يتعرّض الشعب السوري لظلم مضاعف، محلي ودولي، فموجة اللاجئين السوريين جاءت نتيجة الحرب العبثية في الداخل، المسؤول الأول عن هذه الحالة المفجعة، والمرشحة لأن تصبح كارثة إنسانية ووطنية. وقد كبرت بحكم استمرار الأزمة، واستعصاء حلها، بحكم تداخل عواملها المحلية والإقليمية والدولية، الأمر الذي أدى إلى استفحال نزيف النزوح والهجرة الذي تفجر في أوروبا.
ثم جاء مسلسل العمليات الإرهابية الذي بدأ في بيروت، ثم في شرم الشيخ، وقبل أكثر من أسبوع في باريس، وأخيراً في مالي. بذلك، دخلت الهجمات الإرهابية طور المباغتة التي أربكت الدول المعنية، بل المجتمع الدولي بكامله. وكان من نتائج هذه الهجمة، وما آلت إليه من أجواء متوترة، أن بدأ يتراجع الترحيب باللاجئين الذي كان قد بدأ في ألمانيا خصوصاً، وأوروبا عموماً، ليحل مكانه تيار مضاد، يحمل مسحة عنصرية، ويرفض الانفتاح على هذه المشكلة.
ففي أميركا مثلاً، بدت هذه النزعة بأبشع صورها في خطاب عدائي، ليس فقط ضد اللاجئين السوريين، بل أيضاً معاد للمسلمين والعرب. المرشح الجمهوري دونالد ترامب دعا إلى إقفال المساجد في أميركا، أو وضعها تحت المراقبة؛ كما دعا إلى وجوب تزويد المسلمين ببطاقات خاصة لتمييزهم، وبما يشير إلى أنهم "متهمون" حتى تثبت براءتهم. أما المرشح الجمهوري، بان كارسون، فقد تحدث عن اللاجئين بلغةٍ فاقعة بعنصريتها، عندما قارنهم "بالكلاب المسعورة". وما هو مقلق بشدة أن هذين المرشحين لا يزالان يتربعان على رأس قائمة المرشحين الجمهوريين، فيما يزداد تهميش المرشحين المحسوبين على الخط التقليدي المحافظ، أمثال المرشح جيب بوش، وحاكم ولاية أوهايو جون كاسيك، ما يشير إلى أن قواعد الحزب الجمهوري تتجه نحو اختيار مرشح متطرف.
ولم يقتصر هذا الخطاب على المرشحين الجمهوريين، بل شمل الغالبية الجمهورية في الكونغرس، فقبل أيام، صوت مجلس النواب بأكثرية واسعة على مشروع قانونٍ، يضع من القيود ما يكفي، لمنع دخول اللاجئين السوريين بالطريقة المعتمدة لدخول اللاجئين، مع أن الرئيس باراك أوباما هدد باستخدام النقض "الفيتو" لو تحول هذا المشروع إلى قانون، وقد هاجم الجمهوريين بقوة، من باب أن مثل هذا الإجراء لا يتفق والقيم الأميركية في الانفتاح، واستقبال اللاجئين، فبمقدار ما صار هناك من جنون في الحالة السياسية الأميركية، صارت عقلانيته اقتحامية، وبما ينسجم مع الحقوق المدنية والقيم الإنسانية التي ميزت تفهم الشعب الأميركي وممارسته المدنية.
في هذا الخصوص، يلتقي الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، اليوم الثلاثاء، مع الرئيس أوباما في البيت الأبيض، للتشاور ووضع خطة تجعل من قرار مجلس الأمن الذي اتخذ، في أواخر الأسبوع، قابلاً للتنفيذ، وبما يحول دون استفحال خطر العنف العبثي، وإيجاد الوسائل الناجعة للتصدي له.
في كل حال، يبقى على مجلس الأمن، والدول الخمس الكبرى خصوصاً، اتخاذ قرارات رادعة ضد منطق وموجة العنف وتفعيلها من خلال الآليات والصلاحيات التي ينص عليها الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كما أن من المطلوب معالجة جذور الانحرافات التي تتكاثر، لأسباب ودواع متنوعة ومعقدة، منها ما يأتي بتأثير البيئة، وما عانته من كبت وإحباط وفقدان البوصلة المستنيرة التي تضمن صوابية المعالجة، وقطع الطريق على الشطط الذي بلغ درجة غير معقولة، ولا بالطبع مقبولة، بل إنها باتت ترسخ اليأس، وما يولده من ممارسات كثيراً ما تكون مدمرة.
أما الآن، وقد واجهنا فقدان المسؤوليات الإنسانية والقومية، فقد بات لزاماً، وقبل فوات الأوان، الإسراع في استعادة الفاعلية لوحدة المصير العربي، ليبقى هناك ما نؤسس عليه، بعد الخروج من هذه المحنة المتوالية فصولها.
عوامل عديدة تجعل من مصير بشار الأسد نقطة خلاف جوهرية في كل المفاوضات الدولية والإقليمية حول الأزمة السورية ومستقبلها، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي.
فالعوامل الخارجية ترتبط أساسا بمستوى الدعم الذي يتلقاه النظام من روسيا وإيران، أما العوامل الداخلية فتتعلق بطبيعة النظام السوري ذي البنية والتوجه الشمولي ومكانة رأس النظام الممسك بكافة الصلاحيات والسلطات؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وهي عوامل أفرزتها تحولات السلطة داخل منظومة الحكم، وانزياحها وفق شروط ومعطيات كل مرحلة من مراحل احتلال "البعث" لسلطة "الدولة والمجتمع" نحو تهيئة المناخ المناسب لحدوث التصفيات الدموية بين حفنة من العسكر، وولادة ديكتاتورية الأسد "الأب والابن".
بهذا المعنى، لم تكن "عقدة الأسد" وليدة اللحظة الثورية في سوريا عام ٢٠١١، بل نتاج عقود من الاستلاب والاستبداد، سخر النظام السلطوي من أجلها جميع الأدوات الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية، وربط خلالها معيار الاندماج بالدولة بمستوى الولاء والتقرب من "الأسد" وعائلته.
"لم تكن "عقدة الأسد" وليدة اللحظة الثورية في سوريا عام ٢٠١١، بل نتاج عقود من الاستلاب والاستبداد، سخر النظام السلطوي من أجلها جميع الأدوات الأيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية، وربط خلالها معيار الاندماج بالدولة بمستوى الولاء والتقرب من "الأسد" وعائلته"
وهو الأمر الذي أثر على منظومة القيم الثقافية والسياسية، بحيث لم يتوان مريدو السلطة وسلطانها عن اختصار سوريا كدولة وكيان، في شعار "سوريا الأسد"، التي أسست لظهور معتنقي مقولة "الأسد أو نحرق البلد"، كتعبير عن أيديولوجيا دوغمائية وبنية تفكير فاشية.
هكذا ومع إرساء قواعد الحكم السلطاني المستبد، أصبحت "عقدة مصير الأسد" الهاجس المركزي والفعلي لنظام دأب على تقديم نفسه للغرب والقوى الدولية على أنه نظام وظيفي يقدم الخدمات في الإقليم، من أجل التغاضي عن بطشه الداخلي ومشروعه السلطوي القائم على تمايز "طائفي" ومصالح "أقلوية".
من هنا يمكن فهم الموقف الإيراني المتمسك "بالأسد"، بحجة أنه يشكل مع نظام حكمه الحلقة الرئيسية في "محور الممانعة" ومواجهة إسرائيل، من دون الاعتراف بحقيقة هذا النظام وما يقدمه من نموذج مثالي للاستئثار بالحكم على أسس "طائفية"، تلك الأسس التي توفر المناخ الأنسب لاستمرارية نفوذ طهران في سوريا والمنطقة.
وإذا كان الموقف الإيراني يعتمد في جوهره على اعتبارات "طائفية" فإن حقيقة المواقف الدولية والإقليمية من "عقدة مصير الأسد" منذ عام ٢٠١١ كانت وما تزال مرتبطة بمسألتين مهمتين: الأولى تتعلق بالموقف من الثورة السورية وتحولاتها، والثانية ترتبط بالموقف من الجماعات المتطرفة وعملية مكافحة "الإرهاب".
وعليه، يمكن انطلاقا من ذلك فهم المواقف المتباينة والمتحولة من "عقدة مصير الأسد". إذ تعاطت أغلبية الدول العربية والغربية مع الحدث السوري بكونه نتاج ثورة شعبية تطالب بانفكاك سوريا من العقدة "الأسدية" ورحيل النظام.
في الوقت الذي دعمت فيه روسيا وإيران ذات النظام بكل أسباب البقاء، مع تبني خطابه حول المؤامرة والجماعات "الإرهابية" المسلحة حتى في زمن سلمية الثورة، بل وزادت على ذلك محاولة تهيئة الظروف الدولية والإقليمية لإنجاح إستراتيجية النظام في محاربة المعتدلين وخلق بيئة مواتية لظهور تنظيمات إرهابية، وإظهارها بديلا وحيدا عن نظام "الأسد".
وتحقق ذلك الطموح الروسي والإيراني مع ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية"، الذي شكل تمدده العامل الأكثر تأثيرا على مواقف الدول الغربية المطالبة بتنحية "الأسد"، حيث دخلت تلك المواقف طور التبدل والتغيير، وتحول الحديث من رفض إشراك "الأسد" في العملية الانتقالية إلى رفض إشراكه في المستقبل السياسي لسوريا، مشجعة بذلك الاستثمار الإستراتيجي لروسيا في "عقدة مصير الأسد".
صحيح أن موسكو باتت تبدي مرونة في اتجاه حلحلة هذه "العقدة" من خلال ما تصرح بها خارجيتها، إلا أن ممارساتها وتدخلها العسكري زاد من معدل الخشية في أن تكون هذه "المرونة" مشفوعة بشراء عامل الوقت، يتم خلالها إنهاك المعارضة المعتدلة وخلق حقائق جديدة على الأرض بقوة السلاح والتدمير يتبعها مطالبة الغرب بالتفضيل بين حكم الأسد أو حكم تنظيم الدولة الإسلامية.
واقع الحال، أن روسيا لا تعتبر "عقدة مصير الأسد" هي جوهر الأزمة السورية، لذا تروج لأفكار تستند إلى أن دور الأسد جوهري في أي سلطة انتقالية، وتربط مصيره بانتخابات مستحيلة، كخطوة تبقي حليفها في السلطة أطول فترة ممكنة، أو في أحسن الأحوال إزاحته ضمن ترتيبات طويلة الأمد.
"لا يمكن الوثوق بأي اتفاق ما دام لا تتوفر فيه الضمانات الكافية بعدم ترشح الأسد لانتخابات قادمة، كما لا بد أن تنص وبشكل واضح على طريقة وتوقيت رحيله، وذلك لأن أولوية تفكيك العقدة الأسدية عن رقاب ومستقبل السوريين تسبق كل الأولويات"
لذا يعتقد البعض بأن التحرك الروسي الأخير وطرحه الخيارات المتعلقة بمصير الأسد يشكل الاختبار الحقيقي والفعلي لجدية موسكو وقوة نفوذها السياسي في المنطقة، خاصة على إيران ومليشياتها الطائفية، وعلى النظام السوري وأوهامه السلطوية حول "الأبدية".
ويقابل الموقف الروسي موقف الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية الراغبة في تقليص صلاحيات الأسد ودوره في المرحلة الانتقالية تمهيدا لخروجه النهائي والكامل من السلطة مع نهاية ذات المرحلة، دون التركيز على مدتها، بينما تصر الأطراف العربية الداعمة لثورة السورية ومعها تركيا على رحيل الأسد فور بدء عملية الانتقال السياسي وفقا لبيان جنيف١، ذلك أن رحيل الديكتاتور ضروري لإقناع المقاتلين بترك السلاح والتوحد ضد الإرهاب.
في حين يبدو الموقف الإيراني أكثر تشددا، إذ تصنف "مصير الأسد" ضمن خطوطها الحمراء، انطلاقا من رفضها "تغيير الأنظمة من الخارج"، وإمكانية إجراء انتخابات في المستقبل بمشاركة الأسد، "انتخابات" لا تعتبرها طهران جزءا من سيناريو الانتقال السياسي المنصوص عليه في مقررات "جنيف"، بل عملية ترميم لبعض أوجه النظام من أجل إعادة تأهيله و"تعويمه"، وهو ما يوضح أن "عقدة مصير الأسد" ومقارباتها الروسية والإيرانية وفقا لمصالحهما الإستراتيجية وعلى حساب حرية وكرامة السوريين، باتت المعطل الرئيسي لأي تسوية سياسية، خاصة أن حل هذه "العقدة" سيشكل بوابة العبور إلى شكل وطبيعة النظام السياسي المستقبلي في سوريا.
على أي حال، لا يمكن الوثوق بأي اتفاق ما دام لا تتوفر فيه الضمانات الكافية بعدم ترشح الأسد لانتخابات قادمة، مثلما لا بد أن تنص وبشكل واضح على طريقة وتوقيت رحيله، وذلك لأن أولوية تفكيك العقدة الأسدية عن رقاب ومستقبل السوريين تسبق كل الأولويات.
وما سميت "بسوريا الأسد" تجاوزتها الأحداث والعقول منذ انطلاقة الثورة، ولم يعد لها أي وجود إلا في ذهن شبيحة النظام وقادة "الحرس الثوري" الإيراني، وقد أصبح المستقبل الوحيد الذي يمكن الحديث عنه، بعد نحو ربع مليون قتيل، هو مستقبل سوريا وليس مستقبل الأسد.
السؤال الكبير الذي يدور في ذهني هذه الأيام: هل روسيا وأميركا تسعيان بالفعل إلى إنهاء الصراع في الشرق الأوسط؟ وهل دول المنطقة على دراية بحقيقة الأجندة الخفية للدولتين الكبيرتين؟
العالم المثالي الذي لا صراعات فيه هو عالم خطير. عالم قابل للانفجار في أي وقت، وبأشكال مفاجئة وغير متوقعة، لا زمانياً ولا مكانياً، لهذا تحرص الدول العظمى على إبقاء بعض الصراعات العالمية مشتعلة في أماكن مختارة على الخريطة العالمية وإدارتها بما يتناسب مع مصالحها العليا.
تعتمد هذه الدول في اتصالها وتعاملها مع الصراعات الدولية مفهوم «إدارة المتوقَع» كي تخنق كل احتمالية لظهور «الحدث غير المتوقَع» الذي قد يصعب التعامل معه مباشرة. بل إنها أحياناً قد تُفجر الصراع في منطقة معينة من العالم في شكل متعمد، ليبقى تحت رعايتها وإشرافها المباشر، بدل انتظار الانفجار الذي قد يأتي بتفاصيل زمانية ومكانية غير متوقعة.
وتتراوح مصالح الدول الكبرى من خلق الصراعات العالمية وإدارتها بين ما هو داخل في مفهوم «الحاجة إلى الصراع من أجل ديمومة الحياة»، وبين ما هو من صميم الأمن القومي الخاص بكل دولة على حدة. ويمكن لي في هذا السياق أن أعدد بعض المصالح التي تتصادم مع مفهوم السلام وتشتبك معه، جاعلة من الحروب والصراعات مشتهى دولياً غير معلن.
أول هذه المصالح هو حاجة الأرض إلى الحروب بين الحين والآخر لتتطهر وتبتعد عن مسببات الفساد. الحروب عبر التاريخ كانت بمنزلة الأفران عالية الحرارة التي تنفي الخبائث والشوائب من منظمات ومكونات الأرض الأممية، ولطالما جاء السلام «الطلق يختال ضاحكاً» بعد الحروب المدمرة، صانعاً صيغة عيش مناسبة لمتحاربين كانوا قبل الحرب يعيشون في حال غياب توازن دائمة.
الكثير منا يرى أن قتل الأطفال والنساء والشيوخ وتجويع الأمم وتشريدها، أمر غير إنساني ولا أخلاقي ويتصادم مع طبيعتنا البشرية الجانحة نحو السلام في كل الحالات، لكن هناك من المفكرين الاستراتيجيين وصنّاع السياسة في الدول الكبرى، من يرى أن هذا أمر لازم لديمومة الحياة وبقاء دول بعينها لأطول فترة ممكنة.
ثاني المصالح يتعلق بمصانع السلاح، فالغرب هو المزوّد الرئيس للسلاح على الأرض، ومتى ما توقفت الحروب فإن ذلك يعني أن آلاف المصانع في أوروبا وأميركا وروسيا ستقفل أبوابها، وسيجد ملايين العاملين أنفسهم بلا عمل، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى أزمات اقتصادية واجتماعية خطيرة قد تقود إلى فوضى غير مرحب بها.
لا بأس إذاً من إشعال حرب هنا وحرب هناك، بالقدر الذي يُبقي هذه المصانع مفتوحة لتصرف على موازنة الدولة من جهة، وتطعم أفواه ملايين «الأطفال الأبرياء» الذين يعمل آباؤهم في هذه المصانع من جهة أخرى. لا بأس من أن يموت طفل في الشرق الأوسط أو أفريقيا من أجل أن يتذوق طفل أوروبي أو أميركي طعم الحياة المرفهة بعيداً من أماكن الصراع! لا بأس من أن يصنع الغربي آلة الموت ليشحنها إلى الشرق الأوسط لتزهر الحياة وتنثر ألوانها وروائحها العطرة في النصف الآخر من العالم!
ثالث المصالح في إذكاء الصراعات وإشعالها في أماكن معينة من العالم، هو إبقاؤها بعيدة من حدود الدول الكبرى، فكلما كانت الصراعات مشتعلة على بعد آلاف الأميال، صعّب ذلك من انتقالها إلى حدود هذه الدول. كما أن وجود الصراع في منطقة معينة وتغذيته بالمناورات الديبلوماسية والسلاح، سيشغل المتحاربين «الأشرار»، كما تصفهم الأدبيات الغربية، ويجعلهم غير قادرين في المستقبل القريب على مهاجمة الغرب «الكافر»، أو الغرب «اللاأخلاقي»، أو الغرب «الإمبريالي»!
أما رابع المصالح فهو إجبار دول المنطقة على عقد تحالفات معينة وبناء اصطفافات مرسومة سلفاً في الدوائر الغربية، بما يتناسب مع مصالح الدول الكبرى، وكل ذلك تحت غطاء محاربة الإرهاب والقضاء على مسببات الحروب والصراعات.
والأهم من ذلك كله أن الدول الكبرى لا تغيب أبداً عن كل شاردة وواردة في هذه الصراعات من خلال تنظيم الملتقى بعد الملتقى، والمؤتمر بعد المؤتمر، وجمع أطراف الصراع كلهم، وتفريغ ما في جعبتهم، ونقله إلى حيث تصنع الاستراتيجيات الغربية، ثم العودة من جديد بـ «حلول» تعقّد أية حلول محتملة.
علينا دائماً أن نعرف أن الدول العظمى هي دول مثالية في تطبيق مبادئ حقوق الإنسان على شعبها، وهي عظيمة كذلك في تفعيل الآليات الديموقراطية في مؤسساتها كافة، لكن علينا أن نعرف أيضاً أن الديموقراطيات وحقوق الإنسان تأتي في مراتب متأخرة في اهتمام هذه الدول عندما تتعامل مع دول العالم الثالث.
والآن أعود إلى السؤال الذي بدأت به هذه المقالة: هل فعلاً تريد الدول الغربية إنهاء صراعات منطقة الشرق الأوسط؟
بعد أن اهتز قلب العاصمة الفرنسية باريس بسلسلة الهجمات الارهابية التى أودت بحياة مئات الأبرياء عاد الحديث مجددا عن ضرورة التكاتف العالمى للحرب على الإرهاب لتعود نفس الأسئلة المتكررة حول تعريف الإرهاب وتحديد أسبابه ودوافعه، ودائما ما نسهب جميعا فى الحديث عن دور التطرف الدينى فى صناعة الإرهاب دون أن نتحدث عن مقابله الأساسى وهو تأثير الأنظمة السلطوية وكونها شريكة أساسية فى صناعة جذور الإرهاب.
بادىء ذى بدء إدانة الإرهاب واجبة و غير مشروطة والتعاطف مع الأبرياء والضحايا لا يحتاج لقيد ولا ظرف ولا استثناء لكن الحرب الحقيقية على الإرهاب يجب أن تكون حربا منهجية تعنى بالمسببات والجذور الحقيقية ، لذلك من الحماقة أن نعتقد أن العالم سينتصر على داعش وأخواتها بينما يحمى ويبقى على بشار الأسد وأمثاله من المستبدين و القتلة لشعوبهم.
إن القضاء على داعش لن يتحقق فى وجود القاتل بشار فى سدة الحكم ، نظام بشار هو الظهير لداعش والحاضنة الأساسية لتمدده ووجوده مثلما كان نظام المالكى الطائفى فى العراق فكلاهما مهد الطريق لظهور هذه العصابات الاجرامية التى تنتحل ثوب الدين وتبرر به جرائمها بينما تظهر الأحداث أنهم مجموعة من اللصوص وقطاع الطريق والباحثين عن الشهوات والمطامع الإنسانية الرخيصة والمتدنية
يخرج علينا بشار قبل عدة أيام ليقول أن من "حقه" الترشح لدورة رئاسية جديدة، مشيراً إلى أنه "من المبكر جداً القول، سأترشح أو لا أترشح ". ، كما أثنى على الدعم الروسى العسكرى الذى كان سببا فى تقدم قواته على كل الجبهات على حد قوله ! ، وأخيرا أعلن الرئيس الأمريكى المتردد أوباما صراحة أن الغارات الروسية في سوريا ساعدت تنظيم داعش باستهداف فصائل بالمعارضة السورية يقوم التنظيم بقتالهم أيضا!
على الجانب الأخر تبدو أحاديث روسيا عن محاربة الإرهاب كفكاهة سخيفة وهى تدعم الإرهابى العالمى بشار وتقاتل من يقاومه تحت زعم محاربة داعش، وهناك أيضا علامات استفهام كثيرة حول الموقف الأمريكى والأوروبى من بقاء بشار الأسد خاصة مع حالة الميوعة السياسية التى تم التعامل بها مع التدخل العسكرى الروسى الذى منح قبلة الحياة لنظام بشار الذى كان على وشك السقوط بأيدى المعارضة الوطنية التى كانت تدق أبواب دمشق.
منح بشار قبلة الحياة يعنى مزيدا من التمدد الداعشى ومضاعفة المبررات لتجنيد إرهابيين جدد من مختلف بلاد العالم لتحقيق اسطورة الخلافة المنشودة فى نفس الوقت الذى يتم فيه كسر عظام المقاومة الوطنية السورية المسلحة التى لها إطار سياسى يمكن التعامل معه كبديل فى ترتيبات ما بعد رحيل بشار.
على الغرب أن يفهم أن سكوته أو دعمه أوتواطؤه مع أنظمة استبدادية هو قنبلة موقوتة ستنفجر فى وجهه عاجلا أم آجلا ، هذه الأنظمة الاستبدادية تقوم بتفريخ أجيال من المتطرفين والارهابيين الذين يتشبعون بالكراهية وينطلقون فى كل مكان بالعالم يحملون الموت للأبرياء.
لا يمكن اعتبار أن داعش وحدها هى المسئولة عن تفجيرات باريس بل يقتضى الإنصاف أن يتحمل المسئولية كل طاغية أجهض حلم الديموقراطية فى بلاده وخلق للتطرف والارهاب مناخا يعيش فيه ويزدهر، المقارنات التافهة التى تدعى أن غياب الديموقراطية ليس أحد أهم أسباب الإرهاب بدعوى انضمام بعض أبناء الدول الأوروبية الى داعش رغم أن مجتمعاتهم تحققت فيها الديموقراطية هونوع من التدليس، فهنا فى منطقة الشرق الأوسط ترقد خميرة التطرف والارهاب التى غذتها ورعتها هذه الأنظمة الشمولية المتعفنة ومن هنا خرجت الأطروحات الفكرية العنيفة والمتوحشة التى جمعت غير الأسوياء من كل أنحاء العالم ليلتحقوا بجيش الخلافة الداعشى المزعوم وما تنظيم القاعدة عنا ببعيد !
لا يعنى هذا أن التطرف يأتى من بلادنا فقط ، ففى كل ديانة وكل بلد نجد بعض المتطرفين لكن هذا لا ينفى أن حال بلادنا وأقطارنا العربية يشجع بشكل متزايد على نمو التطرف والارهاب ، المرحلة القادمة سيخرج علينا جيل جديد من الارهابيين المرتزقة بمعنى الكلمة الذين لا يحملون فكرا عقائديا ولا اتجاها ايدلوجيا وإنما جمعهم الفقروالقهر وألهب رغبات انتقامهم التى ستنعكس فى موجات جديدة من الارهاب تزيد من قوة المتطرفين دينيا وتخلق لهم روافد جديدة لضم مزيد من الأنصار.
لن ينتصر العالم على الارهاب وهو يدعم ارهابيين لا يختبئون فى المغارات والجبال بل يقيمون فى قصور رئاسية ويحكمون شعوبا مغلوبة على أمرها بقوة النار والسلاح ، من يريد الانتصار على الارهاب فليتوقف عن دعم الاستبداد !
أظن أن المعركة التي تم إطلاقها اليوم في ريف حلب الجنوبي ، و الهادفة لتحرير ما سيطرته عليه إيران و مليشياتها ، ستخلط الأوراق بشكل كبير ، سواء سياسياً أو تنظيماً ، و طبعاً ستؤثر على تركيبة المعارضة المزمع تجميعها لقيادة المفاوضات مع النظام .
بعيداً عن جانب العسكري و ماحققه الثوار بمختلف أصنافهم ، خلال الهجوم الواسع الذي انطلق منذ ساعات و حقق نتائج كبيرة جداً احتاجت ايران و مليشياته و روسيا و طائراتها و صواريخها أكثر من شهر لتحقيقها ، لكن الأمر يبدو أكثر أهمية من حيث التركيبة التي جمعت بين المهاجمين .
فاليوم كتلة جيش الفتح ، التي يلقى غالبية فصائلها الرفض عالمياً تحت مسمى "التنظيمات الإرهابية" ، بكامل ثقله في المعركة ، و كذلك جيش النصر الذي يحسب على الجيش الحر ، و كذلك فصائل فتح حلب بكامل فصائلها تشارك بشكل مباشر في المعارك ، و إن كان ليس بذات الجغرافيا ، و لكن تتحد بنفس الهدف عبر الإشغال و إشعال الجبهات البعيدة و التشويش و التشتيت.
فالإختلاط بين الفصائل "المتشددة" أو"الإرهابية" وفق التصنيف العالمي ، طبعاً ، و الفصائل التي تنضوي تحت مسمى "المقبول" أو "المعتدل" ، جعل من الفصل بين هذين المسمين في هذه المرحلة شيء من ضروب الخيال ، و أي تقييم سيفرض من الخارج على هذا الفصيل أو ذلك ، سيلقي بثقله على الجميع الذين تعاضدوا و اتفقوا على أن العدو لايمكن مواجهته على طاولات المفاوضات ، و إنما الضرب سيكون في ساحات المعارك و القضاء عليه يكون في مفاوضات الإستسلام .
الأيام القليلة القادمة سيكون الإجتماع الإعلاني ، عن أسماء الفصائل التي المتبتلية بـ"الإرهاب" ، والتي تولت الأردن التنسيق فيها ، و سربت اليوم مسودة تضم سبعة فصائل على رأسها الاحرار و النصرة و جند الأقصى و جند خرسان و فصيلين آخرين و طبعاً داعش هي الأساس ، و لكن هل سيصمت من تشارك اليوم و يتشارك في معارك حلب على تجزأة القوات ، و تشتيتهم أكثر ، و تحويلهم من حلفاء متعاضدين ، إلى أعداء متواجهين في طرفين متناقضين ...!؟
ساء الجمعة 13 نوفمبر/تشرين الثاني، نفّذ قتلة من داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) هجمات في عدة مواقع في باريس، وحصدوا بذلك أرواحا بريئة في مسعاهم لتنفيذ أجندتهم القائمة على الكراهية وبث بذور الشقاق والخوف من الآخر. وقد جاءت تلك الهجمات في أعقاب تفجيرات لا تقل إجراما نفذت في بيروت وبغداد وأنقرة ومدينة سوروتش التركية، وعدة أماكن أخرى مع الأسف.
انطلاقا من قواعدهما في سوريا، تلحق داعش ونظام بشار الأسد الدمار والبؤس بالشعب السوري، ويشيعان معا الإرهاب ويتسببان بزعزعة الاستقرار في محيط أبعد بكثير من نطاق الحدود السورية.
إن داعش والأسد وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يستخدم الإجرام والترويع لتعزيز قبضتيهما على الحكم. وفيما كان تنظيم داعش يضرب ضربته في باريس، كانت قوات نظام الأسد تمطر الشعب السوري بالقنابل المتفجرة. وكما هو حال داعش، فإن الأسد لا يبالي بمن يكون أولئك الذين يقصفهم طالما أنه باق في سدة الحكم.
تلك مقدمة مطوّلة يمكن إيجازها بالقول إن على المجتمع الدولي أن يساعد الشعب السوري لإنقاذ سوريا، ولا بد من فعل ذلك الآن.
وفعلا تعهد المجتمع الدولي بتقديم المساعدة المنشودة في اجتماع عقد صبيحة السبت 14 نوفمبر/تشرين الثاني في العاصمة النمساوية فيينا. ضم ذلك الاجتماع وزراء وممثلين عن سبع عشرة دولة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، اجتمعوا للاتفاق على طريقة لإنقاذ سوريا من الجحيم الذي باتت تمثله اليوم. وقد كنت أحد الذين حظوا بالمشاركة في ذلك اللقاء.
كان ذلك اللقاء الثاني للمجتمع الدولي في فيينا، وهذه المرة أسّس مجموعة الدعم الدولية لسوريا. اللقاء الأول عُقد قبل أسبوعين، وعبر من خلاله وزير الخارجية الأميركي جون كيري بوضوح أن الوضع في سوريا قد أصبح ملحا ولا يحتمل التأجيل.
وهو الآن يوضح بأن الهجمات التي نفذتها داعش في باريس، وقبلها بيومين في بيروت، تؤكد أن الحاجة العاجلة لمعالجة الوضع في سوريا باتت أقوى. ينبغي علينا أن نشحذ المبادئ التي تم الاتفاق عليها في اجتماع 30 أكتوبر/تشرين الأول، وأن نجعلها أكثر إحكاما ونحولها إلى خطة عمل.
وقد تمخض النقاش الذي استمر طيلة اليوم عن تلك الخطة المتمثلة بورقة فيينا الثانية، وكذلك عن اتفاق لتأسيس مجموعة الدعم الدولية لسوريا والتي ستتولى الانطلاق بهذه الخطة.
لكن الكمال غاية لا تدرك، وقد سارع المنتقدون لإيجاد الثقوب والمثالب في الخطة، وسوف يستمرون في محاولاتهم لتمزيقها (فهذا ديدنهم في نهاية المطاف). ولكنني أعتقد أن الخطة جيدة للأسباب التالية:
أولا، لأنها تلتزم بتحقيق الانتقال في سوريا. والانتقال هنا ليس مصطلحا ضبابيا مثل "التحول" أو "التطور" بل انتقال. وأقول بوضوح: انتقال من نظام الأسد وطغمته الحاكمة إلى شيء آخر، شيء أفضل، كخطوة أولى إلى نظام حكم ذي مصداقية، جامع شامل وغير طائفي. (ونعم، حكم الأسد طائفي يتدثر بعباءة العلمانية).
ثانيا، مجموعة الدعم التزمت بجدول زمني واضح: تاريخ محدد لبدء مفاوضات رسمية، ليس حوارا، ولا طرح أفكار، بل مفاوضات تُعقد بحلول الأول من يناير/كانون الثاني بين المعارضة و"الحكومة" (علامة التنصيص من الكاتب)، وإنشاء صيغة حكم خلال ستة أشهر، ويعقبها صياغة دستور وترتيبات انتخابية، وإجراء انتخابات بعد ثمانية عشر شهرا أو، لكي يبدو الأمر واقعيا أكثر، في منتصف عام 2017.
ثالثا، تحمل الخطة أملا حقيقيا للمدنيين السوريين، حيث تتضمن تدابير لبناء الثقة تجعل العملية السياسية ممكنة وتمهد الطريق لوقف إطلاق النار في أنحاء سوريا كلها، وترافقها ضغوط لإنهاء العنف العشوائي ضد الشعب (نعم، نظام الأسد هو الضالع الأساسي فيه).
ويجدر القول إن الخطة واقعية في أهدافها. فلا يمكن تصور وقف إطلاق النار دون ربطه بعملية سياسية ذات مصداقية، فالثقة لا تزال غائبة لحد الآن. وتدابير بناء الثقة هي التي سوف تساعد في تحقيق وقف إطلاق النار.
رابعا، هناك عزم أكيد واضح على دعم المعارضة السورية كي تتمكن من الوقوف كالند للند ومرفوعة الرأس في مواجهة النظام بالمفاوضات. وإحقاقا للحق، فإن الدول التي تقف إلى جانب الشعب السوري تعترف بالائتلاف الوطني السوري بأنه "قلب المعارضة وقائدها".
ويعرف الائتلاف ما ينبغي عليه فعله لكي يتواصل مع كافة الفصائل السورية والشعب للوصول إلى رؤية وأهداف موحدة وموقف تفاوضي متناغم بحلول يناير/كانون الثاني القادم. ونحن نمد لهم يد العون في ذلك وسوف نبقى إلى جانبهم. ذلك كان مضمون رسالة وزير الخارجية البريطاني خلال لقائه مع رئيس الائتلاف خالد خوجة أثناء زيارته في وقت سابق من الشهر الجاري.
خامسا، سوف تساهم مجموعة الدعم الدولية في التوصل إلى تفاهم مشترك حول تحديد من هم الإرهابيون في سوريا. تنظيم داعش هو أحد تلك الجماعات الإرهابية. وهناك أيضا جبهة النصرة الموالية للقاعدة. وسوف نستخدم ذلك التفاهم لممارسة المزيد من الضغوط على روسيا، بل وسنمارس ذلك الضغط فعلا، لكي تتوقف عن قصف أولئك الذين يدافعون عن الشعب السوري. وأفعال روسيا هي التي سوف تحكم على مدى التزامها بالعملية السياسية.
سوف ينصب تركيزي على نحو أكبر على الأطراف التي لديها الاستعداد للالتزام بالعملية السياسية الجديدة وبالقيم التي يتطلع إليها غالبية السوريين: سوريا واحدة بدون الأسد، غير مقسمة، تعيش في سلام مع نفسها ومع جيرانها، ولديها حكومة جامعة تسمح بالمشاركة للجميع على قدم المساواة، وتساوي بالحقوق والواجبات وتوفير الحماية للجميع، وحيث تكون التعددية السياسية وحكم القانون مبادئ جوهرية وليست مجرد "مسائل ثانوية من المحبب أن تتوفر".
سادسا، سوف يقدم مجلس الأمن الدعم لكل ذلك. حيث سوف يعطي صلاحيات كافية للجنة الأمم المتحدة لمراقبة وقف إطلاق النار ويطبقها. كما سيدعم العملية الانتقالية. وستكون له الكلمة الأخيرة في تصنيف الجماعات الإرهابية التي لم يتم تصنيفها بعد.
أود أن أتطرق هنا مباشرة إلى نقطتين أساسيتين:
لم يرد اسم الأسد في أي مكان في الورقة. وبالنظر إلى تشكيل المجتمعين حول الطاولة فإن ذلك ليس مستغربا. لكن يبدو جليا أن العملية الانتقالية التي تمت صياغتها في الخطة الأخيرة لا مكان للأسد فيها. فقد أقصى نفسه بنفسه عن مستقبل سوريا بحكمه الوحشي واستخدامه الغازات السامة وقصفه للمدنيين وتعذيبهم حتى الموت. وبذلك فإن المفاوضات الرسمية لن يكون لها سوى موقف واحد بهذا الشأن.
وللمرة الثانية، لم يكن للسوريين أي حضور في غرفة الاجتماع. يمكنني تصور مقدار الإحباط الذي يشعرون به حين يرون الآخرين يضعون لهم خطة حول مستقبل بلدهم. ولكن السوريين يعلمون أكثر من سواهم لماذا جاء اجتماع فيينا بهذه الصيغة، إذ أن المنطقة والمجتمع الدولي أدركا الحاجة لصياغة تصورهما لكيفية إنهاء الصراع في سوريا، والذي هو حرب بالوكالة بقدر ما هو حرب أهلية. وما نحتاج أن نركز عليه الآن هو عودة السوريين ليتولوا بثبات زمام مصيرهم بأنفسهم، ودور مجموعة الدعم هو مساندتهم في ذلك وليس وضع العقبات أمامهم.
إذن هذا هو نص الخطة، فما الخطوة التالية؟
أولا، نحن بحاجة كمجموعة دعم لإبقاء هذه العملية حية. ولعل أهم مهمة تواجهنا هي دعم المعارضة لمساعدتها للاستعداد للمفاوضات القادمة.
ثانيا، سوف يظل السوريون بحاجة إلى مساعدتنا، وبشكل فوري. إن المملكة المتحدة ثاني أكبر دولة مانحة لسوريا (بعد الولايات المتحدة). ومساهماتنا الإنسانية ضخمة، كما أننا نقدم دعما أوسع لمساندة الأطراف السورية المعتدلة التي تعمل لخدمة مجتمعها ولتحقيق انتقال حقيقي.
ثالثا، لا بد لنا أن نكون واقعيين بثبات فيما تتطلع عقولنا وأفئدتنا إلى تحقيق عملية انتقال نحو مستقبل أفضل. فالنظام والداعمون له يواصلون اعتداءاتهم الوحشية على السوريين. وجاء التدخل العسكري الروسي ليزيد الصراع تعقيدا في سوريا، ويجعل التسوية السياسية أبعد منالا، حيث تزعم روسيا أنها تهاجم داعش ولكنها تستهدف أساسا المعارضة السورية المسلحة.
وبالتالي، بينما تحقق عملية فيينا تقدما، سوف نساند المعارضة، ونسلط الضوء على الضربات العسكرية الروسية ضد جماعات غير داعش، وعلى وحشية الأسد، ودعم مساعي المبعوث الخاص للأمم المتحدة دي ميستورا وفريقه رغم إدراكنا أن تلك مهمة شاقة.
عندما رجعت إلى منزلي من فيينا، وجدت شارة "عضو وفد - فيينا" في قاع حقيبتي، فلم أرمها بل احتفظت بها في مكان آمن لأنني أريد إخراجها في السنوات المقبلة لكي أقول لنفسي "كنت موجودا هناك عندما تمكنا أخيرا من إطلاق خطة ساهمت في إنقاذ سوريا". إذا دعونا نتمسك ببعض الأمل المقترن بجرعة سخية من الواقعية لنضمن بأن الأسد لن يفلت من العقاب عن جرائمه.
مسكينة سورية. كلما اجتمع قويان على أرضها تمددت خريطتها المثخنة بينهما. مصيرها يتقرر في غيابها. المتدخلون في ملعبها يدافعون عن برامجهم ومصالحهم وصورتهم. دم السوريين لا يحتل صدارة الأولويات سواء كان سنياً أم علوياً وعربياً أم كردياً. تعايش العالم سنوات مع الانتحار السوري. استيقظ حين فاضت الأخطار عن حدود الخريطة منذرة بنحر آخرين. ستكون الخريطة اليوم على الطاولة حين يستقبل المرشد ضيفه القيصر.
إنه اللقاء الثاني بين الرجلين. كان الأول في 2007. كان العالم مختلفاً. وكان الشرق الأوسط مختلفاً. وكانت سورية لاعباً وهي اليوم استحالت ملعباً.
يحب فلاديمير بوتين مباغتة خصومه. ويعشق دور «سارق الأضواء». وفّر له التدخل العسكري الروسي في سورية هذه المتعة. إنه صاحب الدور الأول الآن. لكن الذي قرر تحمل أعباء الحرب ألزم نفسه عملياً بتحمل أعباء البحث عن حل. وتعرف موسكو أن «الجنرال وقت» هو أعنف خصومها. لهذا، وضعت سقفاً زمنياً مبدئياً لتدخلها العسكري في سورية. إنها تراهن على انطلاق العملية السياسية قبل نهاية السنة الحالية أو في موعد قريب منها.
قبل لقاء اليوم، تغير شيء ما في علاقات إيران بالعالم. إنه الاتفاق النووي. وتغير شيء ما في علاقات روسيا بالعالم. إنه التدخل العسكري في سورية. تمكن الإشارة إلى عنصر ثالث وهو انضمام إيران إلى عملية فيينا السورية، والتي يفترض أنها انطلقت من روحية بيان «جنيف - 1».
لا يتسع المجال هنا للخوض في العلاقات بين روسيا وإيران بأبعادها السياسية والاقتصادية والعسكرية. ربما ينظر كل طرف إلى الآخر بوصفه «شريكاً متعباً لا بد منه». وربما يعتبر كل منهما هذه العلاقة رسالة ضغط على الولايات المتحدة. لكن الأكيد هو أنه من المبكر الحديث عن افتراق الحسابات بين موسكو وطهران على الملعب السوري. ومن التسرع أيضاً الحديث عن تطابق كامل ودائم بينهما على أرض ذلك الملعب.
ما كان اللقاء ليرتدي هذه الأهمية لو كان الهلال الذي رسم الجنرال قاسم سليماني ملامحه مستقراً. التدخل الروسي العسكري دليل قاطع على أن إيران لم تستطع حسم النزاع في سورية. هوية المقاتلات التي تجوب أجواء العراق وسورية دليل آخر على صعوبة إدارة دمشق وبغداد وبيروت من طهران.
إنه لقاء الحاجة المتبادلة. لم يأتِ الجيش الروسي لحسم المعركة بالضربة القاضية. التدخل البري الواسع والحاسم غير وارد في حسابات الكرملين. على الأقل حتى الآن. بتدخلها منعت موسكو إسقاط النظام. تزايدت حاجتها إلى إطلاق عملية سياسية تجنبها الغرق في أفغانستان جديدة أو فيتنام روسية. يدرك بوتين خطورة الفوز بلقب «الشيطان الأكبر» في العالم السنّي. مسلمو روسيا وجوارها لا يستطيعون احتمال دور من هذه القماشة.
حاولت إيران عبثاً إعادة سورية إلى ما كانت عليه قبل اندلاع النزاع المدمر. لم تنجح. اضطرت في النهاية إلى تجرع كأس التدخل الروسي. بوتين من جهته أقر أمام بعض زواره أن إعادة سورية إلى ما كانت عليه متعذرة. لهذا، يحتاج إلى تنازلات إيرانية لبلورة حل يمكن تسويقه إقليمياً ودولياً. والمسألة تتخطى ما بات يعرف بـ «عقدة الأسد» على رغم أهميتها. ويحتاج المرشد أيضاً إلى ضمانات من القيصر في شأن ملامح سورية الجديدة وتوازناتها الداخلية وموقعها الإقليمي وعلاقتها بلبنان و «حزب الله».
من حق إيران أن تبتهج لأن التدخل الروسي شكل بوليصة تأمين للنظام ومؤسساته. لكن ثمة ما يقلقها أيضاً. التنسيق الأمني الروسي - الإسرائيلي بالغ الدلالات. ترحيب روسيا بـ «الحليف» الفرنسي في محاربة «داعش» يفتح أبواباً كثيرة. تعرف إيران أن روسيا تعتبر أوكرانيا أهم من سورية. المرونة الأوروبية والغربية في كييف قد تدفع روسيا إلى إبداء مرونة في دمشق.
لا يكفي أن يتفق المرشد والقيصر على اقتلاع «داعش». بوتين نفسه يبحث عن تحالف دولي واسع، خصوصاً بعد قرار مجلس الأمن. السؤال هو من سيرابط في الأماكن التي سيتم تحريرها من «داعش» في سورية والعراق معاً؟ ومن يضمن عدم ظهور نسخة جديدة من «داعش» وأشد هولاً منها بعد أعوام؟ هذا يطرح مشكلة الدور السنّي في المنطقة الممتدة من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق. تحصين البيئة السنّية ضد جاذبية «داعش» يفرض بلورة حلول سياسية يكون المكون السنّي شريكاً كاملاً فيها. هذا يعني ضرورة معالجة بعض ملامح الهلال الذي رسمه قاسم سليماني.
لا أحد يحب تقريب كأس السم من شفتيه. لكن تجارب التاريخ القديمة والحديثة تقول أن تجرع قطرات من السم أفضل في الأزمات المعقدة من تجرع هزيمة مدوية أو التشبث بمواقف انتحارية. هذا يصدق على الفرقاء السوريين. يصدق أيضاً على المتحلقين حول الخريطة السورية المسكينة. والدواء الذي سترغم سورية على تناوله سيسري أيضاً في عروق الهلال.
شهران مرا على بدء العمليات الجوية الروسية في سوريا، والنتيجة لا تبدو منسجمة مع الأهداف المعلنة، ولا مع الزفة الضخمة التي رافقت الإعلان عن انطلاقها، والتي شارك فيها شبيحة إيران وبشار في كل قُطر عربي على نحو بدا معه أن المعتصم قد استجاب لنداء المرأة المظلومة، وجاء بجيوشه الجرارة كي يخلصها من الظلم!!
يوميا تتحفنا وسائل الإعلام الروسية بإحصائية عن عدد الضربات التي تم توجيهها لـ «الإرهابيين» في سوريا (كل من يقاوم النظام هو إرهابي بطبيعة الحال)، وغالبا ما يقال إنها لمواقع تنظيم الدولة بهدف الإخراج الإعلامي، بينما تقول الوقائع إن أعدادا هائلة من النساء والأطفال وعموم المدنيين قد قتلوا أو جرحوا جراء تلك الغارات.
الطيران الروسي وجَّه ضربات في مختلف مناطق سوريا التي يسيطر عليها الثوار من كل الفصائل، بما في ذلك مناطق الجنوب، ولكن بعد تنسيق واضح مع الصهاينة لأن الأمر هنا يعنيهم، وهو أمر لا يمكن أن يستوقف شبيحة بشار الذين يرددون كالببغاوات يوميا قصة جرحى المعارضة الذين يعالجون في المستشفيات الإسرائيلية، وهم قلة قليلة كانوا برسم الموت، وعلاجهم جزء من تسويق الوجه الإنساني للعدو لا أكثر، ولو ذهب إليهم جندي سوري أو أحد شبيحة النظام، وقد حصل ذلك، لما تغير الموقف.
على الأرض يتحرك مقاتلو حزب الله، وما تبقى من جيش النظام، إلى جانب عناصر الحرس الثوري والمرتزقة الذين جلبهم سليماني بحشد مذهبي واضح من كل أصقاع الأرض، بينما يكتفي الروس (حتى الآن) بالجهد الجوي، ولكن النتيجة لم تتجاوز بعض التقدم هنا وهناك، مقابل تقدم أكبر للثوار في عدد من المناطق، مع تكبيد خسائر كبيرة للعدو، وها إننا نسمع يوميا عن خسائر في صفوف الحرس الثوري وحزب الله.
لندع هنا الجدل الدائر حول الخلاف بين إيران وروسيا في سوريا، والذي بدأ يخرج عمليا إلى العلن، ونتوقف قليلا عند قول أحد المحللين المقربين من النظام (طالب إبراهيم) إن قرار الذهاب إلى فيينا لم يكن قرار النظام، بل قرار الروس، وبالطبع على غير رغبة من محافظي إيران الذين ربما اعتقدوا أن عليهم تحقيق بعض التقدم قبل الذهاب نحو خطوة من هذا النوع، تماما كما فعلوا في اليمن حين صبوا جهدهم مع الحوثيين من أجل إحداث بعض التقدم، ومن ثمَّ الذهاب إلى جنيف بوضع أفضل.
القرار الروسي لا يعكس العقلية التجارية لبوتين الذي لا يريد أن يخسر أكثر في علاقاته مع العرب وتركيا، والاكتفاء من الوضع العربي والإسلامي بإيران وحلفها، بل يعكس بدرجة أكبر إدراكا لحقيقة أن الضربات الجوية ليست كافية، حتى لو واكبها فعل على الأرض من قبل إيران وأتباعها، بدليل ما جرى منذ التدخل الجوي ولغاية الآن. وها إن بوتن نفسه يعترف في تصريح نادر بهذه الحقيقة بقوله: «المهام تنفذ، وتنفذ بشكل جيّد... لكن هذا غير كافٍ بعد لتطهير سوريا من المسلحين والإرهابيين، وحماية روسيا من الهجمات الإرهابية المحتملة».
هذا يؤكد أن بوتن ليس بعيدا عن إدراك الأبعاد الكبيرة لفشله في سوريا، فضلا عن إمكانات ذلك الفشل في ظل ميل أميركا والغرب لذلك، ولا شك أن بعض الاتصالات التي جرت خلال الأسابيع الأخيرة قد بلغته، والتي لا يمكن إلا أن تنطوي على توافق خليجي تركي على زيادة تسليح المعارضة دون اعتراض أميركي غربي، وما يعنيه ذلك على صعيد ميزان القوى الاستراتيجي، ولا شك أن قصة الطائرة الروسية لم تكن خارج دائرة الحسابات، وما تعنيه من إمكانية استهداف المصالح الروسية في كل مكان.
خلاصة القول هي أن أفق الإنجاز الروسي في سوريا يبدو مسدودا، ولا مجال لغير نزيف طويل، لهم وللإيرانيين، من دون أن يعني ذلك وضعا جيدا للآخرين، وإن كانوا أقدر على احتمال النزيف. وما دام الأمر كذلك، فإن التسوية هي الحل، وهي تسوية سيحددها ميزان القوى، وإن بدا أن استمرار الحرب هو الخيار المرجح، في المدى القريب على الأقل، لكن ميل بوتن للتسوية لم يعد يخفى، مقابل تشدد إيراني قد يتراجع بمرور الوقت، ولا يُستبعد أن يتم التفاهم عليه في لقاء الغد بين «القيصر» وبين «المرشد» خامنئي في طهران.
مع ارتفاع حصيلة ضحايا هجمات تنظيم داعش على العاصمة الفرنسية باريس لتكون الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية في أوروبا، استفاق العالم على صدمة القوة الاستثنائية والانتشار السريع لتنظيم داعش بصورة لم يعرفها أي من التنظيمات الإرهابية على مر التاريخ الحديث.
ويعود جزء كبير من الفضل في ذلك إلى حرب الإبادة الجماعية التي قادها الرئيس السوري بشار الأسد ضد الشعب السوري من جهة، ولتغذيته للتطرف والإرهاب في سوريا بالتعاون مع إيران والميليشيات الطائفية اللبنانية من جهة أخرى.
الهجمات غير المسبوقة كان لها تأثير سلبي ومباشر على الملايين من اللاجئين السوريين الذين باتوا موضع تدقيق أمني من قبل السلطات الأوروبية، فضلا عن ردود الفعل العنصرية تجاههم من قبل جمهور اليمين المتطرف.
بالمقابل، حصد بشار الأسد بعض المكاسب وخصوصا على المستوى الإعلامي، حيث تركزت الأضواء على إرهاب داعش وابتعدت عن إرهاب الأسد والميليشيات الطائفية التي تدعمه، كما وجهت هجمات باريس ضربة قوية للدول التي كانت لا تزال تعترض على إشراك الأسد في العملية السياسية المنتظرة، ودفعتها إلى إسقاط شرطها بتنحيه قبل بدء عملية التفاوض.
أنهت أحداث باريس التردد الذي كان يحكم التقارب في وجهات النظر حول الصراع في سوريا بين روسيا من جهة، وأميركا وأوروبا من جهة أخرى.
كان ذلك التردد يثقل الخطوات الأولى للسير في عملية سياسية على الرغم ممّا بدا كتنازلات هامة قدمها الغرب خلال الشهرين الماضيين في ما يخص مصير بشار الأسد. فالشرط المتمثل بإبعاده عن السلطة أو بتقديم ضمانات لرحيله تراجع نسبيا قبل أحداث باريس، ولكنه لم يسقط تماما، إذ بقيت بعض الدول تعتبره أساس أي مفاوضات جادة وهو ما أعاد الحديث عن المسار السياسي من دون السير قدما وبشكل جديّ فيه.
لكن المجزرة المروّعة في فرنسا جعلت هدف التخلص من داعش أهم الأولويات وطوت صفحة نقاش مصير بشار الأسد وخصوصا خلال نقاشات مؤتمر فيينا الذي جرى بعد يوم واحد فقط من وقوع المجزرة، وهو ما اعتبر أهم مكاسب النظام السوري.
لكن نتائج أحداث باريس لم تكن إيجابية على النظام السوري إلا في ما يخص رضوخ الغرب للتعاون معه. ذلك أن فحوى هذا التعاون حملت آثارا سلبية بل كارثية على نظام عائلي تسلّطي كنظام الأسد. ففي حين يريد الأسد من الغرب التعاون معه للقضاء على “الإرهاب”، يريد الغرب من الأسد التعاون لتغيير النظام السياسي بما يقود في نهاية المطاف إلى دفن “سوريا الأسد”.
سرّعت أحداث باريس الخطوات نحو الدخول في عملية سياسية لطالما وافقت عليها مختلف قوى المعارضة في حين كان يرفضها النظام وحلفاؤه. لقد أسفر مؤتمر فيينا عن إحداث شرخ واضح، يبدو أنه سيتّسع بمرور الوقت، بين رؤية النظام السوري للحل ورؤية موسكو، وقد كانتا متطابقتين إلى حد بعيد طيلة سنوات الثورة.
الأسد أكد على رؤيته من جديد قبل يومين فقط في تصريح لمحطة التلفزيون الإيطالية الرسمية (راي)، إذ اعتبر أن الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية “يبدأ بعد إلحاق الهزيمة بالإرهاب” والمقصود بالإرهاب وفق قاموس الأسد كل المعارضين لنظامه.
لأول مرة بدا صوت الأسد ناشزا بالكامل عن حلفائه، إذ ينص اتفاق فيينا بشكل واضح وبموافقة موسكو وإيران، على أن الحل السياسي سوف يسبق إطلاق معركة القضاء على الإرهاب.
والحال أن ما سيشكل التغيّر الأهم في موقف روسيا وإيران من الصراع السوري هو الاتفاق على قائمة موحدة للتنظيمات الإرهابية في سوريا، إذ تجري الأردن الاتصالات بين الدول المعنية للتوصل إليها.
وفي حال صدرت تلك القائمة من دون أن تشمل كبرى فصائل المعارضة السورية، مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام، فسيكون ذلك بمثابة الانفصال التام لرؤية موسكو وطهران عن رؤية الأسد.
سيؤدي العمل الجاد على تلك القائمة إلى إحداث هزة عنيفة، بالمعنى الإيجابي، في صفوف قوات المعارضة السورية. هزة تعيد فرز تلك القوى وتطلق عمليتي دمج وإعادة هيكلة على أساس خطاب وطني عام بعيدا عن الخطاب الطائفي والأصولي الذي شكل دوما أحد حبال النجاة الكثيرة التي قدّمت للأسد وحلفائه.
هكذا، ورغم ما بدا من مكاسب إعلامية ودبلوماسية قد حققها الأسد على خلفية هجمات باريس، فإن الهجمات قد دفعت بصورة جادة، لأول مرة، باتجاه أسوأ كوابيس الأسد: التسوية السياسية.
ه هل يستطيع فلاديمير بوتين اقناع العالم، والسوريين أوّلا، بأنّ التدخل العسكري الروسي يمكن أن يساعد في إيجاد مخرج سياسي في سوريا؟ هذا على الأقلّ ما يحاول الرئيس الروسي تسويقه لدى الآخرين طالبا وساطة مع المملكة العربية السعودية وأطراف عربية وغير عربية أخرى من أجل إقناع الثوّار في سوريا بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار “ولو على جبهة واحدة”.
نظريا، يبدو الموقف الروسي منطقيا. لكنّ التنظير شيء والواقع شيء آخر، خصوصا أنّ الواقع يشير إلى أن الأحداث تجاوزت السياسة الروسية التي لم تستطع في يوم من الأيّام تقديم أيّ إيجابية على الصعيد الإقليمي. بقيت هذه السياسة في كلّ وقت أسيرة أيديولوجية عقيمة في أيام الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر، وردود الفعل التي لم تأخذ في الاعتبار التغييرات على الأرض السورية في عهد فلاديمير بوتين.
الأحداث تجاوزت السياسة الروسية التي لم تستطع في يوم من الأيام تقديم أي إيجابية على الصعيد الإقليمي
من خلال اللقاءات التي عقدها بوتين مع عدد لا بأس من كبار المسؤولين العرب، رشّح أنّه يؤكد على ثلاث نقاط. يؤكّد في البداية أن التدخل العسكري الروسي الذي تمثّل في إرسال طائرات إلى الساحل السوري من أجل قصف “داعش”، إنما يستهدف “استعادة التوازن على الأرض” تمهيدا لتسوية سياسية.
يشدّد بوتين، في الغرف المغلقة، على أن روسيا مقتنعة ثانيا بضرورة رحيل الأسد الابن في مرحلة معيّنة وذلك عن طريق إقناعه بعدم الترشّح في الانتخابات الرئاسية المقبلة.. لكنه يشدّد ثالثا، وأخيرا، على أنّ المطلوب في المرحلة الراهنة تثبيت الهدنة على إحدى الجبهات لتسهيل البحث عن حلّ سياسي. إنّه الاختراق الذي يبحث عنه الكرملين من دون أن يدرك أنّ لبّ المشكلة في مكان آخر، أي في العلاقة بين “داعش” والنظام السوري، وهي علاقة عضوية. تلك هي الحلقة المفقودة في المنطق الروسي.
لا شكّ أن هناك ما يدعو إلى البحث عن تسوية سياسية في سوريا في ظلّ ما بات “داعش” يشكّله من خطر على الأمن في الشرق الأوسط وفي أوروبا. لا حاجة إلى تأكيد أنّ “داعش” أثبت مدى خطورته بعد تفجير طائرة الركّاب الروسية في الجوّ وبعد تفجيرات برج البراجنة في بيروت.. وبعد “غزوة باريس″. ثمّة حاجة إلى اقتلاع “داعش”. ولكن هناك أيضا حاجة إلى التواضع قليلا بدل الهرب من الواقع المتمثّل في أن لا فائدة من أيّ بحث جدّي في شنّ حرب على “داعش” بوجود النظام السوري.
من يعود قليلا إلى خلف، يتذكّر أن “داعش” لم ينم ويتمدّد إلّا في ظل استمرار الحرب السورية. بقي وجود “داعش”، وما يشبه “داعش” محدودا في بداية الثورة الشعبية في سوريا في مارس من العام 2011 وقبل ذلك. ما غيّر المعادلة إطلاق النظام السوري مجموعات متطرّفة من سجونه في مرحلة معيّنة كان فيها العراق يشكو من إرهابيين يدخلون من الأراضي السورية. بقدرة قادر أطلقت حكومة نوري المالكي، لاحقا، مجموعات متطرّفة كانت في سجن أبو غريب. جاء ذلك بعدما صار المالكي في مرحلة معيّنة تحت السيطرة التامة لطهران. نسي فجأة أنّه كان يشكو قبل فترة قصيرة من دور النظام السوري في إرسال إرهابيين إلى العراق!
لكنّ العامل الأساسي الذي لعب دورا في تمدّد “داعش”، إضافة إلى استثمار النظامين السوري والإيراني فيه، كان زيادة الشرخ المذهبي السنّي ـ الشيعي اتسّاعا. أزال “داعش”، قبل أن يحتلّ الموصل وتدمر بتواطؤ واضح مع حكومة نوري المالكي ونظام بشّار الأسد، الحدود بين سنّة العراق وسنّة سوريا.
لم يكن “داعش” قادرا على ذلك لولا إزالة الحدود بين لبنان وسوريا من منطلق مذهبي ليس إلّا. تدخّل “حزب الله”، وهو لواء في “الحرس الثوري” الإيراني عناصره لبنانية، إلى جانب النظام السوري. لم يأخذ في الاعتبار أيّ عامل ذي علاقة بالسيادة اللبنانية أو بالحدود المعترف بها بين “الجمهورية العربية السورية” و”الجمهورية اللبنانية”. صار الرابط المذهبي فوق كلّ ما عداه. هل هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي لا تريد روسيا الاعتراف به والذي باتت تقيم فيه “داعش”.
هناك تركيبة معيّنة صنعت “داعش”. لا يمكن اعتبار “داعش” غريبا عن هذه التركيبة التي لا يمكن تفكيكها بوجود النظام السوري. “داعش” والنظام السوري توأمان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر بأيّ شكل وفي أيّ ظروف.
في حال كان بوتين جدّيا في إيجاد تسوية في سوريا، لا يمكنه الاكتفاء بتقديم ضمانات من تحت الطاولة بأن بشّار الأسد لن يترشّح في الانتخابات الرئاسية المقبلة. النظام السوري ليس ورقة يمكن استخدامها في أيّ مفاوضات تتعلّق بمستقبل سوريا. النظام السوري انتهى منذ اليوم الذي قال فيه مراهقون سوريون لآبائهم إنّهم لن يقبلوا الذل الذي قبل به هؤلاء الآباء. هذا كلّ ما في الأمر. انتهى النظام في اليوم الذي لم يفهم فيه بشّار الأسد أن الردّ على التلامذة الذين كتبوا شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” في مدارس درعا لا يكون باعتقال هؤلاء وتعذيبهم وإهانة ذويهم الذين طالبوا بهم..
في النهاية، هل تريد روسيا التعاطي مع الأزمة السورية من زاوية تكشف أن موسكو في 2015 ليست موسكو المستعدة في 1977 للتغاضي عن جرائم النظام السوري، بما في ذلك اغتيال شخص مثل كمال جنبلاط، حامل وسام لينين. وقتذاك تجاهل الاتحاد السوفياتي الجريمة ومرّ عليها مرور الكرام من منطلق أن علاقته بدمشق أهمّ بكثير من علاقة تربطه بشخص معيّن، مهما كان هذا الشخص قريبا من موسكو.
لا تُخاض الحرب على “داعش” بمعزل عن المعطيات الإقليمية، بما في ذلك الشرخ المذهبي الذي بات هذا التنظيم يقتات منه. هناك المشروع التوسّعي الإيراني الذي يستثمر في الغرائز المذهبية. هناك أيضا تصرّفات النظامين في سوريا والعراق التي تصبّ في خدمة كل ما له علاقة بإثارة السنّة العرب في المنطقة. هناك، أيضا وأيضا، الميليشيات المذهبية واللبنانية والعراقية والأفغانية، التي تدعمها إيران والتي لم تؤد تصرّفاتها سوى إلى تغذية كلّ ما له علاقة بالتطرّف المذهبي من قريب أو بعيد.
لا ينفع مع “داعش” سوى الكيّ. تكون بداية الكيّ بتحقيق موسكو لاختراق في غاية الأهمّية. مثل هذا الاختراق لا يكون بالتوصّل إلى اتفاق لوقف النار على هذه الجبهة أو تلك. الاختراق يكون بالإعلان صراحة أن لا مستقبل لسوريا بوجود بشّار الأسد ولا حرب ناجحة على “داعش” ما دام النظام السوري قائما.
هذا النظام الذي يلفظ أنفاسه لم يبق له سوى “داعش”. كلّ ما تبقّى تفاصيل ودوران في حلقة مغلقة تفاديا للإجابة عن سؤال في غاية البساطة فحواه هل من أمل في بقاء سوريا موحّدة أم كلّ ما هو مطلوب إطالة الأزمة بغية الإمعان في تفتيتها عن طريق التذرع بـ”داعش” من جهة و”شرعية” بشّار الأسد من جهة أخرى؟
عندما جاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري في إحدى الأمسيات بمدينة نيويورك لكي يتحدث عن السياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما، ظن الجميع أنه قدم ليثني عليها. لكن بعد مرور ساعة وإلقاء 6 آلاف كلمة، أصبح من الواضح أنه جاء لكي يدفنها. لقد تحول المديح المتوقع إلى نعي غير مقصود.
كيري استهل كلمته ببناء صرح من الحجج والأعذار لما كان يعلم، لكن لا يريد الاعتراف به، أنه فشل من العيار الثقيل. ولكي يسلط الضوء على سيرته الشخصية، أبلغ كيري الحضور أنه تناول العشاء لتوه مع هنري كيسنجر الذي أقر بأن العالم اليوم أكثر تعقيدًا مما كان عليه في الأيام الخوالي الطيبة.
وقال كيري مشددًا على كلامه إن كيسنجر «لم يجابه هذا العدد من الأماكن والأزمات المختلفة» التي يتعين على وزير الخارجية الحالي أن يواجهها. ويضيف أنه في «عالم الحرب الباردة ثنائي القطب، كان الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة والغرب واضحين تماما إزاء الخيارات المتاحة». ويتابع كيري بأن عالم اليوم «متعدد الأقطاب» مما يجعل الخيار صعبًا، بيد أنه من الناحية اللغوية يعتبر مصطلح «متعدد الأقطاب» من قبيل الاستنباط الذي لا يتفق منطقيًا مع المقدمات، لا يوجد نظام يمكن أن يحتوي على أكثر من قطبين. لكن بما أننا نستخدم اللغة غير آبهين بالحيرة والارتباك الذي يمكن أن تحدثه ألفاظنا، فلا تلقوا بالاً للأمر.
وبدأ كيري كلامه بمحاولة إثبات أن واشنطن ما زالت مهتمة بمنطقة الشرق الأوسط، وقال في هذا الصدد: «ينبغي أن نتذكر أن الشرق الأوسط يضم بعضا من أقدم أصدقاء أميركا، بما في ذلك حليفتنا إسرائيل، ولكن أيضًا الكثير من الشركاء العرب». ويعني ذلك أنه بينما تعتبر إسرائيل «حليفة»، فالعرب مجرد «شركاء». ورغم ذلك، لا تعامل إسرائيل كدولة حليفة ولا العرب كشركاء.
وبعد يومين من بداية ولايته الرئاسية الأولى، عين أوباما السيناتور جورج ميتشل كمبعوث سلام للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، كما تباهى أيضًا بأنه «عندما نلتقي العام المقبل» ستكون هناك دولتان: واحدة إسرائيلية والثانية فلسطينية.
لكن بعد مرور 7 سنوات، يقدم كيري نسخة مقتضبة جدًا من طموح أوباما. إن الهدف السامي المتمثل في إنشاء دولتين لا يأتي على ذكره إطلاقًا. ويقول عوضًا عن ذلك: «نحاول أن نقلص العنف... حول الحرم الشريف في القدس».
إن المهندس المعماري الطموح تنازل إلى مستوى رجل إطفاء يحاول إخماد ألسنة اللهب، ودون أن يدرك النجاح حتى الآن.
أما بالنسبة إلى «الشركاء العرب»، فلم يعد هناك حديث عن الخطط الكبرى الرامية إلى العضوية المنتسبة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتفاقات الجماعية للتجارة والتبادل التقني.
إن ما يعرضه كيري ما هو إلا شعر متواضع المستوى. ويقول: «تخيلوا مستقبلاً يستطيع فيه الناس من النيل إلى نهر الأردن إلى الفرات أن يعيشوا ويعملوا ويسافروا بحرية وكيفما شاءوا، مستقبلاً يحصل فيه كل صبي وفتى على تعليم جيد، مستقبلاً يستطيع فيه الزوار أن يأتوا من دون خوف».
حسنًا، الخيال لا يكلف شيئًا (وبالمناسبة، على المرء أن يتساءل: لماذا يتوقف عالم كيري التخيلي عند الفرات؟ هل يعني ذلك أنه لا ينبغي أن يذهب أحد إلى بغداد على نهر دجلة؟). على أي حال، ما الذي تفعله إدارة أوباما لكي تحقق هذه اليوتوبيا؟
إجابة كيري تتلخص في التالي: «طلبنا من شركة ماكينزي أن تدرس آفاق الاقتصاد في الأردن وسوريا وإسرائيل ومصر والضفة الغربية. ما يثير الاهتمام أن صديقي العزيز وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، عبد الله بن زايد، طلب مؤخرًا أيضًا إعداد دراسة منفصلة «لكي يراجع» كل القطاعات بدءا من الزراعة وحتى السياحة». أي أن الولايات المتحدة تشتري دراسات تسويقية بدلاً من أن تطور سياسة خارجية في الوقت الذي تشتعل فيه الحرائق بالمنطقة. لكن الموقف الهزلي لا يتوقف عن ذلك الحد.
ويواصل كيري ليكتب منشورًا دعائيًا مصغرًا حول المعالم السياحية الجاذبة في المنطقة. ويقول: «أعني، فكروا في أعظم المعالم السياحية بالعالم. لقد زرتها... المكان الذي عمد فيه يوحنا المعمدان أناسًا كثيرين بما في ذلك السيد المسيح، المعبد القريب منه، وأحد أقدم المساجد في المنطقة... الجميع لديه شيء هناك، حتى الملحد إذا كان مهندسًا معماريًا ناشئًا لن يجد صعوبة في قضاء وقت ممتع هناك».
هل هناك أي مقترحات ولو على الأقل عن إعادة إطلاق «محادثات السلام» بين إسرائيل والفلسطينيين؟ لا يوجد. إذن ماذا عن أي أفكار حول سبل إنهاء المأساة السورية؟ لا يوجد. ماذا عن سياسة لهزيمة وتدمير «داعش» التي تعهد بها أوباما قبل 18 شهرًا؟ إجابة كيري كانت: «رأينا أن الأفكار التي يبثها الإرهابيون في الرقة والموصل يمكن أن تصل إلى عقول البسطاء في مينيابوليس وميسيسبي. نحن ندرك تمامًا أن الأحداث الجارية في الشرق الأوسط يمكن أن تؤثر على التصورات في جميع القارات لأن الناس يتأثرون بالتقاليد الروحية والأخلاقية التي تعود جذورها إلى تلك الأراضي القديمة». إذن، هل يمثل «داعش» تقاليد «روحية وأخلاقية»؟ حسنًا. لكن ماذا تنوي أن تفعل إزاء ذلك؟ لا يمتلك أوباما جوابًا.
لقد وعد أوباما بأن يدمر «داعش»، بيد أنه هذه هي إنجازات الإدارة الأميركية حتى الآن التي يوردها كيري: «لقد شننا أكثر من 7300 غارة جوية. أجبرنا (داعش) على أساليب تنفيذها للعمليات العسكرية... أمنا الحدود التركية - السورية شرق الفرات التي تمثل 85 في المائة من الحدود التركية. الرئيس يجيز أنشطة أخرى لتأمين المساحة المتبقية... صعبنا من مهمة (داعش) في إعادة تزويد مقاتليها في الرمادي بالمؤن». لكن كيري أمضى بعض الوقت في التباهي بـ«اتفاق» أوباما مع إيران بوصفه إنجاز الإدارة الوحيد في الشرق الأوسط.
ولذلك قال أوباما في 2008: «لا يمكننا السماح لإيران بالحصول على سلاح نووي... سأبذل كل ما في وسعي لمنع ذلك»، بيد أن إيران تحتفظ، بموجب «الاتفاق» الذي يتباهى به، بقدرتها كاملة على إنتاج ترسانة نووية في غضون عام واحد. وحتى مع ذلك، لم توقع إيران على أي شيء وترفض إقرار «الاتفاق» عبر آلياتها القانونية.
إن النجاح الوحيد الذي يورده كيري لا علاقة له على الإطلاق بالولايات المتحدة. «وبالنسبة إلى المتشككين، سأرد بكلمة واحدة: تونس».
إن تونس تبلي بلاء حسنًا إلى حد كبير في الوقت الراهن، لكن ما علاقة ذلك بأوباما؟ إن نعي كيري لسياسة أوباما في الشرق الأوسط زاخر بالجواهر. إليكم القليل منها:
• «الإسرائيليون ينبغي أن يحظوا بالأمن، الفلسطينيون ينبغي أن يحظوا بالأمن، الناس في غزة ينبغي أن يحظوا بالأمن، الجميع ينبغي أن يحظوا بالأمن».
• «العنف يؤذي الجميع: الأبرياء وعائلاتهم، اليهود والسكان العرب في إسرائيل...يؤذي الجميع».
• «في العراق، يعرض (داعش) النساء والفتيات في المزاد العلني، ويعلم الناس أن اغتصاب الإناث غير المسلمات هو شكل من أشكال العبادة».
• «الرئيس أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أننا مصممون على تفكيك (داعش) على نحو أكثر سرعة».
• أرجوكم لا تتقبلوا رؤية القائلين بأنه ينبغي تقسيم الشرق الأوسط على أسس طائفية».
• «علينا جميعًا أن نبذل المزيد، لأن الناس بدأوا ببساطة يفقدون الإيمان بأي من زعمائهم».
بدأوا فحسب؟!
ليست يسيرة المهمة التي أوكلها مؤتمر فيينا 2 الإقليمي الدولي حول سورية إلى الأردن، بتنسيق تصنيف الجهات الإرهابية على الأرض السورية، وذلك لأسباب عدة. أولها أن الدول المعنية بالأزمة تتباعد تصوراتها حول هذا التصنيف، وهي دول يرتبط معها الأردن بعلاقات مختلفة. ولن ترضى هذه الدول مجتمعةً بقائمة واحدة بعينها، ولو كان ذلك ممكناً، لما تباعدت في الأصل المواقف والرؤى الإقليمية والدولية حيال الأزمة، وإزاء كل من النظام وقوى الثورة والمعارضة والأطراف الجهادية. ثاني الأسباب، أن موسكو هي التي اقترحت الأردن طرفاً منسقاً، وهو ما أثار ارتياحاً في عمّان التي اعتبرت اختيارها تزكيةً لوزنها الإقليمي المهم، على أن موسكو، كما هو معلوم، طرف في الأزمة، وشريك أساسي في محورٍ، يضمها مع طهران ومع الحكم في دمشق، وإلى حد كبير مع بغداد. وبينما ترتبط عمّان بعلاقات متنامية مع موسكو، إلا أنها ليست جزءاً من هذا المحور الذي تسبب عملياً في أعباء جسيمة على الاقتصاد الأردني، جرّاء موجة اللجوء السوري الكثيفة إلى أراضيه، والضعف الذي اعترى التبادل التجاري عبر الحدود السورية الأردنية منذ نحو خمسين شهراً مضت.
في واقع الأمر، أريد بالمقترح الروسي الذي قوبل باستجابة كبيرة في فيينا، تسمية الأردن طرفاً منسقاً، تعزيز علاقات موسكو بعمّان، وجذبها ما أمكن إلى محور موسكو طهران. وفي هذا الخصوص، افتتحت موسكو مركزاً إعلامياً لها في الأردن (يرث المركز الثقافي السوفييتي الذي عمل عقوداً)، وقد نجم عن ذلك موقف أردني، بدأ يتعامل مع التدخل العسكري الروسي أمراً واقعاً، وكما دلت على ذلك تصريحات أردنية على أعلى مستوى. فيما ذهبت تصريحات روسية إلى أبعد من هذا، بالقول بتنسيق عسكري مع الأردن، بخصوص جبهة جنوب سورية المحاذية للأردن ضد الجماعات الإرهابية بمختلف ألوانها. تشدد موسكو على توسيع البيكار (الفرجار) في تصنيفها الإرهاب، بحيث لا يقتصر على داعش، خلافا للموقف الإقليمي والدولي الذي يضع داعش، وإلى حد أقل، جبهة النصرة في مركز الإرهاب، ومن أجل أن تسوغ موسكو تركيزها على قصف منظمات مسلحة معارضةٍ، بصورةٍ فاقت بأضعاف قصفها داعش. ولا يتوقف الأمر عند هذا، فبينما عكفت الجهات الأمنية المختصة على المهمة الموكلة إليها، حتى انبرت موسكو لإصدار ما يشبه إيحاءات توجيهية، من قبيل القول إن حزب الله خارج تصنيف الجماعات الإرهابية في سورية.
ليس الأردن جزءاً من المحور الروسي الإيراني، ولا هو كذلك جزء مما يسمى المحور التركي
"في الأردن، جماعات جهادية متشددة، انزلق بعضها إلى الإرهاب، وعصم بعضها الآخر نفسه عن هذا المنزلق"
السعودي القطري، ولعله بات قريباً من مواقف دول كمصر ودولة الإمارات، من دون أن يشكل محوراً مع الدولتين بخصوص الأزمة السورية. نجح في البقاء خارج المحاور، واعتمد سياسة تقوم على ممارسة ضغوط من أجل التوصل إلى حل سياسي جدّي، بيد أن السنوات الأربع الماضية شهدت أن الأردن كان على الدوام جزءاً من مجموعة أصدقاء سورية، وخلال سنتي 2011 و2012، اختار عسكريون سوريون منشقون كثيرون اللجوء إلى الأردن، وفي أحيان كثيرة، لأسباب لوجستية تتعلق بقرب الحدود الأردنية من مدن سورية.
مخيما الزعتري والأزرق شاهدان على تأثر الأردن بالأزمة السورية، حيث قذف النظام في دمشق بشطر كبير من شعبه خارج الحدود، وكانت مساهمة ذلك النظام الوحيدة في التعامل مع هذه المشكلة غير المسبوقة عربياً، هي الطلب من الدول المجاورة عدم إقامة مخيمات للاجئين السوريين! وقد استجابت الحكومة اللبنانية لذلك الطلب، تحت ضغوط شرسة من حزب الله، وترك اللاجئون يهيمون على وجوههم، وينامون في المدارس والحدائق والشوارع وفي العراء، بحجة عدم تسييس المسألة!. أما الأردن، فاتخذ الخطوة المنطقية التي تنسجم مع القانون الإنساني الدولي، ومع دواعي الأخوة العربية، بتأمين إقامتهم في مخيمات، وضمان الحد الأدنى من احتياجاتهم الإنسانية، وهو ما أوضحه الناطق باسم الحكومة الأردنية، محمد المومني، في محاضرة له، أخيراً.
قد يثير تصنيف الجماعات والمنظمات في سورية تحدياً أمنياً للأردن من تلك الجماعات التي سوف تندرج في التصنيف، وهذا وجه الصعوبة الثالث.
ولمواجهة هذه الصعوبات وغيرها، أمام عمّان فرصة التشديد على أن دورها تنسيقي بالفعل بين خيارات الأطراف الإقليمية والدولية وتصنيفاتها، وأن أية قائمة قد يتم التوصل إليها هي حصيلة توافقات تصنيفية من دول عديدة في الإقليم وخارجه، وأن القائمة ليست بالتالي "قائمة أردنية"، وإن كان ثمة جهد أردني ملموس في تنسيقها. يمكن أيضا التمييز في القائمة المزمعة بين ما هو متشدّد وما هو إرهابي، في التصنيف. فثمة أطراف متشددة يصعب حقاً انضواؤها في حل سياسي، أو انخراطها في مفاوضات، لكن سجلها يشهد أنها لا تستهدف المدنيين، ولا أتباع الديانات الأخرى، ونشاطها عسكري محض على جبهات القتال، خلافاً للإرهابيين الموصوفين الذين يستهدفون المدنيين، والأعراق وأتباع الديانات. فالمتشدد ليس إرهابياً بالضرورة، ولا بالتعريف. والتطرّف الأيديولوجي ظاهرة قائمة في سائر المجتمعات، بما فيها المتقدمة ومُعترفٌ بها! ووصل بعض ممثليها إلى مقاعد برلمانات أوروبية. في الأردن، جماعات جهادية متشددة، انزلق بعضها إلى الإرهاب، وعصم بعضها الآخر نفسه عن هذا المنزلق.
يبقى أن وضع قائمة كهذه ليس بديلاً عن حل سياسي شامل وجدّي للأزمة السورية. هناك من يريدون اختزال الأزمة على هذا النحو المبتسر، بل والملتوي، من أجل مواصلة الحرب وتسويغها. وبيان فييينا 2 أوسع من ذلك بكثير، ويقوم أساساً على وقف إطلاق نار برعاية دولية، ومفاوضات سورية بين النظام والمعارضة، تستند إلى بيان جنيف، وفق جدول زمني وبرعاية الأمم المتحدة، ويلي ذلك تشكيل حكومة انتقالية وإعداد دستور جديد لدولة مدنية ديمقراطية، ويلي ذلك إجراء انتخابات.
دأب الأردن، في جميع المناسبات، وعلى سائر المنابر، على تأكيد التزامه بحل سياسي. الآن، تبدو الظروف سانحة مبدئياً لشق الطريق نحو هذا الحل الذي يستجيب لتطلعات السوريين. التقدم على هذا الطريق وفق مرجعية واضحة وجدول زمني محدد، يوفر بيئة لوضع حد للعنف المستشري، ويفرز الراغبين في الحل عن أولئك الذين يستثمرون في العنف، ويمارسونه بدون توقف وبكل الأسلحة، وعلى أوسع نطاق، وبغير قيود وضوابط من "أخلاقيات الحرب"، والضحية هو الشعب السوري المثخن بالجراح، والدول المجاورة التي تنوء بالأعباء، ومنها على الخصوص الأردن.