بين إيران وكل من: تونس والجزائر، والتي هي محل نقاش، وقد تتمُّ مراجعتها في المستقبل بعد تصريحات لوزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني ذكر فيها تأييد كل من القيادتين في الجزائر وتونس للدور الذي تقوم به إيران في الوطن العربي!
نحن اليوم أمام موقف علني غير معهود من تونس والجزائر تجاه إيران، جاء في نفي الناطق باسم الرئاسة التونسية رضا بوقزي، بقوله: «إن التصريحات التي تداولتها وسائل إعلام إيرانية عن كون إيران هي حامية العالم الإسلامي من إسرائيل، والتي نسبت للرئيس الباجي قايد السبسي خلال لقائه بوزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني رضا صالحي أميري، لا تمُت إلى الحقيقة بصلة»، وأيضاً في تصريح الناطق باسم الخارجية الجزائرية عبد العزيز بن علي الشريف: «تجدر الملاحظة بادئ ذي بدء بأن ما تناقلته بعض وسائل الإعلام الإيرانية بخصوص فحوى المحادثات التي تمت خلال المقابلة التي حظي بها وزير الثقافة والإرشاد الإيراني من قبل الوزير الأول رئيس الوزراء عبد المالك سلال لا يعدو كونه نقْلاً غير سليم واستنتاجاً غير مطابق لحقيقة ما تمّ تداوله من مواضيع وما ورد من تصريحات خلال هذا اللقاء».
وهذا النفي الرسمي من تونس والجزائر لما جاء على لسان وزير الثقافة الإيراني يتناغم مع الموقف الشعبي العام في البلدين، نتيجة ما تقوم به إيران في المنطقة من محاولات تشييع حقَّقَت بعضاً من نتائجها ميدانياً، ولو أنها بنسبة ضئيلة، ومع ذلك فهي تُسْهم في صدام مستقبلي مع القوى الاجتماعية الرافضة، عِلْماً بأن هناك رفضاً لدى الغالبية في تونس والجزائر، وباقي الدول المغاربية الأخرى، لهذا التواجد الإيراني في منطقة أنشأت الدولة العبيدية، وتخلَّت عنها باختيارها، ولن تقبل بعودتها، وهو ما يجب أن تُدْرِكْه إيران.
الصور الآتية من ريف إدلب مريعة. أطفال خان شيخون قصفهم طيران بلدهم بغاز السارين الكيماوي. المشاهد المنقولة على شبكات التواصل الاجتماعي عن ضحايا الغاز السام تقطع النفس. إن هذا العنف وهذه الوحشية التي يستخدمها بشار الأسد لإرهاب أهل بلده من أجل البقاء في الحكم هي التي تولد وحشية «داعش» والإرهابيين المنتشرين في كل أنحاء العالم. فقصف ريف إدلب بالكيماوي هو بمثابة ما يقوم به «داعش» في الرقة وتدمر وغيرهما. فهذه الحركات الإرهابية التي ترعب العالم هي وليدة نظام تكوينه وأداؤه التهديد والتخويف والإرهاب. فليستيقظ هؤلاء الذين يعتقدون بأن بشار الأسد هو ضامن ضد الإرهاب لأنه هو الإرهاب نفسه. والحقيقة أن لا فائدة مما يسمى مفاوضات آستانة وجنيف لأنها بمثابة حوار طرشان مع مبعوث دولي غير قادر على أي تقدم ولا تأثير في أي طرف.
إن عمليات التحالف لتحرير الرقة من «داعش» ليست كافية طالما هناك تهديد آخر وهو بقاء الأسد وجماعته على رأس الدولة. فالآن وبينما هناك كلام كثير عن أن العالم تعود على بقاء الأسد ولم يعد أحد يطالب برحيله، ينبغي التذكير بأنه لم يكن هناك «داعش» قبل الأسد والحرب الأميركية في العراق. إن قصف المدنيين الأبرياء من قبل القوات الجوية السورية وبالغاز السام ليس أقل من القصف الجوي الذي دمر حلب القديمة وأفرغها من سكانها، كما أنه ليس أقل من تهجير السوريين وتشريدهم ودفعهم إلى الأراضي اللبنانية والأردنية والتركية. فالإرهاب السوري اختبره اللبنانيون خلال الحرب الأهلية. ومن بعد ذلك تألق الوريث بشار في الاستمرار في النهج المماثل لوالده في لبنان وعلى شعبه من دون أن تكون له حنكة والده وحفاظه على خط الرجعة والخط الأحمر مع من كان يدعي أنهم أعداؤه مثل إسرائيل وأميركا.
إن العالم يراقب وينتظر تغيير الإدارات من الولايات المتحدة إلى فرنسا إلى ألمانيا والبعض يقول مثلما سمعنا من ريكس تيلرسون وسفيرته في الأمم المتحدة أن أولوية الولايات المتحدة ليست رحيل الأسد بل تحرير الرقة. ولكن ما هذا المنطق اللامنطقي الذي يدعو إلى تحرير الرقة من إرهابيي «داعش» وترك إرهاب النظام الذي دمر البلد ووضعه تحت وصاية إيران وروسيا وهجر ملايين السوريين الذين يتعرضون للإذلال في الدول المضيفة التي لم يعد بإمكانها تحمل عبء هذا النزوح المؤلم؟ كيف تدعم بعض الدول العربية التي تخشى «الإخوان المسلمين» في سورية، بقاء الأسد الذي بنهجه وإرهابه لأهل بلده يدفع إلى التطرف واللجوء إلى حركات منبوذة؟
لم تعد العروبة تعني شيئاً أمام مناظر الأطفال السوريين يُقتلون بالغازات السامة، ولا أحد من العرب يتحرك. وحدهما فرنسا وبريطانيا أسرعتا إلى طلب اجتماع لمجلس الأمن ولو أن ذلك لن يكون فاعلاً طالما هناك الفيتو الروسي الذي سيمنع أي قرار. بات الوضع لا يحتمل. حان الوقت كي تعي بعض الدول الغربية والعربية أن إرهاب «داعش» هو نتيجة لإرهاب النظام السوري الذي هو على عكس ما يعتقده البعض في الغرب وفي عدد من العواصم العربية ليس ضامناً لبديل متطرف إرهابي بل هو يولده. فالتحالف الذي يريد تحرير الرقة عليه أن يدرس ماذا بعد هذا التحرير. من سيتسلم الرقة ومن يديرها؟ وذلك أيضا بالنسبة إلى جميع المدن السورية، فلا يجوز أن تترك عصابات النظام المتقاتلة لتهيمن في مناطق عدة وتتقاسم مغانم حرب كريهة دمرت البلد وشردت شعبه وهددت وأفقرت جيرانه. فالأوضاع الأمنية في كل من لبنان والأردن هشة ويقول في هذا الصدد مسؤول لبناني لـ «الحياة» صحيح أن الأمن في لبنان مضبوط حالياً ولكن من يعلم ماذا يحدث بعد تحرير الرقة وأين تهرب الجماعات الإرهابية. فالمفاوضات ليست الحل لأن النظام يضيع الوقت والحل يجب أن يكون باتفاق أميركي روسي على رحيل الأسد.
لملايين البشر الذين صدمتهم مناظر جثث الأطفال القتلى في مجزرة خان شيخون في إدلب، ننقل لهم الخبر السيئ بأنها لن تكون المجزرة الكيماوية الأخيرة.
وهذا ما حدث سابقاً مرات عدة عندما نصْحو على مناظر مفزعة ومن ثم تعود الحياة لطبيعتها حتى مجزرة أخرى. هز منظر الطفل الغريق إيلان كردي ضمير العالم ولم يحدث شيء. رأينا بعده الطفل عمران وهو يمسح الدماء عن وجهه ولم يحدث شيء. ولن يحدث شيء للأسف هذه المرة. من المخجل إنسانيا وأخلاقيا أن نعايش هذه الأوضاع ونرى الإنسانية تنتهك على مرأى العالم أجمعه.
ولكن لماذا نقول إن هذه المأساة ستتكرر حتماً وربما قريباً جداً. لأن العالم يعيش في حالة فوضى ولا توجد قوة قادرة على إيقاف هذه المآسي الإنسانية. المجرمون لا يزجهم بالسجون أمنيات أو مطالبات الضحايا بل قبضات رجال الأمن، ولكن العالم اليوم بلا شرطي. سيطلق الأسد غازاته السامة كما فعل سابقا وسيقوم بوتين والنظام الإيراني وحزب الله الشركاء بحمايته، ولن توجد قوة في العالم قادرة على معاقبته.
لكي نعرف كيف وصلنا لهذه الحالة الدولية والأخلاقية المتردية التي تحدث فيها الجرائم علانية، علينا أن نعود قليلا للوراء.
يحفل التاريخ دائما بزعماء قتلة يرتكبون المجازر الفظيعة، ولكن كانت هناك قوة خير قادرة في النهاية على ردعهم وقتلهم والحفاظ على النظام الدولي بأقل قدر من الفظائع. هتلر ارتكب مجازر مروعة ولكن بسبب القوة الأميركية والزعيم البريطاني الشهير تشرشل هزم وانتحر وانتهى نظامه الشرير للأبد. موسوليني ارتكب جرائم مريعة ولكنه علق في النهاية كخروف مذبوح. قوة الحلفاء كانت هي السبب وراء سقوطه. القذافي كتب اسمه في السجل الأسود وكان سيستمر في الحكم لعقود قادمة مرتكبا فظائع جديدة لولا تدخل الناتو الذي كتب نهاية حقبته المظلمة. الرئيس العراقي صدام حسين انتهى في حفرة والرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش ارتكب جرائم حرب وانتهى ميتاً في زنزانة في لاهاي.
كل هؤلاء وغيرهم من المجرمين كانوا سيستمرون للأبد لو لم تصعد قوة في الوقت المناسب وتقضي عليهم.
مع بشار الأسد اختلف الأمر لأكثر من سبب أهمها تراجع القوة الأميركية في عهد الرئيس أوباما الذي تعهد بعقابه ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة. وعلى الرغم من أن أعضاء في إدارته أبرزهم وزير خارجيته هيلاري كلينتون وبعدها جون كيري طالبوه بالتدخل ووقف المأساة السورية إلا أنه رفض أن يلعب دور قوة الخير الضرورية في الوقت المناسب.
وعلى الرغم من أن أوباما كان يردد الحجة بأنه لا يريد توريط جنود بلاده كما حدث في العراق، إلا أن المسألة في الحقيقة أكبر وهي الحفاظ على النظام الدولي الذي فقد عقله وتوازنه بسبب هذه الجرائم التي يدفع ثمنها الأبرياء. لهذا شهدنا مجازر متكررة بدون عقاب وليس من الغريب أن نرى جثث الأطفال الزرقاء تعرض قريبا على الشاشات.
الأسوأ من كل ذلك أن الإيرانيين والروس يريدون عملياً تدمير هذا النظام الدولي وتأسيس نظام آخر مختلف بمعايير وشروط مختلفة ترتكب فيه الأنظمة المارقة جرائمها بدون حساب، الأمر الذي يعني تحطيما كاملا للعالم الذي نعيش فيه اليوم، وظننا أنه تحضر كثيرا لدرجة لن يسمح لرؤية هذا النوع من المجازر ترتكب علانية.
لكن عهد أوباما انتهى لذا سلط الجميع أنظاره على ردود فعل إدارة الرئيس ترمب التي أدانت هذه المجازر وقال ترمب بلغة-أكثر شجاعة من معاونيه- "إنه لا يمكن أن تقبل في هذا العالم المتحضر" ولكن بالطبع فإن الأفعال أهم من الأقوال. ويدور الحديث الآن عن نهج السياسة الخارجية الذي سيتخذه الرئيس ترمب في التعامل مع هذه الأزمة وما بعدها.
هل يكمل الانعزال كسلفه أو يكون مطالباً بحقوق الإنسان كالرئيس كارتر أو داعياً للديمقراطية كبوش الابن، أو واقعياً كبوش الأب.
ولكن كل هذه التصنيفات السياسية غير مهمة في ظل هذا الكم من الفوضى والمجازر المروّعة التي لم يسبق لها مثيل. السوريون لا يريدون الدفاع عن حقوقهم ولكن يريدون أن يبقوا فقط على قيد الحياة، وهذا أقل ما يمكن أن تفعله القوة الأميركية الوحيدة القادرة على مواجهة تحالف قوى الشر.
الجانب الساخر في هذه المأساة أن الإيرانيين نددوا بالجريمة وأعلنوا أنهم يريدون مساعدة الضحايا الأطفال، الأطفال نفسهم الذين شاركوا في قتلهم بالغازات والبراميل المتفجرة.
لم تحصل مجزرة الكيماوي في خان شيخون، تماماً كما لم تحصل مجزرة الغوطة ... وكل مَن يقول عكْس هذا الكلام، يشارك بطريقةٍ او بأخرى في دعْم إرهابيي "داعش" و"القاعدة".
لم تحصل المجزرة، وكلّ دموعنا وكتاباتنا وغَضَبِنا هو إثمٌ نرتكبه لتعطيل الحلّ السياسي في سورية القائم على بقاء "بشار الكيماوي والبراميل" على رأسِ السلطة والتفرّغ لملاحقةِ كل مَن طالب بالحرية بيتاً بيتاً وحارةً حارةً وزنقة زنقة.
لم يحصل شيء، كلّه فوتوشوب. الأطفال العراة كومبارس في مسرحِ العار العالمي، والرجال والنساء المُمَدَّدون أرضاً قبضوا مسبقاً ثمن تنسُّمهم هواء غير غاز السارين، ورجال الإغاثة مخابرات أميركية وإلا لما أعطتْهم هوليوود أوسكار "الخوذ البيض"، والمُنَدِّدون مجموعةٌ حاقدة مستاءة من البيئة الدولية الآمنة التي أُعطيت للنظام السوري الفريد من نوعه في العالم.
ليست مجزرة بل هي حربٌ مفتعلة لاستنفار حواسه. سئم سيّد العالم من الدعوات التي تطالبه بسماع صوت السوريين ... صمّ أذنيه، وانزعج من الدعوات التي تطالبه برؤية المقبرة الأكبر في العالم التي تعمل 24 ساعة من دون توقف، وأغلق عينيْه. تَدخَّل ميدانياً بعد طول تَردُّدٍ في جبهةٍ معينة رافضاً ردْع النظام أو إقامة منطقة آمنة، لم يلمس مكان جرح السوريين بل لمَس مكان جرح الضحايا الأبرياء الذين سقطوا بعملياتٍ إرهابية في العالم. فَقَدَ ثلاثاً من حواسه الخمس، وها هو اليوم يشمّ رائحة المكتوين بغاز السارين فيغلق أنفه ويَفْقد الحاسة الرابعة ... أما الأخيرة وهي الذوق، فلا يُسأل مَن لا أخلاق ولا ضمير ولا إحساس لديه عن الذوق.
وأين المجزرة؟ مَن لم يمتْ تحت التعذيب في سجون بشار، مات ذبْحاً على حواجز شبّيحته، ومَن لم يمتْ بالرصاص مات بالقذائف، ومَن لم يمتْ تحت الأنقاض التَهَمَتْه البحار، ومَن لم يمتْ بالبراميل مات بالكيماوي. صمْتُ هذا العالم الحقير يمدّ ذاك المتسلّط الأحقر بكل ذخائر الوحشية ويفتح شهيّته على الدم والإبادة. ثم مَن قال إن بشار يفكّر فقط بطريقةٍ أنانية في ترسيخ حكمه وإنهاء الثورة ضدّه؟ لو كان كذلك لاكتفى بقتْل الرجال والنساء، لكنه بقتْل الأطفال يفكّر أيضاً بترسيخ حكم ابنه حافظ من بعده ويمهّد له بيئةً حاضنة عبر جيلٍ جديد يجترّ المخاوف ياا ايتها الطفلة الراحلة عنا مرفوعة اليديْن، يا من تشبهين طفلتي وحاضري وخيْبتي وقهري وعجزي، ارجعي الى ربّك راضيةً مرضية، فالعدل هناك والسلم هناك. اتركي لنا وداعتك وطهارتك وصفاءك وجمالك لنغتسل بها كل يوم علّها تمحو بعضاً من عجْزنا، من قهْرنا، من جُرْحنا، من يَأْسنا. المجزرة الحقيقية تكمن في صمتِ كل مَن صمت عنها، وفي فرحة كل مَن فرح بها، وفي التنديد الشكلي بها تحت سقف الإحراج، وفي محاولاتِ لاعقي أحذيةِ "الممانعة" تبريرها او اتّهام آخرين بارتكابها ... المجزرة تكمن في مَن لا يزال يعتبر وجوده في زمن بشار "منّة من الله".
في الوقت الذي تعرضت فيها قطارات مدينة سان بطرسبرغ لهجمات «إرهابية» راح ضحيتها، حتى الآن، نحو خمسين شخصا بين قتيل وجريح، تعرضت بلدة خان شيخون في الشمال السوري، في إدلب، لجريمة حرب كبرى، عبر قصفها بالغازات السامة، التي أهلكت نحو 58 مدنيا.
تزامن خطير، وكاشف، عن ترابط الأزمات والهجمات في كل العالم ببعضها.
ما جرى ضد «الأبرياء» من المدنيين الروس في سان بطرسبرغ، جريمة، لا غبار عليها، قام بها، كما تقول التحقيقات الأولية (أكبرجون جاليلوف) «داعشي» قرغيزي، من البلد نفسه الذي أنجب قاتل ليلة رأس السنة في إسطنبول.
ما جرى في خان شيخون، فضيحة كبرى للنظام الدولي، ومن رأى صور الأطفال المفتوحة عيونهم بعد هجمة الموت السامة، يصاب بالذعر، والغضب.
كل العالم المتحضر، والسويّ، ضد جريمة بطرسبرغ، ولكن هل «كل» العالم أيضا يدين بنفس الوضوح والقوة والحسم واللاتلعثم، جريمة خان شيخون؟
بالنسبة للعالم الغربي، فالحق يقال، إن صوت فرنسا، وأيضا صوت الاتحاد الأوروبي، كان عاليا.
فيديريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، علقت على جريمة خان شيخون، بالقول إن الرئيس السوري بشار الأسد يتحمل المسؤولية الرئيسية عن الهجوم. بينما دعا وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرو الجميع إلى عدم التملص من مسؤولياتهم. طالبا اجتماعا طارئا لمجلس الأمن.
نظام بشار، كعادته في الوقاحة، وتأليف المخارج، كما في قصة أبو عدس الشهيرة، تنصل من الهجوم، وقال إن المعارضة غاضبة من هزائمها... طيب! هل يعني غضبها هذا أن تقصف «أهلها» في خان شيخون بالغازات السامة!!
الروس اكتفوا بنفي أي دور لهم في جريمة خان شيخون، وأن طائراتهم لم تكن هناك.
الأرجح بل شبه اليقين أن الفاعل هو نفسه بشار الكيماوي الذي فعلها من قبل في غوطة دمشق، وهددّه «الآفل» أوباما وقتها بخط أحمر وهمي.
كبير المفاوضين السوريين في وفد المعارضة لمحادثات جنيف محمد صبرا قال إن القصف بالغازات السامة بخان شيخون، يضع محادثات جنيف الهادفة لتسوية النزاع في «مهب الريح».
بصراحة، كان متوقعا أن تصل التفجيرات لروسيا، فهي مغرية لأعضاء الجماعات الإرهابية، قبل تدخل روسيا، فكيف بعد ذلك؟!
حين حاولت واشنطن ولندن وباريس إدانة بشار، واستصدار قرار دولي ضده خصوصا بعد هجمات الكيماوي، أشهرت موسكو، وبكين أحيانا، سيف الفيتو سبع مرات!
نعم جريمة القطارات الروسية، مدانة، بلا «لكن» كما هي جريمة خان شيخون، مدانة بلا لكن.
الشر يستدعي الشر.. حمانا الله من كل الشرور.
الهدنة عربون الأسد لصفقات التهجير والتغيير الديموغرافي.
تتعرض المنطقة عموماً وسوريا خصوصاً لتهديدات كبيرة، ومخططات شيطانية مدروسة، تقوم على تنفيذها دول عظمى، بينما تتشاغل عنها الفصائل السورية بصراعات داخلية مقززة لا تؤخر نصرها فحسب؛ بل تجعل من البلاد لقمة سائغة في أنياب تلك الوحوش المفترسة.
من الغباء تبادل تلك الأطراف تهم الخيانة على وسائل التواصل، وألسنة الشرعيين فيما بينهم، لكنها الغفلة وللأسف التي تجعل من الجميع أدواتا في أيدي أصحاب المشاريع الكبرى، وكلما أضاعوا وقتهم واستعجلوا في إفناء بعضهم، اقتربت المشاريع أكثر من النجاح بأقل التكاليف، وكلما فهموا اللعبة استطاعوا مقاومتها، أو تخفيف وطأتها على أهلهم، أو تأخيرها على أقل تقدير.
مع بداية رؤية هدنة “البلدات الأربع” للنور وظهور بعض التسريبات للإعلام، بدأت مكنات إعلامية رفيعة تهاجم الأطراف التي عقدتها؛ تلك الأطراف التي لطالما اتهمت غيرها ممن يعقد مثلها بالخيانة، وشنت حروباً ضده وقضت على بعض الفصائل من الجيش الحر لحضوره مثل تلك الاتفاقات المبرمة كدلالة على طهرها.
هذا الاتفاق الأول الذي يحدث في الشمال السوري بعد تشكيل هيئة تحرير الشام، ويعني وقف إطلاق النار في مدينة إدلب وضواحيها من القرى والبلدات المحيطة بقريتي “الفوعة وكفريا” المحاصرتين، في مقابل وقف إطلاق النار في كل من “الزبداني ومضايا” في ريف دمشق.
مرر هذا الاتفاق كغيره من الاتفاقات بهدوء، دون أن تعلن الفصائل المعنية عن المقابل أو تفاصيله التي يصعب معرفتها إلا من معرفة وحسابات القائمين عليه، والتي أقفلت وتوقفت عن التغريد من تاريخه لأسباب تاريخية.
لا يعني الناس كثيراً ماذا جرى ومن حضر ومن أجبر الآخر على التوقيع، بقدر ما يهمهم أن المنطقة تسير للتقسيم بعد سحب أولئك المقاتلين من ريف دمشق، وترك حاضنتهم بغير سيف يدافعون به عن أنفسهم، مما يسهل على مليشيا حزب الله ونظام الأسد افتراسها وضمها لمقاطعته، كما فعل بغيرها من المناطق، وهنا تطوق لبنان بحزام شيعي بعزل مناطق السنة ويفصل بينها، إضافة للقتل والتهجير التي تضعفهم على حساب المليشيات الشيعية التي تطوق دمشق.
قريباً ستنتهي سمفونية “الفوعة وكفريا” التي لطالما اتهم من يحاصرها بحاميها، كما اتهم من قبلهم بحماية وادي الضيف ومعسكر الحامدية في ريف معرة النعمان.
وحتى تاريخ هذا اليوم تلتزم كل الفصائل الممثلة بجيش الفتح باتفاق البلدات الأربعة بما يتعلق بــ “الفوعة وكفريا، مضايا والزبداني”، ولم يحرك جيش الفتح ساكنا ضد هذه البلدات المحاصرة في إدلب منذ حصارها واستخدمها في الضغط على النظام الإيراني ونظام الأسد، الذين لم يراعوا كل الهدن الموقعة سابقا، وكانت تقصف إدلب وسرمين وبنش وتفتناز وطعوم مع مضايا وبقين دون استثناء، واقتصر تطبيق الاتفاقيات في السابق على إدخال المساعدات الإنسانية للبلدات الأربعة لا أكثر.
اليوم يبرم اتفاق بين الفصائل والنظام الإيراني في قطر وفق التسريبات، يتضمن الاتفاق إخلاء كامل للبلدات الأربع وإخراج حوالي الــ /1500/ من المعتقلين في سجون النظام، كما يتضمن الاتفاق خروج عناصر تحرير الشام من مخيم اليرموك، يتخوف الكثير من هذا الاتفاق الذي سيشمل وقف إطلاق النار فيه بلدات “تفتناز وطعوم ومزارع بروما وزردنا وشلخ ومعرة مصرين ورام حمدان ومدينتي بنش وإدلب” من جهة وسيشمل من جهة أخرى بلدات “يلدا وببيلا وبيت سحم ” جنوب دمشق، وذلك في هدنة مدتها تسعة أشهر. كما يقضي الاتفاق بإدخال المساعدات الإنسانية إلى حي الوعر بحمص والمناطق المذكورة آنفاً، لتبدأ عملية الإخلاء للبلدات الأربع في الرابع من نيسان على مراحل.
يتواصل بهدوء مسلسل التغيير الديموغرافي في سوريا، وتنفذ المخططات دون أن يوّقع عليها أحد لتسجل في التاريخ ضد مجهول, يحصل هذا التغيير الديموغرافي بعد تقسيم طائفي, ويبدو أنه جزء من خطة استراتيجية بعيدة المدى لا تريد لهذه الثورة أن تصل إلى أهدافها بعلم وعلى مسمع الأمم المتحدة الشاهد الصامت على كل ما يحدث.
يحلو لبعض المتحمسين بناء آمال على تصريحات ترامب الأخيرة.. فهذا الغر في السياسة ظن أن العالم بسيطٌ مربع الزوايا، يكفي أن تضع مربعاً فوق مربع حتى تبني جداراً متيناً.. ولكن الصخور التي يصطدم بها تعيده في كل مرة لتعلم دروس جديدة. ففي سياسته الداخلية، اصطدم حتى الآن بصخرة إغلاق الحدود الأمريكية، وبالعجز عن إبطال خطة أوباما الصحية (أوباماكير).
وفي السياسة الخارجية، ظن ترامب أن بوسعه وضع يده مع روسيا بوتين لجعل محاربة داعش أولوية قصوى وتحقيق انتصارات سريعة، بمجرد زج المزيد من الطائرات والقوات ليُظهر أنه أكثر جدية من سلفه، متناسياً تعقيدات الواقع، ومسببات داعش وخلفياتها..
وقبل أسبوع فقط من ضربة خان شيخون تبارى أقطاب إدارته في إعطاء الإشارات والتصريحات الواضحة بأن رحيل الأسد لم يعد أولوية أمريكية، وأن مصير الأسد يقرره الشعب السوري (الذي هُجر نصفه ويقبع نصفه الآخر إما تحت الأنقاض، أو تحت سيطرة أجهزة الأسد من جهة، وأجهزة النصرة وأخواتها من جهة أخرى!).
وبالأمس صحا ترامب على صور خان شيخون الذي زعم أنها غيرت موقفه.. وكأن الأسد كان يرمينا قبلها بالورود والرياحين! كما صحت مندوبته في الأمم المتحدة (التي صرحت قبل خمسة أيام أن رحيل الأسد لم يعد أولوية أمريكية) لتحمل صور الضحايا في مجلس الأمن وتهدد ضمناً بعمل أحادي إذا فشلت آليات الأمم المتحدة في ردع جرائم كهذه!
يحتاج المرء إلى كم هائل من السذاجة (كيلا نقول الغباء) لكي يبني أحلاماً على إدارة بهذا المستوى من فقدان الرؤية والتخبط، والنظرة المُبسطة لتعقيدات العالم.. فحتى لو افترضنا جدلاً أن ترامب اقتنع أخيراً بضرورة الضغط عسكرياً على مجرم دمشق.. ما الذي سيحدث خلال الأسابيع القليلة المقبلة؟
سيأتي ألف مستشار ليعدد لترامب مخاطر تدخل يؤدي إلى الفوضى في سوريا، وهي فوضى لا مفر منها في غياب قوة سورية تمسك بزمام السلطة وتكون من المصداقية والاتساع والتمثيل الشعبي بحيث تمنع انهيار الأوضاع ووقوع البلد في فوضى عارمة وثارات لا نهاية لها، بل وفي سيناريوهات التقسيم الذي أصبحت أرضه ممهدة إلى حد ما. وسيسهم الروس وتُسهم إسرائيل وغيرهما في تحذيره من مغبة هذا المآل، وفي بلع غضبه المفتعل والتفكير في خيارات أقل طموحاً وأكثر واقعية. (المفارقة السوريالية هنا أن تُقدّم حكومة الاحتلال التي دمرت أكثر من نصف سوريا على أنها ضمانة لوحدة البلاد!).
وفي هذه الأثناء، ستضغط روسيا على النظام لكي ينحني قليلاً أمام العاصفة، وستستمر الفصائل المتأسلمة الممسكة بالأرض في التصرف بما يثبت للعالم كله بأنها لا تصلح لإدارة قرية صغيرة، ناهيك عن بلد متنوع ممزق.
وفي هذه الأثناء أيضاً، ستبقى النُخب السورية و"القوى السياسية" السورية (إذا صح التعبير)، غارقة في نرجسيتها وجدالها البيزنطي، غير قادرة على بناء تيار وطني عريض ومتماسك يلتقي على الأولويات الكبرى لتقديم بديل عقلاني ومقنع لهذا العالم! وفي هذا السياق، تعتبر هذه النخب والقوى أكبر مقصر بحق سوريا ومستقبلها.
رؤية ربما كانت سوداوية مريرة.. ولكن الدواء المر يبقى أفضل من المُسكّنات الخادعة؟
هناك وجهان للبنان. وجه مرتبط بثقافة الحياة وآخر بثقافة الموت. هناك وجه من يعمل من أجل تحصين البلد وتمكينه من تجاوز مرحلة في غاية الصعوبة والتعقيد يمرّ فيها المشرق العربي كلّه. وهناك وجه من يريد تقويض مؤسسات الدولة اللبنانية، إن عبر التورط أكثر فأكثر في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه، وإنْ عبر العودة إلى الأمن الذاتي تمارسه ميليشيا مذهبية بحجة مكافحة المخدرات في إحدى المناطق اللبنانية. في الضاحية الجنوبية لبيروت تحديدا.
ليست مشاركة لبنان في مؤتمر بروكسيل، المخصص لمساعدة اللاجئين السوريين إلى دول الجوار، سوى مساهمة في تحصين الوضع في البلد. ليست المشاركة مجرّد حضور لبناني بوفد برئاسة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، بل هي مشاركة من نوع جديد بطريقة مختلفة.
أقلّ ما يمكن قوله عن هذه الطريقة أنّها ذات طابع علمي ترتقي إلى مستوى المطلوب من الدول التي تحترم نفسها عندما تذهب إلى مثل هذا النوع من المؤتمرات. تقوم هذه الطريقة على تحديد ما الذي يريده لبنان استنادا إلى لغة الأرقام وعلى كيفية الاستفادة من مؤتمر بروكسيل من أجل تمكين البنية التحتية من استيعاب مليون ونصف مليون لاجئ سوري. سيطلب لبنان ما بين عشرة واثني عشرة مليار دولار لتطوير بنيته التحتية. ستوفر عملية التطوير هذه مئة ألف فرصة عمل في ثلاث سنوات، كما ستساهم في زيادة حجم الاقتصاد اللبناني. هذا يعني أن المبلغ الذي سيستفيد منه لبنان يفوق ما سيحصل عليه بكثير، نظرا إلى أن أي مساعدة للبنان هي بمثابة استثمار في اقتصاده وفي الاستقرار الإقليمي.
الأكيد أن الهدف ليس توطين هؤلاء السوريين في لبنان، بل مساعدة هؤلاء على أن يكونوا جاهزين للعودة إلى سوريا. هناك فرصة يوفّرها مؤتمر بروكسيل الذي أعدّت له الحكومة اللبنانية جيّدا من أجل تحويل المصيبة التي تسببت بها عملية تهجير السوريين من أرضهم إلى فرصة. يمكن للمساعدات الدولية التي سيحصل عليها لبنان المساهمة في تطوير البنية التحتية اللبنانية، أي تحصين البلد من جهة، وخلق فرص عمل للشركات اللبنانية وإيجاد فرص عمل للبنانيين وللسوريين من جهة أخرى. وهذا يخدم الاقتصاد اللبناني. ثمّة من سيشكو من توفير فرص عمل للسوريين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل كان ممكنا بناء شيء في لبنان لولا العمالة السورية؟ الأهمّ من ذلك بكثير أن فرص العمل توفّر أملا للشباب السوري واللبناني وتصرفه عن الذهاب إلى التطرّف والإرهاب بكلّ أنواعهما… بما في ذلك الموت من أجل بشّار الأسد!
يمكن الرهان على مؤتمر بروكسيل لأنّ لبنان حمل ملفا مدروسا بأدق التفاصيل بعيدا عن أي شكل من أشكال العنصرية في حقّ اللاجئين السوريين. عملت على هذا الملفّ مجموعة من خيرة الشابات والشباب العاملين مع سعد الحريري مباشرة أو في دوائر تابعة للمؤسسات الرسمية اللبنانية. سيقول لبنان صراحة إن ثمّة حدودا لقدرته على التحمّل. هناك على سبيل المثال أزمة كهرباء في لبنان. ما العمل عندما تزداد الحاجة إلى الطاقة الكهربائية مع وجود مليون ونصف مليون سوري في البلد؟ ما العمل أيضا عندما يتوجّب على المدارس الرسمية اللبنانية استيعاب مئتين وثلاثين ألف طالب سوري، أي ما يفوق عدد الطلاب اللبنانيين في هذه المدارس؟ هذا غيض من فيض الضغوط التي يتعرض لها لبنان الذي كان مفترضا أن يبقى في منأى عن الحرب على الشعب السوري بدل أن يشارك فيها “حزب الله” خدمة لمآرب ذات طابع مذهبي ضيّق، لا علاقة للمصلحة الوطنية اللبنانية بها من قريب أو من بعيد.
لن يترك لبنان فرصة مؤتمر بروكسيل تمرّ، خصوصا أنّه يمرّ في اقتصادية عميقة. من بين أسباب الأزمة المشروع التوسعي الإيراني الذي يقوم على نشر الفقر والبؤس والتعصّب المذهبي في كل أنحاء العالم العربي عن طريق الميليشيات المذهبية. يترافق ذلك مع السعي إلى قطع العلاقات بين لبنان ومحيطه العربي، خصوصا أهل الخليج. ليس سرّا أن المشروع التوسّعي الإيراني يلعب دوره في إيجاد حاضنة للإرهاب الذي يمثله “داعش” وإخوته في كلّ أنحاء المنطقة، خصوصا إذا نظرنا مليّا إلى ما يدور في العراق عموما، وما تتعرض له الموصل هذه الأيّام تحديدا.
من المفيد التذكير بأنّ سعد الحريري زار السعودية بعد انتهاء القمّة العربية. ذهب إلى الرياض برفقة الملك سلمان بن عبدالعزيز وفي الطائرة الخاصة بالعاهل السعودي، وعاد إلى بيروت في طائرة أخرى وضعها الملك في تصرّفه. عكست الزيارة “الملكية” الحرص السعودي على لبنان، ودعم الرياض لخيارات رئيس مجلس الوزراء اللبناني الذي عمل على انتخاب رئيس للجمهورية في وقت كان هناك من يسعى إلى أن يكون خيار الفراغ في الرئاسة هو الخيار الوحيد المتاح أمام لبنان.
ليس سرا أن المملكة تريد مساعدة لبنان… لكن على لبنان أن يساعد نفسه أولا. هذا ما سعى لبنان إلى إثباته عبر مؤتمر بروكسيل الذي يمثّل بالنسبة إليه فرصة لا تعوّض. العالم تغيّر، كذلك المملكة العربية السعودية ودول الخليج. من يريد أن يساعده الآخرون، عليه أن يثبت أنّه يستحق المساعدة وأن يكون أهلا لهذه المساعدة بدل أن يردّ عليها، كما يفعل “حزب الله” بالتنكّر لأهل الخليج الذين دعموا لبنان وأبناء شعبه على الدوام، من دون تمييز بين مذهب ومذهب وطائفة وأخرى، ومن دون أن يطلبوا شيئا في المقابل…
ليس مؤتمر بروكسيل التحدي الوحيد الذي يواجه لبنان هذه الأيّام. ما حصل في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث قام “حزب الله” بعراضة مسلحة لتأكيد أن الأمن في دويلته من اختصاصه، وأن دويلته أهمّ من الدولة اللبنانية، طعنة للعهد ولـ”الرئيس القوي”. هناك من لا يريد للبنان أن ينهض. على العكس من ذلك مطلوب من لبنان أن يبقى في حال من اللاتوازن وفي بحث مستمرّ عن فرص يتبين مع مرور الوقت أنها فرص ضائعة. فقبل أن يشكل “حزب الله” مجموعة مهمّتها ملاحقة مروجي المخدرات وتجارها في الضاحية، لماذا لا يسأل من خلق الأجواء التي جعلت الضاحية مرتعا لكل نوع من التصرّفات والممارسات الشائنة؟
الجواب بكلّ بساطة أنّ من يشدّ لبنان إلى فوضى السلاح وإلى الاقتصاد الريعي وإلى التعصّب المذهبي وإلى المشاركة في الحرب على الشعب السوري، إنما يتحمّل المسؤولية الأولى عن الوضع الشاذ في الضاحية وفي غير الضاحية. من يستهزئ بمؤسسات الدولة اللبنانية ويعمل على تدميرها الواحدة تلو الأخرى لا يحق له الكلام عن لبنان وعن الصورة الأخرى التي تريدها إيران وأدواتها للبنان. إنّها صورة مختلفة لا تشبه لبنان الذي ذهب إلى مؤتمر بروكسيل بأي شكل من الأشكال.
أي لبنان يريد اللبنانيون. مرّة أخرى، الخيار واضح بين ثقافة الحياة وثقافة الموت. بين مواجهة تحدي اللجوء السوري الكثيف إليه، وبين أن يتحوّل اللبنانيون لاجئين في بلدهم تحت رحمة “المال النظيف” الذي قد يأتي أو قد لا يأتي، لكن هدفه، إن أتى أو لم يأت، واحد. هدفه نقل تجربة الضاحية إلى بيروت نفسها كي تعمّ كل البلد في مرحلة ما…
أخيراً، أتحفتنا السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، بالقول إن أولوية الولايات المتحدة في سورية لم تعد إزاحة بشار الأسد، وذهب وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إلى تأكيد كلامها، والقول إن مصير الأسد يحدّده الشعب السوري، وكأن مسألة إسقاط الأسد كانت تثقل كاهل بلاده، وتستنزف قسماً من مواردها، في حين أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: متى كانت أولوية الولايات المتحدة الأميركية إسقاط الأسد أو إزاحته عن السلطة؟
ويعلم القاصي والداني أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كان له اليد الطولى في إطالة أمد الحرب في سورية، وأنه كان يضع مختلف الحجج والعراقيل للتنصل من المسؤولية الدولية والأخلاقية حيال ما يقترفه نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس من جرائم حرب بشعة بحق غالبية السوريين، بل إن سياسته أفضت إلى المحافظة على نظام الأسد، مع التغاضي عن جرائمه التي وصفتها جميع المنظمات الحقوقية بأنها جرائم حرب أو ضد الإنسانية، من استخدام السلاح الكيماوي إلى القصف بالبراميل المتفجرة العشوائية، إلى حصارات التجويع والتركيع، إلى التعذيب حتى الموت.
وليس جديداً موقف إدارة الرئيس ترامب من بشار الأسد، لأن وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، اعتبر، في أكثر من مناسبة، أن "على الولايات المتحدة وحلفائها أن يتفاوضوا مع الرئيس السوري، بشار الأسد، من أجل انتقال سياسي في سورية"، ولم يخف استعداد بلاده التفاوض مع الأسد "في نهاية المطاف"، الأمر الذي نسف عبارة "فاقد الشرعية" التي عادة ما كان يردّدها المسؤولون الغربيون، عندما يأتون على ذكر الأسد في بداية الثورة السورية، على الرغم من أنهم كانوا يردّدونها، بوصفها لفظاً، يفترق عن حمولاته المضمونية.
وعلى الرغم من أن تصريحات مسؤولي الإدارة السابقة اتسمت بالتنديد والشجب لممارسات النظام في بداية الثورة السورية، مع تأييد مطالب الثائرين في الحرية والديمقراطية، إلا أنها لم تجد معادلاً لها في الواقع، بل راح بعضهم يبيع الأوهام للمعارضة السياسية السورية، في حين أن إدارة بلادهم قامت بابتزاز المقاتلين في "الفصائل المعتدلة"، من خلال تقليص الدعم المحدود والتمويل المتحكّم به، ومنع وصول السلاح النوعي إلى أيديهم، ما أسهم، بالإضافة إلى جرائم النظام السوري الممنهجة، في استفحال ظاهرة التطرّف، وتنامي قوة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وجبهة النصرة وأخواتها، على حساب تدهور وضع تشكيلات الثوار.
وتغاضت الإدارة الأميركية السابقة عن التدخل العسكري الروسي، وراحت تنسق معه، وقبل ذلك سكتت عن التدخل السافر لنظام ملالي إيران في سورية، عبر خوضهم معركة الدفاع عن بقاء نظام الأسد، فأرسلوا آلاف المقاتلين والمستشارين، والآلاف من مليشيات حزب الله اللبنانية، والمليشيات الطائفية العراقية، وشكلوا ألويةً وفرقاً مليشياوية داخل سورية، وألوية المرتزقة، من دون أن تحرّك الولايات المتحدة ساكناً.
ولا شك في أن تعامل ساسة الولايات المتحدة من القضية السورية أسهم تحويلها من ثورة، تنشد الحرية والكرامة، ضد الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة قرون، إلى قضية مجموعات متطرّفة، وصراع نفوذ إقليمي ودولي، قسّم المنطقة إلى معسكريْن، متضادين ومتحاربين على الأرض السورية، وأدى ذلك إلى ترك النظام السوري يفعل ما يريده من قتل أغلبية السوريين وتشريدهم، مع تكرار المسؤولين الأميركيين طمأنة النظام، من خلال تأكيدهم عدم وجود نية لدى بلدانهم في التدخل العسكري، وأن الحل الوحيد هو الحل السياسي، بمعنى يُفهم النظام بأنه مهما ارتكب من انتهاكات وجرائم، لن تكون هناك قوة دولية تردعه، لذلك مرت جرائمه من دون أي عقاب يذكر.
ولعل حيثيات الموقف الأميركي ظهرت منذ بداية الثورة، ثم مع التحولات والمتغيرات التي صاحبتها، وتجسّدت في اعتبار أن من مصلحة الولايات المتحدة دمار سورية وجعل الأوضاع فيها تسير نحو التعفن والتفكك والخراب، وأن لا مصلحة لديها للتدخل لوقف الكارثة، كونه لا يخدم مصلحة إسرائيل وأمنها، بوصفها حليفها الإستراتيجي الأوحد في المنطقة.
وعلى الرغم من أن موقف الإدارة الأميركية الجديدة حيال قضية الشعب السوري الطامح إلى الخلاص من نظام الأسد المجرم موقف لا مسؤول حيال قضية عادلة، إلا أنه واضح وغير موارب مثل موقف الإدارة السابقة، ومبني على الرؤية التي برّر وفقها الساسة الغربيون مواقف بلادهم حيال ما يجري في سورية، وتفيد بأنهم باتوا أمام أحد الخيارين، إما "داعش" وأشباهها أو النظام، مع ترجيح أن الأخير يشكل خطراً أقل من "داعش". لذلك فإن بقاء الأسد في السلطة أفضل من أن تأخذ "داعش" السلطة مكانه، وهي رؤية خاطئة، تعتبر أن "داعش" يسعى إلى إسقاط النظام السوري، والحلول محله، ذلك أن "داعش" لا يطمح في أن يشكل بديلاً عن الأسد، ولم يطرح ذلك في أدبياته مثل هذه التصورات، فضلاً عن محاربة نظام الأسد ليست من أولوياته، بل عمل النظام على التنسيق معه، في أكثر من موقع ضد فصائل الجيش السوري الحر، وعقد معه اتفاقيات نفط وغاز وكهرباء. إضافة إلى هذه الرؤية، تلغي حقيقة أن جرائم النظام وحربه الشاملة ضد الثوار وحاضنتهم الاجتماعية، منذ بداية الثورة، جعل قسماً كبيراً من المحتجين السلميين ينحازون نحو العسكرة، وأن النظام أسهم في دخول العناصر المتطرّفة عبر إطلاق سراح أعداد كبيرة منهم من سجونه، وخصوصا سجن صيدنايا، إضافة إلى انسحاب قواته عن مناطق وجوده على الحدود مع العراق وتركيا، لصالح تنظيم داعش والفصائل المتطرّفة الأخرى، كما أن النظام هو أساس المشكلة السورية، وأن لا حل لمشكلة الإرهاب مع بقاء الأسد في السلطة، لأنه مارس جرائم إرهاب فظيعة بحق غالبية السوريين، وقتل أكثر من نصف مليون، وشرّد أكثر من نصفهم، ما بين لاجئ ونازح، ودمر أماكن سكناهم ورزقهم.