بعيداً عن العواطف الجياشة والعادات التي يتميز بها اهالي محافظة إدلب من إغاثة الملهوف والمهجر، وبعيداً عن إكرام الضيف الوافد إلينا من محافظات الجنوب والوسط السوري، والتي باتت إدلب المقصد والقبلة الوحيدة التي يختارها نظام الأسد ويجبر عليها المهجرين لتكون المكان القادم لإقامتهم بعد أن دمرت أرضهم ومنازلهم وأجبرهم الحصار على تركها مجبرين إلى إدلب، وبعد تكرار عمليات التهجير التي باتت واضحة للعالم أجمع عن نوايا نظام الأسد الخبيثة ومن خلفه إيران للتغيير الديمغرافي في سوريا، بدأت ترتاد للأذهان تساؤلات كثيرة لماذا إدلب .....؟ وما سبب اختيار نظام الأسد محافظة إدلب تحديداً لتكون الموطن الثاني لهؤلاء المهجرين.
صحيح أن محافظة إدلب كانت ثاني محافظة تحرر من قبضة نظام الأسد، وأول محافظة تخرج عن سيطرة تنظيم الدولة بعد أن سيطر عليها، على الرغم من بقاء ورقة الضغط الأكبر ضد المحافظة وبيد الأسد وإيران وليس كما يظن البعض أنها ورقة رابحة بيد الثوار والفصائل وهي "كفريا والفوعة" والتي غدت الدافع الأكبر والقضية الوحيدة لتجييش الشيعة وكل الميليشيات في سوريا لنصرة قضية أهل الفوعة والمحاصرين، وبالتالي تهديد المحافظة في الوقت الذي يرونه مناسباً للضغط عليها والدافع موجود.
وصحيح أيضاَ أن محافظة إدلب باتت أحد أهم أعمدة الثورة السورية والتي باتت تتمركز فيها القوة الأكبر من الفصائل الفاعلة في الساحة، والنظام يعي جيداً ان القوة التي تواجهه في الساحل وحماة وحلب جلها تنطلق من إدلب، ويعي جيداً أن المهجرين لاسيما الثوار منهم والذين وصلوا للمحافظة سيكونون جزءاً من هذه القوة وسيعودون لمواجهته من جديد على جبهات أخرى، ومع ذلك يتعمد ويصر نظام الأسد على تهجير مناطق الجنوب والوسط باتجاه إدلب.
وبدأت عمليات التهجير الأولى من أحياء حمص ثم القصير ويبرود و ريف دمشق فمضايا والزبداني وداريا والتحضير يتم لتهجير الوعر ومعضمية الشام وبلدات الغوطة الشرقية وربما مناطق أخرى ليست في حسابات المعارضة وقوى الثورة يجهز لها نظام الأسد عمليات التهجير ويحضر لها الخطوات والترتيبات التي اتبعها في كل منطقة تبدأ بالتضييق والحصار والتجويع والقصف والتدمير ليصل الأهالي لمرحلة لا يطيقون كل هذه الانتهاكات ويقبلون بالتسوية والخروج من مناطقهم وهم يترقبون العودة إليها بسقوط الأسد.
هذه الخطط الممنهجة والعمليات التي باتت الأمم المتحدة شريك أساسي فيها تنذر بخطر كبير يحدق بالثورة السورية، من خلال تجميع كل الطاقات والقدرات في مكان واحد وضربها جواً وربما تتطور لعلميات برية قد تحاصرها لاسيما بعد المعلومات التي تصل عن نية قوات الأسد وروسيا التقدم باتجاه جسر الشغور ومخاطر الوحدات الكردية في عفرين التي تتطلع للوصول لباب الهوى والمعابر الرئيسية، أضف على ذلك سيطرة الميليشيات الشيعية على الريف الجنوبي لحلب والتي باتت هي المتحكمة في المنطقة التي تشكل الوجهة الشرقية لمحافظة إدلب.
في هذه المرحلة الحساسة وبعد كل عمليات التهجير والتي مازالت مستمرة إلى إدلب، باتت التكهنات المحذرة من تحويل إدلب لسجن كبير موضع دراسة وشبه واقع ملموس بات واضحاً وبشكل كبير، وسط تواطئ أممي ودولي خصوصاً أصدقاء الشعب السوري منهم قطر والسعودية الذين بات صوتهم بعيداً هذه الفترة، وسط سعي تركي كبير لتغيير المعادة على الأرض ضمن عملية درع الفرات التي تقوم بها بدعم الجيش الحر، إلا أن الموقف التركي لا يمكن التعويل عليه بشكل كبير، فهي الدولة التي تحاك ضدها كل المؤامرات وتواجه مخاطر كبيرة لكسرها وإنهاء قوتها في المنطقة، وهي التي تسعى جاهدة لضمان أمن شعبها وحدودها في المرحلة الأولى وحسب ما تقتضيها مصلحتها في البداية.
ولعل إغلاق الحكومة التركية الحدود بشكل كامل عبر بناء الجدار العازل على طول الحدود من الغرب حتى الشرق، واتباع اجراءات معقدة للدخول إلى أراضيها أبرزها امتلاك جواز سفر رسمي صادر عن نظام الأسد، الذي لايمكن الغالبية العضمى في الثورة من الحصول عليه، أضف على ذلك التقارب التركي الأيراني الروسي والكل يعلم أن روسيا وأيران هما من يقود العمليات العسكرية في سوريا ومن تدعمان نظام الأسد، ولكن بالمحصلة تركيا تريد مصلحتها وتريد بناء تحالفات تضمن استقرارها وأمن حدودها، وقد ترغم في وقت من الأوقات وضمن تفاهمات أو ضغوطات على إغلاق حدودها مع سوريا وبالتالي خنق إدلب بشكل كامل، وهذا غير مستبعد في حال وصلت تركيا لخيارات صعبة تهدد أمنها واقتصادها واستقرارها.
هذه التخيلات أو بالأحرى التنبئات التي باتت كواقع ربما يحصل في أي وقت وبشكل مفاجىء من شانه تحويل إدلب لسجن كبير ليس لأهالي إدلب فحسب، بل لكل من هاجر من أرضه وبلده مجبراً مرغماً بفعل الحصار والتجويع واستوطن في المحافظة وبين أهلها، وهذا مايجب أن يتداركه الجميع وتتحمل الفصائل العسكرية بالدرجة الأولى المسؤولية الكاملة، وهي التي تقبل بما تمليه الدول الغربية من هدن واتفاقيات ثم تهجير ولاتحرك ساكناً أو تعمل على تغيير الواقع من خلال الضغط على النظام بمعركة أو بسيطرة على منطقة حساسة أو برفض هذه الاتفاقيات وتحمل التبعيات كاملة عبر حلفائها وداعميها وعبر التوحد في كيان واحد ربما يكون له كلمة فصل ويجبر الجميع على سماعه ليكسبه ويامن صفه باعتباره بات قوة كبيرة موحدة.
على رغم أن الاتفاق الأميركي - الروسي المتواضع في شأن التهدئة في سورية جاء متأخراً كثيراً لخمس سنوات ونيف، فإن الواقعية تقتضي القول إنه من الأفضل أن يأتي متأخراً من ألا يأتي أبداً. فالبديل سيكون كارثياً ويزيد من الدمار ويؤدي إلى مزيد من القتال والدم والتشريد والمآسي والقضاء على سورية التي أحببناها وعرفناها واحة أمن وأمان وموئلاً للحضارات ورمزاً للتعايش والمحبة على امتداد عصور التاريخ.
ويعترف عرابو الاتفاق بأنه لم يكن بالإمكان (إمكانهم بالطبع) أفضل مما كان، بكل أسف علينا وعلى القوتين «العظميين» اللتين تعترفان بالفشل وتتفرجان على أكبر جرائم التاريخ وأكثرها وحشية ودموية وتتشاركان في تعميق المأساة، ثم تتحدثان عن «الفرصة الأخيرة» مع أننا نعرف أنهما تستطيعان بقرار حاسم واحد وقف الحرب وفرض السلام بالقوة إذا توافرت لديهما النيات الحسنة والإرادة الصادقة.
أما التهديد بفزاعة الفرصة الأخيرة، فلا يُفهم إلا بمعناه الحقيقي، وهو أن روسيا وأميركا ستنفضان أياديهما من الحل في أي لحظة والاتجاه إلى كتابة فصل آخر من فصول المؤامرة الخبيثة على حساب دماء الأبرياء السوريين المجنى عليهم الذين دفعوا أثماناً باهظة بسببها.
ومن يتابع دقائق الأمور يصدم بالصراحة المطلقة، إن لم نقل الوقحة، في الحديث عن صفقات تحت الطاولة ومحادثات حول قضايا وخلافات ثنائية، مثل وضع القرم وأزمة أوكرانيا ومصالح في النفط والغاز وتقاسم المنافع، حتى أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أكد بصراحة أن روسيا ترفض الهيمنة الأميركية في النظام العالمي، وأنه كلما أسرع الجانب الأميركي في إدراك هذه الحقيقة وبدأ تغيير موقفه، أمكن تسوية الخلافات بين الدولتين في شأن ملفات مختلفة ومنها النزاع السوري.
نعم هذا ما قاله بالحرف الواحد، أي أن دماء السوريين النازفة لا اعتبار لها في الصفقات المطلوبة، وأن مصير سورية أخذ رهينة لتحقيق المآرب وترتيب أمور النظام العالمي الجديد وتأمين المصالح والمطامع التي اكتمل جزء منها بإقامة القواعد العسكرية الأميركية والروسية داخل الأراضي السورية وتقاسم النفوذ في شكل سافر.
ونظرة سريعة على الاتفاق الأميركي - الروسي تسجل ملاحظات وتساؤلات وشكوك عدة حول الغموض والسرية والجداول الزمنية منها:
- إن التفاؤل المفرط غير وارد بسبب الألغام الكثيرة المزروعة وغموض الصيغة، فالاتفاق ما هو إلا هدنة محدودة وهشة تتضمن استثناءات وتعقيدات قد تفجر الوضع برمته، ما يدعو إلى التساؤل عن أسباب عدم التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار ووضع صيغة واضحة لمواجهة أي خرق.
- إن موضوع استثناء «جبهة النصرة» التي تراجعت عن مبايعتها لتنظيم «القاعدة» وغيرت اسمها إلى «جبهة فتح الشام» سيؤدي إلى تعقيدات ومشاكل قد تنسف الاتفاق كله، إضافة إلى علامات استفهام كثيرة، مثل التداخل في الجبهات وانتشار مسلحيها من الحدود اللبنانية إلى الحدود الأردنية والتركية. كما أن إعلان «حركة أحرار الشام» بعدم الالتزام بالاتفاق يدق مسماراً في نعشه على رغم أن المراقبين يعتبرون أن الرفض مجرد موقف مبدئي ولا يتوقعون أن تعمد الحركة إلى خرق الهدنة لأنها ستتعرض للتصفية، إلا إذا اضطرت للرد على هجوم مؤكد.
- الشكوك المطروحة تشمل الأطراف كلها، بدءاً من العرابين اللذين يعترفان بالاختلافات والخلافات، وصولاً إلى المتحاربين، فالنظام السوري يخشى أن تستغل الفصائل العسكرية الفرصة لتعيد تنظيم صفوفها وتعزيز قدراتها التسليحية، فيما تعبر الفصائل عن مخاوف من أن تضرب الواحدة بعد الأخرى بعد تصفية التنظيمين الرافضين، ما يؤكد غياب الثقة بين الطرفين وهي أهم عوامل نجاح أي تسوية.
- كما أن هناك تفسيراً يختلف بين فريق وآخر بالنسبة إلى توصيف الخرق وأسلوب الرد عليه، ومن هي الجهة الحيادية التي يؤخذ برأيها عند مراقبة التنفيذ وما هو دورها وتحديد أماكن وجودها وضمانات أمن أفرادها بعد ملاحظة تهميش دور الأمم المتحدة واستبعادها من الاتفاق وحصر دورها في إيصال المساعدات إلى المناطق المحاصرة.
- لم يرد في الاتفاق أي حديث عن الضمانات الأميركية والروسية والوضوح في شأن مواجهة الجهة التي تخرق الهدنة، وإن كانت من القوى النظامية والميليشيات المتحالفة معها أو من الفصائل المتعددة، بعد إعلان تأسيس مركز عسكري مشترك للمراقبة والمتابعة وتبادل الآراء والمواقف، ومن ثم العمل معاً لتنفيذ خطة مرسومة في حال صمود الهدنة سبعة أيام والقيام بعمليات ضد «الإرهابيين» من دون تحديد هوياتهم وأماكن تواجدهم وما إذا كانت ستطاول مراكز «داعش» في الرقة وغيرها أو لتشمل أيضاً الفصائل الأخرى، ما يعني أن القصف سيطاول مناطق شاسعة من سورية.
وقد أثار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إشكالات ومخاوف من نسف الاتفاق عند وقوع أي هزة، ما يؤكد وجود بعض الخلافات حول توسيع نطاق الحرب مع فضح وجود بنود سرية تريد موسكو نشرها، لكن واشنطن لا تزال تفضل بقاءها سرية، إذ أن روسيا تريد توسيع نطاق الحرب لتشمل الجولان بزعم وجود منظمات إرهابية فيه. وجاء هذا الطلب متزامناً مع التصعيد العسكري على الجبهة بين سورية وإسرائيل.
يدل هذا كله على أن الاتفاق ثنائي يقصي الأطراف الأخرى جميعاً من لعب أي دور فيه أي أن الحل والربط سيكون بأيدي موسكو وواشنطن، وما على الأطراف المتحاربة إلا الالتزام. وهذا ما تأكد بإعلان التزام أطراف رئيسة مثل الحكومة السورية وإيران اللاعبة مع ميليشياتها والمتضررة الأولى في حال نجاح العملية لأنها استبعدت من دوائر القرار وسط أنباء عن استيائها، ما دعا روسيا إلى إعلان أن لا خلاف مع إيران على التفاصيل.
أما تركيا، فنالت حصتها سلفاً بإعادة الأكراد إلى شرق الفرات وإحباط آمالهم بإقامة كيان مستقل. كما اكتملت هذه الحصة بالسماح لتركيا بدخول الأراضي السورية والسيطرة على مناطق شاسعة بحجم لبنان لمنع قيام الكيان الكردي على حدودها تمهيداً لإقامة منطقة آمنة في حال رفض إقامة منطقة حظر جوي.
هذه الوقائع لا تعني نهاية الأمر، ففي يد كل فريق صواعق تفجير كثيرة لإثبات وجوده. وحتى الفصائل المسلحة التي وافقت على الهدنة يمكن أن يحدث من داخلها خروج عن الخط أو دخول طرف ثالث عليه وتحميلها المسؤولية وخلط الأوراق، ما يعني أن هذه الهدنة ستبقى هشة ومعرضة للاهتزاز في أي لحظة. ولكن بانتظار الخطوات التالية، والتي ستركز في البداية على إيصال المساعدات الغذائية إلى المناطق المحاصرة، يبدأ الحديث عن المستقبل لإفساح المجال أمام المواطنين للتنفس من عناء سنوات القصف والدمار والعنف، وهي تعد الإيجابية الوحيدة المعلنة.
باختصار شديد، يمكن القول إن هذا الاتفاق، على رغم أنه مجزأ وهامشي ولا يلامس واقع الحال، فإنه يُعد أهون الشرين للبناء عليه إذا توافرت النيات الحسنة من أجل الانتقال إلى المرحلة الثانية الصعبة، وهي شكل الحل السياسي والمرحلة الانتقالية وإعادة تأهيل اللاجئين وإعادة الإعمار التي ستنتظر طويلاً ليصل دورها في البحث عن مصادر التمويل.
وسط كل هذه الشكوك ومع كل هذه التساؤلات، نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً على سورية الوطن والمواطن، ومن أجل كل عربي حر يعرف قيمة سورية ودورها عبر التاريخ. وندعو الله أن تأتي الخواتيم كما يشتهي الشعب السوري الأبي والعزيز ويغلق هذا الملف الأسود. إنها بداية النهاية مع الأمل بأن تتسارع الخطوات وتتكثف الجهود بعد المضي في الخطوة الأولى من طريق الألف ميل.
صلوا معنا من أجل السلام، ومن أجل الأطفال والأبرياء. من أجل التاريخ والجغرافيا وكنوز حضارات العالم. من أجل القلب العربي النابض في الشام. من أجل وحدة البلاد المهددة بالتقسيم في حال فشل الحلول. صلوا معنا لتتحول هذه الفرصة إلى شعلة أمل ويصبح الحلم حقيقة، لا أن تكون آخر فرصة للسلام ومن بعدها الشر المستطير والمصير المظلم والانتحار الإجرامي وتدمير ما تبقى من حجر ومن بقي من بشر، لا قدر الله.
الحديث عن معاودة المفاوضات السورية قريباً يبدو نوعاً من العبث. من السذاجة أن يظن أحد أن النظام في دمشق أو «الهيئة العليا للمفاوضات» سيتوليان رسم التسوية. يكاد مجلس الأمن نفسه يكون غائباً عن أي دور، حتى على صعيد التخفيف من المأساة الإنسانية. الاتفاق الأميركي - الروسي، أو «اتفاق الكاستيلو»، لم يلغ دور الأطراف السورية فحسب، بل قفز على كل القرارات الدولية الخاصة بالأزمة السورية وبيان جنيف وتفاهمات فيينا ومواقف «أصدقاء سورية» وحلفاء النظام. البيت الأبيض والكرملين يخططان بعيداً عن جميع المنخرطين، سعياً إلى هدنة بينهما لم تعمر تحت وطأة الاتهامات وانعدام الثقة. وليس على الآخرين سوى التزام ما يتفقان عليه. وليس عليهم سوى حشد مزيد من القوات، كما حصل ويحصل هذه الأيام. إذ تكاد سورية تضيق بهذا الكم المتعدد الجنسية من الجيوش الذي لم يحصل مثيل له في أي بلد منذ الحرب العالمية الثانية. ما يشي بأن هذا الجمع يتهيأ لحدث أكبر من بلاد الشام. لحدث ينطلق منها إلى الإقليم كله. لقد فشل المحافظون الجدد أيام رئاسة جورج بوش الابن في بناء شرق أوسط جديد. وجهدت الإدارة الحالية انطلاقاً من حلب لبناء لبنة تفاهم مع موسكو، تستكملها الإدارة المقبلة، من أجل إعادة بناء هذا الشرق على حطام هذه الفوضى العارمة والشاملة، وتوزيعه مناطق نفوذ بينهما ومع القوى الإقليمية الكبرى أو بالأحرى مع إيران وتركيا... فالعرب لا حول لهم ولا قوة.
يختصر هذا الجمع الكبير والمتعدد من القوات وخريطة انتشاره صورة واضحة لتداخل جميع اللاعبين وأجنداتهم المختلفة ومناطق نفوذ كل واحد منهم. فالروس يرابطون على الساحل الغربي والمناطق المحاذية للبنان وحتى حدود الجولان. والإيرانيون وميليشياتهم في هذه الجغرافيا فضلاً عن دمشق. ولا يخفون مشروعهم للإمساك بالطريق الرابط بين العاصمة والبوكمال على الحدود مع العراق، حتى يكتمل التواصل مع الجمهورية الإسلامية شرقاً، ولبنان غرباً عبر القلمون والمصنع صعوداً حتى حمص وحماة. إنه «الأوتوستراد الإيراني» يرث «الأوتوستراد العربي» الذي ولدت فكرته إثر هزيمة 1967. ويقابلهم الترك الذين لن يكتفوا بـ «درع الفرات» وبحصتهم من «الأوتوستراد» في سورية. سيطلقون «درع دجلة» أيضاً عندما تنطلق معركة تحرير الموصل من «داعش». والأميركيون يتريثون في إطلاقها إلى أن يتحقق التوافق بين القوى التي ستساهم في الحرب: من القوات العراقية إلى ميليشيات «الحشد الشعبي»، «الحرس الثوري العراقي الجديد»، إلى القوات الأميركية ومقاتلي «البيشمركة» فضلاً عن الأتراك. وهؤلاء يرون أنه يحق لهم ما يحق للآخرين. إسرائيل تدافع عن اليهود أينما كانوا. تعاملهم جزءاً من مواطني الدولة. ومثلها روسيا التي تغطي تدخلها من جورجيا إلى أوكرانيا بحماية مواطنيها من أصول روسية. وكذلك إيران التي تعمم تجربة «الحرس الثوري» فـي بلدان عربية عدة. وتحمل لواء الدفاع عن الشيعة أينما كانوا وأياً كانت جنسيتهم. لذا تجد أنقرة أن من حقها أن تحذو حذوهم في الدفاع عن التركمان أينما وجدوا، وعن السنة عموماً في المشرق العربي والذين يشعرون بأنهم باتوا بلا ظهير وسند.
أما الأميركيون الذين يملأون المنطقة بطائراتهم وحاملاتها، فتنتشر قواتهم الـــبرية على قلة أعدادها مقارنة بالآخرين، في مناطق تجاور الحضور الإيراني والانتشار الكردي. ناهيك عن حضور الأردن وإسرائيل فـــي الجبهة الجنوبية من الجولان إلى درعا. وهي جبهة يرعاها تفاهم رباعي أردني - إسرائيلي - روسي - أمـيــركي. ويعمها هـــدوء كأن الحرب تجري فـي بلد آخر! إنها قوات تناهز أربعين ألف رجل. كأنهـا قـــوة احتياط تنتظر أوان رسم حدود الإقليم برمـــتـــه وليس بلاد الشام وحدها. ناهيك عـــــن الحضور العربي عبر كثير من الفصائـــل المقاتلة والقوى السياسية المنضوية تــحـــت عباءة «الائتلاف الوطني». كما أن بريطانــيا وفرنسا تحاول كل منهما أن تعزز انتشارها وحضورها هنا وهناك. وتصران علــى مناقشة الاتفاق الأميركي - الروسي في مجلـــس الأمن للاطلاع على ما خفي منه، هما الخبيرتان في إبرام الصفقات السرية أيام الاستـــعمار القديم، وكان أبرزها «اتفاق سايكس - بيكو». لعلهما تخشيان أن تتقاسم الولايات المتحدة وروسيا الإقليم عندما تنضج الظروف، انطلاقاً من وحدة التنسيق العسكري التي يبدو أنها وئدت قبل أن تولد. وكانت خطوة سابقة منذ الحرب العالمية الثانية. لذلك تحفظ قادة البنتاغون وعلى رأسهم وزير الدفاع اشتون كارتر أكبر المعترضين على قيام هذا النوع من التنسيق الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الثقة المتبادلة بين واشنطن وموسكو.
«اتفاق الكاستيلو» استهدف ترسيخ هدنة بين واشنطن وموسكو أكثر منها هدنة بين المتصارعين على الأرض. فجل ما كان يبتغيه الأميركي اليوم هو مواصلة الحرب على الإرهاب وتخفيف معاناة الناس العاديين. فيما لا يغيب عن الروسي هاجس الغرق في مستنقع يفاقم استنزاف اقتصاده الداخلي العليل على وقع تدني أسعار النفط ونتيجة العقوبات التي يفرضها الغرب عموماً. لا اهتمام بالحل السياسي. بات هذا من الماضي... القريب. إدارة الرئيس باراك أوباما من زمن لم تعد تتحدث عن مواجهة الإرهاب بالتوازي مع البحث عن تسوية. لم تعد تتحدث حتى عن هذه المواجهة مدخلاً إلى الحل. وهي منذ اندلاع الأزمة لم تبد أي اهتمام بالتدخل. لذلك لا مبالغة في القول إن الاتفاق الثنائي المتهاوي ألغى عملياً أي مسعى نحو التسوية. بل إن سقوطه سيصب مزيداً من الزيت في نار الحرب التي ستطول إذا قصد رأس النظام في دمشق وحلفاؤه استعادة حلب. وكان متوقعاً من البداية ألا يسهل النظام الهدنة وإيصال المساعدات. فهو لم يتخل يوماً عن فكرة الحسم العسكري، ما دام أنه يتلقى دعماً كبيراً من موسكو وطهران. بل بات أكثر اطمئناناً إلى مستقبله مع الاشتباك المتجدد بين واشنطن وموسكو في مجلس الأمن وعبر المنابر الإعلامية. كيف لا ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لفت المعنيين إلى أن شعبية الرئيس بشار الأسد «في ازدياد مستمر بين مواطنيه الذين يرون إليه ضماناً لمنع وقوع سورية بيد الإرهابيين وانهيارها كدولة». وما لم يقله الوزير صرح به نائبه غينادي غاتيلوف. دعا المعارضة السياسية إلى التخلي عن مطلبها رحيل الرئيس الأسد، وذلك كمبادرة «حسن نية» قبل عقد جولة جديدة من المفاوضات. موسكو التي صرحت في مناسبات كثيرة أن مصير الرئيس السوري لا يعنيها باتت لا تتورع عن دعوة المعارضة إلى العودة إلى حضن «الشرعية»! ولمَ لا؟ لقد انتزعت من واشنطن في «اتفاق الكاستيلو» مواقف أكثر مرارة للمعارضة. ميخائيل بوغدانوف، نائب لافروف، قال إن الاتفاق الثنائي لا يشمل مصير الأسد ولا يتضمن العملية الانتقالية «لأن ذلك مسألة سورية بحتة»! وأكد أن ما اتفق عليه في فيينا ونيويورك ومجلس الأمن يمثل الخطة الوحيدة التي تدعمها موسكو «ولا خطة باء ولا خطة جيم...»! بعد هذا هل يمكن المعارضة السورية أن تصدق أن لها دوراً في أي مفاوضات وأنها يمكن أن تتقدم نحو مرحلة انتقالية تمهيداً للتغيير المنشود؟ الاتفاق الثنائي، على رغم تعثره، جبَّ كل ما قبله.
أما المعارضة العسكرية وفصائلها المتنوعة فتواجه اليوم خيارين أحلاهما مر وقاتل: إذا تمسكت بالتنسيق مع «جبهة فتح الشام» (النصرة) لمواصلة الإفادة من قدراتها وخدماتها الميدانية ستصنف «إرهابية». وإذا ابتعدت عنها وتركتها وحيدة بمواجهة غارات التحالف الدولي والطيران الروسي تفقد سنداً لا يمكنها تعويضه. ستضعف قواها أمام هجمات النظام وحلفائه. بل إن بعض الفصائل بما فيها تلك التي تنتمي إلى «الجيش الحر» قد تلتحق بالمتشددين ليأسها وشعورها بأن العالم تخلى عنها. وما رفض فصيل «أحرار الشرقية» قبل أيام وجود مستشارين أميركيين في بلدة الراعي مع حملة «درع الفرات» سوى إشارة إلى مدى امتعاض هذا الجيش وشركائه من المواقف الأميركية. علماً أن هذا الفصيل أفاد من برنامج البنتاغون لتدريب عناصر مقاتلة يعتبرها معتدلة! إضافة إلى كل ذلك تصر موسكو على توصيف «جيش الإسلام» و»أحرار الشام» بالإرهاب، وتنشد شمولها بالحرب المفتوحة على الجهاديين. وذهب مندوبها في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن بعيداً في اتهام الولايات المتحدة بدعم فصائل إرهابية.
«اتفاق الكاستيلو» المترنح كان مقدراً له الحفاظ موقتاً على الصورة الجديدة لانتشار القوات المتعددة الجنسية، وتالياً على مناطق النفوذ بين الكبار البعيدين والقريبين. يبقى السؤال هل تملك القوتان الكبريان بعد فشلهما في ترسيخ هدنة من بضعة أيام، ما يتيح لهما كبح جماح الطامحين إلى مواصلة الحرب لتغيير موازين القوى على الأرض ليتسنى لهم تغيير خريطة الإقليم ورفع حدود دولية جديدة وتقسيم المقسم بدل الاكتفاء بتقاسم الحصص ومناطق النفوذ؟
تحاشت القيادة التركية التدخل عسكرياً ضد داعش في شمال سورية لما يمثله من أخطار، لكنها اختارت القيام بذلك عقب الزلزال السياسي الأمني الداخلي المتمثل بالانقلاب غير المكتمل، جرياً على القاعدة السياسية القائلة إن قرع الطبول لمعركة خارجية، هي أسهل الطرق لفرض التماسك الداخلي، وهو قرار ينطوي مثل أي اجراء اضطراري على أخطار قد تكون أكبر من أخطار عدم الاستقرار التي يرمي إلى مواجهتها.
عسكرياً لم تواجه القوات التركية المندفعة في المناطق الحدودية السورية حتى الآن مقاومة جديّة، فحربها لم تبدأ بعد إذ انسحبت داعش من جرابلس لأسباب تخصها، وربما يكون منها وضع خصومها في مواجهة بعضهم بعضاً، لتنقض على الطرف المناسب في الوقت المناسب، لكنها بالتأكيد ستبقى خطراً وشيكاً ولن تتردد في انزال أقصى الخسائر بالجيش التركي متى أمكنها ذلك، واستعادة سريعة لتاريخ هذا التنظيم في سورية والعراق تكشف لنا اتقان مقاتليه وقادته تكتيكات حرب العصابات، المكلفة جداً للجيوش النظامية الثقيلة، ودروس ذلك تمتد على طول القرن العشرين، من الصين إلى فيتنام فأفغانستان والعراق وسورية. والأمر ذاته ينطبق على مواجهة الوحدات الكرديّة، لكن مع تفصيل إضافي مهم يتمثل في أن هذه الوحدات ستحظى بدعم وافر من خصوم تركيا الإقليميين والدوليين، لتتمكن من إنزال أكبر الخسائر الممكنة بقواتها، بخاصة سلاح المدرعات، حيث بدأت تتبرز نذر حصول قوات YBG على أحدث أنواع الصواريخ المضادة لها، مثل صواريخ التاو التي فتكت بدبابات نظام الأسد، وقد يرقى الدعم إلى مستوى كسر الحظر الأميركي على مضادات الطائرات، وتزويد الأكراد بها، وكلا السلاحين سيمثل معضلة جديدة للجيش التركي ليس في معاركه مع المقاتلين الأكراد في سورية وحسب، بل داخل تركيا.
سياسياً، سيفضي هذا التدخل إلى نشوء ميدان صراع إضافي، خارج الأراضي والسيطرة التركية، ويتضمن عنصرين شديدي الحساسية بالنسبة إلى السلطة الحالية، هما القضية الكردية بكل ارثها وزخمها، ومسألة الموقف من الجهاديين الإسلاميين، حيث لا يخفى تعاطف فئات كبيرة من المتدينين الأتراك معهم، بخاصة في صفوف حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وكلا العنصرين اليوم في ذروة تأججهما، وسينتقل لهيبهما في شكل أكبر إلى الساحة التركية مع فتح الباب على المحرقة السورية.
أما من الناحية الجيوسياسية فإن هذا التقدم التركي غير المحمي بغطاء دولي أو اقليمي، سيجعل منه دريئة لسهام القوى الإقليمية الأخرى، فإيران ستستغله لابتزاز انقرة وإجبارها على تقديم تنازلات لنظام الأسد، فإن لم تفعل ستجعل طهران من وجودها غير المعلن في سورية، وجوداً رسمياً وشرعياً على غرار التواجد الروسي، أي بطلب من نظام الأسد وبذريعة محاربة داعش أيضاً، وسيستفيق الأتراك ذات يوم ليجدوا أن جيش ايران، خصمهم الإقليمي الأبرز، يتمركز في حلب وغيرها، مطوقاً تركيا من اقصى الشمال الشرقي إلى أقصى الجنوب الغربي.
ودول الإقليم العربية لن تقبل أن تقتسم سورية بين تركيا وإيران، ولا بد ان يكون لها كلمة مؤثرة، على رغم خفوت صوت النظام السياسي العربي ووهنه.
من الناحية الإستراتيجية ليس ثمة أفق واضح للتدخل التركي، وأنقرة لن تتمكن من تحقيق هدفها الحقيقي بإنهاء مشروع الدولة الكردية من دون أن تستمر في حربها ضد داعش وتطارده بعيداً من الحدود، وهذه مهلكة حقيقية لجيشها، وستسقط ثمارها في حجر خصومها، أما أن تكتفي بمناوشات حول الحدود مع تنظيم داعش، ثم تخوض حرباً ضروساً ضد الأكراد فذلك دونه اعتراض الولايات المتحدة، التي تقول علانية إنها ستمضي في دعم الأكراد إلى النهاية، مادام لا أحد يريد أن ينشر جنوده لمقارعة المتطرفين على الأرض سواهم. أما روسيا فإنها ستطلب تعاوناً وتنازلات تركيّة إذا ما أريد لها أن تبقى صامتة، وقد يكون الثمن لا أقل من الانصياع لرؤيتها في إدارة الشرق الأوسط، وإلا فإنها تستطيع أن تتذرع بسيادة سورية واستقلالها، لإرغام الاتراك على الانسحاب، بالوسائل الديالمخاطر بلوماسية أو العسكرية، مادام التدخل التركي غير محمي بمظلة الناتو.
أما ما يمكن أن يكون تعويلا على «بازار تركي»، تتسابق فيه كل من روسيا والولايات المتحدة على تقديم العروض لتركيا مقابل استمالتها، فهو تفكير رغبوي يتجاهل قواعد اللعبة الدولية التي لا ترحم، فدولة متوسطة مثل تركيا تعامل معاملة الفريسة الجماعية في الأزمات الكبرى مادامت لا تعلن الانحياز و»الاحتماء» الصريح بإحدى القوى الرئيسية، وتركيا بتحالفاتها الحالية ليست في موقع رفع البازار، بل في خانة تقديم التنازلات.
لربما كـــان الأسلم أن تحشــــد أنقرة قواتهــا على الحــــدود، وأن تنظم وتسلح ما تستطيع من عناصر الجيش الحـــر، وتدفع بهم إلى الداخل، وتساندهم جويا ومدفعياً بـــقدر المستطاع، سواء لانتزاع مناطق من سيطرة داعش أو منــع الكيان الكردي من التمدد غرباً، ومع أن هذه «المناوشة» لن تأتي بالحسم، غير الممكن أصلاً، إلا أنها أقل كلفة، وكافية لدفع الأخطار الآنية أو تأجيلها، ريثما تتعافى تركيا من كبوتها الحالية، أو تتغير الظروف والرياح الدولية.
وترتكب المعارضة السورية خطأ كبيراً بالتهليل لهذا التدخل والانخراط فيه، فشرعية ووطنية هذه المعارضة تزول نهائياً مع قبول القتال تحت راية دولة أخرى داخل سورية، وهي تفقد بذلك نقطة التفوق المبدئية على نظام الأسد الذي رهن البلاد لروسيا وإيران مقابل حمايته. كما أن تجنيد تركيا لعدد كبير من مقاتلي الجيش الحر في حربها الخاصة يغير فعلياً جوهر الصراع، وينقله من محاربة نظام الأسد للوصول إلى انتقال سياسي كامل، إلى محاربة ذيول على أطراف هذا الصراع المركزي وتحقيقاً لأهداف طرف آخر، وإذا كانت مقاتلة داعش وYBG أمراً لا مفر منه، إلا أنه ليس أولوية قصوى، تستدعي نقل مقاتلي المعارضة من جبهات حلب المحاصرة وزجهم في معارك استنزاف بعيداً من محور القتال الرئيسي. ناهيك عن خطأ الانصياع الكامل للإرادة التركية، على نحو انصياع النظام ومؤيديه لنزعة الهيمنة الإيرانية، وتجاهل العمق الإستراتيجي العربي، الذي يمثل التحالف معه الاتجاه الإقليمي الصحيح للشعب السوري، على رغم كل الضعف الذي يبدو عليه العرب اليوم.
لا زال لدى تركيا بعض الوقت لتختبر واقعية قرارها، وما زال لدى المعارضة السورية وجيشها الحر الفرصة للتمسك بعقيدتها الوطنية الثورية، ولا يزال أمام المحور العربي الفرصة للتمسك بسورية، كخط دفاع أول للأمن القومي العربي إزاء المهددات الإقليمية الثلاثة: إيران وإسرائيل وتركيا، وهي لا تملك رفاهية السقوط في الاختبار السوري أمام تركيا، كما سقطت في الاختبار العراقي أمام إيران.
لم يتوقف الروس والإيرانيون يوماً عن إعلام كل من تواصل معهم من السوريين بأنهم غير مهتمين بالأسد. كلما كان سياسي أو ناشط سوري يزور موسكو، كان يسمع تأكيداتٍ جازمةً بأنها لا تتمسك بالأسد، ولا تبني مواقفها من الصراع السوري على الرغبة في إنقاذه، فإن كانت لا تطرح موضوع مستقبله، فلأنها لم تجد في العالم من يقبل إيواءه أو استضافته، بعد مغادرته الحكم.
أضمر هذا الكلام الذي تكرّر في تصريحات معلنةٍ "قطبةً" خبيثةً، أوحت بأن روسيا تبحث عن ملجأ لرجلٍ فقد مكانه في وطنه، وأنها تخلت بدورها عنه. وإذا كانت لا تطرح موضوعه مع محاوريها، فليس لأنها متمسكة به، بل لأنه لم يعد محل اهتمام لديها. بذلك، كان العائدون من موسكو يؤكّدون أن الأسد صار من الماضي، وأن الروس تخلوا عنه، حتى إنهم ما عادوا يستحسنون فتح سيرته، ربما بسبب تطابق موقفهم، وإن بصور غير معلنة، مع موقف الأميركيين الذين يصرح رئيسهم، بالفم الملآن، أن ايام الأسد رئيساً صارت معدودة، وأنه راحل لا محالة، في وقت قريب. وإذن، الأسد انتهى وباعه الروس.
في الحقيقة، لم يمتنع الروس عن التطرّق إلى مصير الأسد لأنهم تخلوا حقا عنه، بل لأنهم أرسوا "أولوية استراتيجية"، ترجموها طوال سنوات الصراع، من خلال وقائع سياسية وعسكرية/ ميدانية عملت لصالحه، وجعلت منه "رجل القدر بالنسبة إلى روسيا" الذي يعني الدفاع عنه تثبيت نظام الاستبداد الذي أسهمت بدورٍ رائدٍ في بناء مؤسسته العسكرية/ الأمنية، وتقاسمت معه مواقف أيديولوجية، وأيدت قمعه. ويعني التخلي عنه، في المقابل، ضياع قرابة ثلاثة أرباع القرن من حضورها السياسي/ العسكري في موقع سورية الاستراتيجي والحاسم، وثبوت عجز الكرملين عن حماية نفسه وحلفائه من نتائج، لا شك في أنها ستكون جد خطيرة، سينتجها انتصار الثورة وطرد الأسد ونظامه من الحكم، فلا عجب أن يفصح الروس اليوم عن موقفهم من الأسد، بعد أن احتلوا سورية، وأقاموا فيها حضوراً عسكرياً يسمح لهم بمطالبة المعارضة بالموافقة على بقاء بشار الأسد في الرئاسة "بادرة حسن نية" منها.
هكذا إذن، وبعد قرابة ستة أعوام من النفي والإنكار، يطلب الروس من السوريين التخلي عن حقٍّ أعطتهم إياه وثيقة جنيف وقرارات دولية عديدة، وافقت موسكو عليها، هو ترحيل بشار الأسد عن الرئاسة، بحجة إبداء حسن نية تجاهه، كأنه كان خلال الأعوام الستة الماضية منكبّاً على خدمتهم والدفاع عن حريتهم، ولم ينصرف إلى قتل الملايين منهم وتعذيبهم وتشويههم وجرحهم، الى جانب تهجير اثني عشر مليونا آخرين وتشريدهم.
يؤكد هذا الطلب الروسي غير القابل للتصديق أن "شيشنة" سورية تحتم إيجاد "قديروف" سوري، وليس هناك أحد أفضل من الأسد يستطيع لعب دوره، بتجربته في الرقص على قبور بنات الشعب وأبنائه، بينما تمسك موسكو بالخيوط التي تبقيه على المسرح، بإدارة المخرج القدير فلاديمير بوتين وتوجيهاته، وهو الذي يحلو له أن يلعب هو نفسه دور كبير القتلة المحترفين على المسرح الدولي، تحت أضواء خبراء البيت الأبيض ووزارة خارجية واشنطن.
بطلبها قبول الأسد، بعد ساعات من قيام شراكة بينها وبين أميركا في الحرب ضد الإرهاب، يسقط بصورة نهائية حل جنيف السياسي، ويدخل الصراع في سورية وعليها مرحلةً تتخطاه، ستقرّر القوة وحدها نتائجه، بعيداً عن أي سلام دولي متوازن ومنصف، بعد أن تحوّلت الأرض السورية إلى مركز تتجمع فيه قوى متنوعة الجنسيات والأهداف، وأدرجت حقوق شعبها تحت حيثيّة الحرب ضد الإرهاب، حيثيّة الحرب التي تشن ضده، باعتباره المتهم الوحيد بممارسته.
تقف الثورة اليوم على أعتاب مرحلة غاية في الدقة ، تحمل في طياتها من المطبات ما يؤدي إلى وأدها و إنهائها ، الأمر الذي يسترعي تعاملاً من نوع آخر ، توحداً بأي شكل كان حتى يكون منطق الأعواد المتفرقة في أقل درجاته.
خرج اليوم ٣٤ فصيلاً يمثلون القوة الأكبر في الثورة السورية ببيان لم تعهده الثورة السورية من قبل ، حيث حمل تواقيع الجميع ، في حضور هو الأول لحركة أحرار الشام الاسلامية مع الفصائل في ذات البيان وتحت علم الثورة ، في نقلة نوعية جاءت بعد أيام من دعوة الوجه السياسي للحركة لبيب النحاس لتبني علم الثورة اليوم و ليس عند انتصار الثورة، و الحدث الذي يجعل البيان أكثر انفراداً هو انضمام الائتلاف الوطني إلى جانب الفصائل في ذات البيان ، ليكون البيان بمثابة اعلان ولادة لمرحلة جديدة تجعل التوقعات للمستقبل أكثر تفاؤلاً.
لعل دقة المرحلة ووضوح الرؤية المصلحية للدول الكبرى ، و الذي ظهر جلياً في الاتفاق الروسي - الأمريكي الهادف وفق ما أعلن عنه إلى إنهاء الثورة من خلال سياسة القضم التدريجي للفصائل الثورية ، التعامي التام و الدعم المبطن للأسد و عشرات المليشيات الارهابية التي تسانده و تدعمه ، هذه الأمور دفعت بالفصائل لاتخاذ مواقف غير مسبوقة ، كانت البداية في البيان الشديد اللهجة اتجاه الاتفاق الأمريكي الروسي في ١٣ الشهر الجاري ، و الذي وقع عليه ١٦ فصيل ممن يقاتلون تحت بند الجيش الحر ، إضافة لحركة أحرار الشام ( في بيانين مستقلين) ، وجاء موحد بذات الحروف و ذات السياق ، نص بصريح العبارة أن “لن نرضخ” للقرارات الدولية التي تهدف إلى تمزيقنا داخلياً أكثر ، و لن نعطي “الدنيّة” على ثوابت ثورتنا ، الأهم أنها سمت الأمور بمسمياتها من “إجحاف” و ضعف الإرادة الدولية ، ورفض “الابتزاز” سواء على أكان سياسي بوعود تذرها الرياح عند أول هبوب لها ، أو إنساني يكون آني و لا يسد جوع أو ينقذ روح .
و بعد بيان المضاد للاتفاق الروسي الأمريكي ، قفزت المعارضة السورية بشقيها العسكري و السياسي ، قفزت نوعية جديدة ، حيث ظهرت كجسد واحي ، بين السياسة و العسكريين ، و بين الجيش الحر و الاسلاميين و بين المتخالفين في الماضي و المتعارضين في الافكار و الايدلوجيات ، فالاتفاق الذي جمعهم هو سوريا الموحدة ، المحافظة على هويتها ، و المدافعين في خندق واحد ضد العدو الأكبر و الأصل لكل الأعداء ، مهما تعاظم نتيجة احتشاد العالم بأسره خلفه، وأعلنوا سوية رفض أي تهجير اضافي أو تشريد مزيداً من السوريين لتنفيذ مآراب “حاقدة” لتدمير البنية السورية ، مؤكدين أن لامكان لأي تغيير ديمغرافي لا في الوعد أو في غيرها.
الارتقاء المتواتر و القفزات النوعية في الأداء السياسي العام للفصائل و الهيئات السياسية ، يشكل نواة عمل لمستقبل أفضل لسوريا، و يمنح صلابة لا مثيل لها للممثلين في حال تم اطلاق جولات جديدة من المفاوضات ، أو تم وأدها بانتظار حصول أمر (تفرقة - اعادة احتلال مناطق استراتيجية - حصار مزيداً من المدن و المناطق … ) ، والظهور ككتلة واحدة يجعل من الثورة السورية قد وصلت ( ولو متأخراً كثيراً لوقت زاد عن خمس سنوات) إلى المرحلة التي تمكنها من فرض رؤيتها ، وعدم امكانية تجاوزها بأي شكل من الأشكال ، فلا مشروع يمكن أن ينجح في سوريا مالم يوافق عليه الشعب السوري ، بخلاف الفترة الماضية التي عمد اللاعبين الدوليين في الملف السوريين بطريقة مهينة ، استندت بشكل أساسي على تفرق المعارضة و ابتعاد جناحيها (السياسي و العسكري ) عن بعضهما.
لا يمكن لنا كشعب سوري عانى ماعاناه ، و شهد ما شهده و ضحى بكل شيء ، إلا أن نعلق الآمال بأي تصرف مهما كان صغيراً أو هامشياً ، اذ الأمل وحده ما يجعل شعب واجه العالم بأسره وحيداً ضعيفاً ، و يستمر بهذه المواجهة دون كلل أو ملل .
بعد سنوات من الصراع و المعارك المتواصلة بين المخابرات الأمريكي (سي اي اي) و وزارة الدفاع (البنتاغون) ، في سوريا ، يبدو أن الطرفان قد قررا الدخول في ذات التحالف ضد البيت الأبيض الذي يستعد لتغيير ساكنه خلال الأشهر القليلة القادمة ، في مسعى منهما ( سي اي ايه و البنتاغون) للحفاظ على الهيبة الأمريكية إلى أقصى قدر ممكن خلال مرحلة اللاتوازن التي تشهدها أمريكا مع كل انتخابات رئاسية.
وواضح أن منفذ العملية التي تمت ، يوم أمس ، في دير الزور ضد قوات الأسد في وقت تقاربت به أمريكا و روسيا للشروع في أول تعاون عسكري بينهما منذ الحرب العالمية الثانية ، لم يكن نفس الشخص الذي اتفق مع الروس، وهذا يدل على ناحيتين أولهما تعدد مراكز القرار الأمريكي وانعدام التعاون و التنسيق ، و ثانيهما الإفتراق الكبير بين مركز القرار السياسي والعسكري الذي أحس أن خلطات أوباما كيري قد أساءت لهيبة الإمبراطورية وجيشها الذي بدا ضعيفاً أمام تجرؤ الروس عليه.
قبل أشهر بدأت المشكلات بين الأجهزة الأمريكية تظهر للعلن من خلال وسائل الاعلام الغربية ، و منها ما تحدثت عنه صحيفة “ديلي بيست “ الأمريكية عن مكامن الخلاف بين البنتاغون و الـ”سي اي ايه” من حيث آلية توجيه الدعم في الحرب السورية ، ففي الوقت الذي ركزت وزارة الدفاع العمل على دعم قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ، واضعة “داعش” كهدف أولي و أساسي ، ابتعدت الـ”سي اي ايه “ عن ذلك الهدف و كثفت من دعم فصائل الجيش الحر التي تقاتل “الأسد”، على اعتبار أن الأسد سبب كل ما يحدث في سوريا و إنهاءه يعني إنهاء أي ارهاب أو مسبب له، هذا الخلاف العملي و الهدفي خلف تشابكات كبيرة و لعل أبرزها ظهوراً كان خلال معركة “درع الفرات” التي أطلقتها تركيا بمشاركة فصائل الجيش الحر و شهدت مواجهات فعلية و عنيفة بين الحيش الحر و قوات سوريا الديمقراطية ، و كانت هذه المواجهات بمثابة الحرب الفعلية بين جهازين أمريكيين خالصين بأيدي سورية و اقليمية.
و اليوم و بعد اتمام الاتفاق الأمريكي الروسي حول سوريا ، في ٩ تموز، بدا واضحاً للجهازين الأمريكيين المتصارعين أنهما في موضع لا يسمح بمواصلة الحرب بالوقت الحالي ، مع الشعور بأن التعاون بات لزاماً عليهما في مواجهة الرغبة لدى الرئيس الأمريكي باراك أوباما ، الذي يمضي ساعاته الأخيرة في البيت الأبيض، في أن ينهي ولايته و هو خالي الوفاض من أي حرب علنية يدخل بلاده فيها ، فهو يتباهى بالانسحاب الكبير من أفغانستان و العراق ، وبات الملف السوري (أخطر الملفات)، بحاجة لحل تحت أي بند ، و لو كان على حساب المصالح الأمريكية و صراع الهيبة مع روسيا ، الأمر الغير مستساغ اطلاقاً من الجنرالات في أمريكا ، التي تجد في صراع الهيبة أمراً مصيرياً.
الضربة في دير الزور يوم أمس تشير إلى أن الاتفاق السياسي الأمريكي - الروسي ، لن يجد له موطئ قدم على الأرض المشتعلة ، و ما نقلته صحيفة “الحياة” اليوم عن الاجتماع الذي جرى في البيت الأبيض بين أقطاب الأجهزة في أمريكا ، يشي إلى أن أوباما يحاول امتصاص “تحفظات” وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) ، من خلال دعم الاتفاق الذي أنجزه وزير الخارجية جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف المسودة الأخيرة للاتفاق، اذ بيّن وزير الدفاع أشتون كارتر تحفظه على نقاط عدة، بينها عدم الثقة بالجيش الروسي والخشية من مشاركة المعلومات الاستخبارية مع موسكو وإطلاعها على كيفية تعاطي الأجهزة الأميركية، إضافة إلى تساؤله: من سيملأ الفراغ الذي سيحصل بعد استهداف الفصائل الإسلامية؟ قوات النظام وحلفاؤها أم أن واشنطن مستعدة لدعم إضافي لفصائل الجيش الحر؟ ، هذه الأمور التي لم تلق آذاناً صاغية من ادارة البيت الأبيض ، دفعت البنتاغون و سي اي ايه للعمل ميدانياً ، و توجيه ضربة من النوع ( مكانياً و نوع الأسلحة المستخدمة و الكثافة النيرانية ) الذي يجعل تطبيق الاتفاق معقداً أكثر فأكثر ، حتى يصل لحد الاستحالة ، و بذلك يضمن أن تمر ولاية أوباما دون مزيداً من الخسائر المعنوية في مواجهة روسيا ، بانتظار الساكن الجديد القادم للبيت الأبيض.
عندما تتحالف إسرائيل وروسيا في سوريا، وعندما يؤكد الوزير الإسرائيلي الشهير ليبرمان على أن التنسيق بين الإسرائيليين والروس في سوريا على مدار الساعة، سبعة أيام في الأسبوع، وعندما يزور نتنياهو روسيا مرات ومرات خلال أشهر لتنسيق الجهود الإسرائيلية الروسية في سوريا، فلا أحد يحدثنا عن صراع أمريكي روسي على سوريا. بعبارة أخرى، عندما يتفق الإسرائيليون والروس على الأرض السورية، فإن الموافقة الأمريكية على الدور الروسي في سوريا تصبح تحصيل حاصل. لا عجب إذاً أن قال أحد المعلقين ساخراً: إن وزير الخارجية الأمريكي فيما يخص الشأن السوري ليس جون كيري، بل سيرجي لافروف. لهذا لا بد أن لنا أن نضحك على أتباع ما يسمى بحلف الممانعة والمقاومة عندما يصورون الصراع في سوريا على أنه معركة كسر عظم بين روسيا وأمريكا، وذلك كي يبرروا تبعيتهم لروسيا والنوم معها في فراش واحد، مع العلم أن اللعبة باتت مفضوحة إلى أبعد الحدود. وبما أن الروس والأمريكيين والإسرائيليين على قلب رجل واحد في سوريا، فإن الممانعين المزعومين صاروا في الخندق الإسرائيلي بشكل مفضوح. لقد بات الروس والإسرائيليون ينسقون عملياتهم في سوريا من غرفة عمليات واحدة، حتى بالتعاون مع النظام وحلفائه «الممانعين».
لا أدري لماذا يصر القومجيون والناصرجيون والمقاومجيون العرب وبقايا اليسار الهزيل على تصوير الصراع في سوريا على أنه صراع بين الشرق والغرب، كما لو أننا في ستينات القرن الماضي حيث كانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا في أوجها. صحيح أن الرئيس الروسي يحاول استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي البائدة بعقلية وأيديولوجية ومعطيات جديدة، لكنه ليس أبداً في وارد التصادم مع أمريكا في الشرق الأوسط. ولا نصدق أيضاً أن الروس يملؤون الفراغ الذي بدأت تتركه أمريكا في المنطقة، كما لو أن الأمريكيين انهزموا أمام الزحف الروسي.
لا علاقة للتدخل الروسي السافر في سوريا أبداً بضعف الجبروت الأمريكي، ولا بصعود الجبروت الروسي، بل الأمر برمته مرتبط بمصالح إسرائيل في سوريا خصوصاً والمنطقة عموماً، وطبعاً بمصالح أمريكا وروسيا المشتركة.
ولو عدنا إلى الساحة السورية، لرأينا التدخل الروسي قد حدث بعد مداولات إسرائيلية روسية على أعلى المستويات السياسية والعسكرية والاستخباراتية. لقد التقى بوتين ونتنياهو مرتين خلال أسبوعين قبل التدخل الروسي. ثم قام بزيارات مكوكية عديدة لموسكو للقاء صديقه بوتين. وقد اعترف سامي كليب أحد أبرز كتاب ما يسمى بمحور الممانعة أن الرئيس الروسي بوتين هو أفضل حليف لإسرائيل في تاريخ روسيا. وقد اعترف وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق جوزيف ليبرمان بأن التنسيق الروسي الإسرائيلي في سوريا يجري على مدار الساعة سبعة أيام في الأسبوع.
حتى الأطفال الصغار يعلمون أن من يحدد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط عموماً هي إسرائيل وليس وزارة الخارجية الأمريكية. وإذا كانت تل أبيب هي من ترسم السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، فمن الطبيعي أن تكون أمريكا راضية تماماً عن التدخل الروسي في سوريا عندما يكون بمباركة وبضوء أخضر إسرائيلي.
إذاً من العيب أن نسمع بعض السوريين واللبنانيين والإيرانيين المؤيدين للنظام السوري وهم يتفاخرون بالدور الروسي في سوريا كما لو كان في مواجهة الدور الإسرائيلي أو الأمريكي. ما أسخفهم عندما يقولون إن روسيا جاءت لتطهير سوريا من الإرهابيين المدعومين أمريكياً وإعادة الاستقرار إليها، كما لو كانت روسيا جمعية خيرية لمساعدة المحتاجين. ليس هناك ما يثبت أن روسيا تصارع الأمريكيين في سوريا. وفي أحسن الأحوال ربما تكون عملية تقاسم مصالح بين الروس والأمريكيين، إن لم نقل إن الروس يسمسرون للأمريكان في سوريا، كما فعلوا من قبل عندما ضغطوا على القيادة السورية لتسليم سلاحها الكيماوي الاستراتيجي نزولاً عند رغبة إسرائيل وأمريكا. من يجرد سوريا من سلاحها الاستراتيجي لصالح إسرائيل لا شك أنه أقرب لإسرائيل منه إلى النظام السوري. وعلى المطبلين والمزمرين للتدخل الروسي في سوريا أن يتذكروا «اتفاق كيري-لافروف» الذي وصفه البعض لاوقتها بأنه بمثابة سايكس-بيكو جديد وربما أخطر، على صعيد تقاسم النفوذ والثروات وتمزيق المنطقة بين الأمريكيين والروس. وقد اعترف السيناتور الأمريكي الشهير ليندسي غرايام في استجوابه الشهير لوزير الدفاع الأمريكي قبل فترة بأن أمريكا باعت سوريا برضاها لروسيا وإيران ضمن لعبة تبادل المصالح.
إذاً: مهما تبجح جماعة الممانعة والمقاومة بعلاقتهم وتحالفهم الاستراتيجي مع روسيا، فمن المعروف أن التحالف الروسي الإسرائيلي يبقى أقوى بعشرات المرات لأسباب كثيرة. فلا ننسى أن اليهود الروس الذين يزيد عددهم على المليون في إسرائيل هم من يحرك السياسة الإسرائيلية، وهم على ارتباط وثيق بروسيا. وكلنا يتذكر صورة الرئيس الروسي بوتين وهو يرتدي القلنسوة اليهودية وهو يزور موقع حفريات «الهيكل» تحت المسجد الأقصى، ويبارك الحفريات التي ستهدم ثالث الحرمين الشريفين في يوم من الأيام. ولو لم تكن أفعال روسيا في سوريا تروق للكبير الأمريكي وتابعه الإسرائيلي، لما تجرأت روسيا أصلاً أن ترسل طائرة ورق إلى سوريا. ولو أرادت أمريكا أن تعرقل التدخل الروسي في سوريا لأعطت المعارضين السوريين عشرة صواريخ مضادة للطائرات فقط لإسقاط الطائرات الروسية في الأجواء السورية، فذهبت هيبة روسيا أدراج الرياح، وتحولت بين ليلة وضحاها إلى مهزلة دولية.
ولمن لا يعرف معنى كلمة «ماناجاتوا» Ménage à trois الفرنسية التي وردت في عنوان المقال، فهي تعني علاقة بين ثلاثة أشخاص، وهذا النوع من العلاقات ينطبق حرفياً على التحالف الروسي الإسرائيلي الأمريكي في سوريا. ثلاثة في فراش واحد.
في إمكان المعارضة السورية، إذا شاءت أن تعزّي نفسها بعد الاتفاق الذي عقدته إدارة باراك أوباما مع الروس من وراء ظهرها، أن تتذكر الاتفاق الذي عقدته هذه الإدارة نفسها مع إيران، من وراء ظهر حلفاء واشنطن أيضاً، مضحّية بمصالحهم ومهدّدة أمنهم الإقليمي، بعد أن شرّعت لطهران أبواب التدخل في مختلف دول المنطقة العربية، وقامت بتغطية هذا التدخل في معظم الأحيان، كما هي الحال في العراق ولبنان، وفي اليمن، كما يقول البعض، وكما تغطي الآن الدور الإيراني في سورية، بعد اتفاق الهدنة الأخير.
كان في وسع إدارة أوباما أن تقايض الاتفاق مع إيران بالحصول على التزامات من طهران بالتوقّف عن التدخل في شؤون المنطقة العربية. وكان في وسعها لو فعلت ذلك، أن تحصل على تنازلات إيرانية في المقابل، في وقت كانت إيران في حاجة الى التوصل لهذا الاتفاق لتخفيف العقوبات التي كانت مفروضة عليها، والتي كانت قد أصبحت تشكل عبئاً على اقتصادها، وتبعاً لذلك على الوضع السياسي الداخلي ودرجة الولاء الشعبي التي يتمتع بها النظام.
غير أن إدارة أوباما لم تفعل شيئاً من ذلك. قدّمت لإيران العصا والجزرة في وقت واحد. وانتهى الأمر الى أن إيران وإسرائيل هما المستفيدتان الوحيدتان من الاتفاق النووي، فيما تواجه دول المنطقة، صديقة واشنطن، تبعات الصلف الإيراني، مقروناً بشعور بالانتصار على «الشيطان الأكبر»، الذي هزم نفسه وأودى بمصالح حلفائه، غير عابئ بنتائج تلك السياسة الساذجة والمتهورة.
إدارة أوباما تفعل الآن الشيء نفسه، وربما أخطر منه، مع المعارضة السورية. ومثلما ضحّت بالمعارضة على رغم تهديد الرئيس الأميركي بـ «التحرك» إذا تجاوز بشار الأسد ذلك «الخط الأحمر» الشهير، وعقدت صفقة مع الروس على «تدمير» الأسلحة الكيماوية التي قصف بها النظام خان العسل في حلب وغوطة دمشق، ما سمح بإنقاذ النظام ورأسه آنذاك، ها هي الآن تضحّي بالمعارضة في اتفاق مشبوه مع فلاديمير بوتين، سينتهي بالقضاء على المعارضة بحجة محاربة «الإرهاب» (الحجة التي اعتمدها الأسد منذ بداية الثورة عليه) من دون أي إشارة الى الدور الذي تلعبه إيران والميليشيات الحليفة لها في أعمال القمع التي ترتكبها مع قوات النظام ضد السوريين، والتي حصدت وفق تقديرات الأمم المتحدة 400 ألف قتيل ودمرت المدن السورية وخرّبت اقتصادها وألقت بنصف أبنائها على طرق الهجرة والمنافي، داخل سورية وخارجها.
يمتدح جون كيري صفقة الهدنة التي توصل إليها مع سيرغي لافروف بأن البديل منها هو مزيد من القتلى، غير أن وزير الخارجية الأميركي يفضّل أن يتجاهل أن تراكم هذا العدد من القتلى يعود الى تراخي رئيسه عندما كان في إمكانه أن يضع حداً للنظام السوري، على الأقل عندما ارتكب مجزرة الغوطة بالسلاح الكيماوي قبل 3 سنوات.
وكما حصل آنذاك ستكون نتيجة الهدنة الآن أيضاً إفلات نظام بشار الأسد من العقاب بعد كل ما ارتكبه هو وزمرته بحق الشعب السوري. بل إن روسيا، شريكة هذا النظام بالتغطية على جرائمه وبمنع المحاسبة الدولية عنه، بواسطة «الفيتو» المتكرر على قرارات الإدانة في مجلس الأمن، روسيا أصبحت، بفضل أوباما ووزيره كيري، طرفاً في رعاية العملية السياسية المفترضة، والتي لن تؤدي الى أي نتيجة واقعية سوى التمديد للأسد فوق رؤوس السوريين، في ظل التسليم الأميركي بالغطاء الإيراني - الروسي لهذا الاتفاق الجديد.
يمثل الاتفاق الروسي - الأميركي مرحلة جديدة في القضية السورية؛ إذ هو الأبرز في توافق الدولتين المؤثرتين في قضية، كانت ولا تزال، أحد مصادر التناقض العميق في سياسة البلدين، رغم أنه من الصعب تقدير مدى التوافق في اتفاق غير معلن، يصر طرفاه على إبقائه طي الكتمان. لكن المعلن فيه يكفي للقول إنه يعكس توافقًا في نقاط، لعل الأهم فيها نقطتان؛ الأولى هي الهدنة، والثانية تحريك مسار الحل السياسي للقضية السورية، مع تأكيد الفارق في رؤية كل جانب لكل واحدة من النقطتين.
الروس في الاتفاق مع الأميركيين، لا يرون في وقف القتال والذهاب إلى المفاوضات إلا فرصة من أجل تحسين الأوضاع السياسية والميدانية للحلف الذي يشاركونه مع نظام الأسد وإيران وأدواتهم من الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية وغيرها، وهم في هذا الجانب، يريدون أن يظهروا للعالم، حرصهم ومساعيهم لوقف الصراع المسلح والذهاب إلى حل سياسي بالتشارك مع الولايات المتحدة، التي يؤشر لها باعتبارها الأقرب إلى الطرف الآخر في الصراع السوري وحول سوريا، وهذه كلها تعطيهم مزايا سياسية، تعزز وضعهم ووضع حلفائهم، فيما تتواصل المجريات الميدانية من أجل تعزيز قوة حلفهم على الأرض بجلب مزيد من العتاد والمقاتلين من جهة، والعمل من جهة أخرى على إضعاف وتفكيك قوة الطرف الآخر بطرق وأساليب متعددة، لعل الأبرز فيها فصل جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) عن تحالفها مع تشكيلات المعارضة المسلحة في إطار جيش الفتح.
الأميركيون من جانبهم، لا يرون في الاتفاق سوى منجز سياسي أخير للعهد الأوبامي قريب الانتهاء في قضية كارثية، شغلت العالم وكانت متواصلة في عهد أوباما الذي فشل في تحقيق أي تقدم فيها، أو معالجة لأي من جوانبها الكثيرة، إن لم نقل إنه ساهم في تردياتها ومزيد من تداعيات إقليمية ودولية خطرة، أصابت كثيرًا من دول العالم بما فيها حلفاء واشنطن بآثارها الكارثية، ولأن الأمر على هذا النحو، فمن غير المستغرب أن يقدم الأميركيون للطرف الروسي تنازلات، وهو الأمر الذي قد يفسره التحفظ الأميركي على كشف تفاصيل الاتفاق.
النقطة الروسية - الأميركية المشتركة في الاتفاق، هي توافقهما في الحرب على الإرهاب، وبالتخصيص على «داعش» وجبهة فتح الشام، والتشارك في تلك الحرب. رغم الإشكالات، التي يثيرها الجمع بين «داعش» وجبهة فتح الشام في صفوف المعارضة السورية، فإن هذه النقطة تكشف توافقًا آخر بين الطرفين، وهو السكوت عما تقوم به الميليشيات الشيعية في سوريا من عمليات إرهابية، لا تقل بشاعة عن ممارسات «داعش»، الأمر الذي يعني في المشترك الروسي - الأميركي، أن ثمة ميلاً واضحًا لمصلحة الطرف الأول وتحالفه، وميلاً لإخراج القضية السورية من سياقها الأساسي، باعتبارها ثورة شعب ضد نظام مستبد وقاتل، وبناء مستقبل آخر، لجعلها قضية حرب على بعض الإرهاب، لا الإرهاب كله، خصوصًا أن حزب الله مصنف في أكثر من قائمة باعتباره جماعة إرهابية، تنبغي محاربتها.
وسط تلك الصورة من محتويات الاتفاق الأميركي - الروسي ومصلحة موقعيه، لا بد من قول إن السوريين يمكن أن يستفيدوا منه، إذا تم تنفيذ الهدنة ووقف القتل والتهجير، وجرى الذهاب إلى مفاوضات جدية على أرضية التوافقات الدولية ومرجعياتها، وخصوصًا بيان جنيف لعام 2012، غير أن أمرًا كهذا، سيكون مستبعدًا في ظل ثلاث حقائق معروفة.
أولى الحقائق، أن تجربة التوافقات والاتفاقات الأميركية - الروسية حول القضية السورية، افتقدت إلى الجدية، وغلب عليها الطابع السياسي والإعلامي أكثر بكثير من نزوعها نحو التطبيق، ليس فقط لأنها لم تتضمن برنامجًا تنفيذيًا، بل لأنه لا تتوفر لدى الطرفين إرادة عملية وسياسية لتطبيق ما تم الاتفاق عليه، وفي التقدير أن الاتفاق الأخير لن يكون أحسن حالاً مما سبقه.
الحقيقة الثانية، تتمثل في عدم توفر رغبة حقيقية من قبل نظام الأسد وحلفائه في الذهاب إلى حل سياسي، وأن الحل العسكري ما زال يحكم سياساتهم وتصرفاتهم العملية، وإن جرى تحولهم باتجاه الحل السياسي، فلا بد أن يكون الحل ناتجًا عن إملاءات ميدانية على نحو ما يجري في التسويات المحلية، ومنها اتفاق التسوية الأخير في داريا، الأمر الذي يعني أن حلاً عامًا، ينبغي أن تكون نتيجته الكلية في مصلحة النظام وحلفائه، ولا تكون فيه المعارضة إلا متلقية للنتائج، لا مشاركة في صنعها، طبقًا لما يعنيه حل سياسي، يكون ناتجًا عن توافقات تأخذ بعين الاعتبار مصالح المشاركين، وترضي الأطراف المنخرطة فيه.
الحقيقة الثالثة، وأساسها استغلال النظام للهدنة والحديث عن الحل السياسي، لخلق وقائع جديدة في الواقع الميداني، عبر القيام بخروقات لوقف إطلاق النار في مناطق ذات حساسيات مثل المناطق المحاصرة، والمماطلة إلى حد منع دخول المساعدات الغذائية والإنسانية أو تقييدها على نحو ما جرت الأمور، ولا يستبعد في هذا المجال، أن يقوم الطيران الروسي بضرب بعض تشكيلات المعارضة المسلحة بدعوى ضرب مواقع جبهة فتح الشام، وفي الطريق يضربون التشكيلات الموصوفة بـ«المعتدلة».
خلاصة القول في موضوع الاتفاق الأميركي - الروسي وما سيأتي بعده، إنه من غير المنتظر حصول تطورات مهمة بالاستناد إليه، سواء على الصعيد السياسي أو الميداني أو حتى الإغاثي، بحيث ينقلب الوضع إلى أفضل مما كان عليه قبل الاتفاق، غير أنه وفي كل الأحوال، ليس أمام السوريين إلا الانتظار، والأمل والعمل من أجل تغييرات تقودهم وبلادهم نحو سلام وحل لقضيتهم.
اقترب عمل المحللين السياسيين من التنجيم إلى حد كبير، و باتوا من قارئي الكف و مستشرفي الآفاق ، في إطار نظرتهم للاتفاق الأمريكي - الروسي حول سوريا ، وانضم إليهم كافة دول العالم، القريب منها للقضية السورية أو البعيد ، واتخذوا مقاعدهم في مدرجات الجماهير لمتابعة مجريات المبارزة المجهولة ، بين قطبي العالم.
في الشق السوري الحال ليس بأفضل ، فالجميع تصله تعليمات للجهة التي تمثله في المفاوضات ، ولايعلم إلا دوره الآني و الوقتي ، لساعات قادمة أو بضع أيام على أبعد تقدير.
المعلن من الاتفاق هو هدن متتالية يصل مجموعها لسبعة أيام (48 ساعة + 48 ساعة + 72 ساعة) ، يرافقها إدخال مساعدات إلى حلب من طريق الكاستيلو الذي سينزع السلاح منه ، يتلو ذلك جلسات عسكرية - مخابراتية ، بين طرفي الاتفاق لتوجيه ضربات مشتركة ضد "جبهة فتح الشام" على وجه التحديد ، إذ بات الحديث عن حرب خاصة من الطرفين ضد “داعش” هو محض غبار ينثر على العيون ، فالحرب على الأخير هي قائمة بكل الأحوال و من قبل الجميع و في أي وقت سواء بهذا الاتفاق أو بدونه.
الإخفاء القسري للمعلومات وورقة الاتفاق ، التي تتألف من خمس صفحات ، و الإصرار الأمريكي و المتعنت حول رفض فضحها ، فتح شهية الجميع للتحليل و التوقع ، و لكن في الحقيقة لا يمكن رؤية مشهد تفاؤلي واحد في ذلك الاتفاق ، ومن خلال زحمة التحليلات ، إذ الأمر يميل إلى كونه اتفاق إنهاء الصراع عن طريق القضاء على أحد الأطراف ، و طبعاَ سيكون من نصيب “الأضعف” ، وفق لاستراتيجية “عنتر بن شداد” ، القائمة على “ضرب أقوى الضعفاء ضرباً يجزع منه أقوى الأقوياء".
لا يمكن اعتبار الفصائل بأنها طرف ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ( ندي - مساوٍ - متوازن) ، في الصراع الدائر في سوريا ، و لذلك يعتبر الطرف الأضعف سيما مع التشتت و الاختلاف الذي يضرب أطنابه في صفوفها (ايدلوجياً - انتمائياً - تكوين شخصي - أهداف مستقبلية و حتى آنية) ، و بالتالي سيكون من نصيبها تلك الضربة التي ستهدد البقية ، من الممكن أن تكون إيران المستهدفة ، فاتفاق النووي لم يكن إلا تمهيداً لضربة تكون قاسمة ، يتم فيها وأد حلم امبراطوري تاريخي له لبوس ديني ، حلم يتفق الغالبية العظمى على إنهاءه و على رأسهم اسرائيل.
قد يكون السرد الآنف بعيد عن فحوى الصفحات الخمس ، التي تحدد الاطار التنفيذي للاتفاق الأمريكي الروسي ، لكنها واجبة الذكر في مسعى لامتصاص أكبر قدر ممكن من السلبيات التي تحملها المرحلة القادمة للثورة السورية.
وتثير الصفحات الخمس في الاتفاق الروسي - الأمريكي ، الحفيظة بشكل يتجاوز الرعب إذ وفق ما يتم تداوله في الغرف الضيقة أن الاتفاق تقتصر حدودها إلى حد بعيد في الشمال السوري ، و سيكون محدوداً للغاية في الجنوب و دمشق و بقية الجيوب التي تقض مضجع “سوريا المفيدة” ، و تمنع تنفيذ ما يعرف بالتقسيمات السلطوية السداسية في سوريا ، والتي سبق و أن ذكرتها في موضع سابق (لقراءة الموضوع السابق الرجاء الضغط هنا)، وتحول هذه التقسيمات التي من المفروض حدوثها ، من تقسيمات سلطوية إلى تقسيمات فعلية و تتحول السلطات الفرعية إلى سلطات قائمة بحد ذاتها و دول و امارات هو المخيف أو الشبح الذي حدد به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بقوله عند عقد الاتفاق أنه “ قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ سوريا الموحدة".
سعى النظام السوري إلى «مَسْرَحة» تصديه للعدوان الإسرائيلي الأخير في الجنوب السوري قرب القنيطرة؛ إذ بعد انتهاء الغارة الإسرائيلية أُطلِقتْ على المقاتلات الإسرائيلية صواريخ سورية من طراز «أس 200» غير المتطورة، لبعث رسالة سياسية وإعلامية بإمكانية ردّ النظام السوري على اعتداءات الطيران الإسرائيلي. المهم هنا أنّ هذا الأمر يصعب أنْ يمرّ من دون غطاء روسي. والمثير للجدال أنّ ثمة توازنات وحسابات روسية رأتْ مصلحة في إعطاء الضوء الأخضر للصواريخ السورية بعد انتهاء الغارة الإسرائيلية، أي من دون إفساد التفاهمات الإسرائيلية - الروسية منذ التدخل العسكري في سورية قبل عام، والمتعلقة بالخطوط الحمر الإسرائيلية، القاضية بأنّ المنطقة الواقعة من جنوب دمشق وحتى الجولان السوري المحتل ينبغي أن تكون خاضعة للمراقبة والسيطرة الجوية الإسرائيلية، إلى جانب منع أي محاولة لتهريب أي سلاح متطور من سورية إلى «حزب الله» في لبنان.
وتنطوي التكهنات في شأن حسابات موسكو وخلفيات الضوء الأخضر الذي منحته لدمشق في هذا الحادث في سياق احتمالات عدة على رأسها:
أولاً، مساعي موسكو في إعادة تأهيل النظام السوري على المستوى الداخلي، وإعادة صرف ما غدا غير قابل للصرف، أيْ ممانعة دمشق وإعادة شحن الأسطوانة المشروخة إياها بأن الدموية التي قابل بها النظام شعبه كانت في صلبها تهدف إلى مواجهة المخططات الخارجية ضد نظام الممانعة، والمدعومة إسرائيلياً!. ومن هنا تأكيد آلة إعلام «الممانعة» بأنّ الردّ على إسرائيل يماثله التصدي لمعركة «قادسية الجنوب» التي أطلقتها فصائل إسلامية مسلحة في ريف القنيطرة الشمالي، بالتزامن مع اتفاق وقف النار الأميركي - الروسي الأخير.
ثانياً، إذا صحتْ التسريبات التي تقول إن ثمة مطالب وضغوطاً روسية على غرفة العمليات المشتركة بين الأردن وأميركا المعروفة بـ «الموك» لوقف دعمها المعارضة السورية في الجنوب السوري، فإن هذا قد يشير إلى مطامح روسية بأن عمليات تقاسم النفوذ في سورية لم تُسلّمْ بعد وفي شكل نهائي مناطق الجنوب السوري لرعاية «الموك» وحدها. وتذهب أوساط قريبة من محور دمشق - طهران - الضاحية الحنوبية إلى أنّ التفاهمات الروسية - الأردنية منذ نحو عام أسفرت خلاصتها عن انهيار نظرية «إسقاط دمشق من الجنوب»، وذلك مع التحوّل الجذري في ميدان الغوطة لمصلحة النظام، ومنع المعارضة من وصل أرياف درعا والقنيطرة ودمشق وقطع طرق الإمداد الأقرب للجيش السوري من درعا والقنيطرة نحو دمشق، وقد كانت استعادة الأخير مدينة داريا المرتبطة بميدان الجنوب آخر حلقات ذاك التحوّل. ولا يُعلم ما إذا كان امتناع «الجبهة الجنوبية» عن مساندة المعارضة في حلب في الأسابيع الماضية مرتبطاً بضغوط من موسكو. واللافت في الإعلام المقرب من «حزب الله» أنّ «إعادة تأهيل النظام» اقتضت ربط «قادسية الجنوب» بالتحرك الإسرائيلي في القنيطرة، والزعم بأنّ غرفة «الموك» حلّت بدلاً منها غرفة عمليات «صهيونية - سلفية» تستهدف بناء «شريط أمني» شبيه بالذي أقامه الاحتلال جنوب لبنان.
ثالثاً، إذا صحت الأنباء التي تحثت عن سعي روسي لاستمالة عناصر وقيادات في «الجبهة الجنوبية» وربطهم بقاعدة «حميميم» فإن هذا يعني أنّ حالة «الستاتيكو» في درعا والجنوب قد تكون عرضة للمقايضات والمفاوضات والتسويات بين الأطراف الدولية والإقليمية؛ مع أنّ هذه التسويات ستظل في الفترة المقبلة جزئية وناقصة، لكنّ أهميتها تأتي من أنها ستكون أنوية أولية وأساسية لإنضاج أي حلول أو تسويات شاملة، من المؤكد أنّها لن ترى النور في عهد الرئيس أوباما. والمرجّح أنّ الأخير ووزير خارجيته، جون كيري، معنيان بتوريث «شيء ما» للإدارة الأميركية المقبلة يمكنها البناء عليه في ما خص سورية وتحديد مناطق النفوذ فيها وإعادة ترسيمها كـ «بروفات» للحلول النهائية الشاملة مستقبلاً.