مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢١ نوفمبر ٢٠١٥
سورية... من جنيف إلى فيينا

 بعد اجتماعات فيينا وغزو روسيا بلادنا، صار من الضروري أن نطرح على أنفسنا أسئلة، منها: هل خرجت قضيتنا السورية من أيدينا إلى الحد الذي يضيّع مكاسب الجيش الحر، ويضعنا على الطريق إلى ما بعد الحل السياسي العادل الذي نريده؟ وهل وجدت الدولتان الكبريان، أميركا وروسيا، مدخلا إلى حل يختلف عن مدخل وثيقة جنيف واحد، وهو بالاسم "الهيئة الحاكمة الانتقالية"، وعن آليات ونتائج الحل الديمقراطي الذي تقترحه؟ وهل تخلت الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي عمّا أقرته في جنيف في يونيو/حزيران من عام 2012، لصالح شيء مختلف، هو "توافقات فيينا وتوصياتها"؟. ما معنى دعوة وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، إلى تصنيف المعارضة لتحديد الإرهابية منها، والدعوة التي وجهتها بلاده إلى لقاء معارض جديد في موسكو؟. وهل يلتقي مع نهج موسكو إعلان واشنطن جهلها بهوية المعارضة التي ستحضر مفاوضات السلام مع النظام؟. أخيراً، هل أخطأ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بامتناعه عن المشاركة في خطة ولجان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، وبتمسكه بوثيقة جنيف وآلية قرار مجلس الأمن الدولي 2118 للحل السياسي؟
بداية: توافق المجتمعون في فيينا على نقاط تسع، اعتبروها نوعاً من إطار مبادئ، يعني قبوله من الطرفين السوريين المتصارعين تأسيس أرضية مشتركة بينهما، يمهد تطبيقها لإيجاد أجواء من الثقة، يستحيل تفاهمهما على الحل بدونها. ومع أن "فيينا" تعتبر وثيقة "جنيف 1" وقرار مجلس الأمن رقم 21118 مرجعية للتفاوض، وتالياً للحل السياسي، فإنها لا تورد، تصريحاً أو تلميحاً، مما يشير إلى أن "الهيئة الحاكمة الانتقالية" أداة يبدأ الحل بتراضي الطرفين على تشكيلها، مهمتها نقل سورية إلى الديمقراطية بضمانة الخمسة الكبار. بعد نقاطها التسع، تقرر تفاهمات فيينا تكليف الأمم المتحدة (دي ميستورا) بجمع ممثلي الطرفين، الحكومة والمعارضة، في عملية سياسية، تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، يعقب تشكيلها (من بشار الأسد بطبيعة الحال) وضع دستور جديد، وانتخابات تتم تحت إشراف الأمم المتحدة وبموافقة الحكومة، وبمشاركة جميع السوريين، بمن في ذلك "المغتربون"، حسب نص فيينا.

علمانية أم ديمقراطية؟
سأتجاوز الدولة العلمانية التي يقرّر النص إقامتها في سورية بعد الحل، ولن أتوقف عند الفارق الكبير بينها وبين الدولة الديمقراطية التي طالب بها السوريون، لأقول إن إجرائيات مسار فيينا التطبيقية، بمسمياتها المختلفة والمختصرة، سبق لها أن وردت بتفصيل ودقة أكبر في مذكرة حول مستلزمات الحل ومراحله، قدمها وفد "الائتلاف" إلى المبعوث الأممي السابق، الأخضر الإبراهيمي، في مفاوضات مؤتمر جنيف الثاني، غير أن النظام رفضها جملة وتفصيلاً، وأصر على أن الحل يكمن في محاربة الإرهاب، ممثلا بالجيش الحر والمعارضة الديمقراطية بوصفهما كيانه الرئيسي الذي تستهدفه بتركيز خاص هذه الأيام غارات طيران روسيا الحربي، وتصنيفات لافروف للإرهابيين في سورية. هذه نقطة لا بد من الوقوف عندها، لوضع أيدينا
" لايجوز أن ننسى حقيقة أن جنيف كان سوري الطابع، عطلته الخلافات الدولية، وفيينا دولي الطابع، ومن المرجح أن تعطله هو أيضاً"
على ما هو قائم من فروق بين مبادئ فيينا وما تعتمده المعارضة من رؤية للحل ومبادئه، وما يمكن أن يتمخض في الواقع عن هذه الفروق، وإلى أين يمكن أن تقود بنواقصها، وما يراد بها، ليس فقط بالنسبة لبشار الأسد ونظامه، بل كذلك بالنسبة إلى الانزياح الواضح عن وثيقة جنيف، الذي يبدو في الظاهر محدوداً ومقبولاً، لكنه قد يتحول إلى هوة سحيقة في البحث عن أشكاله التطبيقية التي ستتعين بموازين قوى، دخلت روسيا بكامل قوتها إليها، يسبقها إعلان عن تصميمها على تغييرها. ومع أننا لا نستطيع تحديد الملامح الواقعية لهذا التغيير، فإن ملامحه تبدو جلية في أهداف روسيا السورية، القائمة في حدها الأدنى على أوضاع تمكن النظام من احتواء المعارضة، وفي حدها الأعلى، على شطب الجيش الحر والمعارضة السياسية المتحالفة معه، من معادلات القوة والسياسة. وفي الحالتين، لا "جنيف"، ولا استجابة لما أعطاه لشعب سورية من حرية ونظام ديمقراطي، بل هجانة سياسية، تضع قابليها من المعارضين في حضن استبداد متجدّد، دمر مجتمعنا، عدوه الرئيسي، وقتل قطاعات واسعة من شعبنا أو طردها من وطنها، سيحتوي ذلك الصنف من المعارضين الذين يقبلون القراءة الروسية لوثيقة فيينا التي ستكون أسوأ بكثير من نصوصه المعلنة، فلدى الروس قراءة خاصة للحل، دولياً كان أم محلياً، هي التي أفشلت جنيف وستفشل فيينا، في حال خالفت ما يريدونه لسورية، ومن تسويات مع الأميركان والأوروبيين على المستوى الدولي، مما لا يرتبط بعلاقة الشعب السوري مع النظام الأسدي، وإنما يتفرع عن مصالح ومشكلات كونية متنوعة جداً ومزمنة، متنازع عليها بقوة مع واشنطن والدول الغربية، لكن قبول الحل السياسي ونمطه يتوقف على معالجتها بما يلبي مصالح روسيا من جهة، وأطراف متصارعة معها، تستطيع بدورها تخريب الحل، بعضها دولي أو إقليمي وبعضها الآخر عربي، فإن لم تجد هذه العقد المتشابكة جداً من المصالح المتضاربة والإرادات المتصارعة حلاً توافقياً مقبولاً من الجميع، فشل حل فيينا السياسي، أو تأجل الحل عامة، أو غدا تحقيقه ضرباً من الاستحالة، واستمر الصراع في سورية، وتم إلقاء وثيقة فيينا إلى سلة المهملات، وأخلت مكانها لوثيقة أخرى، تعبر عن موازين القوى التي ستكون قد شرعت تحكم العلاقات بين المتصارعين الكبار، دولياً وإقليمياً، كما يتم، منذ نيف وشهر، رمي أجزاء مهمة ورئيسية من وثيقة جنيف إلى هذه السلة بفضل وثيقة فيينا.

الفشل والمعوقات
يضع ما سبق يدنا على نقطة مهمة، تتعلق بمعوقات، يرجح أن يفضي تفعيلها المحتمل في أي وقت إلى فشل نمط الحل الذي اقترحته وثيقة فيينا، ولها مصادر ثلاثة، أتحدث عنها فيما بعد، بعد التوقف قليلاً عند النقطة التالية: بينما انصب جنيف بوثيقته، وباللقاء الذي ترتب عليه في فبراير/شباط من عام 2013 على الشأن السوري، على علاقة الشعب بالنظام والبديل المقترح بعد رحيل الأسد، المؤكد بقرار من مجلس الأمن الدولي يفسر معنى "الصلاحيات التنفيذية الكاملة"، يقول إنها صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء السوريين التي ستنتقل حتماً إلى "الهيئة الحاكمة الانتقالية"، جاعلة وجودهما على رأس السلطة نافلاً، ولا لزوم له، بمجرد قيامها. هذا التركيز على القضية السورية دون غيرها من قضايا ومشكلات دولية وإقليمية وعربية متداخلة معها، هو الذي دفع كتلة "الائتلاف" الرئيسية إلى اتخاذ قرارها بالذهاب إلى جنيف 2، الذي أحبطه الروس، بحجة أن وثيقته أنتجتها أوضاع ميدانية، لكنها تغيرت، وأن الحل يجب أن ينطلق من الوقائع، وليس من الوثائق. اليوم، ومع فيينا ووثيقته، تدور الأمور، بدرجة رئيسية، حول المصالح والصراعات الدولية التي تترجم إلى خلافات شديدة حول الحل المقترح للمعضلة السورية، وتأخذ صورة صراع حول تقاسم البلد والمصالح، كغنائم متنازع عليها. هذا الفرق مهم إلى درجة تحتم مطالبة "الائتلاف" بتوضيح القراءات المتباينة التي أملت وثيقة فيينا، وترجمتها المحتملة في المفاوضات بيننا وبين النظام، بالنظر إلى أن هذه القراءات هي التي ستترجم مصالحها ومطالبها، التي يجب أن نعرفها بدقة، وأن يكون لنا دور في جعل أصحابها يترجمونها بطرق تخدم الحل الذي يريده شعبنا.
هذا عمل علينا إنجازه عبر اتصالات نجريها مع جميع الأطراف، وقراءات صحيحة لمواقفها،
"واشنطن ليست "ابنة عمنا الربعي"، ومصالحها لا تتفق مع ما نريده لبلادنا، وهي تتلاعب بنا منذ نيفٍ وأربعة أعوام، ويمكن أن تضحي بنا في أية صفقة دولية؟ "
أي لمصالحها، وإلا مرر خصومنا ما يريدونه، ونحن في غفلة من أمرنا. في هذا السياق، لا يجوز أن ننسى حقيقة أن جنيف كان سوري الطابع، عطلته الخلافات الدولية، وفيينا دولي الطابع، ومن المرجح أن تعطله هو أيضاً، إلا إذا أجبرنا الروس والإيرانيين، بدعم نوعي وكثيف من إخوتنا العرب وأصدقائنا الإقليميين والدوليين، على تقديم قراءة لمصالحهم، تلبي مطالبنا، وهذا احتمال ضعيف بالنسبة لروسيا، ومستحيل بالنسبة لإيران. هل نبادر إلى تركيز عملنا على الوصول إلى مثل هذا الدعم الذي سيساعدنا على تحقيق أهدافنا، من دون إغلاق باب الحوار مع موسكو، آخذين في الاعتبار أن واشنطن ليست "ابنة عمنا الربعي"، ومصالحها لا تتفق مع ما نريده لبلادنا، وأنها تتلاعب بنا منذ نيفٍ وأربعة أعوام، ويمكن أن تضحي بنا في أية صفقة دولية؟
أما المعوقات فتنبع جميعها من أولوية المشكلات الدولية على المشكلة السورية، مشكلتنا كشعب مع نظامه:
يخضع الحل في سورية لصراعات وخلافات التيارات والأجنحة المنضوية في السلطة الإيرانية، التي ترى جميعها في تحقيق مطالب الشعب السوري تهديداً استراتيجيا لمصالحها، ولمكانتها في بلادنا، التابعة اليوم لها، وتريد لأي حل سياسي أن يبقيها تابعة لها. بقول آخر: يلعب الموقف الإيراني من المسألة السورية دوراً كبيراً في توحيد تيارات السلطة، ويرجع جزء من تشدد إيران حيالنا إلى خوفها من انفراط عقد نظامها، تحت وطأة ما سينشب بين تياراته من صراعات، في حال وافقت حتى على حل وسط سوري. أرجح أن تفعل إيران المستحيل لفرض حلها، العسكري، ولتنفيذ خططها السورية التي تعتبر العمود الفقري لحضورها ونفوذها، في المشرق خصوصاً، وبلادنا العربية عموماً، والمرتكز الذي ستواصل منه معركتها لإخضاع الخليج وإكمال سيطرتها على الوطن العربي.
ويخضع الحل في سورية لمصالح روسيا وصراعاتها مع أميركا والدول الغربية، وهي معقدة إلى أبعد الحدود، ومن المستبعد أن تتنازل الدول الغربية فيها، بالنظر إلى ضعف روسيا وارتفاع سقف مطالبها، وقدرة الغرب على إنهاكها وزيادة تورطها المكلف في سورية. ما لم تتنازل الدول الغربية، فإن روسيا ستربط الحل في سورية بها أكثر فأكثر، مما سيدفع الغرب الى التشدد، إلا إذا قررت قبول حل يراعي وضعها الصعب، يفتح الباب أمام تفاهم لاحق حول خلافاتها مع بقية العالم، وهي كثيرة، وهذا مستبعد على الأرجح، لأنه سيفقدها الورقة السورية، ولأن بوتين يمارس سياسات مغامرة، يريد بها الظهور بمظهر الطرف القوي القادر على فرض ما يريده، بينما سيرى في أية خطوة تصالحية يقوم بها في سورية تنازلاً مجانياً، ولا مبرر له، خصوصاً وأن الحل سيأتي في هذه الحال بغير قراءته.

إرهاب النظام الأسدي
ويخضع الحل في سورية للبلبلة السياسية والعسكرية التي ترتبت على قرارت أوباما إعطاء الحرب ضد الإرهاب الأولوية على إزالة جذره الحقيقي: نظام الاستبداد الأسدي في سورية،
"لا بد من جعل تغيير النظام الأسدي وإسقاط الأسد أولوية دولية، وإلا ستفشل الحرب ضد الإرهاب"
والنظام المذهبي /الطائفي في العراق، وحزب الله، التابع لقلعة الاستبداد الأخطر في المنطقة والعالم، ايران الملالي. واليوم، يدخل الروس على الخط، ويسعّرون هوس الإرهاب على المستوى الدولي، وفي علاقاتهم مع المسألة السورية، ليس لأنهم ضده، بل لدفع العالم إلى قبول قراءتهم حلاً سياسياً، يبقي على جذره الأسدي/ الاستبدادي في بلادنا ومنطقتنا، ويجدده، بحيث يعزّز معركته، ومعركة إيران ضد بلدان الخليج العربي. لا بد من جعل تغيير النظام الأسدي وإسقاط الأسد أولوية دولية، وإلا ستفشل الحرب ضد الإرهاب، كما فشلت حرب أميركا خلال العام الماضي، على الرغم من أنها ألقت طيرانها إلى المعركة، وتحالفت مع حزب العمال الكردستاني وأتباعه في سورية، وسلحتهم ومولتهم. ومع ذلك، فإن قتالها، بمعونة هؤلاء، ضد الإرهاب قد يستمر فترة طويلة جداً، من دون القضاء عليه. لا بد من نهج يقوم على فضح العلاقة بين النظام الأسدي والإرهاب، وتحديد صحيح لأولويات المعركة ضدهما، ينطلق من كون الأسدية هي الأصل والإرهاب هو الفرع، ويدفع دولياً وإقليمياً وعربياً لتطبيق ما قاله الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عقب لقائه نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، حول استحالة هزيمة الإرهاب، ما دام بشار الأسد في الحكم، وما دامت جرائمه هي التي تدفع آلاف السوريين إلى الالتحاق بـ "داعش" أو التعاطف معها. من دون دمج المعركة ضد الإرهاب بالمعركة ضد الأسد وبالعكس، لن يكون هناك حل سياسي قادر على دحر الأسد وعصاباته وكسر شوكة الإرهاب، الذي تغذّى من حلوله الأمنية أمس، ويتغذّى اليوم من غزو روسيا بلادنا، وقتلها شعبنا، وشطب الجيش الحر والقوى الديمقراطية من معادلات الحل فيها، لاعتقادها أنها ستجبر بذلك العالم على قبول الأسد، بعجره وبجره، بوصفه الخيار الوحيد المتاح.
وفي نهاية كل أمر، سيتوقف تحقيق الحل العادل على اقتناع روسيا بأن معركتها خاسرة حتماً، وبأنها لن تستطيع إنقاذ الأسد ونظامه، وأن عليها البحث عن حل يلبي مصالحها، ليس لأنه ينقذ الأسد، بل لأنه يتفق مع ما يطالب به الشعب السوري، صديقها التاريخي الذي باعته لمجرم يقتله بثلاثين من الفضة، في صفقة هي الأسوأ في تاريخ روسيا الحافل بالصفقات السيئة.

اقرأ المزيد
٢٠ نوفمبر ٢٠١٥
إهمال النفايات الطبية يهدد سكان الشمال السوري بالأوبئة والأمراض

يشكل إهمال النفايات الطبية وخلطها بالنفايات المنزلية العضوية في مكبات القمامة خطراً كبيراً على عمال النظافة والسكان نتيجة احتواء النفايات الطبية على مواد كيميائية سامة وتبدو جهود التصدي لمخاطر هذه النفايات قاصرة في ظل انتشار أمراض وأوبئة يعزي البعض سبب انتشارها إلى إهمال إتلاف النفايات الطبية بصورة صحيحة.

إدلب – عبد الغني العريان

بالرغم من أن معايير السلامة تقضي بإتلاف النفايات الطبية والصيدلانية بطرق وأماكن خاصة ما تزال هذه النفايات ترمى في مكبات النفايات العادية بريف إدلب الأمر الذي يشكل خطراًعلى البيئة وعلى عمال النظافة أو من قد تكون له صلة مباشرة بها، ذلك أن وجودها في المكبات العادية قد يتسبب بالإصابة بأمراض مزمنة وأوبئة معدية،كالتهابات الكبد الفيروسية والعدوى المعوية وأمراض الجهاز التنفسي وفطريات الالتهابات الجلدية والتسمم وأمراض الدم.

خطر محدق بسبب النفايات الطبية

معظم النفايات الطبية توضع في أكياس القمامة وترمى في المكابات العادية ما يشكل خطرا على صحة السكان

معظم النفايات الطبية توضع في أكياس القمامة وترمى في المكابات العادية ما يشكل خطرا على صحة السكان

الطبيب طه الغريبي أحد أطباء المشافي الميدانية في ريف ادلب يتحدث للغربال عن النفايات الطبية قائلاً: “على الرغم من القفزات الهامة في عالم الطب والتي كان لها أثر إيجابي في المحافظة على صحة الإنسان ومحاربة الأمراض المختلفة، إلا أن هناك جانب سلبي للتقدم في الطب وإجراءاته وهو تلوث البيئة بمختلف الملوثات الطبية التي قد تؤدي بدورها إلى إصابة الإنسان بأضرار خطيرة ومميتة في أغلب الأحيان، وتتنوع المخلفات الطبية بشكل كبير لتشمل الإبر والحُقن والقطن والشاش وبقايا العينات الملوثة بسوائل ودماء المرضى ومخلفات صيدلانية وكيميائية وأحياناً مخلفات مشعة ومخلفات العمليات من أعضاء بشرية وغيرها، ولا يخفى على أحد أيضاً أن تلك المخلفات مصدرها المريض، لذا فهي تحتوي على مسببات المرض من بكتيريا وفيروسات وفطريات وغيرها، دفع وجود هذا الكم من المخلفات الطبية العديد من المنظمات لطبية خلال الحرب في سوريا إلى الاهتمام بهذه المشكلة، بعدما أثبتت بعض الدراسات والبحوث مسؤولية هذا النوع من المخلفات عن إحداث أمراض وأوبئة فتاكة وسريعة الانتشار”.

ويضيف الطبيب الغريبي قائلاً: “يمكننا تعريف النفايات الطبية بأنها كل المواد المستخدمة للتشخيص أو للعناية بالمرض ىِداخل المرفق الصحي أو خارجه، وغالباً ما يتم استثناء الأطعمة والأوراق التي يستهلكها المرضى خلال فترات العناية بهم من المخلفات الطبية”.

وتصنف النفايات الطبية على النحو التالي:

أولاً:نفايات عادية:

وهي النفايات التي لا تشكل أي خطورة على صحة الإنسان، مثل الأوراق والزجاجات الفارغة المحتوية على مواد غير خطرة، وبعض المواد البلاستيكية والعلب الفارغة وبعض بقايا الأدوية العادية غير الخطرة وبقايا المطهرات مثلاً، وكلها نفايات عادية وغير سامة أو ضارة وهذه لا أثر سلبي منها على البيئة.

ثانياً: نفايات خطرة:

وهي بدورها تنقسم إلى النفايات الباثولوجية وهي خطرة جداً حيث تتضمن بقايا غرف العمليات الجراحية، وتشمل أعضاء بشرية مستأصلة تحوي المرض طبعاً وسوائل الجسم من أثر العمليات، والدم الناتج عن العمليات أيضاً والذي قد يحتوي على الكثير من الأمراض، ويشمل ذلك أيضاً بقايا المختبرات من سوائل التحليلات وبقايا العينات التي تستخدم في التحاليل بالإضافة إلى نتائج التفاعلات الكيميائية التي تلقى بعد معرفة نتائج التحاليل وكلها مخلفات غاية في الخطورة، ولايجب أن تعامل مثل هذه النفايات معاملة النفايات العادية بل يجب أن توضع في علب خاصة محكمة الغلق وتعامل معاملة خاصة للتخلص منها ولا يكون ذلك بإلقائها مع النفايات العادية حيث يشكل ذلك وسطاً جيداً لنمو الجراثيم أو يكون بمقام مزرعة خاصة لتكاثرها ومن ثم نشر الأمراض المختلفة إلى العالم الخارجي.

وتشمل النفايات الخطرة أيضا على النفايات الملوثة وهي تلك النفايات الناتجة عن مستلزمات الجراحة مثلا لضمادات الملوثة التي استهلكت ويجب التخلص منها، والملابس التابعة للمرضى والتي يتم ارتداؤها في غرف العمليات وقفازات الأطباء التي يستخدمونها في الجراحة ثم تلقى بعد ذلك والقطن الملوث والإبر البلاستيكية والحقن الشرجية وغيرها من النفايات الملوثة بحد ذاتها والتي قد تشكل مصدراً للعدوى في حالة تعرض الإنسان العادي إليها بشكل أو بآخر،وبهذا فهي مصدر لخطورة كبيرة إذا لم يتم التعامل معها بحرص شديد.

كما تشمل النفايات الخطرة أيضاً النفايات المشعة وهي تتضمن بقايا غرف الأشعة، والمختبرات المتخصصة، والمحاليل المشعة المستخدمة في التحاليل الطبية كاليود المشع وغيره، وهذه البقايا قد تكون مواد مشعة ذات نصف عمر قصير وقد تكون ذات نصف عمرطويل، وهي تكون ذات خطورة بالغة على صحة الإنسان وعلى البيئة المحيطة به.

غياب الاهتمام يفاقم المشكلة  ‏

الصيدلاني علي الأحمد من ريف إدلب عبّر للغربال عن أمله في قيام المنظمات الطبية والبلديات والمجالس المحلية بريف إدلب بإحداث وحدات لمعالجة النفايات الطبية على مستوى كلمنطقة من مناطق ريف ادلب بأسرع وقت وذلك من أجل تفادي أخطار التلوث الكيميائي الذي يشكله رمي النفايات الطبية في مكبات القمامة العادية، مؤكداً للغربال خطورة ذلك على نوعية الهواء والماء والتربة. ‏

‏وينتقد كثيرون ظاهرة رمي النفايات الطبية من قبل العيادات والمشافي الميدانية التي تنتشر في ريف ادلب في أماكن رمي القمامة العادية، يقول “علي” وهو أحد المدنيين في مدينة سلقين بريف ادلب للغربال: “يومياً نشاهد بالعين المجردة عشرات العلب الطبية الفارغة ترمى من قبل المشافي الميدانية ومراكز التحاليل الطبية في أماكن رمي القمامة العادية، وصل الأمر أخيراً إلى انبعاث رائحة الأدوية الطبية من حاويات القمامة الموضوعة جانب تلك المشافي والمراكز في ريف ادلب كاملاً، ومع انتشار الأوبئة والأمراض فنحن نحمّل المسؤولية للمجالس المحلية والمنظمات الطبية التي تعمل بالداخل السوري والتي تنشط أكثرها بريف إدلب‏‏‏. ‏‏‏

جهود قاصرة للحد من خطر النفايات الطبية

حراق صغير لحرق إبر الحقن الطبية

حراق صغير لحرق إبر الحقن الطبية

تحدث للغربال الطبيب “أبو محمد” وهو مدير أحد المشافي الميدانية في ريف إدلب، طالباً عدم ذكر اسمه الكامل، عن طرق الدفن الصحيحة للنفايات الصلبة وعن تقصير المنظمات الطبية في هذا المجال قائلاً: من المفروض أن تدفن النفايات الطبية الصلبة مع النفايات الأخرى بعد معالجتها بالتقنيات الحديثة مثل الأوتوكليف والميكرويف أو المحارق ذات الجودة العالية وبدرجة حرارة كبيرة تصل إلى 1200 درجة، وذلك من قبل أشخاص مدربين وعلى كفاءة عالية، وتعتبر الطريقة الأفضل لمعالجة النفايات الطبية والتخلص منها هي معالجتها عن طريق الأوتوكليف لأن الميكرويف يقوم بالتسخين فقط ولدرجة أقل من درجة حرارة التعقيم ذلك أن درجة حرارة التعقيم لا تقل عن 138 درجة مئوية ويمكن أن تتم معالجة النفايات الطبية عن طريق المحارق وهي غير متواجدة في المناطق التي يسيطر عليها الثوار بالشمال السوري.

ويوضح “أبو محمد” أنه يوجد جهاز محرقة للنفايات الطبية اسمه Ecodas من إنتاج شركة فرنسية يعالج النفايات الطبية عن طريق الفرم والبخار تحت درجة حرارة 138 درجةوضغط 3,8 بار، وقد تم عرض مشروع اقتناء هذا الجهاز على أكثر من منظمة طبية تعمل في ريف ادلب  لكنهم رفضوا تزويدنا به دون توضيح سبب الرفض مكتفين بتقديم حارق صغير لحرق “الإبر” فقط، أما النفايات الأخرى فنحن نتعامل معها بطرق غير آمنة عن طريق وضعها بأكياس القمامة ورميها في أحد المكبات الغير منظمة والغير مدروسة ويوجد مشافي ميدانية وعيادات طبية ترميها مع القمامة المنزلية ما يرفع احتمال انتشار أوبئة وأمراض نحن بغنى عنها.

وقد أوضح مسؤول المكتب الخدمي سابقاً في منظمة “ميديكال ريليف” الطبية “بدر غزال” للغربال: لقد نفذنا مشروع مكب مخدم للنفايات الطبية خاص في مدينة سلقين بالقرب من مشفى سلقين الميداني من أجل ردم وحرق النفايات الطبية الصلبة وعيرها من النفايات الطبية وقد نفذ المشروع منذ سنة ونصف تقريباً ويتألف المكب المخدم من ثلاثة أقسام.
القسم الأول هو عبارة عن حفرة مربعة من الإسمنت يوجد فيها حراق تحرق كل ما في داخلها وتحولها الى رماد وهي مخصصة للأطراف المبتورة أو الاشلاء الناتجة عن القصف أو عن الولادة “المشيمة”. أما  القسم الثاني فهو حفرة مربعة تحوي على إسمنت مكثف وهي مخصصة للسوائل أي لدماء المرضى الزائدة وللسوائل التي تخرجها أجهزة غسيل الكلى، والقسم الثالث هو حفرة مستطيلة تحوي على الرمل والإسمنت مخصصة لدفن النفايات الصلبة أي الإبر والمشارط والشاش والقطن ويتم حرقها بين الحين والآخر
.

وقد افاد أحد سكان مدينة سلقين رافضاً ذكر اسمه للغربال: منذ سنة تقريبا في فصل الشتاء حين هطلت الأمطار بشكل كبير انتشر وباء الحمى التيفية واليرقان “أبوصفار” بشكل غريب بمدينة سلقين وبالأخص بين الأطفال وشك السكان حينها أن تسرب مياه الأمطار لمكب النفايات الطبية هو ما تسبب بانتشار هذه الأمراض، لا يوجد أي تفسير آخر لانتشار هذه الأمراض سوى هذا المكب الذي كان من المفترض أن يكون محمياً من تسرب مياه الامطار الغزيرة إليه لتصطحب معها المواد العضوية لتتحلل في التربة، لكن مع ذلكهذه مجرد شكوك ولا يوجد شيء مؤكد إلى الأن ونحن في مدينة سلقين نطالب أي جهة مختصة من منظمات طبية وغيرها بأخذ عينات في التربة وفحصها, فلدينا خوف كبير من تكرار الأمر في الشتاء القادم.

ويذكر أن أعضاء المكتب الطبي في المجلس المحلي بمدينة سلقين طلبوا بعد إنشاء المكب المخدم من أصحاب العيادات الصحية ومراكز التحليل رمي النفايات الطبية والصلبة ضمن هذا المكب، لكن أحداً منهم لم يلتزم برمي النفايات الطبية ضمن المكب باستثناء المشفى الميداني والمستوصف الطبي في مدينة سلقين.
 

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٥
رقص دولي على قبور السوريين !

من نصدق باراك أوباما المخاتل عندما يقول إنه حصل " تقدم متواضع" في الإجتماع الوزاري الخاص بسوريا في فيينا، تمثل بإتفاق المشاركين على خريطة طريق للعملية الإنتقالية في سوريا، أم نصدق وزير خارجيته جون كيري الواهم، الذي لم يتردد أمس في الحديث عن "عملية إنتقال سياسي كبير [كبير؟] في غضون أسابيع بين النظام والمعارضة، وذلك أثر التسوية الدولية التي تم التوصل اليها في ختام مفاوضات فيينا"؟

قياساً بالوقائع الواضحة ليس علينا ان نصدّق شيئاً من هذه الترهات، فإذا كان كيري يزعم "اننا على مسافة أسابيع من إحتمال إنتقال سياسي ونحن نواصل الضغط في هذه العملية"، فليس علينا سوى ان نتأمل الروزنامة التي حددها لهذا الموضوع، لكي ندرك ان العملية بعيدة جداً وقد يصبح اوباما وكيري خارج السلطة وربما خارج الذاكرة، قبل موافقة الروس ومن بعدهم الإيرانيون على عملية انتقال سياسي تنهي سلطة بشار الاسد على ما تقتضيه العناصر الأولية لأي حل.
يتحدث كيري عن عقد إجتماع بين النظام وأعضاء المعارضة السورية قبل نهاية الشهر المقبل، ولكن من الذي سيحدد أعضاء وعناصر هذه المعارضة، هل يحددها سيرغي لافروف الذي يحمل قائمة تقتصر على ٣٨ أسماً من أولئك الذين يسمّون معارضة الداخل التي تنام في أحضان النظام، وماذا نفعل بمعارضات الخارج؟
ويتحدث كيري عن الحاجة الى وقف لإطلاق النار، ولكن من سيضمن التوصل الى وقف اطلاق النار أو الى إلحاق الهزيمة بالإرهابيين من الآن حتى نهاية كانون الأول المقبل، أم ان علينا ان نصدق أوهام فلاديمير بوتين الذي يدعو الى جبهة دولية لمحاربة الأرهاب و"داعش"، وهو الذي بدأ حربه ضد المعارضة دعماً لبشار الاسد قبل ٤٩ يوماً تحديداً، من دون أي تعديل كبير في سيطرة "داعش" الميدانية؟
ثم هل نسي كيري الملاكمة الكلامية بينه وبين لافروف في المؤتمر الصحافي بعد مفاوضات فيينا حول مصير بشار الأسد، وهل يظن هو واوباما ومعهما بوتين ان عملية الإنتقال السياسي التي يتحدث عنها يمكن ان تعني ان السلطة تنتقل من الاسد الى الأسد، وان مئات الآلاف من القتلى وملايين اللاجئين وسوريا المدمرة، مجرد تفصيل في سياق التسوية التي يتوهمونها؟
هل يمكن الحديث عن حل أو عن عملية إنتقال سياسي، عندما يحاول بوتين مثلاً وبكل فظاظة توظيف دماء الفرنسيين بدعوته فرنسوا هولاند الى إعادة النظر في موقف فرنسا المعروف من ضرورة الرحيل الفوري للاسد، بالقول إن هذا الموقف لم يحمِ باريس من الإعتداء الإرهابي، لكأن موقف بوتين المتمسك ببقاء الاسد حمى الطائرة الروسية من التفجير الإرهابي؟
غريب إستمرار الرقص الدولي فوق قبور السوريين.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٥
نحن شركاؤهم في الجريمة

كان الرئيس الأميركي باراك أوباما منهمكاً، بعد تحرير النظام السوري من ترسانته الكيماوية، باللهاث وراء تسجيل إنجاز الاتفاق النووي مع إيران، بوصفه «ضمانة» لعالم أكثر أمناً، ولأمن إسرائيل... فيما استعرت حملات الإبادة في سورية. كان أوباما منشغلاً بمعالجة الحصبة في أميركا، والنظام السوري يحصد يومياً عشرات من أرواح المدنيين الأبرياء الذين لم يفارقوا منازلهم، ولم يحملوا السلاح في صفوف المعارضين.

كان سيد البيت الأبيض شديد الحرص على التنديد بنظام دمشق، لكنه أكثر حرصاً على النأي بالأميركيين وجنودهم من ساحات القتل بعد «الربيع العربي». شجّع بتردده وضعفه، تمادي طهران وموسكو في الدفاع عن النظام السوري بكل الوسائل القتالية وبـ «التطهير» والتشريد، بذريعة «تنظيف» سورية من «الإرهابيين».

حتى في مواجهة «داعش» وفظائعه، اكتفى البيت الأبيض بالحرب من الفضاء، فتمادى التنظيم، إلى أن انكشف رهان واشنطن على خطوات أوروبية «أكثر جرأة»... لاستئصال التنظيم. وقد يكون جلياً عدم اكتراث أوباما بتوريط الأوروبيين في القتال على الأرض السورية، بعد مجزرة باريس، ليمحو فضيحة تدريب إدارته 50 مقاتلاً من المعارضة السورية على مدى سنة. وبحساب بسيط يتبين أن نظام دمشق المطمئن وحلفاءه إلى العجز الأميركي الفاضح عن وقف المأساة السورية، وإلى الحماسة الروسية إلى تلقين أميركا والغرب عموماً درس الانتقام بعد أوكرانيا... انتقل الى مرحلة قضم مناطق المعارضة.

أما الاتكاء على تبدُّل مقتضيات المصالح الروسية لاحقاً، للرهان على إمكان تخلُّص موسكو من حماية مصير الرئيس بشار الأسد، فيثبت يوماً بعد يوم أنه ما زال مبكراً، فيما طهران لا تتردد في الدفاع علناً عن «حق» الأسد في الترشُّح مجدداً للانتخابات. بحساب بسيط أيضاً، يتضح أن روسيا وإيران تحجّمان المأساة السورية إلى عاملين: إصلاحات سياسية مع معارضة «وطنية»، ومعارضة لا بد أن تقاتل مع النظام لحمايته من «الإرهابيين».

ولكن، ما الذي تبدّل بعد مجزرة باريس، وجرّ «داعش» فرنسا إلى حال الطوارئ؟ ما تبدّل هو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كسب الرهان على أولوية الحرب على «داعش»، بدلاً من حتمية تغيير رأس السلطة في دمشق. كسب تحالفاً مع الرئيس فرنسوا هولاند الذي بات معه في خندق الاقتصاص من «دولة» أبي بكر البغدادي. الأول أدمت هيبته كارثة تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء، والثاني اهتز كل الأمن في بلاده بعدما نقلت «داعش» المعركة إلى أرضها.

وقد يكون بين العرب مَنْ يتساءل الآن: هل يستحق تبديل الأسد التضحية بأرواح ألوف أخرى من السوريين، من دون أن يتبادر إلى ذهنه حجم الثمن المتوقّع لتثبيت سلطة متجدّدة لنظامه... ولو قاتل معه بعض المعارضين!؟

أبعد من ذلك، وإن كانت مجزرة باريس أو 11 أيلول (سبتمبر) الفرنسي كشف حجم الكارثة المتجددة مع أجيال البغدادي و «دولة الخلافة» التي تجر الجميع سريعاً إلى صدام مريع بين الحضارات والثقافات، ألم يكن حرياً بالعرب والمسلمين أن ينبشوا جذور التطرُّف والتعصُّب والجنون، على مدى سنوات طويلة بعد 11 ايلول 2001؟

لا يعفيهم جميعاً من هذه المهمة، تصنيف مبسّط لاختراقات في مجتمعات لطالما تردّد أنها لم تشهد استقراراً إلا في مراحل جمهوريات الاستبداد.

وهذه جمهوريات تواطأنا جميعاً في تجديد شبابها، إذ ركبنا ردحاً أمواج الاتجار بشعارات فلسطين، وتباهينا طويلاً بالدفاع عن حقوق الفقراء من دون أن نبني مصنعاً يحمي رغيفهم وكراماتهم... شيّدنا عشرات بل مئات الجامعات على امتداد خريطتنا البائسة، حتى إذا حلّ نجم أسامة بن لادن أرغمنا ألوف الخريجين على تسخير علمهم وكفاءاتهم لتوسيع مدارس «القاعدة»، وزرع معسكرات الخراب.

هي محنة العقل العربي الذي ما زال تائهاً بين أمواج الجهل، واقتناص فرصة للانتقام من الفقر بالانتحار. يحدث كل ذلك، ومعه اتجار منتعش بالدين وفِرَقه.

نحن شركاء في الجريمة في سورية، منذ تواطأ كثيرون في زرع «حدائق البعث» في كل منزل، طمعاً بحماية النظام للتجارة «النظيفة»... وتواطأوا في تدريب الابن على التجسس لكشف «إخلاص» أبيه. لو انتفض السوريون قبل عشرين أو ثلاثين سنة، ألم يكن ذلك أجدى في إنقاذ أرواح عشرات الألوف؟ لو هبّ الليبيون على جمهورية العقيد قبل عقدين أو أكثر، هل كانت المسافة بين طرابلس وبنغازي لتصبح مثلما هي اليوم، أطول بكثير من المسافة بين القطبين؟

نحن شركاء في الجريمة؟ لعلنا أكثر جُبناً من أوباما.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٥
روسيا تقبل إرادة الشعوب؟

 تتمثل مشكلة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في وضع بشار الأسد، في أنه يرى أنه ليس من حقه تنحيته. وقد كرَّر أكثر من مسؤول روسي ما يشبه ذلك، حيث ليس من حق روسيا تغيير النظم، وأن من يقرر مصير بشار الأسد هو الشعب السوري، وكثير من هذا الكلام المرسل. لكن روسيا سحقت الشيشان، لأن الشعب قرَّر "الاستقلال". وتدخلت في جورجيا لأنها تريد استقلال مجموعة قومية لها ارتباط بروسيا. وأخيراً، ضمت شبه جزيرة القرم، ودعم استقلال شرق أوكرانيا بالتدخل العسكري المباشر. وذلك كله لأن القيادة الروسية، خصوصاً مع بوتين، تنطلق من أن الشعب هو الذي يقرّر مصيره.
دعمت روسيا، في سورية، النظام منذ اللحظة الأولى، أي حين كان واضحاً أن الشعب يثور سلمياً من أجل إسقاط النظام. وقد رفعت الفيتو (مع الصين) مراتٍ، لمنع فرض عقوبات على النظام، وأمدته بالسلاح إضافة إلى الدعم السياسي، بمعنى أنها كانت تدافع عن نظامٍ يريد الشعب إسقاطه، قبل كل الحديث عن "التدخل الخارجي" ومحاربة الإرهاب. ولقد استغلت أزمة النظام ومأزقه أمام ثورة شعب، لكي تحصل على مصالح اقتصادية وعسكرية كبيرة، وهو ما ظهر الآن في توسيع القاعدة البحرية في طرطوس، وقاعدة جوية في اللاذقية، وحتى وجود قوات برية. وتنتظر الحصول على السيطرة على النفط والغاز، وعلى مشاريع اقتصادية عديدة.
ربما كانت المسألة الأخيرة هي التي تجعله يدافع عن النظام، ويقرّر بقاء بشار الأسد، فحين أرسل طيرانه وقواته، على الرغم من أن المبرر المطروح هو الحرب ضد داعش، ومحاربة الإرهاب، فقد أعلن أكثر من مسؤول أن الهدف هو "مصالح روسيا"، وجرت الإشارة إلى أن التدخل جاء لمنع سقوط النظام. بمعنى أن روسيا دعمت النظام لسحق الثورة، وهي شعبية واضحة، من دون سلاح، ومن دون تدخل خارجي أو وجود إرهاب وأصولية (أي إلى نهاية سنة 2012)، وبات لها نتيجة ذلك مصالح لم تستطع الحصول عليها قبل الثورة، بعد أن قطع النظام العلاقة الاقتصادية، وهمّش العلاقة السياسية، معها. ودعمت تدخل إيران بإرسال قوات حزب الله، ومن ثم قوات طائفية من العراق وغيرها، ثم من الحرس الثوري، لحماية النظام من الشعب. وأيضاً سهلت وجود داعش، كما فعل النظام وفعلت إيران، وأمدها بفيض من "المجاهدين" الشيشان. وبعد فشل ذلك كله في منع سقوط النظام، تدخلت هي التي ترفض "التدخل الخارجي"، حيث من الواضح أنها تعرف جيداً أن تحقيق مصالحها مرتبط ببقاء بشار الأسد، ربما بعد أن فشلت في إيجاد بدائل تحقق الهدف نفسه.
هنا، إذا كانت معنية بأن يقرر الشعب مصير الأسد، لماذا تدخلت لمنع سقوطه؟ طبعاً على الرغم من أن وضع الثورة المسلح لم يكن يسمح بالوصول إلى سقوط النظام، نتيجة موقف "الدول الداعمة" التي أرادت تعديل ميزان القوى العسكري، لكي تقبل روسيا وإيران تنحية بشار والوصول إلى حل، لم ينافس أحد في أن تكون روسيا هي الراعي له. لكن، من الواضح أن تمسك روسيا ببشار الأسد هو الذي جعلها ترفض التوافق، وأن ترسل قواتها لحماية النظام، وفرض الأسد رئيساً. لكن، لن تختلف النتيجة على الرغم من ذلك، سوى أن الدمار والقتل العشوائي سوف يتزايدان، بعد أن أدخلت روسيا أسلحة متطورة وشديدة القوة. وباتت طائراتها والقوات الإيرانية هي التي تحمي النظام من السقوط بقوة الشعب المحاصر من كل الدول العدوة والصديقة.
في الأخير، في الانتخابات التي جدد بشار الأسد فيها رئاسته، في 2014، لم تكن نسبة المشاركة أكثر من 10% على الرغم من كل الأرقام التي أذيعت. وفي التصويت على الدستور، كانت النسبة أقل. وفي أي انتخابات جديدة ستكون أقل كذلك، لكن السؤال يتمثل في السلطة التي تفرض أرقامها. بالتالي، لا تحقق هذه النظم انتخابات حرة، بل تخضع لسطوة الأمن.
في كل الأحوال، لماذا يخاف الروس من المرحلة الانتقالية التي تقود حتماً إلى انتخابات حرة؟ ففي كل الأحوال الشعب سيختار.

اقرأ المزيد
١٩ نوفمبر ٢٠١٥
الإرهاب أمام معيار الأخلاق والحق والسياسة

الإرهاب حرب، ولكنْ بوسائل غير نظامية. وعدم نظاميتها نابع من أنها، بعكس الحرب "القانونية"، لا تستهدف المقاتلين من الخصوم، وإنما توجه عنفها نحو الأبرياء، بهدف إضعاف موقف المقاتلين الخصوم، وإجبارهم على دفع ثمن، وتحمل مخاطر غير محسوبة، وإثارة البلبلة والخوف في حاضنتهم الشعبية. لذلك، نظر الرأي العام العالمي إلى حرب الإرهاب على أنها، بالتعريف، عمل غير مشروع. وهي في جميع المقاييس عمل مناف للحق، ومدمر لأسس المدنية، وفي مقدمها الدولة التي لا تقوم من دون حكم القانون، ومفهوم مقبول للعدالة، أي من دون سلطة تعاقب المسيء وتحمي البريء. ولذلك، ليس لتحريم الإرهاب حدود جغرافية أو سياسية أو ثقافية، فهو محرّم في كل مكان، وهو شر جميعه، سواء حصل داخل المجتمع الواحد، أو نقل إلى مجتمعات أخرى.
ولا تختلف العمليات الإرهابية التي نفذها داعش في فرنسا، واعترف بمسؤوليته عنها، في مضمونها عن جميع العمليات الإرهابية التي ينفذها التنظيم نفسه في سورية والعراق، وغيرها من البلاد العربية، وهي مدانة بالدرجة نفسها التي ينبغي أن تدان بها جميع العمليات الإرهابية في العالم. ولا يخفف من هذه الإدانة أن هذه الجرائم تمس شعوباً أخرى، لعبت حكوماتها، في هذه الفترة أو تلك، دوراً سلبياً في حياة الشعوب العربية، ولا يقلل من طابعها اللامشروع أنها تأتي في سياق الحرب الإرهابية الشاملة التي يشنها نظام الأسد وحلفاؤه على السوريين، ويدمرون من خلالها الدولة والمجتمع والبلاد. فلا يمكن للشر أن يبرر الشر، والرد على الظلم لا يكون بظلم مثله، وإلا انتفى الحق، وزهقت مبادئ العدل، وانعدمت فرصة السلام والأمن والاستقرار التي لا تقوم من دونها مدنية، ولا تزدهر حضارة. ونحن الذين لم نتوقف عن تحمل آثار حروب الإرهاب التي قضت في بلداننا على الدولة والمجتمع والدين والحضارة، بدءاً بالإرهاب الإسرائيلي الذي شكل الأم المرضعة والحاضنة لكل إرهاب لاحق، وانتهاءً بإرهاب داعش الذي يريد تدمير ما تبقى من المجتمع والتاريخ في بلادنا، مروراً بإرهاب الأنظمة السياسية القمعية، لا يمكن إلا أن ندينه، ونستنكر عملياته الإجرامية في فرنسا، كما في جميع مناطق العالم الأخرى. وأي تهاون في مثل هذه الإدانة يعني إيجاد الأعذار والمبررات لانتشاره، وبصورة غير مباشرة، تقديم ذرائع ومبررات للإرهاب المحلي والدولي الموجه إلينا. إن قتل الأبرياء، مهما كان دافعه وهدفه، عمل لا أخلاقي، يعكس انهيار معنى الإنسانية عند فاعليه، ويعبر عن عودة البربرية وسيطرة معاني الانتقام والحقد والموت على الأمل والتفتح والحياة. وفي القرآن: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".

في أصل الإرهاب وأسباب انتشاره
لكن إدانة الإرهاب بصورة مطلقة، وعدم إعطائه أي مبررات مهما كانت، وعدم قبول أي تسامح معه، لا ينهي الإرهاب، ولا يمكن التوقف عنده. تستدعي مكافحة الإرهاب أن نفهم أسباب وجوده، حتى نستطيع أن نقضي على جذوره. والطروحات التي تبثها معظم أجهزة
"ليس التطرف والإرهاب سمة خاصة بأي شعب أو ثقافة أو دين. إنه ثمرة الانسدادات والمآزق والصراعات التي لا حل لها"
الإعلام العربية والدولية التابعة للأنظمة شبه الاستعمارية أو الاستبدادية، تزيد في تفاقم ظاهرته، بمقدار ما تلقي المسؤولية فيه على جماعاتٍ، أو أديان كاملة، وتوجه الرأي العام العالمي ضدها، وتعمل على عزلها وتأبيد الظلم الواقع عليها، أو التغطية عليه، كما تشجع ضحايا الإرهاب على الخلط بينه وبين هذه الأديان والشعوب، لتمدد في عمر النزاع، وتسعر روح الحرب المستمرة بشكل أو آخر منذ عقود. والواقع أن هذه الطروحات لا تهدف إلى فهم أسباب الإرهاب الموضوعية، لكنها تستغل معاناة ضحاياه للتغطية على مسؤوليات الحكومات والنظم والطغم الحاكمة والتيارات الأيديولوجية العنصرية، أو شبه العنصرية في نشأته وانتشاره. وتعمل أغلب هذه الطروحات على الخلط المتعمد أو العفوي بين الأعمال الإرهابية التي تشكل انحرافاً عن المقبول في أي ثقافة أو جماعة أو دين، والثقافة أو الجماعة أو الدين نفسه. فتربط بين الأعمال الإرهابية التي تقوم بها منظمات أو جماعات معينة وبعض المذاهب أو الأديان. والواقع أن التركيز المستمر على طروحات ثقافوية مسيطرة اليوم في الغرب لا ترى للإرهاب سبباً سوى ثقافة المسلمين أو دينهم، بدل أن ترى في الإرهاب انحرافاً يمكن معالجته بتطبيق القانون والتربية المدنية، يزيد من الشعور بالظلم لدى المسلمين، ويخلق التربة الآسنة في العلاقات التي تربطهم بالغرب، والتي تضاعف مقدرة الإرهابيين المحترفين على اصطياد مزيد من الشبان الأبرياء، وتوريطهم في الجريمة والانحراف. وهو يؤكد، في ما وراء ذلك، استمرار منطق الحرب التي لا تزال تطبع العلاقات العربية الغربية، والتي لا يشكل الإرهاب إلا أحد تجلياتها الكريهة.
ليس التطرف والإرهاب سمة خاصة بأي شعب أو ثقافة أو دين. إنه ثمرة الانسدادات والمآزق والصراعات التي لا حل لها، وليس هناك إمكانية، بعد، لحسمها. وليست هذه الانسدادات إلا نتيجة خيارات سياسية واستراتيجية خاطئة، قامت بها حكومات وأنظمة ومسؤولون رسميون، في إطار البحث عن تعظيم مكاسبهم وامتيازاتهم، على حساب المصالح الحيوية للآخرين، وتحطيم آمالهم وتهديد أمنهم وسلامتهم. ففي التعفن واليأس من الخلاص والخوف المتفاقم على الحياة، يولد التسليم والاستسلام للأمر الواقع من الشعوب المغلوبة على أمرها، كما يولد بموازاته التطلع إلى تقويض مبدأ النظام والسلام والاستقرار عند جماعاتٍ ترفض الأمر الواقع، ولا ترى وسيلة لتغييره سوى بالتخريب وتقويض قدرة المنتصر على التمتع بانتصاره. ولا توجد وسيلة لمحاصرة الإرهاب والحد من انتشاره، من دون تغيير هذه الخيارات، وتبني خيارات جديدة، تحترم الحد الأدنى من قيم المساواة التي هي اليوم القيم الأساسية التي تضمن الكرامة والعدل في عصرنا، بعد أن تحول العالم بالفعل إلى قرية صغيرة، تتشابك فيها مصائر الشعوب. ولم يعد من الممكن للظلم والإجحاف وامتهان كرامة الشعوب، أو تجاهل حقوقها أن يمر من دون عواقب وخيمة، يشكل الإرهاب الأشد قسوة منها. وإذا كانت المعالجة القانونية للإرهاب أساسية لردع الأفراد عن المشاركة في أعمال إجرامية، فإن المعالجة السياسية التي تهدف إلى عزل الإرهاب وحرمان محترفيه من أي حاضنة اجتماعية، لا يمكن أن تنجح ما لم يستعد العالم قدرته على الرهان على التضامن الدولي، وإعادة تعزيز حكم القانون، واحترام إرادة الشعوب وحقوقها الأساسية. وهو ما لا يتفق مع سياسات دعم النظم الديكتاتورية، وغض النظر عن المظالم والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، وحروب الإبادة الجماعية التي درجت عليها السياسات القومية للدول والنظم الديكتاتورية، من أجل تحييد الشعوب، وشل إرادتها والتلاعب بمصائرها.

في مخاطر الخلط بين الإرهاب وأي دين
وفي المشرق الراهن، يستمد الإرهاب قوته وانتعاشه ويزيد من جرأته على شن هجومات منسقة ترقى إلى مستوى الحرب، من أسباب متعددة، في مقدمها تقويض السلام والأمن القومي
"جذبت الحالة السورية الانتحاريين والمتطرفين من كل مكان، وأنتجت منهم الكثير أيضاً داخل المشرق كله"
والاجتماعي من حكومات دول طامحة في التوسع والهيمنة، ونظم سياسية فاسدة تستفيد من التحالف معها، لتجريد الشعوب من حقوقها، وفرض الخنوع والإذعان عليها، وحرمانها من مواردها وآمالها. ومنها غياب الإرادة الدولية وفشلها، ممثلة بمجلس الأمن، في حماية الشعوب والتضامن معها لضمان حقوقها الأساسية. وأخيراً، ومن وراء ذلك كله فقدان القيادة العالمية، وتخلي الدول الكبرى عن مسؤولياتها، والتساهل مع المظالم والاختلالات والجرائم ضد الإنسانية التي تتعرض لها الشعوب في أكثر من مكان ومنطقة. وقد جذبت الحالة السورية الانتحاريين والمتطرفين من كل مكان، وأنتجت منهم الكثير أيضاً داخل المشرق كله، بمقدار ما جسّدت النموذج الأكثر بشاعةً، لسيطرة روح الأنانية وشره التسلط والهيمنة وانعدام التضامن وغياب الشعور بالمسؤولية لدى الدول الكبرى والإقليمية معاً، والتضحية بحياة شعب كامل، من أجل الاحتفاظ بمصالح وامتيازات خاصة، أو النزاع عليها. كما كشفت هشاشة مؤسسات المجتمع الدولي، وهي الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، وعجزها المحزن عن ضمان الحد الأدنى من التضامن والعدالة واحترام حقوق الشعوب ومصالحها الحيوية في حقل العلاقات الدولية.
لم يكن الإرهاب بحاجة إلى ولادة جديدة بعد أن أكملت الحرب الاستعمارية الدموية في أفغانستان مراحل إخصابه وولادته. فهو موجود اليوم في العالم بنية قائمة بذاتها وثابتة، من خلال شبكات وتنظيمات وأسلوب عمل وتفكير مجربين. ما يقدم له الوضع المأساوي الذي آلت إليه الأحوال في المشرق، بسبب سياسات الدول الكبرى، واستهتارها بحقوق الشعوب وحياتها ومصائرها هو إسعافه بدفعةٍ لاحدود لها من الأوكسجين الذي قاده، هو الفعل المؤسس على تقويض مبدأ الدولة، إلى الحلم بالتحول إلى دولة، وإقامة إمارة يريدها أن تكون على مثال الخلافة الإسلامية الأولى، وهي ليست في الواقع سوى الضد الخالص لها.
ويهدد التفسير السياسوي والثقافوي للإرهاب، في شروط الانفجار الذي يعيشه المشرق والشرق الأوسط، وانفراط عقد الدول والمجتمعات، واندفاع ملايين اللاجئين إلى أوروبا بحثاً عن ملاذ آمن، يحميهم من القصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والعنقودية وسكاكين داعش الارهابية وانتحارييها، بتحويل الجاليات الإسلامية في أوروبا إلى كبش فداء، وتوجيه أصابع الاتهام إليها، وتبرير المعاملة السيئة التي كانت تحلم بإنهائها، كما تزيد من غرق الشرق الأوسط في المياه الآسنة للحروب الداخلية والخارجية، فهو يمثل أفضل تبرير للتطرف المضاد الذي يدفع العنصريين، أو المعادين للعرب والأجانب في الغرب، إلى ممارسة مزيد من الضغوط المادية والمعنوية على هذه الجاليات، اعتقاداً منهم بأن ما لا يتحقق بعنف قليل يتحقق بعنف أكثر، وأن العنف هو أفضل طريق لردع المتطرفين "الإسلاميين"، وثنيهم عن القيام بأفعالهم. والنتيجة هي العكس تماماً، أي زيادة مشاعر العداء ومناخ الحرب الطائفية المولدة لليأس والتطرف والانتقام.
لا تساهم هذه الطروحات في الحقيقة إلا في تسعير مناخ الحرب، وتعميق منطق الضحية وكبش الفداء الذي يقوم عليه الإرهاب والتطرف.
ما يجمع بين الإرهابيين المحترفين وخصومهم من الطغاة والمتجبرين، أو العنصريين
"ما يجمع بين الإرهابيين المحترفين وخصومهم من الطغاة والمتجبرين، أو العنصريين المحرّضين ضد الجاليات الأجنبية باسم محاربة الإرهاب، هو استهداف الأبرياء للتأثير على الفاعلين المذنبين"
المحرّضين ضد الجاليات الأجنبية باسم محاربة الإرهاب، هو استهداف الأبرياء للتأثير على الفاعلين المذنبين، الغربيين من دون تحديد بالنسبة للمتطرفين المسلمين، والمسلمين جميعاً بالنسبة للعنصريين والمتطرفين الغربيين، وفي ما وراء ذلك الخلط بين المذنب والبريء والفرد والجماعة، والفكر الإرهابي والدين أو المذهب. وهم يتعيّشون معاً على تحطيم علاقات الثقة والتعايش بين الأفراد والشعوب والجماعات، واليوم بشكل رئيسي بين العرب والمسلمين والشعوب الأخرى، في العالم العربي والعالم، من أجل جر أكبر عدد من اليائسين إلى صفهم، وتحييد الإرادة الواعية والتفكير العقلاني عند الجميع، وتعزيز منطق ردود الأفعال وروح العصبية والامتثال الأعمى. بذلك، يمكنهم إيجاد العناصر المتطرفة التي تمكنهم من تحقيق مخططاتهم وإيجاد نظام قائم على العنف بدل القانون، والتعصب بدل التسامح، والعدوان بدل التضامن، والموت بدل الحياة. وبالنسبة للإرهاب الذي يهدد بالاستيطان بشكل متزايد في أوروبا والغرب، الذي فقد السيطرة، أو في سبيله إلى ذلك، ولا يزال يرمز لسياسات السيطرة التقليدية، ويتخبط في إدارة أزمة تراجعه التاريخية، ليس هدف الإرهابيين حماية الأقليات الإسلامية. ولكن، بالعكس توريطها في حربٍ ضد مجتمعاتها، وعزلها عنها لتبرير أعمالهم، وجذب العناصر القلقة والضعيفة إليهم، وإعادة تأهيلها للقيام بالعمليات الانتحارية في العالم أجمع.
لذلك، ليس هناك أكثر دعماً للإرهاب من الخلط بين الجريمة التي يمثلها والتي ينبغي أن يحاسب عليها مرتكبها كأي مجرم منتهك للقانون، وللجماعة القومية أو الدينية التي ينتمي إليها. وللأسف، هذا ما يحصل اليوم في الإعلام الغربي، حيث يصبح الإرهاب من سمات مجتمعات المسلمين، أو أحياناً، أكثر من ذلك من عقائدهم. وفي المقابل، ليس هناك أكثر تشجيعاً لهذا الخلط بين الإرهاب الذي هو من صنع مجموعة محددة فقدت إنسانيتها، مهما كان دينها ومذهبها، والمسلمين المقيمين في الغرب، من تأييد بعضنا مخططات الإرهاب وأعماله، بحجة الدفاع عن المسلمين أو رد الظلم عنهم.
فكما أنه ليس هناك أي مبرر لتحويل التهمة من مرتكبيها إلى الجماعة القومية، أو الدينية التي ينتمون إليها، سوى العنصرية وروح الحرب، فليس هناك أي سبب للتغطية على جريمة الإرهاب باسم القومية أو الوطنية أو الانتقام للنفس. مثل هذا الموقف في الحالتين يعيد البشرية إلى قانون العصبية القبلية، ويقضي على أسس أي حياة قانونية، ومن ورائها أي حياة مدنية إنسانية.

اقرأ المزيد
١٨ نوفمبر ٢٠١٥
إتفاق "وقف الموت" مؤقتاً .. الغوطة تعقد وتستعد للتنفيذ .. الخلاف ينشب ..

فتح للمعابر ودخول المواد الإغاثية ووقف إطلاق النار وفك تدريجي للحصار يبدء بمدينة المجازر "دوما" ، ليتم التعميم في حال النجاح ، تضارب في بقية التفاصيل حول الراعي و المهندس و المفاوض ، و لكن الخلاف نشب على المنصات الإعلامية فورا إعلان "الهدنة" التي تعني الهدوء و لكنها أثارت الجنون .

الغوطة الشرقية التي تضم قرابة 600 ألف محاصر منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات ، حصار بري لم تشهده البشرية ، قصف جوي بكل شيء ، و استخدامٌ لأقذر الأسلحة من الكيماوي وصولاً إلى العنقودي .

الغوطة اليوم تبرم الإتفاق مع قوات الأسد ، للدخول في هدنة مبدئية لـ15 يوماً ، يتلوها تعزيز و استمرار و توسع لها في حال النجاح ، هذه الهدنة التي ستفتح الآفاق أمام كل المنظرين و المتهمين و الجالسين على الأطراف لتوجيه اللوم و التخوين ، وسيكون هناك مساحات للشتم وأخرى للبكاء و العويل ، فهنا الغوطة بنظرهم قد خانت و خرجت من الملة و باتت من الأعداء .

بعيداً عن اتهامات المشكيين ، فالهدنة تعتبر ، جزء أولي من عمل قد يكون طويل في طريق تنفيذ خارطة الطريق لـ"فيينا 14/11/2015" الذي أقرّ و إعتمد الأسلوب الذي سيسير عليه الحل ، وصولاً إلى الهدف الذي يرضي الجميع كما سبق و أن قال وزير الخارجية الإيراني "لنكون جميعنا رابحين".

إتفاق اليوم هو بداية الخطوة التي قال عنها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بأن "الإنتقال في سوريا و بداية العملية ستكون أسرع مما تتخيلوا ، و لن أقول أشهر ، و إنما هي أسابيع قليلة" .

بعيداً عن الحقل السياسي و التصريحات ، فهذه الهدنة و لو مؤقتة ، و لو فشلت ، و لوكانت بناء على أي مسمى أو توافق ، هي استراحة من منصات الموت التي يرتقي عليها مئات الشهداء ، هي فرصة لإستراجع جزء من الحياة الطبيعية ، هي فرصة لأن يكون هناك بطون قد أكلت بعضاً مما تشتهي ، قد نختلف كثيراً و نخوص في نقاشات إلى ما لانهاية .. و لكن يجب أن يكون هناك في دواخلنا بسمة بأن المحاصرين سيكونون سعداء لبعض الوقت .

اقرأ المزيد
١٨ نوفمبر ٢٠١٥
حان وقت تحرير سورية من الاحتلالين الروسي والإيراني

طغت في أوساط المعارضة السوريّة في الآونة الأخيرة، لا سيّما مع التصعيد العسكريّ الروسي، روحُ انهزاميّة توحي بحتميّة فرض حلول سياسية مُعلّبة جاهزة للتطبيق، وعبثيّة مقاومة هذه الحلول أو الوقوف في وجهها، الأمر الذي أدّى إلى دخول الثورة السورية في منعطف جديد. ولا يخفى على أحد أنّه ليس أوّل منعطف حرج ولن يكون بالضرورة المنعطف الأخير.

تمكّن الثوّار من امتصاص جميع الصدمات العسكرية التي تعرّضوا لها في السابق من جيش النظام و «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني، كما تمكنت الثورة، على رغم ضعف الأداء السياسي للمعارضة السورية بشكل عام مقارنة بالأداء العسكري، من تجنّب الوقوع في عدد كبير من المصائد السياسية التي نُصبت لها رغم وجود طابور خامس كبير.

لكنّ التدخل الروسي المُترافق مع غياب الدور الأميركي المعاكس له، إضافة إلى دخول المنطقة بأسرها في مرحلة جديدة لم تكتمل ملامحها بعد، يُحتّم على الثورة السورية أن تُنجز نقلة نوعية في أدائها على الصعيدين السياسي والعسكري، وأن تقف وقفة صادقة تقيّم فيها مسيرتها حتى الآن، كي تصبح قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. فالمرحلة المقبلة مليئة بالاستحقاقات ومحفوفة بالمخاطر والمنزلقات، ولعل أول هذه الاستحقاقات قد بدأ في مؤتمر فيينا الذي يمكن اعتباره أكثر محاولة جدّية حتى الآن من المجتمع الدولي لإيجاد حل سياسي في سورية أو فرضه، ومن الخطأ النظر إلى هذه المحطة السياسيّة بمعزل عن التصعيد الروسي العسكري الأخير.

لن نخوض في هذا المقام في تحليل مستفيض لأسباب هذا التصعيد ومآلاته، فمن الواضح أنّ الهدف الرئيسي منه هو فرض حل سياسي بالقوة العسكرية بشكلٍ يتماشى مع مصالح روسيا، وفي ذلك درس عظيم للثورة السورية عن كيفيّة توجيه العمل العسكري المؤثّر وفي لحظات حاسمة لتحقيق أهداف سياسية طويلة الأمد، وهو ما عبّر عنه كلاوزفيتز بقوله: «الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخرى»، وهذا ما عجز عن تحقيقه الثوار حتى الآن على المستوى المطلوب. فعلى رغم البطولة المنقطعة النظير للشعب السوري والتضحيات الأسطورية في ساحات القتال إلا أنّ المردود السياسي كان ضعيفاً في غياب ثلاث ركائز أساسية تتمثّل بالاستراتيجية العسكريّة المركزيّة، والتمثيل السياسي الموحّد وأخيراً بالقيادة الموجّهة والمُلهمة للثورة.

أصبحت الحاجة ماسّة لإدارة المعركة العسكرية بطريقة مركزيّة بحيث تغطّي كامل التراب السوري وليس فقط جبهات مناطقيّة منفصلة، لا سيّما أنّ المعركة أصبحت اليوم وبعد التدخل الروسي المُباشر أقرب إلى حرب شاملة على مختلف الجبهات وفي آن واحد. وعليه يجب تحديد الأهداف الاستراتيجيّة التي ينبغي التمسك بها مهما كان الثمن وتقليل الخسائر الجانبية ما أمكن، حتى يتم امتصاص الصدمة الروسية والوصول إلى حالة الاستقرار والقدرة على الهجوم المعاكس من جديد، فالمآل العسكري للأشهر الثلاثة المقبلة سيحدّد جزءاً كبيراً ومهمّاً من مستقبل سورية والمنطقة، الأمر الذي سينعكس بطريقة مباشرة على الخيارات السياسيّة للثورة.

ولعل من نافلة القول التأكيد على ضرورة وحيويّة إنشاء تمثيل سياسي جامع للثورة، فغياب الثورة السورية، بل السوريين بشكل عام، عن اجتماعات فيينّا الذي تتمُّ فيها مناقشة مصير سورية، أمر يجب أن يستوقف المعارضة بأكملها، خصوصاً أنها ليست المرّة الأولى التي يغيب فيها صوت الثورة عن اجتماع من هذا الطراز. ومن الخطأ إلقاء المسؤولية على المجتمع الدولي فقط، فالأمر يحتاج إلى النظر في المرآة ولو قليلاً.

التمثيل السياسي الموحّد يجب أن يبدأ بخطوة أولى تجمع من جهة بين كبرى الفصائل الثورية المسلحة والتي تعتبر «إسلاميّة» التوجُّه وفصائل الجيش الحر من جهة أخرى. لقد أثبتت معارك حماة الأخيرة أن الثورة تحتاج إلى عودة الرّوح التي سادتها في أشهرِها الأولى، وأنّ التمايز بين الفصائل الإسلامية والجيش الحر والذي عملت على تعميقه أطراف خارجية لا يخدم الثورة، فضلاً عن كونه مصطنعاً في غالب الأحيان، فالفصائل الإسلامية سوريّة وفصائل الجيش الحر أيضاً مسلمة، وسورية تحتاج إلى جيش ثورتها المسلم الذي يحمل هويّة البلد ويدافع عنها.

كما يتوجّب على الفصائل الكبرى في هذه المرحلة العصيبة، سواءً على الصعيد العسكري أو السياسي، أن تعطي أولويّة كاملة للمشروع الجامع وهو مشروع «تحرير سورية» من الاحتلالين الإيراني والروسي، وتأجيل المشاريع الفصائلية إلى مرحلة لاحقة بعد أن يتحقق الهدف الأكبر. كما لابدّ من أن تُدرك فصائل الجيش الحر أنه سيتم ممارسة ضغوط كبيرة عليها من الرّوس وحلفائهم لاستدراجها إلى طاولة المفاوضات، ظنّاّ منهم أنهم بذلك سيصبحون قادرين على إجبار الثوّار على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بالقوّة العسكريّة.

المخرج الوحيد من هذا المأزق لجميع الأطراف هو المسارعة إلى تشكيل تمثيلٍ سياسيٍّ موحّد، والعمل على تعميق التنسيق العسكري المركزي، مستفيدين من تجارب الماضي لتجنب النماذج المثالية التي فشلت، والتركيز على النماذج العمليّة التي يمكن أن تضمن تحقيق الأهداف المرجوّة بأسرع وقت ممكن وبأقل تكلفة.

وعليه يتوجّب أن يكون جليّاً عند الثوّار بشكل عام والفصائل الثورية المسلّحة بكافة توجهاتها بشكل خاص، أن الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الروس بشكل منفرد هو خط أحمر ومنزلق سياسي خطير، وسيكون بمثابة قبول بقواعد لعبة سياسية أُعدّت بهدف تمييع الثورة وإنهائها وفرض حلٍّ سياسيّ يضمن استنساخ النظام من جديد وترسيخ هيمنة الأقليّات على حساب الغالبية وهو نموذج قادنا إلى ما آلت إليه الأمور ويهدّد مستقبل سورية واستقرارها.

لقد انتصرت الثورة ودخلت مرحلة حرب التحرير والاستقلال، ورحلة «موظف الكرملين» بشّار الذي قادوه إلى سيّده في موسكو على متن طائرة عسكرية في جنح الليل ليعنّفه ويشرح له المستقبل السياسي الذي ينتظره، تؤكّد أن النظام الأسدي انتهى وتحول إلى «حكومة فيشي» عميلة. وهذه المرحلة الجديدة تتطلّب من قيادات الثورة أن ترتقي إلى مستوى الحدث، والأهم أن ترتقي إلى مستوى تضحيات الشعب السوري العظيم الذي ينتظر القيادة التي تليق به. كما ينبغي أن تعترف بأزمة القيادة التي عانتها الساحة الثوريّة حتى الآن، وبالأخطاء والتقصير الذي حصل وأن تقوم بمراجعة صادقة ونقد ذاتي متجرِّد، فإن عجزت الفصائل الثورية المسلحة والمعارضة عن أن تجتمع على قلب رجل واحد فلتجتمع على قلب فكرة واحدة، وهي تحرير سورية والحفاظ على هويّتها ووحدة أراضيها.

آن الأوان لأن تكون الثّورة السورية شريكاً أساسياً مؤثّراً وفاعلاً في حلفٍ إقليمي مع تركيا وقطر والسعودية في وجه ما يحاك للمنطقة، وأن يكون السوريون جزءاً من القرار وليس مجرد متفرجين، لكن هذا كلّه يتوقّف على قدرة الفصائل المسلّحة على إنتاج قيادة سياسيّة-عسكريّة جامعة ومسؤولة، تنال ثقة السوريين والمجتمع الإقليمي والدولي، وأن تعي تماماً أولويّات المرحلة وتطلّعات الشعب السوري الثائر العظيم.

أخطأت روسيا للمرة الثانية في قراءة المشهد السوري وراهنت على الحصان الخاسر، وبدأت تدرك ذلك بعد أن تورّطت في حربٍ مع ثوّار سورية، ولو أنها حاورتهم منذ بداية الثورة لكان أنجع لها. لقد انتهى النظام فعليّاً ولن ينقذه التصعيد العسكري الروسي، وليس أمام الثورة الآن إلّا توحيد صفها السياسي والعسكري والثبات على الأرض والتمسك بالخطوط الحمراء أكثر من أيّ وقت مضى. ولكل من بشّروا بانتهاء الثورة وسارعوا إلى حجز مقعد لهم في المرحلة المقبلة نقول لهم: «كذبوا! الآن، الآن جاء وقت القتال».

* المسؤول عن العلاقات الخارجية في «حركة أحرار الشام الإسلامية»

اقرأ المزيد
١٨ نوفمبر ٢٠١٥
تصعيب السلام في سورية

 لا لأنه ليس لإيران دور في سورية، بل لأن دورها هو الأكثر أدلجة وانشحاناً بما لا علاقة للثورة السورية به. وبالتالي، هو الأخطر والأكثر قدرة على إغلاق درب الوصول إلى حل سياسي، يوقف قتل شعب عارضت أغلبيته دعوتها إلى مداولات الحل السياسي التمهيدية بين روسيا وأميركا ودول إقليمية وعربية في فيينا، والمشكلة أن الدعوة جاءت في ظل عملية خلط أوراق شاملة أنتجها: أولاً، الانهيار الذي بدا وشيكاً لجيش النظام، وما ترتب على هزائمه المتعاقبة من تبدل ملموس في ميزان القوى، لصالح انتصارٍ يستجيب لحرية السوريين، ويحسم الصراع في بلادهم. ثانياً، التدخل العسكري الروسي الذي استهدف الجيش الحر، وصولا إلى شطبه من الساحة، وإعادة إنتاج رهان الأسد والروس القديم، الساعي إلى إنتاج وضعٍ حدّاه النظام والإرهاب، لا يترك للعالم من خيار غير الحل الروسي الذي يقول بتشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة الأسد، وضم بقايا الجيش الحر إلى جيش جديد، يتكون من الشبيحة وبقايا مسلحي النظام، ووضع دستور يتم بعده إجراء انتخابات تضفي "شرعية شعبية" على الأسدية. ثالثا: تكثيف الاحتلال الإيراني لسورية، وما أدى إليه من حرب تخوضها طهران بدل جيش النظام، وسعيها إلى إدامة حربها أطول فترة ممكنة، لعل ذلك يقوّض قدرة السوريين على الدفاع عن أنفسهم، ورغبتهم في مواصلة النضال من أجل حريتهم.
في هذه الأجواء من التحول السياسي والتصعيد العسكري المشحون بالمخاطر، الذي يمكن أن يطوي صفحة تقادمت من علاقات الأطراف المنخرطة في الصراع على سورية، تمت دعوة طهران إلى فيينا، على الرغم من أن حضورها سيزيد الأمور تعقيداً، وأنه كان حرياً بالداعين التريث، ريثما تتضح مرحلة ما بعد الغزو الروسي لسورية، ويقع بعض التقارب حول مشاريع الحلول، وتقتنع إيران بالتخلي عن دورها التخريبي الحالي، أو بتقييده. ومع أن وزير خارجيتها، جواد ظريف، وافق باسمها، ولأول مرة، على اعتبار وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 مرجعية الحل السياسي، فإن هذا لا يعني أن موقفها سيشهد تبدلاً إيجابيا تجاه
"إيران دولة بلا أصدقاء، تتعامل بمنطلقات وسياسات صراعية مع الآخرين عامة، وجيرانها العرب خاصة"
المسألة السورية، بل يرجح أن "يصعب" حلها، عبر ربطه بتناقضات وصراعات أطراف السلطة العسكرية والأمنية/ السياسية والدينية فيها، وبالتشدد كآلية توحيد لمواقفها، وبتوافقها على اعتبار نظام الأسد "درة إيران الاستراتيجية"، وخطاً أحمر، يطاح بمن يتخطاه من مسؤوليها، يجب التمسك به، وإن أدى ذلك إلى حرب عالمية ثالثة، كما قال عدد من قادتها. هذه المواضعات الإيرانية تجعل بلوغ الحل أكثر تعقيداً مما يظن ساسة الغرب، وتحول دون تحقيق حل عادل ومتوازن، يقلص قدرة نظام طهران على إدارة خلافاته، وتوحيد أطرافه.
إلى هذا العامل الداخلي، يضاف عامل دولي، يعبر عن نفسه في حقيقة أن إيران دولة بلا أصدقاء، تتعامل بمنطلقات وسياسات صراعية مع الآخرين عامة، وجيرانها العرب خاصة، وترفض التعامل معهم من مواقع التكامل والمشتركات، بسبب أيديولوجيتها المذهبية التي تضفي العصمة على شخصٍ لا يُساءَل، ولا يحاسب، ولا يلتزم بقانون، هو "مرشد"، يستمد سلطانه من مصدر قدسي ورباني. لذلك، تعد مخالفته بما هو ولي فقيه معصية وكفراً. هذه الأيديولوجية تجعل الجمهورية الإسلامية دولة مختلفة عن باقي دول الأرض، محكومة بنواظم ومعايير، لا تشاركها فيها دولة أخرى، من غير الجائز مقارنتها بأية نواظم ومعايير وضعية؟. ستأتي إيران بهذه الأيديولوجية، وبالصراعات التي تنتجتها مع الدول الأخرى، بما في ذلك مع روسيا، إلى الساحة السورية، ليصير الحل السياسي فيها تابعاً لصراعاتها مع العالم، ومرتبطا بأهدافها، وبما تريد الحصول عليه، ما سيصعب الحل ويأخذه إلى ميادين لا علاقة للسوريين بها، إن ذهب إليها، وقع في الاستعصاء والاحتجاز.
أخيراً، يعزز موقف طهران أوهام روسيا حول انتصارٍ، لا تسقط فيه طائراتها، أو يقتل جنودها، تحرزه بمعونة جند طهران وجنرالاتها الذين يرسلون يومياً إلى ميادين الحرب، ليس من أجل أن تنتصر روسيا، وإنما العكس: كي تبقى يد إيران هي العليا في سورية، وتحول بين روسيا والتلاعب بمصير الأسد. أليست هذه العلاقة عاملاً إضافيا يصعّب الحل السياسي؟. من اللافت أن طهران لم تعلن عن مشاركة جيشها في الحرب، إلا بعد التدخل العسكري الروسي في سورية، ودعوتها إلى جنيف، فهل فعلت ذلك لتصلب موقف روسيا التي دخلت في طور من التشدد باحتلال سورية، والشروع في قصفها من دون تفويض دولي، أو طلب من نظام شرعي، وليست بحاجة إلى من يشجعها على التشدد، أم فعلته لتعامل طرفاً في الحرب، لن يقبل أن يُعامل مثل غيره من المدعوين، أي كباحث عن حل سياسي، سيصعب حلاً لا يلبي مصالحه، وفي المقدمة منها ضمان وجوده العسكري/ الأمني في سورية.
إيران طرف في الحرب، طالما رفض الحل السياسي. وكان من المبكر جداً دعوتها إلى فيينا، إلا إذا كانت قد دعيت، لتشارك في التهام ضحيتها أو تقاسمها.

اقرأ المزيد
١٧ نوفمبر ٢٠١٥
بدأت مرحلة "ضرب الرؤوس" الكبرى .. والجميع أهداف مشروعة

تتسارع الحشود باتجاه سوريا لتبلغ ذروتها خلال الأيام القليلة القادمة مع وصول حاملة الطائرات الفرنسية إلى مقربة من سوريا ، و تصل الإمدادات الروسية المتمثلة بعشرات الطائرات ، إضافة العديد من الدول التي ستتخذ قرارها بالدخول في الحرب ضد "داعش" كإسم عام ، وضد الجميع في الحقيقة ، مع استثناء بسيط يخص اسم بعينه وهو "الأسد" .

فخلال الأسابيع الست الماضية على بدء القصف الروسي كان نصيب الفصائل المعارضة للاسد ما يقارب 85% ، فيما لم ينل العدو المعلن للجميع "داعش" إلا اليسير الذي لم يؤثر على رقعة سيطرته إلا القليل .

واليوم تشهد الساحة أصوات أعلى من أي وقت سابق ، لأخذ الحيطة و الحذر ، وتوقع القصف بأي لحظة و في أي مكان ، ولأي شخص يتصل مع القوات المعارضة للأسد تحت أي مسمى عام ، على وجه الخصوص من يحمل طابع إسلامي ، الذي تأتي على رأس قائمته "جبهة النصرة" ومن يوافقها بالنهج ، و يتلوهم بالترتيب "أحرار الشام" .

فهذه الأيام هي أيام تسبق ، الأسابيع التي حددها وزير الخارجية الأمريكي للبدء بالسير على طريق تطبيق خطة فيينا ، و تنفذ على الأرض دون وجود معترض أو مخالف لها فكرياً أو إيدلوجياً ، أما من يقبل بها وفق ماتم إقراره ، فإنه كمن يمسك ، سترة نجاة في بحر متلاطم الأمواج .

الحقيقة تكمن أن التصفية ستتم وفق دراسة تمت قبل فترة زمنية قصيرة سبقت ، فيينا 3 (14 الشهر الحالي) ، حيث تم مناقشة الأمر مع معظم الفصائل ، فمنها من وافق و استعد للذهاب إلى فيينا "فحظي بالقبول المرحلي" ، ومنهم من اختلف و رفض "فدخل في القائمة السوداء" ، وسيكون دوره مقدماً في قريب الأيام ، على أن يكون الموافقين على القائمة أيضاً و لكن بعد حين ، و بعد الإطمئنان أن الإتفاق ، قد دخل مرحلة التنفيذ .

القضية اليوم جداً شائكة ، فالخطة التي وضعت منذ شهور كانت تقضي بأن يتم تصفية قيادات الصف الأول في كل الفصائل بشتى أنواعها ، و استبدالها بقيادات أخرى تقبل بما يتم إعطائها من تعليمات ، و في الوقت نفسه تملك السلطة للتنفيذ الأرض ، وقد بدأ بمسلسل الإغتيالات التي قضت على جزء ، و ساهمت المعارك والقصف الروسي في انهاء جزء آخر ، وهذه المرحلة ستكون لتصفية ماتبقى .

فعنوان المرحلة "ضرب الرؤوس" الكبرى ، و تشتيت الأجساد و إعادة ترتيبها ، وفق ما رُسم و خُطط .

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٥
الإرهاب في طور جديد

هل يمثل ما ترتكبه داعش من جرائم مرعبة ردّها على ما يلوح من هزائم تنزل بها في العراق وسورية، وتحسبها لما ستواجهه من تحديات؟ وهل هو المرحلة المقبلة من نشاطٍ قد تحرم فيه من حالها الراهنة كـ"دولة"، وتجبر على العمل في ظروف مختلفة تماماً عن ظروفها الحالية التي تتيح لها خوض معارك عسكرية، تتطلب قوى كبيرة تقاتل على جبهات محددة ومعروفة، منظمة عسكرياً، جيشاً يخوض معارك كالتي تخوضها جيوش الدول؟
إذا كان هناك من تفسير سياسي لعمليتي بيروت وباريس، فإن التفسير الصحيح لا يعقل أن يتجاهل انتقال قوى داعش العسكرية من العمليات الحربية، أو شبه الحربية التي يشنها مقاتلون كثيرون، إلى عمليات أخرى، مختلفة، يقوم بها أفراد متفرقون، أو تحققها تجمعات أفراد صغيرة، يعيش أعضاؤها خارج أراضي الدولة "السابقة"، في المجتمعات المطلوب مهاجمتها، أو يسربون إليها من خارجها، تشرف عليهم، تخطيطاً وتنفيذاً، قيادات محلية، تنشط في البلدان المستهدفة، أو توجههم من الخارج، وتمدّهم بما يلزمهم لضرب هدف كبير في موقع محدد، أو أهداف عديدة في أماكن متفرقة، في وقت واحد، فلا يشبه ما يقومون به ما سبق للقاعدة أو غيرها من تنظيمات الإرهاب أن مارسته في أي وقت ضد أي بلد أو جهة، بل يعتبر تطوراً نوعياً لعمليات الإرهاب، سواء من حيث كثافة المشاركين فيه، أو في ما يتعلق بنوعية الأهداف التي تتم مهاجمتها، أو طريقة استهدافها التي يجب أن تنصبّ، في جميع العمليات، على إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر بالمواطنين، لهز ثقتهم بحكوماتهم ونظمهم ومؤسساتهم السياسية والأمنية، وتسعير غرائزهم وردود أفعالهم المذهبية والدينية، وتقويض ما في مواقفهم من تسامح تجاه "الآخر" من مواطنيهم، ذوي الأصول المغايرة لأصلهم، أو الأديان المختلفة عن دينهم، مع ما يفضى إليه ذلك من إثارة شكوكٍ لدى كل جماعة بغيرها، ومن تطرفٍ وعنفٍ، يمكن استغلاله كإطار قيمي، يتحكم بتفكير كل الجميع وسلوكه حيال الجميع، ويسمّم الحياة العامة، ويدفع الأحزاب والحكومات إلى اعتماد نهج يقيد الحريات، ويقوّض النظام الديمقراطي، ويوجِد شروطاً ملائمة لفرز المواطنين، وزيادة قابليتهم للانخراط في الإرهاب.
"يقف العالم على مشارف حقبة مختلفة من التحديات والمخاطر، سيفشل حتماً في التصدي لها، إن أقنع نفسه بالتعاون مع نظم مستبدة وإرهابية"

هناك دلائل حول انتقالنا إلى حقبة جديدة من الإرهاب، تستند إلى تنظيم لم تعد تحمله "دولة". لذلك، لن يبقى علنياً، مثلما هو حاله، منذ أعلن عن إقامة ما أسمتها داعش "الدولة الإسلامية"، وسيتبنّى السرية في كل ما يتعلق بأعضائه ومهامه، وسيقلع عن إنجاز أعمال وواجباتٍ، كانت تلزمه بتركيز جهوده على مجال داخلي خاضع له، حيث كان عليه ضمان الاستقرار فيه، فضلا عن حدّ من الخدمات ضروري، لكسب ولاء رعاياه، بسبب مهامها "دولة"، كانت داعش مجبرة على إيلاء الخارج أهمية تالية، وربما محدودة في خططها وعملها. أما في حقبته المقبلة، فسينصب اهتمام التنظيم بمعظمه على الخارج. وبما أن مئات الإرهابيين أرسلوا أو تسللوا إلى البلدان العربية والأجنبية، فالمتوقع أن تتصاعد الأعمال الإرهابية تصاعداً غير مسبوق ضد بلدان عديدة، في ذهابٍ إلى زمن أشد كثافة ودموية وعنفاً من زمن القاعدة، فيما يتصل بعدد من سينخرطون فيه، أو الأهداف التي ستتم مهاجمتها، والبلدان التي سيستهدفها الإرهاب.
بهجومي بيروت وباريس اللذيْن أصابا تجمعات أبرياء من المدنيين، تدخل حرب الإرهاب ضد العالم وحرب العالم ضد الإرهاب طوراً جديداً خاص السمات، شروطه مغايرة لما سبق من إرهاب القاعدة. لن تنجح مواجهة هذا الطور المختلف، إلا بقدر ما يطوّر العالم تقنيات وأساليب لمواجهته، تتفق ونوعه وخطورته التي ستترتب على شنه حرباً كونية فريدة في حجمها ومداها ونتائجها، بما أن أتباعه وأعضاءه ينتمون لمختلف الأمم والشعوب، وأن قدرتهم على اختراق مجتمعاتهم ستكون كبيرة إلى درجةٍ، تتطلب تدابير استثنائية لمواجهتهم، منها تعزيز حرية المواطنين، ورفع سويّة التأهيل المهني للقضاء وأجهزة الأمن والشرطة، وابتكار طرق جديدة في إدارة الصراع ضد الإرهاب. أخيراً، أن تفترض مواجهة الوضع بناء تعاون دولي ومراكز قيادة وسيطرة عابرة للدول والحدود، لها طابع ثابت ومستقل، كما يفترض وضع مدونة قانونية دولية، لا تتوفر اليوم للعالم ولمنظماته الشرعية.
يقف العالم على مشارف حقبة مختلفة من التحديات والمخاطر، سيفشل حتماً في التصدي لها، إن أقنع نفسه بالتعاون مع نظم مستبدة وإرهابية، كالنظام الأسدي الذي لعب دوراً معروفاً في إيجاد الأجواء الضرورية لدخول داعش إلى سورية، وتعاون معها نيفاً وعاماً ونصف العام ضد الجيش الحر والمواطنين السوريين الذين طحنهم بعنفه وحلوله الأمنية، ودفع قطاعات واسعة منهم إلى الانفكاك عن رهانها الديمقراطي، والالتحاق بالإرهابيين وتنظيماته. لن تنجح محاربة الإرهاب بالسكوت عن إرهاب النظام الطائفي وإرهاب إيران المذهبي، ولن تنجح الحرب إن صار ضحيتها الناجين السوريين من إرهاب الأسد وحلفائه المحليين والدوليين، ما دام الإرهاب ليس حكراً على فئة أو مذهب بعينه، ولا مفر من اعتبار كل من يستخدم القوة ضد شعبه إرهابياً، كائناً ما كان اسمه، أو كانت صفته.

اقرأ المزيد
١٦ نوفمبر ٢٠١٥
المهاجرون والمسلمون الخاسرون بعد هجمات باريس

يتشاءم الفرنسيون من يوم الجمعة، إذا صادف تاريخ 13 من الشهر، ويسمونه سخرية "الجمعة 13"، وها قد جاءهم يوم تشاؤمهم وشعوذتهم على وقع تفجيرات مدوية وقتل، تعددت في باريس، فأصابت المخابرات الفرنسية والغربية في مقتل. قُتل رهائن في قاعة حفلات مسرح باتاكلان، وفجر انتحاريان نفسيهما قرب ملعب فرنسا، فكان هذا التفجير الأعنف سياسياً، وذا دلالة استخبارية قوية، فالرئيس فرانسوا هولاند، داخل الملعب يستمتع، ومن معه، بمباراة لكرة القدم بين فرنسا وألمانيا.
تعد حالة الطوارئ التي أعلنها هولاند تطوراً خطيراً في سياسة باريس، ففرنسا لم تعلن هذه الحالة منذ 1955 في مواجهة الثورة الجزائرية. خرج الرئيس الفرنسي على أهله مهتز المشاعر، فزِعا مما حدث، غير مصدّق. وفي الصورة من خلفه استقرت عينا رئيس وزرائه في رأسه، فهول ما حدث جعله شارد الذهن، وفي خلده ألف سؤال يطرح. لا فرق، إذن، بين باريس وبيروت وحلب وبغداد وصنعاء.
في التسعينيات من القرن الفائت، كان التشدق الفرنسي يملأ الإعلام صخباً، وكانت تفجيرات مدن الجزائر أو المدية أو جيجل، في مفهوم باريس حينئذ، "عجز سلطة". بماذا يجيب رئيس الوزراء، مانويل فالس، مواطنيه اليوم إذن، وهو الذي أنذرهم بشهب إرهاب قادمة، في تصريح له سبق أحداث الجمعة الباريسية بأيام؟ وكان قد سبقه إليها القاضي الفرنسي، تريفيديك، حين تنبّأ مسبقاً في حوار لمجلة باري ماتش، بقوله: "فرنسا هي العدوّ رقم 1 لتنظيم الدولة، والحرب الحقيقية لم تبدأ بعد وانتظروا الأسوأ"..، أهو عجز استخباراتي فرنسي، إذن، أم قلة حيلة أمام غول إرهابي، عابر للقارات وغير عابئ بقواعد الحرب والاشتباك.
"تحتل قضايا الهجرة واللجوء مكانة أساسية ضمن الأجندة السياسية للاتحاد الأوروبي. وستتعرض ألمانيا والسويد لضغط كبير. وستعمد الدول الأوروبية إلى غلق حدودها، وإلى إعادة النظر في العمل باتفاقية شنغن"

زاد عدد ضحايا هجومات باريس عن 120، صحيح أن المهاجمين، كما يقول شهود عيان، استعملوا أسلحة أوتوماتيكية، وأفرغوا ذخائر كثيرة، لكن سؤالاً آخر يطرح نفسه بإلحاح: ألم تساهم هجمة القوات الفرنسية غير الموفقة لتحرير الرهائن في رفع عدد القتلى؟ ثم ماذا لو أن أحد المهاجمين فجر نفسه في ملعب كرة القدم. كتب صديقي الصحافي المغربي، محمد واموسي، أنه كان، وابنه الذي يبلغ عمره التسع سنوات، يشاهدان مباراة فرنسا وألمانيا، حين حدث الانفجاران الأول والثاني. عاشا لحظات صعبة، وكان بينه وبين الموت خطوات، يتذكر لحظات الجحيم التي عاشها وابنه، وهو يتمنى لو لم يرافقه لمشاهدة مباراة، كادت تتحول إلى بركة من الدماء، لو تمكن الانتحاريان من الذوبان وسط الجمهور.
حدث هذا كله أياماً قليلة، بعد إعلان فرنسا رفع حالة التأهب في وسط قواتها الأمنية والعسكرية إلى أقصاها، وإعادة العمل بمراقبة الأفراد على حدودها البرية، تحضيراً للقمة العالمية للمناخ، والتي ستعقد في باريس نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. عاشت فرنسا جحيم الرعب والخوف، حدث هذا وفرنسا واقفة، أو هكذا هيئ لأولي الأمر فيها، فما الذي كان سيحدث، لو أن حالة التأهب لدى المصالح المعنية بحفظ الأمن كانت فاترة؟ ربما حدث شيء من ذلك في وسط قوات الأمن، ولعله ما دفع وزير الداخلية الفرنسي إلى إعلان قرار بلاده ضبط حدودها، بمساعدة استخبارات أجنبية.
أمر آخر جدير بالمتابعة، يذهب إليه مطلعون على شؤون اللاجئين في أوروبا، مفاده بأن مخاوف كبيرة اجتاحت ألمانيا وأوروبا من حدوث عمليات إرهابية دامية، وإلصاق هذه التهمة باللاجئين السوريين، خصوصاً وأن جهات كثيرة دست بين اللاجئين عملاء لها، وأن نسبة حاملي جوازات السفر السورية المزورة بين اللاجئين الذين يدّعون أنهم سوريون أكثر من 75% ، وهي نسبة تحتاج إلى تأكيد من جهات مختصة ومطلعة ومحايدة، على الرغم من قول السلطة الفرنسية إن جواز السفر السوري الذي وجد بجانب جثة أحد المهاجمين ملك أحد المهاجرين المسجلين في اليونان، في خضم موجة اللجوء الأخير. وفي حال ثبوت ذلك، يصبح حديث المؤامرة غير مستبعد. وكما قال أحدهم: دائماً في السياسة كل حدث كبير مقبل، يحتاج لحدث صادم يسبقه، ليكون مبرراً له، ويبدو أننا مقبلون على مرحلة جديدة، تكون منطقتنا ملعباً لها.
أجمعت تصريحات المحللين على اتهام جهات "إسلامية جهادية"، ومبررها أن لفرنسا يد طويلة في ضرب معاقل "داعش" في سورية والعراق. أما تصريحات هولاند فذهبت مباشرة إلى اتهام تنظيم الدولة الإسلامية بارتكاب ما أسماه "عملاً حربياً". ما يسترعي الانتباه استعماله مصطلح "عمل حربي"، وليس "عملاً إرهابياً"، ولعل هولاند يريد أن يقول إنه عمل يستوجب رد فعل "حربي"، ربما شبيه بما تقوم به روسيا في سورية، فهل ستكرر فرنسا ما فعلته في شمال مالي، حين أنزلت قواتها لمحاربة "تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي"؟. وهل سنشهد حضوراً للقوات الفرنسية على الأرض السورية، كما فعلت القوات الروسية في حملتها لنصرة بشار الأسد ونظامه؟ يبدو الوضع معقداً كثيراً في سورية عنه في الأراضي المالية، وتبدو تصريحات هولاند مجرد مقدمات مسار دولي طويل، تقدم عليه فرنسا، بعد الذي حدث في عاصمتها، كان أفصح عنه وزير الخارجية لوران فابيوس، في اجتماعات فيينا بشأن الأزمة السورية، بقوله: نظراً للظروف التي نعيشها، تحتم علينا، أكثر من أي وقت مضى، تنسيق الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب. .. وهي الدعوة التي لقيت صداها في موسكو، حيث أعلنت وزارة الداخلية الروسية حالة التأهب القصوى في صفوف قوات الأمن الروسية في عموم البلاد، حيث جاء القرار على خلفية الهجمات التي تعرضت لها باريس وتهديدات تنظيم الدولة الإسلامية السابقة لروسيا.
ما هو مقلق في كل الذي حدث، ناهيك عن الأسف على الأبرياء الذين ذهبوا ضحية صراعات بعيدة عنهم، أن محللين في شاشات تلفزيونية، فرنسية خصوصاً كانت لديهم مبرراتهم الجاهزة، بدأت في صب السهام والتهم وكل أنواع العنصرية على المسلمين والمهاجرين، فليس أخطر على المسلمين في العالم من الذين ينشرون الموت والرعب باسم الإسلام سوى ربما من يُستضافون لتحليل ما يحصل، بزعم احتكار فهم العقلية التي تحرك الإرهاب.
بعد الذي حصل في باريس، ستحتل قضايا الهجرة واللجوء مكانة أساسية ضمن الأجندة السياسية للاتحاد الأوروبي. وستتعرض ألمانيا والسويد لضغط كبير. وستعمد الدول الأوروبية إلى غلق حدودها، وإلى إعادة النظر في العمل باتفاقية شنغن، وسيكون الخاسر الأكبر في هذا كله المهاجرين والمسلمين.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع
فريق العمل
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى