ستسمعونها كثيرًا خلال الفترة المقبلة: «المحاصصة هي الحل» لليمن وسوريا، والبحرين أيضًا. الفكرة التي بدأت إيران في تسويقها هي إقامة نظام حكم سياسي طائفي جدلي، حتى يؤمّن لها التدخل والتأثير على قرارات هذه الدول ضمن مشروعها للهيمنة على المنطقة. والفكرة ليست جديدة.. استنساخ للنموذجين اللبناني والعراقي اللذين صارت تهيمن عليهما اليوم.
وقد تحدث عن الفكرة أكثر من مسؤول إيراني؛ أحدهم سمعته يعطي تفصيلاً أكثر.. قال: «أنتم تريدون حلاً في سوريا، لماذا لا نعطي كل الطوائف والفرق هناك حصصًا ثابتة في الحكم؛ السنة والعلويين والدروز والمسيحيين والشيعة، وكذلك الأكراد والتركمان، وبهذا ستكون للسنة الأغلبية البرلمانية، وعلينا أن نفعل الشيء ذاته في اليمن، ودول أخرى في المنطقة؟». وهمْهم أحد الجالسين قريبًا مني: «آه، يعني البحرين». طبعًا، نحن نعرف أنه يرمي إلى البحرين، مع أنه لا يوجد فيها نزاع دموي على الحكم مثل اليمن وسوريا والعراق، هناك في البحرين جيوب احتجاجية، يمكن أن تظهر في أي بلد آخر، بما في ذلك إيران نفسها.
أما لماذا نتعجل برفض الفكرة ما دامت ترضي الأغلبية في الدول المضطربة، فالسبب أن المحاصصة الطائفية هي أساس للفوضى وتعمق وجودها، وإن كانت غير ذلك في ماليزيا وهولندا لأنها تعيش في ظروف إقليمية مختلفة.
وقد يجادل البعض بالقول بأن «الطائف» الذي وقع في السعودية لإنهاء حالة الحرب الأهلية في لبنان هو أم المحاصصة؛ للمسيحيين رئاسة الجمهورية، والسنة رئاسة الحكومة، والشيعة رئاسة البرلمان. صحيح أن الاتفاق وقع في مدينة الطائف السعودية، إلا أنه جاء نتاج حوارات جماعية بين الفرقاء المتقاتلين، ولم يكن قرارًا سعوديًا. ثانيًا، المحاصصة كانت موجودة في صلب نظام لبنان الذي سبق «اتفاق الطائف» بنحو خمسين عامًا، بنفس هيكلة الرئاسات مع تعديل نسب المقاعد في البرلمان. ولا ننسى أن «الطائف» كان مجرد مشروع مؤقت لوقف نزف الدم، وجسر للانتقال إلى نظام أفضل دائم. والذي عطل تطوير مشروع الحكم اللبناني هو نظام حافظ الأسد السوري، الذي جثم على كل دولة لبنان، وأدارها من خلال مخابراته ووكلائه المحليين، وقتل أو همّش كل من تجرأ على تحديه وفكر في تغيير النظام السياسي.
والآن، وبعد عقود من تجربتها، ترسخت القناعة بأن المحاصصة نموذج رديء للحكم ينبغي تحاشيه. ولو جرى تطبيقها في اليمن غدًا، فسيقسم الشعب اليمني إلى الأبد، وستجد القوى الخارجية؛ إيران وغيرها، في المحاصصة مدخلاً للتأثير والتعطيل من الخارج، وتوجيه القرارات اليمنية. فما مصلحة اليمنيين في تقاسم المقاعد وفق المذاهب؟ فعليًا لا توجد. الفكرة الأولى التي بنيت عليها المصالحة، بعد اندلاع انتفاضة الشارع اليمني، قامت على أن يقرر اليمنيون من يحكمهم من خلال صناديق الاقتراع، لكن استمرت التعديلات تحت تهديد سلاح الحوثيين لفرض حصص لهم في الحكومة. وها هي المحاصصة في العراق جعلته مثل لبنان؛ رئيس الجمهورية مجرد ديكور. نواب رئيس الجمهورية الثلاثة ونواب رئيس الوزراء الثلاثة الآخرون، أيضًا مقاعد زينة بدعوى تمثيل مكونات البلاد العرقية والطائفية. وحتى رئيس الوزراء، المنصب التنفيذي الأول، صار رهينة للنفوذ الإيراني، من خلال أدوات المحاصصة هذه. وعلى غرار «حزب الله لبنان»، قرر فريق سياسي عراقي بناء ميليشيا تتحكم في البلاد؛ «الحشد الشعبي»، وصار جيش الدولة مجرد رديف له والميليشيات.
وهذا ما سعت إيران إلى فعله في اليمن عندما دعمت ميليشيات الحوثيين «أنصار الله»، التي استولت على مخازن سلاح الجيش، وحاولت فرض كتابة الدستور بمنح نفسها حصصًا ثابتة في الحكومة بالقوة، ولهذا الغرض أخذت رئيس الجمهورية هادي رهينة في داره في صنعاء، ولم تتوقف هذه المهزلة إلا بعد أن شنت السعودية حربها على التجمع الإيراني هناك.
المحاصصة، وفق المشروع الإيراني لإدارة الدول العربية المضطربة في المنطقة، يفترض ألا تمرر بحجة أنها البديل للفوضى، لأنها «ستمؤسس» للفوضى لعشرات السنين. وهناك خيارات بديلة، مثل اعتماد نظام فيدرالي، وتقليص المركزية الحكومية، دون اللجوء إلى تمزيق المجتمع إلى فئات طائفية وعرقية، وتسميد التربة لزرع توترات وحروب أهلية طويلة المدى.
على الرغم من العنوان العريض والاهتمام الإعلامي الكبير، بل والتظاهرات التي لم يكتب لها أن تتم بسبب منعها من قبل السلطات الفرنسية، والحملات الإعلامية المعارضة والمعترضة، إلا أن مسألة الاحتباس الحراري التي اجتمع قادة دول العالم لمناقشتها في العاصمة الفرنسية باريس، قد تكون ملفا ثانويا جدا مقارنة بسواها من الملفات العالقة والطارئة التي تشغل العالم في الوقت الحالي.
الأمر لا يقتصر على القادة لكنه ينسحب على الشعوب التي تعيش أخطارا يومية، وهي تعتبر التفكير في قضايا المناخ والبيئة رفاهية غير مسموح بها، ولعل واقع الحال السوري المستمر منذ سنوات تحت نيران نظام الحكم الفاشل والمستبد، والذي وصف على مستوى عالمي بأنه الأسوأ منذ عقود طويلة، وبالمقابل تغوّل تنظيم داعش على حساب الجغرافيا وتحكّمه في مصادر الطاقة في المناطق الخاضعة لسيطرته، واضطرار مئات الآلاف إلى النزوح والهجرة بعد أن فقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم، في ظل انعدام وأحيانا استحالة الوصول إلى حلول، كل هذا يجعل التخلص من تنظيم داعش وأسباب ظهوره أولوية ويشكل بداية لا بد منها للانتقال في ما بعد إلى التفكير في قضايا أخرى ومرة أخرى سيكون موضوع المناخ ثانويا، لأن إعادة الإعمار بعد الخراب الذي تسببت به قوات النظام منذ الأيام الأولى للثورة، أي قبل أن يدخل مدمّرون آخرون على الخط كان آخرهم الروس، يفوق التصور.
ويحتاج وفق دراسات أممية إلى أكثر من عشر سنوات وإلى المليارات من الدولارات، ورغم خطورة مسألة تغيّر المناخ على مستقبل الأرض، بل واستطرادا على مستقبل الجنس البشري بأكمله كما يذهب بعض المتشائمين إلى تصوير الأمر، إلا أن الحاضر والمستقبل القريب الذي يبدو ظلاميا هو ما يشكل عبئا إضافيا وجوهريا، بعد أن تحول الأمر إلى صراع بقاء ووجود بين قوى ظلامية أوجدتها قوى مستبدة، وبين شعوب كانت تحلم بتحسين أوضاعها المعيشية وفي الحصول على أضعف الإيمان من الخدمات وقد باتت محرومة منها بشكل كلي حاليا.
وإذا كان رؤساء الوفود الذين التقوا قد أبدوا قلقهم من تنظيم داعش واتفق بعضهم على أن الحل يكمن في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية لا يتضمن بقاء الأسد، ثم القضاء على التنظيم الإرهابي، إلا أن كل كلامهم واتفاقاتهم ظلت حبرا على ورق ولن تجد طريقها للتنفيذ، فلم يعد واردا تصديق أي من الوعود أو الخطط طالما أنها تصطدم بأكاذيب ومماطلة روسية تدعي أنها تضيّق الخناق على داعش شيئا فشيئا، فيما هي في الحقيقة تزيد من معاناة الشعب السوري وترفع معدلات الموت اليومي بطريقة مخيفة، وهي شأنها شأن التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وكذا الحماسة الفرنسية التي أعقبت هجمات 13 نوفمبر، تشكل في مجموعها استنزافا لما تبقى من قوى سورية وترفع من الاحتباس الحراري والتطرف في آن واحد، فيما يراقب الأسد غير مكترث على ما يبدو وهو يلمس نوعا من التراخي في المواقف بل وميلا لدى البعض لتصديق عبارة أن الأسد قد يكون شريكا في القضاء على الإرهاب، وكأنه لم يكن صانعا له.
وإذا كانت مؤتمرات المناخ السابقة قد أقرت مجموعة من القرارات وطالبت دول العالم بتنفيذها، فإن النتائج الكارثية التي وصلت إليها حالة كوكب الأرض، تؤكد أن أيا من الدول المعنية لم تلتزم بما تم الاتفاق عليه بل إن ثمة ازديادا ملحوظا في الأخطار البيئية والانبعاثات، والحال نفسه يعقب أي مؤتمر يتم تنظيمه لمكافحة ظاهرة الإرهاب إذ يفضي المؤتمر دائما إلى ازدياد حدة الإرهاب والتطرف وتنوعه، وإلا كيف يمكن تفسير أن تنظم دولة مثل إيران، وهي واحدة من أكبر دعاة وداعمي الإرهاب في العالم، مؤتمرا لمكافحة الإرهاب والحد من انتشاره؟ وكيف يمكن التعامل مع منظمة متطرفة مثل حزب الله اللبناني على أنها شريك في الحرب على الإرهاب، وفق وجهة النظر الإيرانية التي لا تمانع موسكو في تبنيها، بل وربما الترويج لها لاحقا؟
لا نتائج مرجوّة من مؤتمر المناخ ولا من مؤتمرات مكافحة الإرهاب طالما أن المجتمعين أنفسهم يتظاهرون بعدم رؤية أسباب المشكلة، ويلتفون على الحقائق التي أغفلوها، وما زالوا يغفلونها، وهي أن رأس الإرهاب في سوريا ظهر منذ أكثر من أربع سنوات حين بدأت قوات النظام بقتل المواطنين العزل، وهي مستمرة بمساعدة من شركائها في فعل القتل دون توقف، قبل داعش، وبالتعاون معها أيضا.
أن تستمر حرب إبادة يشنها نظام استبدادي ضد شعبه، طوال نصف عقد، وتكون نتيجتها التي يتابع العالم أدق تفاصيلها قتل ملايين السوريين وجرحهم واعتقالهم وتعذيبهم وذبحهم وتجويعهم وإعطابهم، وطرد ثلثيهم من وطنهم، وأن يحدث هذا بيد رئيسٍ يزعم الروس أنه شرعي، وأن مطالبة أغلبية شعب"ه" برحيله إرهاب، وفعل جرمي يعطيه الحق في القضاء عليهم، وأن يقبل العالم هذا النوع من الإجرام، ويبقي على اعترافه القانوني بالنظام الذي يمارسه، وأن يتفرج الرأي العام العالمي بدم بارد على مأساة السوريين المرعبة ومشاهدها المروّعة، ويقف بلا حراك أمام مجازر، لا توفر طفلاً أو امرأة أو شيخاً، ولا ينجو منها بيت أو مخبز أو مشفى أو مدرسة، وأن يحرّض النظام الأسدي المواطنين بعضهم ضد بعض، ويزوّدهم بالسلاح لقتل بعضهم، ثم لا يفعل أحد شيئاً لوقف الكارثة الإنسانية المتمادية، بحجة عدم التدخل في الأزمات والحروب تارة، والافتقار إلى غطاء دولي شرعي طوراً، هو أمر يؤكد انهيار النظام الدولي أخلاقياً وسياسياً. وحاجة العالم إلى مبادئ وقيم تختلف عن التي ينهض عليها اليوم، وتغيّرت هويتها ووظائفها بسبب الصراعات الناجمة عن تحكّم دولة واحدة بمفاصل العلاقات والمصالح الدولية، وما أصابت به أنماط الشرعية الناظمة للعلاقات الدولية من تدمير، وخضوع شعوب كثيرة لنُظُمٍ ترفض إخراج شعوبها من بؤسها، وتجبرها، بالقمع والقهر، على الرضوخ لسقف شديد الانخفاض، تحكم إغلاقه عليها بالاستبداد والفساد، بينما تدير الدول القوية مآزقها، وتتفرّج عليها، وهي تتخبّط في دمائها ومشكلاتها، فلا عجب أن عالمنا صار فريسة فوضى شاملة، وأن ذئاباً مسعورة، ينهش القوي منها الضعيف، تتحكّم به، ويفتك خلالها المستبدّون بشعوبهم، بينما يتفرّج حماة "الشرعية الدولية" عليها، وهم يتثاءبون، كأن ما تراه أعينهم لا يعنيهم، أو لا يحدث أصلاً.
أي نظام دولي هو هذا الذي تعامى تماماً عن عدوان روسيا العسكري على سورية، ودعا إيران إلى المفاوضات بشأن حل سياسي تناهضه، بوصفها الطرف الرئيس في الحرب ضد السوريين، الذي يدعو إلى حل عسكري كاسح، ويرفض قرارات "الشرعية الدولية" حول حل سياسي؟
هل هو نظام ودولي حقاً، إذا كان يضع عملية السلام بين يدي روسيا وإيران: الدولتان اللتان احتلتا سورية من دون أي قرار دولي، أو غطاء قانوني، بل ويكافئهما بدل معاقبتهما، ويتحوّل، بموقفه هذا، إلى نظامٍ ينصاع لمارقين يُخضعون بالعنف شعباً، يُنكرون حقه في تقرير مصيره بنفسه، بينما يصمت عن جرائمهم، أو يرحّب بها "أصدقاؤه"، الذين اعتبر أحدهم مجرد قبول مندوبيهم المجيء إلى فيينا دليلاً يؤكد صدق رغبتهم في السلام، وتجاهلوا أن دورهم في تعطيل الحل، وإبقاء قاتل رئيساً لشعب يطالب برحيله.
ماذا يبقى من نظام دولي يكافئ إيران التي ترفض أسسه ومرتكزاته، ويشارك جيشها في أربعة حروب ضد أربع دول عربية أعضاء في الأمم المتحدة؟ وهل يعقل أن يكون هناك حقاً نظام ودولي، إذا كانت روسيا وإيران تمارسان سياسات استعمارية صارخة، من دون أن يذكّرهما أحد بحقيقة أن الأمم المتحدة اتخذت، في سبعينيات القرن الماضي، قراراتٍ خاصة بتصفية الاستعمار؟
ليس ما يجري في سورية غير إنذار لعالمٍ ينهار نظامه لحظة مواجهته أنماطاً غير مسبوقة من المخاطر. وبدل أن يطوّر آليات ومعايير لمواجهتها، يغرق بسرعة في فوضى شاملة، ولا ناظم لها، لن توفر دولة من دوله، أو مجتمعاً من مجتمعاته. لذلك، شرعت تغطي جميع أرجائه، مع أنها ما تزال في بداياتها.
لا يفتأ بشار الأسد يؤكّد أولويَّة محاربة الإرهاب لديه، ومِن جديد تصريحاته أن "سورية، وأصدقاءها، مصمِّمون على المُضيِّ في مكافحة الإرهاب، بكلِّ أشكاله؛ لأنهم واثقون بأن القضاء على الإرهاب سيشكِّل الخطوة الأساسيَّة في إرساء استقرار المنطقة والعالم".
كما لا يتوانى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، كما أسلافه من القادة الإسرائيليّين، عن توظيف هذه المغالطة، بزجِّ موضوع الإرهاب في معركتهم، ضدَّ الشعب الفلسطيني؛ لتخلط إسرائيل، عن عمد، بين المقاومة المشروعة قانونيًّا ودوليًّا والإرهاب، في محاولةٍ للتساوق مع هذا الأمر الذي كرّسته واشنطن، واتخذت منه ذريعةً لمآرب سياسيّة تتعدّى حدوده الحقيقيَّة.
ولا يخفى أن هذا الاستخدام، أو الاندراج في هذه العمليَّة المسمّاة محاربة الإرهاب، يحقِّق فائدتين متصلتين: الأولى ترميم الشرعيَّة المهشَّمة، أو المهتزَّة عالميًّا، لكلٍّ من إسرائيل ونظام الأسد، إسرائيل التي تمارس دور المحتلّ بأبشع صوره، وأكثرها استهتاراً بالشرعيَّة الدوليَّة، والرأي العام العالميّ، وحقوق الإنسان، مقترفةً جرائم مشهودة على ملأ من إعلام العالم، ما يصنِّف تلك الاعتداءات في خانة الإرهاب، بل في "إرهاب الدولة"، بلا أيّ مبالغة؛ لما تنطوي عليه من استهداف للمدنيّين، أو الاستعمال المفرط للقوّة، أو القتل من دون مبرِّر، أو خطر حقيقيّ.
ونظام بشار الأسد تآكلت شرعيّته، إثر الاحتجاجات الشعبيَّة الواسعة، وما تلاها من معالجات أمنيَّة حربيّة، أفضت إلى تدمير الحياة الطبيعيَّة في سورية. والفائدة الثانية، إسرائيليًّا، صرف الأنظار عن الاستحقاقات التي يُفترَض أن تؤدّيها إسرائيل، بعد أن أدَّى الطرفُ الفلسطينيُّ، من جانبه، كلّ ما يستطيع من (استحقاقات العمليَّة السياسيّة).
وهنا، تنسى حكومة إسرائيل أن الاحتلال، بحدّ ذاته، هو جريمتُها المعلنة، والمصرّة عليها، كما تنسى اعتقالها الأطفال، وقتلهم، وتتناسى حمايتها المستوطنين، فعليًّا، بجنود الاحتلال، والتغطية على جرائمهم، كما حصل، مثالاً، لا حصرا، في جريمة حرق أسرة دوابشة. وقد تعامل (القضاء الإسرائيلي) مع قتلَة الفتى، محمد أبو خضير، الذين دانتهم محكمة إسرائيليَّة بقتل خضير وحرقه، لكنها قالت إنها تريد التأكُّد من الأهليَّة العقليَّة، وذلك بعد أن قدّم محامي الدفاع عن المتهم الرئيسي في الجريمة، يوسيف بن دافيد، تقريراً طبّيًّا عن الوضعيَّة النفسيَّة، يدَّعي فيه أن المذكور يعاني من اضطرابات نفسيَّة. وهذه الحيلة معهودة من إسرائيل، إذ غالبا ما يتضح أنَّ مجرميها وإرهابيِّيها مجانين، أو مضطربون نفسيًّا. كما كان من تخليص حارق المسجد الأقصى، دينس مايك، في 1969، من العقاب، حين زعمت إسرائيل أنه مجنون، ثم رُحِّل إلى أستراليا؛ وظلّ يعيش فيها، من دون أن يظهر عليه أيُّ أثر للجنون، أو غيره. ثم لا يمنع ذلك كله، وغيرُه، نتنياهو أن يخرج متشدِّقاً ومزاوداً، بأنه يحمي الأماكن المقدّسة، (ومن أبرزها المسجد الأقصى) من داعش.
"قتل نظام الأسد أضعافَ أضعاف ما قتله تنظيم داعش وجبهة النصرة، لكنه يقترب من أن يصبح ركيزةً مهمَّة في محاربة الإرهاب، مع أن أطروحة أن بقاءه كان من أهمّ مغذِّيات التطرّف والدمويَّة في سورية"
وكذلك يفعل بشار الأسد، حين يحاول صرف الأنظار عمَّا ينبغي على نظامه أن يفعله من تغييرات في بنيته الأمنيَّة التي لم يعد قسم كبير من الشعب السوري يقبل بها، وهو النظام ذو السوابق في الإرهاب، إذ سبق لبشار أن هدَّد في مقابلة له مع "صنداي تايمز" البريطانيَّة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 بـ"زلزال يحرق المنطقة بكاملها"، وهدَّد بأفغانستان أخرى، أو بالعشرات من أفغانستان، ولم يكتفِ بالقول، بل شرع في الفعل، وما قضيَّة الوزير اللبنانيّ الأسبق، ميشال سماحة المستشار لبشار الأسد الذي اعترف بالتخطيط، مع رموز نظام الأسد؛ للقيام بعمليّات تفجير واغتيال، داخل لبنان، كان من شأنها أن تهيئ لحربٍ أهليّة، ما قضيّته عنّا بعيدة.
ومن جهةٍ، ما أحدثه الأسد في سورية، منذ ما يزيد عن أربع سنوات، يكفي ويزيد لتنصيب بشار من أكابر الإرهابيّين؛ بما تسبَّب به من دمار عام لمقدَّرات البلد، ولنسيج وحدتها الاجتماعيَّة، ولا تعوزنا الأمثلة من أيقونات الثورة السوريَّة، من أمثال الطفل، حمزة الخطيب الذي قُتِل بعد اعتقاله، 25 يونيو/ حزيران 2011، ومُثِّل في جسده أبشعَ تمثيل، إلى منشد الثورة، إبراهيم القاشوش الذي قتلته قوّات الأمن السوريَّة، 4 يوليو/ تموز 2011، وذبحته، واقتلعت حنجرته، ثم ألقته في نهر العاصي.
وفي المحصِّلة، قتل نظام الأسد أضعافَ أضعاف ما قتله تنظيم داعش وجبهة النصرة، لكنه يقترب من أن يصبح ركيزةً مهمَّة في محاربة الإرهاب، مع أن أطروحة أن بقاءه كان من أهمّ مغذِّيات التطرّف والدمويَّة في سورية، ومن أهمّ محفِّزات الطائفيَّة السياسيّة لا تزال شاخصةً، نظريًّا وعمليًّا.
وعلى الرَّغم من ذلك كله، تظلّ السياسة، أو القرارات السياسيَّة، أكثر مَيْلا، نحو التبسيط المخلّ، فبحسب (الواقعيَّة السياسيَّة) التي يفرط الرئيس الأميركيّ، باراك أوباما، في استخدامها، فإن الخطر الأكبر ينبغي تقديمُه على الخطر الأصغر، والخطر الداهم ينبغي حسمه، قبل الخطر الآجِل، فـجماعات مثل داعش وجبهة النصرة، ومَن هي على شاكلتها، أخذت تشكّل خطراً واسع النطاق، والهوّة بين المنظومة الغربيّة، وتلك الجماعات (الجهاديَّة) واسعة وعميقة، فلا مجال للتعايش معها، أو لحلول وسط، لكن الأسد المندرج ضمن المحور الإيرانيّ الروسيّ، يمكن، في أقلّ الطموحات، احتواؤه، أو مساومته.
لكن هذا التعاطي يتجاهل الطرف الآخر، (الفلسطينيّين في حالة نتنياهو، والشعب السوريّ، أو قسما كبير منه في حالة الأسد) ومتطلّباته وحقوقه. كما يتجاهل أن هذه الكيانات لا تعرض محاربة الإرهاب طرفاً أصيلاً، بقدر ما أن هدفها الأصيل هو البقاء، على ما هي عليه من احتلال وتوسُّع (إسرائيل)، وكذلك نظام الأسد الذي له تجارب وسوابق في التعاون مع من كانت الولايات المتحدة تصفهم إرهابيِّين، في أثناء احتلالها العسكريّ للعراق. فهل أصبحت محاربة الإرهاب وسيلةً لتبييض وجوه ساسة مفلسين؟ بل ومتورِّطين في جرائم إرهاب ضدَّ شعوب أخرى، أو جرائم إنسانيَّة ضدَّ شعوبهم؟!
جوهر المسألة أن الانخراط في محاربة "الإرهاب" لا يبرّئ المنخرطين من جرائمهم السابقة، والراهنة، ولا يلغي مسؤوليَّتهم عن ازدهاره. بل يلقي بظلال الشكّ على العمليَّة برمّتها، وقد يسعّر نار الإرهاب، ويزيده جنوناً.
وهذا الإصرار من إسرائيل ونظام الأسد المتقاطعَيْن في جزئيَّة توظيف "الحرب على الإرهاب" على رفض الاعتراف بالوقائع الموجبة للتنازل، وإحقاق الحقوق يجعل منهما مغذِّياً مستمرًّا للبيئة الاجتماعيَّة التي تشجِّع التطرُّف والعنف، ويشكّك حتى في النيات الغربيَّة من إطلاق هذه الحرب، ما قد يُدخلها في حالةٍ من التضليل لشعوبها التي اصطلت بنار الإرهاب، في حواضرها وعواصمها.
لم يمضِ يوم واحد على سيطرة الجبهة الشامية على بلدة دلحة وسيطرة لواء السلطان مراد على قرية حرجلة في ريف حلب الشمالي، حتى كشفت مصادر تركية أن المنطقة الآمنة التي تسعى تركيا لإقامتها في الشمال السوري ستقام خلال أسبوع (من جرابلس إلى شنكال في أقصى الشمال الغربي على الحدود التركية، مروراً بدير حافر وتل رفعت وبلبل) مع تلميحات إلى مشاركة فرنسية في عمليات الدعم الجوي.
لا يشكل هذا التسريب مفاجأة، حيث لوحظ منذ نحو شهر تزايد الخطاب السياسي التركي في الحديث عن المنطقة الآمنة، وكان آخرها في العاشر من الشهر الماضي حين أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن حلفاء لتركيا في المعركة ضد تنظيم «داعش» يقتربون من فكرة إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري.
لكن حتى الآن لا يبدو واضحاً ما هي طبيعة هذه المنطقة، هل ستكون كما كانت تطالب أنقرة منذ نحو عامين، بحيث تشكل قاعدة عسكرية للانطلاق منها نحو جبهات أخرى؟ أم هي مجرد منطقة آمنة تكون مأوى للنازحين وقاعدة للحكومة الموقتة التابعة للائتلاف؟
ما هو واضح حتى الآن أن الحاجة إلى هذه المنطقة أصبحت ضرورية بعد أحداث باريس، ما يرجح أن تكون لهدف إنساني وعسكري دفاعي لإخراج «داعش» منها، أي أنها لن تكون منطلقاً لعمليات عسكرية، وستكون تحت حماية فصائل المعارضة المعتدلة المدعومة من تركيا ودول إقليمية أخرى كـ «الجيش الحر» ولواء السلطان مراد التركماني، و «الجبهة الشامية» التي تضم أهم القوى العسكرية (أحرار الشام، جيش المجاهدين، حركة نور الدين الزنكي، الجبهة الإسلامية، جيش الإسلام، أنصار الشام، لواء التوحيد، فيلق الشام، وغيرها).
على المستوى الأوروبي، تخفف المنطقة الآمنة من عبء اللجوء إلى أوروبا، فمن شأنها أن تتحول إلى مكان للنازحين من داخل سورية واللاجئين من خارجها، وكانت الحكومة التركية قد أعلنت قبل أشهر أن مئات آلاف اللاجئين السوريين في تركيا سيستقرون في المنطقة الآمنة عندما تتم إقامتها.
وعلى المستوى التركي، تشكل هذه المنطقة عازلاً في وجه الحكم الذاتي الذي يسعى الأكراد إلى إقامته على كامل الحدود التركية - السورية، وربما هذا ما يفسر غياب العنصر الكردي في العملية العسكرية التركية - الأميركية، ووجود العنصر التركماني.
وربما استخدام لفظ المنطقة الآمنة بدلاً من المنطقة العازلة له دلالته، فالأخيرة تعني عزل منطقتين عن بعضهما البعض بينهما نزاع عسكري، أما المنطقة الآمنة التي تم التوافق عليها بين الأتراك والأميركيين منذ نهاية تموز (يوليو) الماضي، فهي المنطقة الخالية من التهديدات الإرهابية وتكفل الأمن لساكنيها، ولا تتطلب تدخلاً عسكرياً برياً ولا حظراً جوياً، وهما أمران تضع موسكو عليهما الفيتو.
وخلال الأسابيع الماضية ركز النظام السوري على محورين في ريف اللاذقية الشمالي، الأول تلال جب الأحمر (غرب) تمهيداً للسيطرة على بلدة السرمانية في سهل الغاب بمحافظة حماة شرقاً ومن ثم تكوين منطقة محصنة تضم أيضاً معسكر جورين لتكون قاعدة عسكرية للجيش السوري للانطلاق نحو ريف إدلب الجنوبي وخصوصاً نحو مدينة جسر الشغور، والمحور الثاني بلدة غمام وجبل الأكراد.
ولكن خلال الأيام الماضية، بدأ النظام العمل على محور ثالث، يتمثل بجبل التركمان في الشمال الغربي لريف اللاذقية من أجل السيطرة على نبع المر وقرية عفريت وتلة العزر، وترافقت عمليات هذا المحور مع هجوم جوي عنيف شنته الطائرات الروسية.
يشكل المحور الثالث (جبل التركمان) هدفاً استراتيجياً مهماً للجيش السوري من ناحيتين:
1- تطويق الساحل من الناحيتين الشرقية والشمالية قبيل وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في اجتماع فيينا، وبالتالي إخراج الساحل من ساحة الصراع.
2- العمل على وأد إمكانية إقامة منطقة آمنة شمالي سورية، ومن شأن السيطرة على جبل التركمان أن تعيد خلط الأوراق في الشمال، حيث سيضطر المقاتلون التركمان في لواء السلطان مراد إلى ترك العملية العسكرية التركية - الأميركية والعودة للدفاع عن جبلهم.
غير أن التطور الأهم الذي أعاق على ما يبدو إقامة المنطقة الآمنة هو إسقاط تركيا الطائرة الروسية، وبدا واضحاً أن الروس سيردون على تركيا في سورية، عبر منع إقامة هذه المنطقة.
ولعل تركيز الطيران الروسي على جبلي الأكراد والتركمان، ومن ثم نشر صواريخ «أس 400» في اللاذقية، مؤشر واضح في هذا الاتجاه، وهو ما أدركته أنقرة التي أوقفت مشاركة طيرانها في عمليات التحالف الدولي خشية رد روسي مماثل، وبالتالي دخول البلدين مرحلة المواجهة المباشرة.
كان لبنان في عيد نهار أمس. احتفل الجميع، حكومة وشعباً، بإطلاق 16 عسكرياً كانت تحتجزهم «جبهة النصرة» بعد 16 شهراً أمضوها أسرى في المنطقة الحدودية الجبلية المحاذية لسورية في شرق البقاع اللبناني.
لم يكن التفاوض بين الحكومة اللبنانية و»جبهة النصرة» تفاوضاً مباشراً. فالحكومة، التي كلفت مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم الإشراف على التفاوض، كانت تعرف صعوبات التفاوض المباشر ومحاذيره، مع جبهة مصنفة دولياً باعتبارها أحد التنظيمات الإرهابية.، فضلاً عن انها قتلت اربعة من الاسرى الذين كانت تحتجزهم. هنا لجأت الحكومة إلى من يستطيع أن يقيم قنوات اتصال مع هؤلاء، فكانت المساعدة التي قدمتها دولة قطر، والتي حرص المسؤولون اللبنانيون أمس على «شكرها» على الدور الذي قامت به.
ليس هذا فقط. فالحكومة اللبنانية كانت تعرف أيضاً أن إطلاق الأسرى العسكريين له ثمن، وهو إطلاق سجناء في السجون اللبنانية، منهم من يواجهون تهماً بالقيام بأعمال إرهابية. انه ثمن يتعلق بمكانة القضاء وبمسألة تطبيق القانون، وفوق ذلك بقضية السيادة، التي لا تتحصن كما يفترض إلا إذا التزمت الدولة بمبدأ عدم التفاوض مع الإرهابيين، أو الخضوع لمطالبهم ولابتزازهم. انه المبدأ الذي تحافظ عليه دول كثيرة تعرّض مواطنوها للخطف، فيما تساهلت دول غربية أخرى مع هذا المبدأ وقدمت تنازلات، بل دفعت أثماناً غالية مقابل إطلاق أسراها، كما حصل في مرات متكررة مع أسرى غربيين كان يحتجزهم تنظيم «داعش».
غير أنه لم يكن أمام الدولة اللبنانية من خيار سوى التفاوض. كان هناك ضغط أهالي العسكريين الذين اعتبروا وعن حق أن احتجاز أبنائهم يوجه إهانة مباشرة للدولة، التي يفترض فيها توفير الحماية لجنودها، كما أنه يثبت عجزها عن فرض سيادتها على منطقة حدودية من الفلتان الأمني الذي عاشته (ولا تزال إلى حد بعيد) منطقة عرسال وجرودها.
لا حاجة هنا للدخول في الظروف العملانية التي أدت أو سهّلت أسر العسكريين. ما يمكن قوله إن هذه الظروف شكلت هي أيضاً عامل ضغط على الدولة اللبنانية للعمل على إطلاق جنودها بأي ثمن.
لفترة غير قصيرة، خلال الشهور الستة عشر الماضية، واجهت الحكومة اللبنانية مسألة ما يمكن تسميته الحصول على «ترخيص» بالتفاوض، وإن غير المباشر مع «جبهة النصرة». فـ «حزب الله»، الجهة الأكثر نفوذاً في لبنان، والأوسع حضوراً على الساحة السورية بين التنظيمات المقاتلة إلى جانب النظام، لم يستحسن منذ البداية فكرة التفاوض هذه، أو تقديم التنازلات التي كان لا بد منها لـ «النصرة»، وهي أحد الأطراف المعادية للحزب في القتال على الساحة السورية. تذرع الحزب بحجة السيادة، في الوقت التي خُرقت هذه السيادة المزعومة مباشرة منذ اللحظة التي خرق فيها الحزب الإجماع الحكومي اللبناني، الذي كان يقتضي النأي بلبنان عن الحرب السورية، كي لا يضطر في ما بعد إلى مواجهة تداعياتها، كما يفعل الآن في مسألة التفاوض التي نحن بصددها، والتي قد تتكرر غداً إذا وجدت الحكومة اللبنانية استعداداً من جانب تنظيم «داعش» الإرهابي لفتح قنوات تفاوض معها لمحاولة إطلاق سراح الجنود التسعة الذين ما زالوا محتجزين لدى التنظيم.
إذا كانت «جبهة النصرة» قد تمكنت، من خلال الصفقة الأخيرة، من ترتيب أوضاع اللاجئين السوريين في مخيمات عرسال، فيما كانت الحكومة اللبنانية تعتبر أن تلك المخيمات تحولت مصنعاً للتفخيخ وإرسال المتفجرات، كما تمكنت الجبهة من فرض وادي حميد كمنطقة آمنة للاجئين، لا تستطيع القوى الأمنية اللبنانية أن تتعرض لها، فما هو الثمن الذي سيطلبه تنظيم «داعش» لتحرير الجنود الذين يحتجزهم؟ وأي حكومة ستجرؤ على دفع ذلك الثمن؟
لا بد أنه السؤال الذي يراود المسؤولين اللبنانيين اليوم وهم يعيشون فرحة إطلاق جنودهم.
يتطلع معظم السوريين، اليوم، كما يتطلع العالم، إلى حل عادل قابل للحياة، ينهي الكارثة التي تمر بها سورية. وسيشكل مؤتمر المعارضة السورية في الرياض، على خلفية مؤتمرات فيينا، والرغبة الدولية في الوصول إلى حل سياسي، على الرغم من التباين الكبير في المواقف والأهداف، المفصل الأهم في معادلة الحل، فهذا المؤتمر يمثل أوسع طيف من السوريين "أصحاب القضية".
تنبع قوة هذا المؤتمر من أنه يضم ممثلين لمجموعات المعارضة الرئيسية، السياسية والعسكرية، التي تمسك بجزء واسع من أرض سورية ومناطقها، ما سيكسب وفد المعارضة الذي سينبثق عن المؤتمر للمفاوضات مع النظام قدرةً كبيرةً على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، مع وفد النظام، إن كان النظام وحلفاؤه صادقين في الوصول إلى حل سياسي وفق جنيف.
يتطلب نجاح هذا المؤتمر مجموعة من الأسس التي توحد رؤية جميع أطياف المعارضة المشاركة فيه، بما يضمن سير المفاوضات مع وفد النظام سيراً منظماً:
•أن يتبنى كل من يشارك في هذا المؤتمر مبدأ الانتقال السياسي في سورية، حيث لا دور لبشار الأسد ومنظومة قيادته، لا في المرحلة الانتقالية، ولا في ما بعدها، لمسؤوليتهم عن كل ما لحق بالسوريين من قتل وتهجير، وما أصاب سورية من دمار، وأن يتبنى مبدأ وحدة سورية واستقلالها، أرضاً وشعباً في ظل نظام سياسي تعددي لا مركزي، ومبدأ إقامة نظام سياسي عصري حديث، يقوم على تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، جوهره قيم المواطنة المتساوية بين جميع المواطنين السوريين، بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والمذهب والمنطقة.
•ضمان التنظيم الجيد للمؤتمر، بدءًا من انتظام عقد جلساته، وانتظام سير مناقشاته وتحضير مسودات ما سينتج منه وغيرها، على نحو يختلف عمّا عودتنا عليه المعارضة في مؤتمراتها السابقة، فالعمل المنظم شرط لنتائج جيدة.
•أن يعتمد المؤتمر إعلان جنيف 30 يونيو/حزيران 2012، وقرارات مجلس الأمن، خصوصاً القرار 2118، وأن يتبني خطة واضحة لحل سياسي يقوم عليها، بما يحقق انتقالًا سياسيًا عبر مرحلة انتقاليةٍ، تقودها هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، وتطبيق بنود جنيف1 كافة على نحو بنّاء.
•أن يتخذ المؤتمر قراراً بأن يكون هذا المؤتمر "مرجعية التفاوض مع النظام"، وأن تشترط موافقته على أي اتفاقٍ، يبرمه وفد المعارضة مع وفد النظام ليكون نافذًا، وهذا سيشكل صمام أمان أمام أي مخاطر مستقبلية في التفاوض.
•أن ينتخب المؤتمر قيادة "سياسية لعملية التفاوض" من نحو 9 أو 11 شخصية، تكون في منزلة سكرتاريا لهذا المؤتمر، وتشرف على عملية التفاوض، وتقود أعمال وفد التفاوض وتوجهه.
•أن تشكل "القيادة السياسية لعملية التفاوض" وفد المعارضة للمفاوضات مع النظام، وفقاً للعدد المطلوب، من شخصياتٍ تتسم بالمبدئية السياسية وكفاءة التفاوض. وأن تضع محدداتٍ لعمل الوفد، ومناقشة سير عملية التفاوض، ومحطاتها واحتمالاتها وطرق مواجهتها، وأن تكون هذه المحددات ملزمة للوفد للتقيد بها.
•أن تشكل "القيادة السياسية لعملية التفاوض" مجموعات تقنية متخصصة لدعم وفد التفاوض: قانونية، إعلامية، عسكرية وغيرها، وأن تكلّف مجموعات عمل بتحضير ملفات عديدة، مثل ملفات المعتقلين وجرائم الحرب ودعم الأسد الإرهاب وتنسيقه مع تنظيم "داعش" وغيرها.
•أن يتبنى المؤتمر ميثاق عمل وطني لسورية المقبلة، وفق صيغة مؤتمر المعارضة في يوليو/تموز 2012، وإصدار ميثاق شرف عسكري، يوجه سلوك فصائل المعارضة المقاتلة والتزاماتها.
•أن تضع "القيادة السياسية لعملية التفاوض" استراتيجية سياسة وعسكرية وإعلامية واجتماعية شاملة لعملية التفاوض والمرحلة المقبلة، والوصول إلى وضع حد للكارثة السورية، آخذة في الحسبان الاحتمالات كافة، بما فيها سعي النظام إلى تخريب أي عملية تفاوض.
لم تتردد تركيا لحظة في الدفاع عن حديقتها الخلفية، وإسقاط مقاتلة روسية في المناطق التي ترغب أن تكرّسها منطقة حدودية آمنة، حيث تقيم أقلية تركمانية ذات أصول تركية، تقاتل ضدّ نظام بشار الأسد، يبلغ قوام مقاتليها قرابة 9 آلاف رجل، وتتعرّض للقصف الروسي بصورة منتظمة ومتواصلة، على الرغم من أنّ المنطقة لا تخضع لسيطرة تنظيم داعش. ولم يخطر ببال القيادة الروسية العليا أن تتجرّأ تركيا وتطلق النيران باتجاه مقاتلاتها، على الرغم من تحذيرات القوات العسكرية التركية بالتوقف عن اختراق الأجواء التركية، باعتبارها أيضاً أجواء تابعة لحلف الناتو. لكن، وقع المحظور، ولم تتقدم تركيا باعتذار للكرملين بصورة مباشرة حتى اللحظة، ولم تشهد العاصمتان تحرّكات دبلوماسية لاحتواء الأزمة. لذا، اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما حدث طعنة في الظهر، ومحاولة للحيلولة دون جهوده العسكرية لمواجهة الإسلام الراديكالي المتطرف. وقالت تركيا، على الفور، إنّ الضربات الروسية ليست موجهة ضدّ داعش، بل مركزّة ضدّ المعارضة السورية، وإنّ روسيا تعتبر كل الفئات الإسلامية المعارضة للأسد متطرفة.
تركيا ـ الجناح الجنوبي للناتو
تقتحم المقاتلات الروسية بصورة يومية أجواء دول البلطيق، من دون رادع، أو تخوّف من مواجهة أو مضادات تحول دون ذلك، وتدرك تركيا هذه الحقائق جيّدًا. لذا، استبقت الأحداث، وأسقطت المقاتلة الروسية، وكان في الوسع تجنّب ذلك، لكنّه درس قاسٍ، أقدمت عليه تركيا، ويحتمل تبعات سياسية واقتصادية كثيرة، من دون توقّع تصعيد عسكري، أخذًا بالاعتبار عضوية تركيا في حلف الناتو، والاعتداء على تركيا، حسب المادة الخامسة من اتفاقية الحلف، يعتبر بمثابة اعتداء على دوله. وقد أبلغت تركيا الرسالة، وليس من مصلحتها تصعيد الموقف أكثر. ولن تسمح بتحويل حدودها مع سورية إلى مسرح لعربدة الطيران العسكري الروسي. وقد طلبت لقاءً عاجلاً لحلف الناتو في بروكسل، على المستوى الوزاري، لتوضيح أبعاد التصعيد العسكري الأخير. وأكد رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، حق بلاده في الدفاع عن أجوائها الإقليمية، وأوضح أنّه يتوجّب على العالم أن يدرك أنّ تركيا لن تتساهل في الدفاع عن أمنها القومي. وطالب السكرتير العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، موسكو وأنقرة بتخفيف حدّة التوتر وعدم التصعيد، مشيراً، في الوقت نفسه، إلى أنّ الطيران العسكري الروسي خرق الأجواء التركية، وأكّد دعم الحلف سيادة تركيا على كامل أراضيها وأجوائها الإقليمية. لكن، ليس من المتوقّع أن تصمت موسكو، وستردّ بآليات مختلفة، اقتصادية على الأرجح، توخّياً للحفاظ على كرامتها ومكانتها الدولية.
ردود الفعل اقتصادياً
توضح أولويات التبادل التجاري بين البلدين اعتماد روسيا، إلى حدّ بعيد، على الشريك التركي الاستراتيجي، خصوصاً في مجال الطاقة، وسيطاً لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، إثر فشل مشاريع الطاقة الأوروبية المشتركة، وأهمّها مشروع "دفق الجنوب" لنقل الغاز الطبيعي ومشروع "برغاس ـ ألكسندروبوليس" لنقل النفط الروسي الخام تحت مياه البحر الأسود حتى اليونان، ومنه إلى أوروبا. يعود فشل "دفق الجنوب" إلى بنود تجارية تحظر احتكار روسيا الكامل للخطّ كمستثمر للغاز ومورّد له، ما اضطرّ بوتين إلى البحث عن الوسيط التركي، ليعيد توريد الغاز الطبيعيّ إلى أوروبا. كما وقّعت روسيا معاهدة لبناء أربعة مفاعلات نووية في
"منعت أجهزة الأمن الروسية في مطار شيريميتييوفو الدولي في موسكو عبور مواطنين أتراك إلى البلاد"
تركيا، واستثمرت شركة "أتوم ستروي إكسبورت" قرابة ثلاثة مليارات دولار في بناء مفاعل أك كويو بكلفة قرابة 20 مليار دولار، لإنتاج 1200 ميغافولت، وليس من مصلحة روسيا وقف المشروع في هذا التوقيت، وهو الأول من نوعه في الإقليم، بالتزامن مع رفض بلغاريا بناء مشروع المحطة النووية الثانية "بيليني" بتأثيث وتمويل روسي، والمصادقة على مشروع بناء المفاعل الهنغاري "باكش"، وبناء مفاعلين لإنتاج الطاقة الكهربائية في الأردن، حتى العام 2022. ويعزو خبراء الطاقة حمّى بناء المفاعلات النووية إلى ارتفاع الطلب على الطاقة الكهربائية في إقليم البلقان، وستتمكن تركيا من تصدير الطاقة إلى الخارج خلال عقد، عدا عن التنافس الكبير بين الشركة الروسية وشركة "ويستنهاوس" الأميركية ذات الحظوظ الوافرة في الأسواق الأوروبية. وعلى الرغم من الخلاف السياسي الواضح بين أنقرة وموسكو، إلا أنّ تركيا تدرك جيّدًا حجم روسيا في أسواق الطاقة، وهي التي تزوّد أوروبا بقرابة 40% من الغاز الطبيعي، وذكّرت روسيا بدورها الاستراتيجي بقطع إمدادات الغاز عبر الخطّ الأوكراني إثر إسقاط المقاتلة الروسية، وهي محاولة للضغط على بروكسل في أثناء الشتاء الأوروبيّ القارص. لكن، حتّى وإن أقدمت روسيا على تجميد هذه المشاريع، فسيكون هذا الإجراء، على الأغلب، مؤقتًا بانتظار خطوة إيجابية، أو مناسبة سياسية مواتية، كاعتذار تركي، أو ما شابه، لتجديد العمل بهذه المشاريع الحيوية، والتي تعني الكثير لروسيا، الراغبة بتصدير تقنيات الطاقة النووية إلى الخارج، والاستثمار في مبيع الغاز الطبيعي الموجود بكميات هائلة في أراضيها.
ستلجأ روسيا، بالطبع، إلى خفض أفواج السيّاح المتوجهين إلى تركيا، وطالب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، المواطنين الروس بعدم التوجه إلى الشواطئ التركية التي تحقّق أرباحاً بقيمة 5 مليارات دولار، مستقبلة ما يزيد على 4 ملايين سائح روسي سنوياً، للاستجمام في منتجعات تركيا الدافئة.
بعد إسقاط المقاتلة الروسية، خرجت أعداد محدودة من المواطنين في إسطنبول وموسكو، للتعبير عن رفض الضربات الروسية الموجهة إلى الحدود التركية السورية، وفي موسكو، تعبيراً عن السخط الشعبي الروسي ضدّ إسقاط المقاتلة. كما شهدت العواصم الأوروبية تظاهرات غاضبة أمام السفارات والقنصليات التركية، نظّمها وأشرف عليها اليمين الأوروبي المتطرف، مدعوماً باليسار المتعاطف أيديولوجيًا مع روسيا، ثمّ توجّه المتظاهرون لوضع أكاليل الزهور أمام مباني السفارات الروسية في العواصم الأوروبية، ما يدلّ على وجود انقسام واضح بين اليمين الأوروبي من جهة واليمين المتطرف واليسار في الجهة الأخرى من المعادلة.
وفي سياق التصعيد بين البلدين، منعت أجهزة الأمن الروسية في مطار شيريميتييوفو الدولي في موسكو عبور مواطنين أتراك إلى البلاد، على الرغم من أن بعضهم من رجال الأعمال، ويمتلكون تأشيرة شنغن، وآخرون متزوجون من روسيات، وبعد انتظار ساعات، أعيدوا بطائرة مغادرة إلى إسطنبول، وهدّدت الأجهزة باعتقال كلّ من حاول الاعتراض على الإجراءات الأمنية الصارمة.
صراع للسيطرة على إقليم البحر الأسود
تتفوّق تركيا عسكريًا على روسيا في إقليم البحر الأسود، وتسعى إلى الحفاظ على منزلتها فيه،
"لا تتوقّع تركيا أيّ دعم ميداني من أوروبا و"الناتو" في مواجهة الهجمات الروسية بالقرب من أراضيها، لعدم وجود خطط عسكرية لمواجهة روسيا في الوقت الراهن"
وليس من المتوقع أن تتراجع لصالح روسيا. وقد صرّح رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، أنّ تركيا ستسقط مزيداً من الطائرات الروسية، إذا ما حاولت اقتحام أجوائها ثانية، والأمر يتعدّى الملف السوري بالطبع، ولن تتحمّل تركيا وطء أقدام الدبّ الروسي الثقيلة في هذا الإقليم، مهما كانت النتائج، فهي سيّدة الموقف.
من ناحية أخرى، لا تتوقّع تركيا أيّ دعم ميداني من أوروبا و"الناتو" في مواجهة الهجمات الروسية بالقرب من أراضيها، لعدم وجود خطط عسكرية لدى بروكسل، أو "الناتو" لمواجهة روسيا في الوقت الراهن، توضّح هذا عقب ضمّ شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي المستمر في شرق أوكرانيا، واقتحامها اليوميّ أجواء دول البلطيق. لذا، جاءت الخطوة التركية احترازية، وهي على علم ويقين بأنّ الطائرة المنكوبة على الأرجح روسية. ولا يمتلك مقاتلات من طراز سوخوي في الإقليم سوى الجيش السوري والقوات الروسية الموجودة في قواعدها العسكرية في سورية.
ردود الفعل سياسياً
تمتلك روسيا أوراق ضغط عديدة، ستعمل على تحريكها ضدّ تركيا، وقد طال الحديث، أخيراً، بشأن تنشيط جبهة "ناغورنو كاراباخ" المتنازع عليها بين أذربيجان وأرمينيا، الأولى موالية لتركيا، وأرمينيا تدين بالولاء لروسيا، ويمكن لموسكو أن تتسبّب بالحرج الشديد لأنقرة، حال إشعال هذه الجبهة، إضافة إلى الملفات العديدة في دول البلقان، متمثلة بالبوسنة والهرسك، وإمكانية تحريك الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة، التي لا تتوانى لحظة عن رفع العلم الروسي في مسيراتها التضامنية، كلّما دعت الضرورة لذلك. وقد تلجأ روسيا كذلك إلى الضغط المباشر على تركيا برفع حدّة التوتر مجددًا في الملف القبرصيّ. ويدرك العارفون بشؤون البلقان جيّدًا أنّ تركيا قد وضعت خطًا أحمر يصعب تجاوزه، ويمكنها أن تغامر لتحمّل تبعات ذلك، مهما بلغ حجم الردّ الروسي، ورسالة تركيا تبدو واضحة ومؤلمة وباهظة الكلفة لكل الأطراف، لكنّها راغبة أكثر من أيّ وقتٍ للإبقاء على هيمنتها في حوض البحر الأسود.
ربّما علينا أن ندرك مزيداً من المواصفات القيادية لكلّ من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لفهم أسباب التصعيد والمواجهة الأخيرة، فكلاهما قادر على استخدام آليات وطرق شبه شمولية في إدارة البلاد والتحكّم بالسلطة، ما سمح لبوتين باجتياح جورجيا وأوكرانيا، وهاجم أردوغان الأكراد الذين يقاتلون داعش، من دون الأخذ بالاعتبار الانتقادات الدولية، ما أدّى إلى رفع الدعم الشعبي للزعيمين في روسيا وتركيا.
عدا عن ذلك، أدّت أحداث باريس، أخيراً، إلى تغاضي أوروبا عن الخروق الروسية، وقبول
"إسقاط الطائرة الروسية بمثابة امتحان تركي لمعرفة الموقف الغربي وتحديده وموقف "الناتو" من سياستها واستعدادهما للدفاع عن أمنها القومي"
الدور الروسي المأمول في الإقليم، للتخلّص من مخاطر داعش، إثر تفشّي المخاوف والقلق في العواصم الأوروبية من ارتفاع قدرات داعش بالتأثير وتأطير خلايا إرهابية لضرب المرافق العامة.
إسقاط الطائرة الروسية بمثابة امتحان تركي لمعرفة الموقف الغربي وتحديده وموقف "الناتو" من سياستها واستعدادهما للدفاع عن أمنها القومي. وقد بحث أردوغان من خلال هذه المخاطرة عن إجابة لسؤال حاسم، متعلّق مباشرة بشأن إعادة ترتيب النظام العالمي للمائة عام المقبلة، وما هو الدور المرتقب لتركيا.
لكن، وعلى الرغم من الحدّة في التصريحات التركية، إلا أنّ المنطق السياسي سرعان ما سيفرض نفسه في هذا السياق، وسنشهد تراجعاً في المواقف المتشدّدة، وأولى هذه المؤشرات شكوى أردوغان من تجاهل بوتين الاتصالات الهاتفية التي يحاول إجراءها، والتبرير الذي تقدّم به للصحافة الفرنسية بعدم قدرة القوات التركية على تمييز هوية الطائرة والجهة التي رفعتها في الأجواء، ولو علمت تركيا ذلك لاستخدمت قنوات أخرى للتعامل مع الموقف، عدا عن إسقاط المقاتلة. وسنشهد مزيداً من محاولات تجاوز الأزمة بين البلدين، خصوصاً بعد التوافق الروسي الفرنسي والبريطاني في مواجهة داعش، ومشاركة ألمانيا على الصعيد اللوجستي. وأوروبا قلقة من المخاطر المترتبة على توسّع نفوذ داعش، ومن قدرة هذا التنظيم على التوصّل إلى العمق الأوروبي، وهذا سبب رئيس لقبول الدور الروسي في الإقليم.
كما يصعب تجاهل نشر روسيا منظومتها الصاروخية C400 لحماية مقاتلاتها، وتغطي هذه الصواريخ مساحة تقدّر بنحو 600 كلم مربع، وتشمل معظم أجواء سورية حتى الحدود الأردنية وقبرص ولبنان، ونحو 500 كلم داخل الأراضي التركية. والواضح أنّ تركيا وروسيا لا تسعيان إلى تصعيد الموقف، لكن القدرات الروسية في سورية باتت متطورة وقادرة على إصابة المقاتلات التركية، وعلى الأرجح، لن يلجأ الطرفان لمزيد من التصعيد العسكري في المستقبل المنظور، بانتظار تطور الأحداث على المستوى السياسي.
وقد صرّح وزير الزراعة الروسي، ألكسندر تكاتشوف، أنّ حصّة تركيا من أسواق الخضار والفواكه واللحوم تبلغ قرابة 20%، ما يعادل قرابة مليار دولار سنويًا. وهذه أولى القطاعات التي سيتم التخلي عنها، ومن المتوقع أن تتوجه الأسواق الروسية إلى البحث عن بدائل للحصول على المواد الغذائية، وسلّة الخضار خارج إطار المنظومة الأوروبية، بسبب الحصار الاقتصادي المتبادل بين الطرفين، والدول البديلة المتوقعة هي إيران والأردن وجنوب أفريقيا وإسرائيل والمغرب والصين والأرجنتين وغيرها.
السياسة كتعريف هي القدرة على إقناع الآخرين وقولبة توجهاتهم، وعادة ما تكون شخصية القائد أو الرئيس في مجال العلاقات الدولية عنصًرا بارًزا في صناعة السياسة الخارجية لأي بلد وإذا ما نظرنا إلى روسيا سنجد الرئيس بوتين مثالاً حًيا فبوتين يرى العالم، بعد انهيار المنظومة السوفياتية، من منظار غالب ومغلوب وُينقل عنه قوله إذا ما دخلت في مشاجرة فعليك أن تسدد أولاً، لأنك ستملك المبادرة ويقول عنه الذين امتحنوه عندما تقدم للعمل في المخابرات، إن شخصيته محصنة من الإغراء.
لكنه ربما لاُيقّدر العواقب ولكي لا نسترسل كثيًرا، نشير إلى أن بوتين يرى، حسبما يقول عارفوه، المعادلة الدولية كالتالي أميركا تريد أن تقزم الدولة الروسية القيصرية وأن خطأ الاتحاد السوفياتي كان تبنيه مبادئ أخلاقية، ودعمه المالي لدول ظهرت لاحقا أنها جاحدة، ويرى الحل في أن تعتمد روسيا النهج الرأسمالي، وُتنمي وحوشها الرأسمالية لتبتلع الوحوش الرأسمالية الغربية في حال تعارض المصالح بوتين يحاكي العظماء، ولهذا علق على حائط مكتبه صورة نابليون وستالين هذه الصفات جاءت في كتابات وشهادات مقربين من بوتين، وهي تدلنا بوضوح على كيفية تفكير هذا الرئيس؟
وبالفعل فإن تحركه في جورجيا وتجزئتها، ودخوله إلى أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى المعسكر الرأسمالي الأميركي، وضمه جزيرة القرم، وإضرامه حرًبا أهلية في شرق أوكرانيا، وأخيًرا دخوله إلى الرمال السورية، يؤشر بشكل واضح إلى طبيعة الرئيس الروسي وقد أذهله بالطبع ما كتب عنه بأنه سياسي بارع، ومجازف، ويعرف كيف يخلط الأوراق، وشجعه على هذه اللعبة تقاعس بوش الابن في جورجيا، وتخاذل أوباما وأوروبا في أوكرانيا، ودهشة الجميع في سوريا، وظن، ولا يزال، أنه السيد الذي بوسعه فرض بلاده على خريطة العالم، لا بل إعادة رسم كثير من المصالح، وبالتحديد في مناطق تاريخية مثل الشرق الأوسط، وفق حساباته وتصوراته القيصرية ولا نبالغ إن قلنا قيصرية؛ لأن بوتين منذ أن تسلم السلطة اعتمد النظرية الأرثوذكسية، والقومية الروسية، ليكونا دعامة لحكمه الديمقراطي في المظهر، الاستبدادي في الجوهر.
على عكس مغامرته في جورجيا، يواجه بوتين الآن صعوبة في أوكرانيا ليس سببها المقاومة الشجاعة له، بل المعارضة الأوروبية والأميركية لخطوته، وفرض تلك الدول عقوبات عليه أسهمت في تعميق أزمته الاقتصادية التي ازدادت حدة مع تراجع أسعار النفط، وزيادة الفاتورة المالية المترتبة على تدخلاته ففي أوكرانيا بدأت مقاومة مسلحة ضده في جزيرة القرم كان آخرها تفجير محطة الكهرباء في الجزيرة وانقطاع التيار الكهربائي عن نصفها، واستمرار المعارك في شرق أوكرانيا، وفي الشيشان تململ تاريخي، وفي جورجيا غضب مكبوت.
وتبدو مشكلة بوتين في البلدان المجاورة له أقل بكثير من أزمته في سوريا لا سيما أنه اعتقد أن تدخله سيقلب الطاولة ويجبر الجميع على الاعتراف به، وبالتالي فرض تسوية روسية من باب الأمر الواقع ففي سوريا يواجه ثلاث مشكلات مترابطة تتمثل في الواقع الإقليمي، والموقف الأميركي، وظاهرة ما يسمى الإرهاب جاء التدخل الروسي على خلفية تضاد إقليمي قلما سجلته العلاقات الدولية، وسببه الخلاف الإيراني السعودي المفتوح على كل الاحتمالات فالرياض قررت على ما يبدو المواجهة، وإيران عازمة على ألا تخسر ما حققته فالدولتان وفق هذه المعادلة ماضيتان في المنازلة لأبعد الحدود، لأن كلا منهما تعرف أن ربح إحداهما هو خسارة فادحة للأخرى وهنا يدخل العامل التركي كونه مرجحا بمعنى أنه قادر على قلب المعادلة إذا ما انحاز إلى طرف دون الآخر لكن القيادة التركية هي الأخرى لها حساباتها، وكان من السهل الاستجابة لهذه الحسابات، قبل التدخل الروسي، وتعاظم الخطر الانفصالي الكردي بعبارة أخرى، تركيا لم تعدُ مرجحا حياديا بل غطست في اللعبة السورية، وأصبح لها مصالحها المتضاربة مع المصالح الروسية، وبالتالي أصبح لزاًما عليها الانحياز للطرف السعودي بعدما انحازت طهران للطرف الروسي لتركيا مطلب أساسي وهو أنه لا يمكن السماح بوجود كيان كردي انفصالي في سوريا، وللسعودية رغبة في أنه لا يمكن القبول بالأسد في سوريا المستقبل.
إن حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي عبرت الأجواء التركية هي رسالة تركية واضحة لبوتين بأن عليه أن يحترم مصالح تركيا، ورسالة أيًضا إلى الدول الأوروبية بأن التصالح مع بوتين وإعطاءه الحق بترتيب البيت السوري في فيينا مرفوض، ما دام لا يحظى بموافقة تركيا فالقيادة التركية تعتقد أن أوروبا بالذات تريد أي تسوية في سوريا لضمان هزيمة داعش، ولوقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا لما يسببه من خلل في المعادلة السياسية الأوروبية الداخلية، وبالتحديد صعود اليمين المتطرف.
وقد ذعرت أوروبا جًدا من المواجهة التركية مع الروس لأنها تقضي على فرص التسوية في فيينا، ولأنها تجر أوروبا إلى مواجهة لا تريدها وقد التقط الرئيس الأميركي هذا الواقع واستغله أيما استغلال من خلال تأكيده على أن روسيا لن تربح الحرب في سوريا، وأن دعمها للأسد لا تقبل به أميركا ولا حلفاؤها بالمنطقة، وأن على روسيا أن تقبل بثمن إزاحة الأسد لحل تلك الأزمة فالرئيس الأميركي يجد نفسه محصًنا ضد الإرهاب، ويرى أن سياسة احتواء داعش ناجحة ولو لزمها وقت على عكس دول أوروبا وجد بوتين بعد حادثة الطائرة أنه خسر التضامن الأميركي، وخسر الاندفاعة الأوروبية، وبدا مرغًما بزيادة فاتورة تدخله في سوريا عبر إدخاله صواريخ متطورة، وطائرات ومزيًدا من الخبراء والضباط بوتين مضطر الآن لرفع سقف المواجهة، لكنه يعلم أن الثمن باهظ، وأنه يقاتل على أرض بعيدة، وأن من يقاتلونه يجدون فيه عدًوا دينًيا، ويجدون الدعم من البيئة المحيطة، وهم قادرون، عبر البوابة التركية، والسعودية، على إغراقه في الرمال السورية.
ويعرف بوتين أيًضا أنه كلما زاد بقاؤه في سوريا شكك شعبه بجدوى الحرب، حسب تفكيره، جاهز للانقضاض عليه هنا يبدو بوتين في الأزمة السورية بالذات بارًعا في التكتيك، وجاهلاً وصعوبة تبرير هذا الإنفاق المالي والبشري على أرض بعيدة، ويدرك أيًضا أن الغرب الذي يريد اصطياده، في الاستراتيجية أمام بوتين مخرج واحد يمكن التقاطه للخروج من هذه الأزمة وهو انفتاحه على الحل لسياسي المدعوم غربًيا، وسعودًيا وتركًيا، والمستند إلى خروج الأسد من المعادلة السياسية، وتشكيل سوريا جديدة، وبهذا الحل يخسر بوتين صورة الرجل القوي، لكنه يكسب حماية المصالح الروسية، والعلاقات الجيدة مع العالم العربي، وإعادة انفتاحه على الغرب وتحسين اقتصاده هل يمكن أن يقدم بوتين على ذلك؟ إذا صدقنا ما قالته المخابرات الروسية عنه، وما قاله أصدقاؤه فإن الجواب سيكون حتًما بالنفي، وعليه سيغرق بوتين أكثر في الرمال السورية، وتغرق معه المنطقة في المزيد من القلاقل والدماء.
يبدو أن القيادة الروسية اعتمدت على الحرب الإعلامية والنفسية أكثر من اعتمادها على الحرب العسكرية في ما يخص الحرب على سورية، إذ بدأت بترويج قدراتها العسكرية قبل المشاركة في الحرب السورية وفي أثنائها، كل من لديه معرفة ولو القليل فيما يخصّ العلوم العسكرية، ومن خلال اطلاعه على تجارب الحروب السابقة، يعلم أن الطلعات الجوية واستخدام المدفعية في القصف البعيد لا فائدة منها في التقدم العسكري على الأرض، ما جعل القيادة الروسية تبدأ في الحديث عن حل سياسي في الوقت الذي تكون فيه طائراتها تغير على المدنيين السوريين، وعلى مواقع تابعة للمعارضة السورية، ليكون الحل السياسي مخرجاً لها، حال فشل الحل العسكري، فما تقوم فيه روسيا على الصعيدين العسكري و السياسي ما هو إلا لإقناع العالم بأن القرار بيدها، وليس بيد النظام السوري أو الإيراني.
ربّما بدأت روسيا الشعور بالعجز أمام الصمود الأسطوري للشعب السوري، بعد كل ما قامت به من هجمات، استهدفت فيها المدنيين ومراكز الجيش السوري الحر التي باءت بالفشل، ومن دون أي تقدم يذكر، وأصبحت على يقين أن الجيش النظامي على الرغم من التغطية الجوية من الطائرات الروسية غير قادر على التقدم على الأرض بالشكل المطلوب الذي من شأنه تغيير موازين القوى على الأرض، وأصبحت روسيا على يقين أن الحسم لن يكون إلا في خيار التدخل العسكري البري الذي، إن حصل، ستكون تكاليفه العسكرية والبشرية كبيرة، وسيكون له تأثيرات سلبية على الصعيد الشعبي والإقتصادي في الداخل الروسي. ما دفع روسيا إلى طرق باب العدو الأكبر للشعب السوري، من أجل القيام بهذه المهمة هو النظام الإيراني من أجل إقناعه بإرسال أعداد أكبر من المقاتلين لدعم النظام السوري، خوفاً من السقوط المفاجئ، هذا ما أوضحته زيارة فلاديمير بوتين إيران، والتصريحات الروسية الأخيرة التي وصفت حزب الله اللبناني بالحليف لروسيا.
روسيا الآن، ومن خلال تكثيفها الهجمات، بسلاح الجو وجيش النظام المدعوم بجنود إيرانيين وحزب الله اللبناني تقوم بمحاولة تحقيق إنجازات على الأرض، من أجل أن تفرض رأيها على طاولة الحوار من أجل أي حل سياسي ممكن أن ينهي الصراع في سورية، واستغلال حالة التشرذم المسيطرة على المعارضة السياسية السورية. ولكن هذا النهج الذي تنتهجه روسيا في قتل السوريين جعلها على عداء مع الدول المجاورة لسورية، بسبب قصف مناطق ذات حساسية بالنسبة لبعض الدول، وهذا ظهر جلياً في التحذيرات التركية الأقرب إلى التهديد المتكررة لروسيا، بعد قصفها مناطق تابعة للتركمان في سورية، والتي كانت نهايتها إسقاط طائرة روسية من الدفاعات الجوية التركية، بعد أن خرقت الأجواء التركية، وتسببت في توتر في العلاقات التركية الروسية، والتي على إثرها صرح بوتين إن إسقاط الطائرة طعنة بالخلف ووصف تركيا بأنها دولة داعمة للإرهاب.
وفي سياق آخر، وجهت دعوى المملكة العربية السعودية إلى المعارضة السورية لحضور مؤتمر في منتصف ديسمبر/كانون أول المقبل، من أجل العمل على لم شمل المعارضة والعمل على توحيد كلمتها، ربمّا تأتي هذه الخطوة للتحضير لأي اتفاق من شأنه رحيل الأسد، والعمل على تشكيل حكومة وطنية قادرة على قيادة المرحلة الإنتقالية، والحفاظ على ما بقي من مؤسسات، فإذا تكللت هذه الخطوة بالنجاح ربما يتبعها خطوات، من أهمها العمل على توحيد فصائل الجيش الحر، وتشكيل جيش سوري وطني.
لا يمكن لأمة أن تنهض إلا بعقول وطاقات وقلوب أهلها. وحتى لو كانت الشعوب تحب أوطانها، وتريد أن تبينها، ولديها كل ما يلزم للنهوض بها، لا شك أنها ستفشل إذا كانت الطبقات الحاكمة غير وطنية، أو أن دوائرها الانتخابية خارج أوطانها، كما هو الحال بالنسبة للعديد من الأنظمة العربية. السمكة عادة تفسد من رأسها، وكذلك الأوطان. فإذا كان الحكام يعتمدون في وجودهم على قوى ودعم خارجي، فإنهم، دون أدنى شك، سيكونون أكثر اهتماماً بتحقيق أهداف الخارج في بلادهم من تحقيق أهداف شعوبهم. فكما هو معلوم، فإن السياسي يخدم في العادة الدائرة التي انتخبته. وبما أن مصير العديد من القيادات في العالم العربي مرتبط بقوى أجنبية، فعلى الأغلب أن الأوطان والشعوب ستعاني، وستتخلف عن ركب التقدم واللحاق بالأمم الوطنية المتقدمة.
من أعظم بركات الثورات العربية أنها كشفت بشكل فاضح عمالة الكثير من الأنظمة العربية، وخاصة تلك التي رفعت شعارات قومية ووطنية فاقعة كالنظام السوري مثلاً. فعندما كنا نسمع الشعارات الوطنية والقومية التي كان يرفعها، ويرددها نظام الأسد في سوريا، كان المرء يأخذ الانطباع أنه نظام لا يباريه نظام في العالم في الوطنية وحب الوطن، خاصة وأنه كان يسحق أي أصوات معارضة بحجة أنها غير وطنية وخائنة للوطن. لكن الثورة أظهرت للسوريين لاحقاً أن النظام له علاقة بالوطنية كما للسوريين علاقة بكوكب المريخ. لم يكن حتى نظاماً طائفياً فقط، بل كان يأتمر، ويعمل لصالح قوى خارجية أولاً وأخيراً. لم يكن ينقص الشعب السوري أبداً لا الطاقات، ولا الإرادة ولا الذكاء والمثابرة، فهو شعب وطني خلاق وقادر على الإبداع والابتكار والتقدم، لكنه فشل على مدى نصف قرن في تحقيق أي إنجازات صناعية وتكنولوجية وسياسية واقتصادية معتبرة. لا بل إن السوريين باتوا يترحمون على النظام السياسي الذي كان يقودهم في منتصف القرن الماضي، حيث كان أكثر عصرية وتقدماً وديمقراطية وانفتاحاً وإنسانية، بينما أمسوا اليوم مضرباً للمثل في التشبيح السياسي والأمني.
لسنا بحاجة للكثير من الجهد كي نتعرف على مكمن الخلل في سوريا. إنه النظام الحاكم الذي كان دائماً يتهم العرب الآخرين بالعمالة والتبعية للخارج، بينما كان هو غارقاً حتى أذنيه في العمالة والتبعية للاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا وإيران وإسرائيل حالياً. لقد اكتشف السوريون على ضوء الثورة أن مهمة النظام الأولى على مدى نصف قرن كانت كبح قيام أي نهضة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو علمية في سوريا، لأنه مكلف بإبقاء سوريا وشعبها في حالة تخلف وتجمد لصالح جارته إسرائيل. ويرى بعض العارفين أنه لو لم يقم بذلك، لما بقي أصلاً في مكانه. وكما هو واضح، فإن النظام يعرف قدر نفسه جيداً، فهو لا يصلح لأن يقود وطناً نحو التقدم والازدهار، بل قادر فقط على ممارسة الهمجية والقمع والاضطهاد، لهذا تم تمكينه من رقاب السوريين كي يبقوا في الحضيض سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
طبعاً لا نقول أبداً أن النظام السوري هو الوحيد الذي يعمل لصالح قوى خارجية. لا أبداً، فهو مجرد نموذج فاقع للأنظمة المتشدقة بالوطنية والغارق بالعمالة والخيانة. هناك الكثير الكثير من الأنظمة الأخرى التي لا تحكم بإرادة شعوبها، بل بإرادات خارجية. وقد صدق الرئيس التونسي السابق الدكتور منصف المرزوقي عندما ألف كتاباً بعنوان «الاستقلال الثاني» يكشف فيه أن معظم الأنظمة العربية التي وصلت إلى السلطة بعد حروب الاستقلال المزعومة لم تكن وطنية أبداً، بل كانت مجرد وكلاء للمستعمر الذي خرج من الباب، ليعود من النافذة عن طريق عملائه الذين عينهم ممثلين له في مستعمراته القديمة. وبالرغم من أن بلداً مثل الجزائر مثلاً قدم أكثر من مليون شهيد لطرد المستعمر الفرنسي، إلا أنه انتهى في أيدي من يسمون بـ»بني باريس» أي الجنرالات والطبقة السياسية التابعة قلباً وقالباً للمستعمر القديم.
حتى الأنظمة المنبثقة عن بعض الثورات الجديدة فهي بدورها لا تمثل تطلعات الثوار، ولا الشباب الذين قادوا الثورات، بل هي مجرد واجهات لقوى خارجية. ولا شك أن المرء يشعر بحسرة وألم كبير عندما يسمع أن الكثير من القيادات التي تحكم تونس الآن مرتبطة بتوجيهات وتوجهات قوى خارجية أكثر مما هي مرتبطة بتطلعات الشعب وأحلامه. فهذا القيادي تدعمه أمريكا، وذاك تدعمه فرنسا، والآخر يتلقى تمويلاً عربياً لشراء الأصوات والفوز في الانتخابات. وكأن الثورة لم تحدث أبداً.
لا شك أن البعض سيقول لنا إن تركيبة العالم والقوى المتحكمة به لا تسمح بوجود قيادات وطنية خالصة، وخاصة في العالم العربي. يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في هذا السياق: «الأهداف الرئيسية للسياسة الأمريكية هي منع وصول المغالين في وطنيتهم إلى الحكم في العالم الثالث. وإذا ما وصلوا إليه بطريقة أو بأخرى، فيجب عزلهم وتنصيب غيرهم. وتتحالف الولايات المتحدة مع العسكريين لسحق أي جماعات وطنية تفلت من قبضة اليد». وما ينطبق على أمريكا ينسحب على القوى العظمى الأخرى في تعاملها مع بيادقها. ويقول المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي هنا: «بشار الأسد دمية لا حول له ولا قوة: لو كان ذا سلطان حقيقي لكان فضّل النجاة بذاته وبأسرته، لأنه يعلم أن المآل في الغاية هو رأسه ورأس أسرته». وبناء على هذه الحقيقة المرة بوجود قوى خارجية تمنع الوطنيين من الوصول إلى السلطة في العالم العربي والثالث عموماً، ما العمل؟ هل الخلل في القوى المتحكمة التي تختار عملاءها حكاماً هنا وهناك؟ أم إن الخلل في الحكام الذين يقبلون أن يكون مجرد وكلاء؟ لا أريد أن أفتي في هذا الموضوع. أترك لكم الفتوى.
بعد يومين فقط من حادثة إسقاط الطائرة الحربية الروسية، ظهرت ملامح “الانتقام” الذي يخطط له القيصر الروسي الجريح في ظهره بعد “الطعنة” التركية المفاجئة. ما لم يتضح حتى الآن هو المدى الذي يمكن أن تذهب إليه موسكو في ردة فعلها، وما إذا كانت التطورات الأخيرة قد عرقلت مسار التسوية السياسية في سوريا.
حدث التصعيد بين تركيا وروسيا قبل إسقاط الطائرة الحربية، وذلك عندما طلبت تركيا من مجلس الأمن مناقشة الهجوم الروسي على جبل التركمان وتهجير الآلاف من المدنيين من المنطقة المحاذية لحدودها، واستدعت السفير الروسي لتبلغه غضبها. لكن أنقرة، وبعد يوم واحد، استغلت انتهاكا قامت به طائرة حربية روسية لمجالها الجوي دام أقل من دقيقة واحدة لتعبر عن غضبها بطريقة فريدة وخطيرة وذلك عبر إسقاط الطائرة.
لا يقتصر الأمر إذن على اختراق السيادة التركية الذي تكرر مرارا من قبل الطائرات الروسية وبات يخضع لاتفاقيات عسكرية بين الجانبين، بل إن للأمر علاقة أكثر بردة فعل تركية على التصعيد العسكري الروسي في سوريا، وخصوصا محاولة قلب ميزان القوى لصالح الأسد بالتعاون مع الآلاف من المقاتلين من الحرس الثوري الإيراني.
حالة الصدمة والغضب دفعت المسؤولين الروس خلال الأيام الماضية إلى الحديث عن رد متعدد المستويات يشمل الجانب الاقتصادي فضلا عن الدبلوماسي والعسكري. ليست الحرب مع تركيا من ضمن الخيارات المطروحة كما صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، ولكن توسيع وتكثيف الحرب الباردة معها يبدو أنه سيشكل رأس الحربة في الرد الروسي.
أعلنت موسكو عن سلسلة قرارات اقتصادية سوف تتخذها لمعاقبة أنقرة من بينها حظر استيراد الخضار والسلع الغذائية وتقييد أعداد السياح الروس الذين بلغ عددهم العام الماضي 4.5 مليون سائح. في حال طبقت موسكو ما تلوّحُ به من عقوبات اقتصادية فسيلحق ذلك خسائر معتبرة بتركيا التي تصدر إلى روسيا ما قيمته 6 مليارات دولار تضعها في المرتبة السابعة للدول المصدرة، كما تبلغ قيمة استثمارات شركاتها في روسيا نحو 4 مليارات دولار.
ولكن الحرب الاقتصادية الروسية تعتبر سلاحا ذا حدين، إذ قد تفتح الباب لرد فعل تركي وهو ما لا يرغب القيصر الروسي في رؤيته في الوقت الحاضر. ذلك أن تركيا هي الحريف الثاني لشركة “غاز بروم” المملوكة من قبل الدولة الروسية والتي تمول جزءا كبيرا من مغامرات بوتين الحربية في سوريا وأوكرانيا حاليا. كما أنه من المتوقع أن تزداد حاجة تركيا لاستيراد الغاز الروسي في السنوات القادمة بما يجعلها الشريك الأول لروسيا.
ضيق مساحة المناورة على المستوى الاقتصادي قد يدفع موسكو إلى التركيز على الجانب العسكري، وذلك باستخدام إسقاط طائرتها كذريعة لتوسيع تواجدها العسكري في سوريا وتكثيف عملياتها الحربية ضد المعارضة السورية وهو ما باشرت بفعله منذ يومين.
استغلت موسكو حقيقة أن مختلف دول العالم، وخصوصا تركيا، باتت مهيئة لتلقي ردة الفعل الروسية ومتفهمة لها باعتبارها خطوة “مشروعة”، فأعلنت عن تصعيد عملياتها العسكرية في سوريا وعن تشغيل منظومة صواريخ حديثة هي “إس 400” والتي كانت قد نقلتها إلى الساحل السوري قبل إسقاط الطائرة بكل تأكيد.
كما كثفت الطائرات الحربية الروسية استهدافها لبلدات جبل التركمان وواصلت عمليات التهجير للمدنيين من ريف اللاذقية عموما في محاولة لتحقيق أكبر قدر من التصعيد قبل أن يستفيق العالم من صدمة إسقاط الطائرة الروسية ويطفئ الضوء الأخضر للرد الروسي.
إطفاء الضوء الأخضر سوف يعني انطلاق جولة خطيرة من التصعيد العسكري في الشمال السوري ستشارك فيها جميع الأطراف: روسيا وتركيا وأميركا، بالاعتماد على مقاتلي المعارضة السورية والمقاتلين الأكراد وقوات الأسد. وهو ما بات يهدد بعرقلة مسار فيينا التفاوضي كما عبرت بوضوح وزيرة الخارجية الألمانية أنجيلا ميركل.
يبدو مسار التسوية الذي انطلق من محادثات فينا معقدا وهشا للغاية ولكن محركات إنعاش ذلك المسار ودفعه إلى الأمام لا تزال قائمة، وهي أزمة تدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى أوروبا والتدخل الروسي الذي سلط الضوء على الصراع في سوريا بصورة أكبر. من الممكن أن تعمل حادثة إسقاط الطائرة الروسية والتوتر بين أنقرة وموسكو كمحرك إضافي لتحفيز المحادثات السياسية وخصوصا أن جذور ذلك التوتر لا تتصل بإسقاط الطائرة الروسية بل بالحرب الباردة المندلعة بين الجانبين في سوريا والتي لا يمكن إنهاؤها إلا بوقف الصراع في سوريا.
هكذا، فليس وقوع حوادث من قبيل إسقاط الطائرة الروسية ومقتل جنديين روسيين وإصابة محتملة لقاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني هي ما يعرقل الحل السياسي في سوريا، بل على العكس من ذلك، هي ما يعزز حظوظ التسوية السياسية ويسرع خطوات تحقيقها.