اجتمعت كل جيوش العالم في سورية. جحافل وأساطيل، مَلأَت البحر حَتَّى ضَاقَ عَنها، وأشعلت جوف السماء قاذفات تمطِر السوريين موتاً وبراميل متفجرة. باتت سورية اليوم مكان القسمة والتقسيم. الكل جاء إلى دمشق لأخذ حصته من المنطقة. اجتمع الروم والتتار والفرس، واتحدوا على اقتسام الدولة العربية، دولة بني أمية. جاؤوا باسم الحرب على الإرهاب. يحاربون شبحاً اسمه «داعش». سيقتلون مَنْ بقي من أطفالنا، ويهشّمون ما تبقى من دِمَشْق التي أنجبت طُلَيْطِلَة، وجعلت بني العباس يزهون ببغداد. سيدمّرون سَرِيرَ الشّرقِ، وواحته المزهرة. ويبعثرون الوطَن الذي حوى تنوُّع الأَجْنَاس وَالأَدْيان بسماحة الحضارة الإسلامية. سيعاودون رسم صورة جلق، ويغيِّبون ذكر الوليد بن عبدالملك ورسمه. لن يسمحوا لأحد بعد اليوم بمناداته، وتذكُّره والتذكير به. سيغيّرون ملامح المسجد المحزون وتاريخه، سيعاودون على مسامعنا قول شوقي «فلا الأذان أذان في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذان»، وسيعود الأذان في دمشق غريباً كما بدأ أول مرة!
مروعٌ حشد جيوش الأرض في سورية. ونتائجه موحشة. دمشق هي منارة الحضارة العربية، اجتمعوا لخطفها من تاريخها وأهلها. تركوا «داعش» يهدّم آثارها، وغضّوا الطرف عن إيران لتهجير أهلها. كلّهم يترقّب اكتمال تشويه صورتها القديمة، وهدم مسجدها، حتى ينفضّوا إليها، وينقضّوا على أرضها، سعياً إلى هدم رمزية دمشق عند العرب والمسلمين. سيقسّمون سورية دويلات، تُوزِّع تركتها على الأقليات. هكذا تلوّح التصريحات، وتشي المؤتمرات. هكذا يخطط شركاء الحرب على سورية. كل يطمحُ لأخذ حصته منا ومنها.
خمس سنوات مرّت، ونحن مشغولون بطائرة أُسقِطت، أو سقطت. وحدود ستُغلق، أو أُغلِقت، وأخرى ستُفتح أو فُتِحت. ومؤتمرات ستُعقد أو عُقِدت، وفصائل اجتمعت، وتفرّقت. أخذتنا حماسة الدفاع عن السلطان من كيد القيصر وعجرفته. نترقّب دخول المقاتل التركي والفرنسي والبريطاني والأميركي إلى بردى، نكفكف الدموع، ونسأل الله السلامة. نعيش دهشة المواجهة المرتقبة، بين جحافل الغزاة، ونسأل ماذا سيفعل الروس والأتراك، وما هو مصير الأكراد والأرمن، ونسأل عمّن له تاريخ بيننا، ومَنْ له حق في شامنا وأرضنا، وتاريخنا ما عاد أحد عنه يسأل. هل نسينا أن عزّ الشرقِ أَوَّلُهُ دِمَشْقُ؟... وأن «دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نور وحق»، و «للأوطان في دم كل حُر يد سلَفَت ودَين مُستحَقُّ»!
هذه أول محاولة جادة لرسم مستقبل سوريا، وهو أول مؤتمر للمعارضة السورية يعقد برغبة رسمية دولية، منبثقا عن مؤتمر فيينا الأخير ورعاته، بمن فيهم الروس. في الرياض يجتمع ممثلون لمختلف الألوان، مدنيون وعسكريون، سنة وعلويون ودروز ومسيحيون، وبالطبع يغيب عنه أهم اللاعبين، مثل «داعش» و«جبهة النصرة».
والمطلوب من المجتمعين الاتفاق، حتى يتم البدء في تشكيل حكومة انتقالية في غضون ستة أشهر، تدير البلاد لمدة عام ونصف، تفتح بعدها صناديق الاقتراع. مؤتمر الرياض الخطوة الأولى لإقناع المعارضة بالسير في مشروع الحل السلمي، الذي يفترض أن ينهي سلطة بشار الأسد، ويحشد الدعم الدولي لتنظيف البلاد عسكريًا من ميليشيات إيران و«داعش» وبقية التنظيمات الإرهابية. ومع أن غاية المؤتمر تبدو خرافية، والمهمة تعجيزية، إلا أن على المعارضة أن تفكر بعقلها.
وليس كل المشاركين في «الرياض» اليوم هم من المنتمين للمعارضة الحقيقية للنظام، بل نرى على القائمة شخصيات تسمي نفسها «معارضة مستقلة»، ونحن نعرف أن بعضها محسوب على إيران ونظام بشار الأسد. وقد توحي «المرونة» في قائمة المدعوين، بضم محسوبين على إيران، بأنها من مقتضيات التوافق الذي اشترطه مؤتمر فيينا الأخير، وطلب من السعودية تنظيم مؤتمر المعارضة. وأتوقع أن يلعب فريق إيران هذا دور حصان طروادة في لقاء الرياض، لإفشال التوافق المأمول، بإطالة الجدل وتخريب المؤتمر.
وقد لاحظنا أن إيران حرصت في مؤتمر فيينا على ألا تقول: «لا» لفكرة حكومة بديلة للأسد، التي لا تعني إبعاده، بل تقليص صلاحياته، في نظام مشابه لنظام العراق، حيث إن لرئيس الجمهورية صلاحيات محدودة جدًا، ولرئيس الوزراء والبرلمان سلطات أكبر. وهنا التحدي أكبر أمام قوى المعارضة الحقيقية، ليس فقط في التوصل إلى تفاهم بينها، بل أيضًا عدم الانزلاق في لعبة التخريب التي يحملها ممثلو إيران، المتنكرين في زي المعارضة.
أما لماذا على المعارضة، وفي مقدمتها «الائتلاف الوطني»، الانخراط في مشروع التغيير الجزئي، فهو، للسبب نفسه الذي تلعبه إيران، تخريب المشروع الإيراني الروسي، القائل بأن المعارضة أعجز من أن تتفق على أن تكون بديلاً للأسد. لو نجحت المعارضة في الترفع عن خلافاتها، وتوصلت إلى حلول عملية لتشكيل الحكومة، فإننا سنصل إلى ساعة التنفيذ، وستتم محاصرة الطرح الإيراني، ومن المتوقع أن تخرج روسيا من تحالفها الحالي. ولا يوجد شيء تخسره المعارضة لو اتفقت وتعاونت من أجل التسريع بتنفيذ مقررات فيينا، أما إن تناحرت وفشلت فإنها ستخسر، لأن الدول الكبرى ستقرر بالنيابة عنها غدًا.
يمكن الجزم أن كل القرارات التي تم اتخاذها بشأن سوريا منذ خمس سنوات ، لم يكن للسوريين فيها أي رأي أو تدخل ، لا من قريب أو من بعيد ، وخصوصاً الإجتماعات الأخيرة التي تمت في فيينا ، وآخرها في 14 الشهر المنصرم ، و التي أقرت خارطة الطريق للحل و التي يعتزم تنفيذها لطي الملف السوري.
مؤتمر الرياض الذي ينعقد يوم الثلاثاء يعتبر ، خطوة من الخطوات الممتدة على مدى 18 شهراً ، للوصول إلى الحل و الإنتقال السياسي ، وفق ما يصفه اللاعبون الدوليون في القضية السورية .
وهذه المرة ، لن يكون القرار مسلوباً أو محاصراً من أحد ، ففي الرياض من المفروض أن يكون القرار لمن يدعون أنهم سوريون ، و يدعون تمثيل السوريين في المحافل الدولية ، سواء أكانوا سياسيين أم عسكر ، و أي قرار سيخرج مخالف للمنطق و الأساس الذي خرج الشعب لأجله ، و ضحى بالملايين ، أويحمل في طياته مهادنة أو تسويف أو تمييع لأبرز مطلب "إسقاط النظام" ، لن يكون له اي وجود على الأرض ، و سيسقط القناع الأخير عن الجميع ، و إن كنا دقيقين سيتعرى الجميع أمام الشعب .
صحيح أن الفكرة المأخوذة عن الشعب السوري أن لاحول و لاقوة له ، و أنه غير قادر على مجابهة الجيوش (الفعلية – المتخاذلة – الصامتة ) المحتشدة ضده وحده ، لكن في الحقيقة هذا الشعب الحي الذي بقي مصراً ، و متمسكاً بمطالبه ، ومثابراً عليها ، طوال خمس سنوات ، قد تزيد في شراستها عن الحربين العالميتين الأولى و الثانية و الحروب عبر التاريخ ، و رغم ذلك لم يرضخ ، و لامانع لديه بأن ينضم لكل المعارضين له ، معارضين جدد انسلخوا منه و تمردوا عليه و طعنوه في الظهر .
في الرياض لن يكون هناك باب للتنازلات ، فعلى الجميع التيقن ان ليس لدى الشعب ما يخسره ، و ليس هناك ما يحزن عليه ، و كل ما بحاجته الشعب هو موقف صلب و متين ممن حملوا راية تمثيله ، في الخارج أو في الداخل كفصائل ، و ليس مطلوب منهم أن ينتصروا بشكل كامل للشعب ، و لكن أضعف الإيمان أن لايبيعوا تضحياته بأبخس الأثمان .
يكتسب مؤتمر الرياض، الذي سيجمع أطراف المعارضة السورية السياسية والعسكرية منتصف الشهر الحالي، أهمية كبيرة سواء لجهة دفع محادثات فيينا في سوريا وتذليل العقبات في طريقها، أو تطوير أداء المعارضة السورية التي ظهرت طيلة السنوات الماضية بأضعف أداء.
الأهمية تلك انعكست خطراً داهماً على النظام السوري والأطراف الداعمة له، وخصوصاً الطرف الذي يشاركه الرؤية إلى حد التطابق أي إيران. كان لافتاً إعلان الأخيرة على لسان حسين أمير عبداللهيان نائب وزير خارجيتها، أن اجتماع المعارضة السورية في الرياض من شأنه أن “يضرّ” بمفاوضات فيينا بشأن الصراع السوري.
تصريحات إيران تنطلق من رؤية مشتركة مع النظام السوري تتمثل في أن المطلوب من محادثات فيينا هو توحيد المجتمع الدولي لمحاربة الإرهاب المتمثل بالمعارضة السورية. بكلمات أخرى، تبتغي طهران ودمشق من مفاوضات فيينا أن ترسم مسار هزيمة فصائل الثورة السورية، وذلك بتفريغ تلك المفاوضات من محتواها ومن البيان الختامي الذي تم التوصل إليه. ولتحقيق تلك الغاية، وضعت إيران استراتيجية متعددة المستويات لجعل محادثات فيينا تخرج بنتائج لا تمت بصلة إلى التسوية المنشودة.
تمثل المستوى الأول في تكثيف العمليات العسكرية في سوريا وانتزاع مساحات جديدة من الأراضي التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية بسرعة وبسلاسة قد تشكل ضربة معنوية للمعارضة وللداعمين لها، وتهيئتهم لقبول تنازلات أكبر في محادثات فيينا.
وفي هذا السياق تحدثت تقارير عن أن قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، كان قد أقنع موسكو أثناء زيارة سرية بأن تندفع إلى ميدان الحرب في سوريا بأسلحتها النوعية التي يمكن أن تحدث تبدلاً في ميزان القوى العسكرية. وهو ما فعلته موسكو بالتزامن مع إرسال إيران للآلاف من الجنود للمشاركة في المعارك الحاسمة.
لكن السلاسة في انتزاع مناطق تخضع لسيطرة المعارضة كانت مفقودة تماماً، بل كانت الصعوبات أكثر من أن تحصى، وتخللتها “مجزرة الدبابات” في حماة واستعادة المعارضة لمناطق كانت قد خسرتها قبل عام، وأخيرا سقوط الطائرة الروسية فضلاً عن مقتل العشرات من الإيرانيين. جاءت النتائج معاكسة لما أرادته طهران، إذ أثبتت أن الحسم العسكري أو الإخلال بميزان القوى مهمة مستحيلة في سوريا، وأن المسار السياسي حتمي، سواء اليوم أو بعد سنوات.
المستوى الثاني لمخطط إيران والنظام السوري تمثل في الفكرة الداعية إلى أن يقوم المبعوث الدولي للصراع السوري، ستيفان دي ميستورا، وبالتشاور مع مجموعة العمل الخاصة بسوريا، باختيار وفد المعارضة السورية فيما يقوم النظام السوري باختيار وفده.
والحال أن إيران وروسيا لديهما وفد سوري “معارض” كان قد شارك في مؤتمرات سابقة من إعداد البلدين قبل أشهر، وقد جرى تعويم غالبية أعضاء ذلك الوفد من قبل أجهزة أمن النظام السوري، ويراد لهم أن يكونوا “الوفد المعارض” في محادثات فيينا. تشارك إيران النظام السوري في هذه الرؤية، في حين يبدو أن روسيا اتخذت موقفا أقل تشنجا وتريد لهم أن يكونوا مجرد جزء من الوفد المعارض. يبدو الهدف هو اختراق المعارضة السورية بكتلة وازنة من المعارضين “الوهميين” للتأثير في مجرى التفاوض.
المستوى الثالث هو اختيار قائمة بالمجموعات الإرهابية في سوريا، وقد كان الطموح الإيراني الروسي هو تصنيف غالبية فصائل المعارضة السورية المسلحة ضمن قائمة الإرهاب ليصادق عليها المشاركون في فيينا، وهو ما سيعطي الحرب ضدها شرعية أكبر. بالمقابل يقر حلفاء النظام بشرعية وجود بعض الفصائل الصغيرة التي لا يمكن أن تؤثر في مجرى التفاوض.
يأتي مؤتمر الرياض ليقطع الطريق على خطط إيران بشكل خاص وروسيا بدرجة ثانية في تحقيق الهدفين الأخيرين المشار إليهما. ذلك أن المؤتمر وجه الدعوات للمعارضين السوريين الذين يعلنون عداءهم لنظام الأسد وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأمور ويطالبون بتغيير حقيقي في بنية النظام، الأمر الذي سوف يقلص من تواجد “المعارضة الوهمية” في الوفد المفاوض.
كما سيساهم مؤتمر الرياض في توحيد المعارضة السورية ودفعها للاتفاق على وثيقة مبادئ تخص الحل السياسي في سوريا وآليات التفاوض مع النظام والخطوط الحمراء التي لا يمكن التنازل عنها. وهو عمل جبار من المنتظر أن تكون له آثار هامة على أداء المعارضة السورية بصورة عامة وحتى لو تعطل مسار فيينا في وقت لاحق.
الإنجاز الأكبر للمؤتمر يتمثل في دعوته ممثلين عن الفصائل العسكرية الفاعلة على الأرض ولهذا الأمر أهمية مزدوجة. الأولى هي تشكيل جسم معارض تتناغم فيه الرؤية السياسية مع القوة العسكرية، وتكون لقراراته فاعلية وحظوظ أكبر للتطبيق على الأرض، وهو ما افتقدته الثورة السورية منذ اندلاعها. الأهمية الثانية هي دعوة أكبر فصائل العمل العسكري ذات التوجه الإسلامي وخصوصاً حركة أحرار الشام وجيش الإسلام، ما يمكن أن يشجعها على تخفيف حدة الخطاب المتطرف والطائفي، وتبني خطاب وطني مقابل ذلك.
تتالت رسائل شخصية تقول إن إيران، أخيرًا، قررت استضافة الأسد، أي منحه اللجوء، واستقباله في طهران كبطل. واستشهدت بتصريح ورد على لسان ولايتي مستشار المرشد الأعلى، عندما زار قبل أيام كلاً من سوريا ولبنان. ويبدو أن المناخ «الإيجابي» النادر وسط هذا الخراب وراء مثل هذه التمنيات، حيث أفرج تنظيم جبهة النصرة الإرهابي عن المخطوفين العسكريين اللبنانيين في صفقة رتبها «حزب الله» وقطر، والأنباء الإيجابية أيضًا وردت عن اتفاق على سليمان فرنجية ليكون رئيسًا للجمهورية اللبنانية بعد نزاع طويل على المنصب الشاغر. كلها توحي بأن سبحة الانفراجات قد بدأت! فهل حان موعد خروج الأسد حقًا؟
لو يعلن مسؤول إيراني كبير، مثل ولايتي، أنهم سيمنحون الأسد اللجوء، سيكون تطورًا بالغ الأهمية، لا يمكن أن يمر على الحكومات والصحافة هكذا بلا صدى. لم أجد أثرًا له إلا في وسائل إعلام سورية معارضة، وهي بالطبع ليست مرجعًا في أخبار الخصم. وبعد بحث طويل عثرت على الفيديو المطلوب كاملاً، أجرت المقابلة قناة «الميادين» مع ولايتي، وفي آخر الحديث، فعلاً، تسأل المذيعة الضيف الإيراني، فيما إذا كانت طهران ستستقبل الأسد قريبًا، «خاصة أنه زار موسكو قبل شهر؟». السؤال يوحي بأن طهران ممتنعة عن استقبال الأسد. يجيبها ولايتي بأن «وجود الأسد في دمشق ضروري، وعندما يكون الأمر واجبًا نحن في إيران سنستقبله، وليس هناك فرض أي رأي (من عندنا) على السيد الأسد، ولا أن يترك الساحة. نحن لا نريده أن يترك بلده، وعندما يريد السفر إلى إيران نحن مستعدون لاستقباله وبحرارة، وسنستقبله كبطل؛ فقد دافع عن شعبه خمس سنوات ولا نريد أن يكون مكانه خاليًا».
من يستمع إلى الشق الأخير من إجابة ولايتي يظن أنه يرحب بتقديم اللجوء على الأسد، لكن السؤال كان واضحًا بأن الأسد الذي زار موسكو لم تستقبله طهران بعد كرئيس زائر. إجابة ولايتي لا علاقة لها بمنح اللجوء، إنما غامضة. ولايتي لم يرحب بزيارة الأسد بشكل مباشر، بل قال لا نريده أن يترك بلده في هذه الظروف. وهذا عذر غير مقنع، فقد رأينا الأسد ترك دمشق وطار إلى موسكو، والرحلة تستغرق أربع ساعات بين العاصمتين، في حين أن الرحلة من دمشق إلى طهران ساعتان فقط!
أتصور أن ارتباط إيران بنظام الأسد قوي وعميق، أكثر من مجرد علاقة مصالح. منذ بداية الثورة كانت طهران وراء سياسة الأسد المتطرفة. وهناك من يرى أبعد من زمن الثورة، وأن الإيرانيين يديرون سياسة سوريا منذ تولي الأسد الحكم، في عام 2000، بما يفسر نهجه العنيف في لبنان، وسلسلة الاغتيالات التي اتضح أن إيران كانت طرفًا فاعلاً معه فيها، وكذلك كانت معه في إدارة ما كان يسمى المقاومة العراقية و«القاعدة» من داخل سوريا بعد الغزو الأميركي. الحلف الإيراني السوري مستمر إلى اليوم، ولن تتخلى طهران عن الأسد إلا في الساعة الأخيرة عندما تخسر دمشق. فهل نحن قريبون من ساعة الأسد الأخيرة؟ صعب أن نقدر لحظة الهزيمة بسبب دخول قوات دول كبرى إقليمية ودولية، إنما الذي نثق فيه هو أن الأسد لن ينتصر مهما نجح الروس والإيرانيون في دعمه وإطالة أمد الحرب.
وما دام الروس والإيرانيون في حالة اتفاق في سوريا علينا ألا ننتظر إبعادًا سهلاً للأسد، مثل منحه اللجوء إلى إيران، وفي حال اختلاف المواقف بين البلدين هنا سيُصبِح موقف النظام السوري صعبًا، بوجود قوات عسكرية للبلدين تقاتل في الجو وعلى الأرض. وقد يوجد اختلاف في الرأي اليوم بين الروس والإيرانيين لكنه لا يرقى إلى درجة المراهنة عليه، خاصة بعد إسقاط الأتراك الطائرة الروسية التي جعلت الروس يزدادون قربًا من إيران. الاختلاف قد نراه في مفاوضات فيينا على مستقبل سوريا، وطرح الحلول السياسية. فقد سبق للرئيس الروسي أن تحدث صراحة عن أن بقاء الأسد ليس مهمًا، وأن الأهم المحافظة على مؤسسات الدولة السورية، الأمر الذي يختلف جذريًا عن الطرح الإيراني، الذي يقول إن شخص الأسد هو الشرعية. وهذا ما كرره ولايتي في حديثه لـ«الميادين» الذي قال إن الأسد سيبقى حتى نهاية فترته الرئاسية، ويجب أن يخوض الانتخابات المقبلة أيضًا، ونحن واثقون أنه سيفوز بها من جديد! موقف إيران الإصرار على الأسد ولو بقوة السلاح والتزوير، لكن إن مال الروس إلى حل سياسي يقصي الأسد، أو يجعله مثل الرئيس في العراق مجرد منصب فخري، هنا قد يقع الخلاف بين الحليفين.
بقدر ما يبدو إسناد مهمة "تصنيف" الجماعات المقاتلة في المعارضة السورية للأردن بمثابة اعتراف دولي وإقليمي بكفاءة الأجهزة الأمنية الأردنية، وفقاً لفهم كبار المسؤولين في عمّان، بقدر ما أنّ هذه المهمة على درجة كبيرة من التعقيد والحساسية، وهي بمثابة "حقل ألغام" يتوجب على المسؤول الأردني أن يسير عليه بحذر.
يجيب مسؤولون رفيعو المستوى على المخاوف بشأن حساسيات المهمة الجديدة بأنّ الأردن لن يقوم وحيداً بتسمية الجماعات وتصنيفها، فهو سيقود جهوداً لتنسيق الرؤية الدولية والإقليمية، ولن يتورط في نتائج تضعه في أزمة مع حلفائه التقليديين، بخاصة المملكة العربية السعودية التي تسابق الوقت، بدورها، عبر محاولات توحيد المعارضة السورية وتأهيلها لأي استحقاقات ممكنة لعبور الحل السياسي والدبلوماسي الممكن.
يبدو "داعش" التنظيم الوحيد الذي يحظى بتوافق دولي وإقليمي على تعريفه بالإرهاب، بينما يبدو تعريف جبهة النصرة واقعياً أكثر تعقيداً منه على الورق، إذ إنّ الجبهة، بوصفها جزءاً من القاعدة، تعتبر، وفق الأطراف الدولية والإقليمية، تنظيماً إرهابياً، لكن الجبهة هي، في المقابل، جزء من شبكة تحالفاتٍ عريضة وعميقة في المجتمع السوري، ومع الفصائل المعارضة الأخرى، ما يجعل جزءاً مهماً من عملية تعريف "النصرة" أمراً ملتبساً، مثلما هي عملية تصنيف "جيش الفتح" الذي يتشكل، بدرجة أساسية، من "النصرة" وحركة أحرار الشام.
وحركة أحرار الشام ملف إشكالي، أيضاً، فهي في تصنيف المؤسسة الأمنية الأردنية وتعريفها بمثابة حركة إرهابية، أو "شبه إرهابية"، وحليف لجبهة النصرة، لكنّ الحركة قدّمت، عبر أحد أبرز قيادييها، لبيب النحاس، أخيراً، رسائل مهمة إيجابية، وتمت إعادة هيكلة القيادة والتخلص من الجناح المتشدد، ما يحدّ من الدعاوى التي تدفع إلى أنّ الحركة إرهابية وملتبسة الهوية. فكيف سيتعامل الأردن مع هذه التطورات والخلافات الجوهرية بين كل من الروس والنظام السوري والإيرانيين من جهة، والأتراك والقطريين والسعوديين وربما معهم أوروبيون من جهة أخرى؟
والحال كذلك، يمكن النظر إلى عشرات المنظمات السورية المقاتلة بأنّها تقع في "المنطقة الرمادية"، وستكون محلاّ للإشكاليات والخلافات بين الأطراف الدولية والإقليمية، مثلما هي الحال مع الحركات الإسلامية في ريف حلب، وبعض الفصائل في الجنوب، وريف دمشق، فالوصول إلى تعريف واضح توافقي بين الروس والأميركيين والعرب والأتراك على هذا التصنيف ليس مهمة سهلة، بل هي المهمة الشائكة.
يبقى السؤال؛ طالما أنّها قصة معقدة، فلماذا قبل بها الأردن؟ الجواب يتمثل بالعمل على تسجيل نقاطٍ عديدة. الأولى أن المسؤولين الأردنيين ينظرون إلى ترشيح روسيا بلدهم، وقبول الأطراف الأخرى بذلك، هو بمثابة اعتراف بدور أردني أساسي في الملف السوري، بعد بروز مخاوف أردنية بتحجيم هذا الدور، بعد التدخل الروسي. والثانية أنّ هنالك علاقة شخصية جيدة بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والملك عبدالله الثاني الذي يسعى إلى تقوية هذه العلاقة وتعزيزها، ولعب دور وسيط بين الروس والآخرين في الملف السوري.
لكن "القطبة المخفية" - في الموافقة الأردنية على هذا الدور- تتمثّل بأنّ الترشيح الروسي والقبول الدولي بذلك ينقل الأردن من حيّز الاتهام من النظام السوري وحلفائه الإيرانيين، بدعوى دعمه المعارضة المسلحة وجبهة النصرة، إلى حيّز آخر تماماً، ودور جديد، وهو الذي يفضله الملك، ويسعى إليه، دور "الوسيط المحايد"، أي عملية إعادة تموضع للموقف السياسي الأردني، من طرف خصم للنظام السوري إلى طرف محايد ووسيط.
لذلك، وإن لم تكن الأخبار مؤكدة عن زيارة رجل الأمن السوري القوي، علي مملوك، أخيراً، إلى عمان، فهي، في المقابل، ليست مستبعدة، في ضوء التقارب الأردني- الروسي، والعمل على إعادة التموضع التي شملت اتفاقاً آخر حول المنطقة الجنوبية في سورية، تعهد فيه الأردن للروس بإيقاف عمل غرفة العمليات لدعم الجبهة الجنوبية عسكرياً، وتعهد الروس بمنع أي عملية عسكرية جديدة في الجنوب، أي باختصار حفظ "الوضع القائم" مؤقتاً.
يعيش الساحل السوري، المُدلل بالنسبة لباقي المدن السورية التي تهدّم معظمها، ونزح سكانها، حالة شبه دائمة من الظلام، بسبب الانقطاع الطويل للكهرباء، حتى أن المواطن السوري الذي يعيش في الساحل (اللاذقية وطرطوس) يشعر بأن ثمة صفات مشتركة بينه وبين الخفاش الذي بالكاد يُبصر في الظلام، وقد يبدو الحديث عن التقنين الشديد للكهرباء في الساحل نوعاً من الرفاهية والترف، بل وقلة الذوق أيضاً، مقارنة بباقي المناطق والمدن السورية الملتهبة، والتي تتعرض للقصف والدمار اليومي والمجازر التي تحصد أرواح مدنيين، لا ذنب لهم سوى أن قدرهم أن يكونوا سوريين، لكن كل إنسان يطمح لعيش كريم يُشعره بكرامته الإنسانية. ومنذ بداية الثورة السورية، أي منذ أكثر من خمس سنوات، بدأ التقنين الشديد للكهرباء، وكانت الحجة التي تقدمها لنا وزارة الكهرباء أن الإرهابيين يستهدفون مولدات ومحطات الكهرباء!.
أكثر من خمس سنوات، والحجة نفسها تقدم للمواطن السوري في الساحل، أن الإرهابيين يستهدفون محطات الكهرباء، ولأن المواطن السوري مغلوب على أمره وأعزل في مأساته، فهو مُضطر لتحمل كل الظروف، فالمهم البقاء على قيد الحياة، وتأمين الحد الأدنى من كرامة الحياة لأولاده، تعطلت معظم الأجهزة الكهربائية في المنازل، بسبب شح الكهرباء، بل لم يعد لها من لزوم، فالغسالة لا تعمل، ولا البراد، وعاد الناس سنوات إلى الوراء، كما لو أن السوري يعيش في زمن قبل اختراع البراد والغسالة والتكييف والتدفئة، ومن يتابع ما يكتبه السوريون على صفحات الفيس بوك يرى كم يعاني هذا الشعب العظيم في تحمله للمعاناه من قيظ الصيف وبرد الشتاء، فلا وجود للمازوت ولا للكهرباء، من أجل التدفئة أو التبريد، ويكاد طلاب المدارس يُصابون بالعمى من كثرة الدراسة في ضوء الشموع. وحالياً، تنقطع الكهرباء أربع ساعات متواصلة، لتأتي ساعتين فقط، وتأملوا شكل حياةٍ كهذه، كما لو أن مشاعر الناس وأحاسيسهم تُهان وتُنتهك مع كل انقطاع، فلا يمكن إنجاز عمل، وأيه سهرة سيقضيها المواطن السوري، حين تنقطع الكهرباء من 7 مساء وحتى 11 ليلاً. هذا وقت التحضير للعشاء، إن كانت هناك أسر لا تزال تملك القدرة على شراء طعام العشاء، ووقت متابعة برامج التلفزيون، ووقت الدراسة للطلاب، ووقت السمر والسهر للأصحاب. ألا يشكل انقطاع الكهرباء، في هذا الوقت بالذات، إهانة وإذلالاً وأذى للمواطن السوري، ما يسمونه اللدات (وهي شرائط رفيعة من كهارب صغيرة، تعطي ضوءاً يخرش العيون) ليس حلاً للمشكلة، وحتى المولدات الكهربائية التي تصرع الناس بجعيرها، وتلوث الهواء بسخام دخانها الأسود، لم تعد تعمل بسبب انقطاع المازوت وشحه.
هذا هو وضع الساحل السوري المُدلل الذي يضم أكثر من مليوني نازح من المناطق المُلتهبة في سورية (اللاذقية وحدها تضم مليوني نازح من حلب وغيرها)، ولا توجد أسرة سورية إلا
"لا توجد أسرة سورية إلا ودفعت مبالغ طائلة لشراء مولدات صناعة صينية، تتعطل بعد أشهر وتعطب"
ودفعت مبالغ طائلة لشراء مولدات صناعة صينية، تتعطل بعد أشهر وتعطب، وقد ربح المليارات التجار الذين يستوردون المولدات. ولكن، لم يعد أي سوري يصدق أن هذا التقنين المديد والمهين للكهرباء هو بسبب أن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء، فحين تكون هناك مناسبة (مهمة)، مثل خطاب للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، لا تنقطع الكهرباء أبداً! بل يشعر المواطن أن وزارة الكهرباء تتمنى لو تكون ساعات اليوم 60 ساعة، لتغمرنا حتى الاختناق بالكهرباء. وفي مناسبات عديدة، تعتبرها الدولة مهمة، كأعياد وطنية معينة وخطابات لسياسيين مهمين يُعلون من شأن السياسة السورية، لا تنقطع الكهرباء دقيقة. ولا يحتاج فهم الحقيقة لذكاء خارق، فالأمر لم يعد لغزاً، فالواضح أن الغرض من انقطاع الكهرباء الطويل والمُهين بهذه الطريقة في الساحل السوري المُدلل هو إذلال المواطن، وإجباره على قبول حياة حقيرة ووضيعة، وأن يقتات بالحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، كما يتحول النمر آكل اللحوم إلى حيوان يأكل الأعشاب، كما في قصة زكريا تامر "النمور في اليوم العاشر". هذا هو المطلوب أن تُكسر شوكة الكرامة لدى السوري، فيصبح كل مطلبه أن يبقى على قيد حياة وضيعة وذليلة، يلهث وراء لقمة العيش فقط، ويرعبه أن يموت أولاده من الجوع.
لكن الشعب السوري عظيم، لن يتحول لخفافيش الظلام، ولن يصير نمراً "آكلا" الأعشاب، لكن المواطن يشعر بالغبن من الدولة التي لا تؤمن له الحد الأدنى من العيش الكريم، وهو يعرف أن الغرض من الإمعان في قطع الكهرباء إذلاله، وليس لأن الإرهابيين يضربون محطات الكهرباء. من يحضر جلسات العزاء للشهداء والشبان السوريين الذين قُصفت أعمارهم، من دون أن يعرفوا لماذا تم زجهم في هذه الحرب، يدرك مدى غضب الناس وتمردهم على عيش ذليل، وعلى ذهولهم، كيف فقدوا أولادهم، ربوهم وأهدوا لهم أرواحهم وحبهم، من يحضر جلسات العزاء التي تحولت إلى النشاط الإجتماعي الوحيد في سورية يدرك، وهو يسمع أحاديث الناس التي لم تعد هامسة، بل بصوت يبلغ السماء، أن الكيل قد طفح، وأن السوري لم يعد يتحمل ذل العيش، ولا انهيار الليرة السورية والتضحية بالأبناء، كما لو أنهم قرابين للشيطان أو أضاح. ليس أولادنا أضاحي لأحد. أولادنا وشبابنا قُتلوا، ولن نسكت على قتلهم مهما كان السبب. سبب أشبه بالحجة التي تُقدم لسكان الساحل أن انقطاع الكهرباء شبه الدائم بسبب الإرهابيين. كثر الله من خطابات السياسيين التي وحدها تجعل الكهرباء في الساحل، بل في سورية كلها.
هل يشكل مؤتمر المعارضة في السعودية فرصة إيجابية؟
ثمّة عوامل دافعة، اليوم، ليكون مؤتمر المعارضة السورية في الرياض مختلفاً بعض الشيء عن مؤتمرات سبقته، منها التوافق النسبي السعودي التركي القطري، أو بالأحرى عدم التنافر، حول قضايا أساسية، تتعلّق بتصوّر الحل السياسي المنشود، والزخم العالمي الدافع لحل المشكلة السورية، ممثلاً بمؤتمر فيينا، وبرغبة معظم الدول، على تناقضاتها، في الخلاص من عبء هذه المشكلة وآثارها، مثل قضيتي الوجود الروسي واللاجئين السوريين، وانتقال أعمال تنظيم داعش إلى خارج حدود سورية والعراق. وأخيراً، هناك ميزة إضافية للمؤتمر على سابقاته، تتمثل بمشاركة السياسيين والعسكر في مؤتمر واحد أول مرة. ولكن، هناك عشرة تحديات وعقبات، تقف أمام المؤتمر، ليكون محطة إيجابية ودافعة للحل:
التحدي الأول، الإعداد الجيد للمؤتمر: تم الإعداد للمؤتمر من السعودية بشكل رئيسي، وربما عبر استشارة شخصيات سورية، ومن البديهي القول إن عدم وجود مبادرة سورية لتوحيد جهد المعارضة قبل المؤتمر أمر سلبي، ما يعني أن المعارضة لا تبذل أي جهد في مشكلةٍ تخصها بالدرجة الأولى، وتنتظر الآخرين كي يرسموا لها توجهاتها وخطواتها، ومتغافلةً عن حقيقة أساسية، هي أن المؤتمر الناجح ينجح قبل عقده، أي عبر التنظيم الجيد والدعوات المدروسة والجلسات التمهيدية لتحديد نقاط الخلاف المتوقعة والحلول المقترحة، أما ترك جميع الأمور إلى لحظة عقد المؤتمر، فإنه سيجعل من هذا المؤتمر، وغيره، مناسبة جديدة للتفريق وتشتيت الجهد.
التحدي الثاني، طبيعة المدعوين وتناقضاتهم: تولّد الأسماء المدعوة شيئاً من عدم الثقة بقدرتها على إنجاز شيء مختلف، خصوصاً أنها موجودة منذ خمس سنوات، ولم تنجز ما يُعتدّ به على صعيد توحيد رؤيتها، وتنسيق جهدها، والقيام بدور إيجابي تجاه الثورة السورية. وتضاف إلى ذلك الاختلافات بين السياسيين والعسكر التي لم تعالج، طوال الفترة الماضية، بهدوء وعبر حوار تراكمي. كذلك، هناك الاختلافات بين السياسيين أنفسهم، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة وهيئة التنسيق مثلاً، والتي قد تؤدي إلى تفجير المؤتمر، خصوصاً أن محاولات عديدة جرت في سياق التوفيق بين الجانبين، وانتهت إلى الفشل، بحكم الاختلاف حول طبيعة الحل السياسي أصلاً، وبحكم عدم الالتزام بالاتفاقات المعقودة بينهما.
يضاف إلى ما سبق القضية الكردية، وما تطرحة من مشكلات جديدة في ضوء ما يجري على الأرض، خصوصاً أنه لم تكن هناك محاولات جدية للوصول إلى رؤية توافقية حولها.
لا نبالغ إن قلنا إن نجاح المؤتمر يعتمد، بدرجة ليست قليلة، على طبيعة المدعوين: إدراك اللحظة السياسية والتحديات الراهنة، الخبرة السياسية، المبدئية والشجاعة في آن معاً، وضع مصلحة سورية والسوريين معياراً لأي توجه، وكذلك الثقة بالذات، ففي الحصيلة، هناك حاجة عالمية لدور سوري، ومن دونه لا يوجد حل، على الرغم من وعينا الدور الكبير الذي ستلعبه الدول في عملية التفاوض، وأخيراً التزام المدعوين قرارات المؤتمر في المرحلة التالية، وبناء خطة عمل واضحة.
التحدي الثالث، اختزال المؤتمر إلى انتخاب وفد مفاوض للنظام: يمكننا، ببساطة، استنتاج أنه لا توجد إرادة لدى المدعوين بانتخاب قيادة سياسية موحدة ومؤقتة، فهيئة التنسيق لن تقبل بوجودها ضمن قيادة مشتركة فيها عسكر، و"الائتلاف" لن يقبل بأي جهة تشاركه "شرعيته"، والعسكر لن يقبلوا، على الأرجح، بمشاركة السياسيين لهم في القرار، تحت وقع الاعتزاز بقوتهم ودورهم
"قد يكون مؤتمر فيينا مجرد محطة غايتها إشغال السوريين عدة أشهر ريثما يتم تغيير التوازنات على الأرض"
على الأرض، وهناك سعي كردي للظهور طرفاً مستقلاً، والمستقلون من الشخصيات المشاركة لا يعرفون، عادةً، على أي جنب يميلون، ما يعني اقتصار أعمال المؤتمر على تشكيل وفد مفاوض للنظام، وهذا ينسجم مع التوجهات الإقليمية والدولية، من دون الانتباه إلى أن هذا الوفد يمكن أن ينحلَّ، مستقبلاً، في حال كان طريق "فيينا"، وما يطرحه من حل سياسي، مسدوداً، وهو الاحتمال الأرجح، فقد يكون مؤتمر فيينا مجرد محطة غايتها إشغال السوريين عدة أشهر ريثما يتم تغيير التوازنات على الأرض، وخصوصاً إذا كان التحليل الأكثر عقلانية يقول بعدم إمكانية رحيل الأسد وفريقه، بالطرق المعروضة حتى اللحظة.
التحدي الرابع، الأوراق التي ستصدر عن المؤتمر: هناك أهمية لإصدار مجموعة من الأوراق التي يمكن أن تشكل بوصلة حقيقية: وثيقة دستورية/ عهد وطني (سورية الجديدة)، خطة سورية للانتقال السياسي، تضع محددات واضحة لوفد التفاوض (وثيقة جنيف – حل سياسي من دون الأسد)، ميثاق للعمل العسكري المعارض/ مدونة سلوك، نظام داخلي دقيق يسمح بحركة مرنة للقيادة السياسية المنتخبة، أما اقتصار المؤتمر على تشكيل وفد تفاوضي، وتحميله مجموعة من الشعارات العامة، فإنه لن يكون عملاً مفيداً.
التحدي الخامس، تشكيل وفد تفاوضي مفخخ: من مصلحة سورية والسوريين أن يكون وفد التفاوض السياسي مع النظام موحداً ومتماسكاً. لذا، ينبغي وضع احتمال كبير لتفخيخ هذا الوفد بشخصيات أو قوى يمكن أن تقبل بالأسد، أو محسوبة على روسيا أو إيران أو مصر، على الرغم من وجود احتمال لعدم مشاركتها. وهنا، تأتي ضرورة وضع آليات محدّدة، لضمان عدم تشكيل وفد سياسي ممزق (تشكيل الوفد عن طريق الانتخاب مثلاً)، وكذلك إقرار مبدأ عدم نفاذ أي نتائج، يتوصل إليها وفد التفاوض مستقبلاً، من دون مصادقة مؤتمر المعارضة نفسه عليها.
التحدي السادس، خطة العمل ما بعد المؤتمر: هنا، تبرز أهمية وضع خطة عمل واضحة، بعد انتهاء أعمال المؤتمر، توزيع المهمات وفقاً للجدارة والكفاءة، تشكيل مكتب علاقات خارجية، يحصر العلاقات الدولية به، بدلاً من التشتت، مكتب إعلامي من الكفاءات يقدم خطاباً وطنياً سوريّاً، توحيد العمل العسكري وبناء استراتيجية واضحة، والتزام القوى العسكرية مدونة سلوكٍ مبنيةٍ على الوطنية السورية.
التحدي السابع، الضغوط الدولية السلبية: من المهم وضع احتمال حدوث ضغوط من روسيا وإيران ومصر، لإدخال شخصيات محسوبة عليها، أو إفشال المؤتمر بطرق متعددة، أو مهاجمة هذه الدول نتائج المؤتمر، في حال كانت لا تتوافق مع سياساتها، وهذا يتطلب وضع تصورات لمواجهة الضغوط ومحاولات الإفشال المتوقعة.
التحدي الثامن، خطورة اللحظة السياسية: لا شك في أن اللحظة السياسية الحالية خطرة، خصوصاً بعد الاحتلال الروسي الذي غيّر موازين القوى، وجعل من الروس، بالضرورة، شركاء مباشرين في أي حل سياسي، إضافة إلى تزايد الرغبة العالمية في إنتاج حل سياسي كيفما كان، تحت هاجس الخوف من إرهاب تنظيم داعش، ما يعني إمكانية تقديم تنازلات جديدة أمام النظام السوري.
التحدي التاسع، القوى السياسية والعسكرية والشخصيات غير المدعوّة: ثمّة شخصيات وقوى سياسية وعسكرية لن تدعى للمشاركة في مؤتمر الرياض، ما يعني ضرورة توقع خطر مهاجمة قوى سياسية وعسكرية مختلفة المؤتمر ونتائجه والقوى المشاركة فيه، استناداً إلى أسباب مختلفة، ولأهداف متباينة، ويستتبع ذلك، أيضاً، تصنيف بعض القوى العسكرية غير المدعوة إلى المؤتمر (باستثناء داعش وجبهة النصرة) في خانة القوى الإرهابية، وما يجره ذلك من خطر تمزّق تحالفات عسكرية معارضة عديدة، ودخول قواها في صراعٍ مسلح يزيد الطين بلّة، ما يعني تغيير أطراف الصراع العسكري بما يخدم بقاء النظام السوري.
التحدي العاشر، تنسيق الدول الداعمة للمعارضة: هناك ضرورة لانتقال الدول الداعمة، على الرغم من كل النقد الصائب لأدوارها خلال السنوات الماضية، من حالة التنسيق الخجول والهامشي إلى تنسيق فاعل، وهذا ممكن، عبر توحيد رؤيتها في ما يتعلق بالوضع السوري (إصدار إعلان مشترك يوضح هذه السياسة)، وعبر السعي إلى ضم فرنسا إلى هذا المحور، وذهابها، بوضوح، نحو عمل مشترك لسحب ورقة تنظيم داعش من الدول التي أصبحت مترددة إزاء القيام بدور فاعل لإنجاز انتقال سياسي من دون الأسد وجماعته، خوفاً من سيطرة التنظيم، وذلك بالمشاركة الفعلية في محاصرة هذا التنظيم، عسكرياً ومالياً. ولعل أهم تعبير عن تنسيقها المشترك هو دعم إنشاء جيش وطني سوري، وفق خطة واضحة المعالم، بدلاً من التنظيمات العسكرية المتعددة والمتناثرة، والدعم السياسي والإعلامي عالمياً للمعارضة السياسية، والتعاطي السياسي معها، بدلاً من التعاطي الأمني، والتعامل مع مؤسساتها بدلاً من إنشاء أفراد تابعين لها.
أخيراً، لا تترك التحديات السابقة فرصة كبيرة للتفاؤل، وتوقع نجاح مؤتمر المعارضة في المملكة العربية السعودية، كما يشتهي السوريون. لكن، تبقى محاولة إدراك هذه التحديات ومواجهتها مشروعة وضرورية وأساسية، إن في هذا المؤتمر، أو في مؤتمرات أخرى لاحقة، إلا أن الأهم يبقى ذهاب السوريين في اتجاه إنتاج قوى سياسية، وطنية سورية، بدلاً من القوى الهشّة والمترهّلة الحالية.
مع تغير النبرة الخارجية تجاه الأسد ، بشكل تدريجي طوال شهور ، حيث وصلت أمس و اليوم إلى ما يشبه اليقين أن الجميع بات يقبل بقاء الأسد في الحكم ، وأن الجهود يجب أن تنصب لمواجهة "الشمّاعة" داعش ، وعلى مبدأ "أنا و ابن عمي على الغريب" .
فمع التصريح المرتبك لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري ، حول ضبابية مستقبل الأسد ، و الكلام الصريح لنظيره الفرنسي لوران فابيوس أن لابأس من وجود الأسد في الحرب على داعش ، بات واضحاً أن الأسهم اتجهت جميعها ليس إلى داعش ، بل إلى الشعب السوري ، الذي ثار على مدى خمس سنوات ، و قدم مليون شهيد و ملايين النازحين و المهجرين .
لعل خطوة كهذه يظن العالم أنها تمكنه من القضاء على داعش ، وأن يعيد الأمور إلى مجراها على مبدأ "يادار مادخلك شر" و "الأمعاء بتختلف" ، و لكن هل لهذه المقترحات طريق للتنفيذ على الأرض ، أو تدخل في العقول ، وإن كنت دقيقاً قلوب و عواطف ملايين السوريين المكلومين ..!؟
الرغبة في محاربة داعش بهذا الأسلوب ، يعني أن داعش الوهم ، ستتحول إلى حقيقة دامغة ، وتفرض نفسها كعنصر فعّال في توزيع الموت ، الذي تمت زراعته في سوريا ، والآن يسعون لاستمراره ، وتثبيته .
لاشك أن واضعي الأفكار و الخطط ، و الساعين لتنفيذها ، غير مطلعين على بواطن الأمور ومافي نفوس السوريين تجاه الأسد و نظامه برمته ، وهم لا يدركون أنه عندما يكون الخيار بين اثنين "الأسد أو داعش" فإن الكفة ستميل حتماُ لصالح الأخير ، و البيعة الجماعية للبغدادي ، ستحول العالم إلى جحيم .
قد أُخطأ في التعميم ، و لكن داعش التي زُعم بالأمس ، أنه قد تم استهدافها في كفربطنا و تلبيسة و دوما و حلب و درعا ، هم السوريون أنفسهم الذين يسعون لتدجينهم من جديد ، وتوجيههم مرة أخرى لمحاربة الوهم الجديد "داعش" ، إن توهموا أنهم حاربوا "إسرائيل" لـ40 عاما.
وإذا ما قرر العالم أن الأسد سيبقى ، فإن الشعب السوري سيبقى ثائراً ، وإذا ما اضطرته الظروف فلن يركن للأسد ، وسيفضل داعش ، و ليكون بعدها العالم على موعد مع توزيع الموت .
بعد سلسلة تصريحاتٍ متخاذلةٍ ومتآمرةٍ على الثورة، تأتي تصريحات كيري صادمةً لكثير من السوريين، حيث قال إنه: "بالإمكان قيام تعاون بين جيش الأسد والفصائل المقاتلة لمواجهة تنظيم الدولة".
وحتى يكون ردُّنا على هذه التصريحات واضحاً لا بد من بيان الأمور التالية:
أولاً: لا يحق للأمريكان أن يتدخلوا بالنصائح للثوار، وحريٌّ بهم أن يهتموا بتنفيذ وعودهم بتدريب سبعة مقاتلين هنا، وخمسة هناك، لاستكمال برنامج سلب الأموال بحجة دعم المعارضة، وإن كان من تصريحات داعمة للثورة، فالثوار يكتفون منكم بالتصريحات القديمة :"الأسد فقد شرعيته وعليه أن يرحل فوراً"، "استخدام الكيماوي خطٌ أحمرٌ"، "أيام الأسد باتت معدودة"...
ثانياً: الفصائل الثورية خرجت لإسقاط هذا النظام المجرم، فهو عدوّها الأول والأساس، ولا محيد عن إسقاطه ولو وقفت معه كل قوى الأرض، وأما داعش فهي عدوٌّ نشأ في ظل إجرام النظام، وزوالها مرهون بزواله وليس العكس لأن إجرام بشار أسبق وأكبر ويطال الشعب كله بالقصف والحصار والتشريد،، لذا فلا سبيل أبداً لأي محاولة تقارب مع هذا النظام المجرم مهما كانت المبررات، ولا يمكن التعاون مع الإرهابي الأب لقتال الإرهابي الولد.
ثالثاً: بالنسبة للنظام: واضحٌ أن عداوته الحقيقية - وكذلك روسيا- هي فصائل الثورة، وأنه لا مشكلة له مع داعش، بدليل ما أقرّت به أمريكا سابقاً من أن ضربات النظام وروسيا تنصب بالدرجة الأولى على الثوار، ولا تمسّ داعش إلا تحلّة القسم، فكيف يُطلب الآن ممن هو تحت القصف والضرب المستمر أن يكون حليفاً مع الطيار الذي يقصفه ليتحولا معاً إلى عدوٍ لم يسبق للطيار عداوة معه؟
رابعاً: بالنسبة لداعش: واضحٌ من تحركاتها أن عدواتها الأصلية هي مع من تسمّيهم مرتدين (الثوار) وأما الكافر الأصلي (النظام) فالعدواة معه مؤجلة، وفي أدبياتهم أن قتال المرتد (الثوار) أولى من قتال الكافر الأصلي (النظام)، وما تابعناه على الأرض من تسليم داعش للنظام مطار كوبرس والقرى المحيطة به دون معارك حقيقية، وما قامت به من هجوم متزامن على قرى ريف حلب الشمالي ضد الثوار (مدرسة المشاة- المنطقة الحرة- أطراف مارع وأعزاز ...) يدل أن مشكلتهم مع الثوار وليست مع النظام، فكيف يمكن للنظام أن يكون ضدهم؟
خامساً: بالنسبة لروسيا: واضحٌ أن تدخلها هو من أجل الأسد، وأنه يهمها بالدرجة الأولى القضاء على الفصائل الثورية، وإبقاء الأسد وداعش، وترك الدول بعد ذلك تختار الأسد مقابل الإطاحة بداعش، وهذا ما صرّح به قائد الناتو السابق الجنرال الأمريكي المتقاعد ويسلي كلارك: "بأن استراتيجية روسيا في سوريا هي إبادة الفصائل الثورية، والإبقاء على تنظيم الدولة والأسد، وجعل العالم بين خيارٍ من اثنين: إما داعش وإما الأسد"، ومن كان هذا هدفه في سورية كيف يُطلب من الفصائل – العدو الحقيقي له - التنسيق معه للقضاء على من يريد الإبقاء عليهم.
سادساً: التنسيق موجودٌ نعم، لكن بين مَن ومَن؟ إنه واقعٌ فعليٌ ويعرفه الثوار، قبل التدخل الروسي وبعده، فما قبل التدخل الروسي كان التنسيق بدرجة عالية بين النظام وداعش ضد الثوار، كلما تحرّك الثوار لفتح معركة ضد النظام طعنت داعش في الخلف لتثنيهم عن إكمال المعركة، وتنسيق بينهما لبيع وشراء النفط وهو ما صرّحت به أمريكا أيضاً، وبعد التدخل الروسي صار التنسيق ثلاثياً: النظام وداعش وروسيا، وهذا مثبت في ريف حلب الشمالي، حيث قامت روسيا بضرب القرى والبلدات المواجهة لداعش والتي تخضع لسيطرة الثوار قبيل تقدم داعش لأخذها، في تمهيد واضح لتقدم داعش، حصل ذلك في جبرين وإحرص وغيرها من قرى الريف الشمالي المواجهة لداعش.
...
إذا فهمنا ذلك دعونا نتساءل هل يدرك كيري هذه المعادلة؟ أم أنه يجهلها حقاً، إذا كان يدركها فلماذا يصرّح بهذه التصريحات؟
هل هي لرفع رصيد داعش الشعبي كلما تناقص، وإقناع أتباعها أنهم يقاتلون الثوار لأنهم متحالفون مع النظام ورسيا ضدهم؟
هل هي لتخفيض سقف نتائج مؤتمر الرياض، ورسم بوصلة له تدور فقط حول محاربة داعش دون التطرق لمصير الاسد؟
هل هي لمغازلة روسيا أمام غضبها من إسقاط الطائرة، وإفشال تحالف تركيا المزمع مع السعودية وباكستان في سورية؟
لماذا لم تكن الدعوة لتنسيق الفصائل مع تركيا والسعودية وباكستان وقطر مثلاً؟ وهم أقرب للثوار ويشتركون معم في هم القضاء على النظام وداعش معاً.
مهما يكن من دوافع وراء هذه التصريحات، فإن الثوار يدركون أنهم ما خرجوا إلا لإسقاط هذا النظام بكل رموزه وأركانه، وأن الاعتراف به أو التفكير بالتنسيق أو التعاون معه بأي مستوى كان، هو أمرٌ محظور شرعياً وثورياً وشعبياً ولا يمكن حتى مجرد التفكير به أو طرحه ضمن الخيارات.
لأسباب جغرافية ـ سياسية، بات أمام أوروبا أحد خيارين. الأول، الذي تعتمده القارة أساساً، يُمكن وصفه بـ"حالة الصمود"، أو "حالة التلقّي"، بفعل تحوّل أوروبا، برمّتها تقريباً، إلى قارة مُدافعة، أو مُعالجة للمشكلات الناجمة عن الوضع السوري، سواء الهجرة واللجوء، أو اعتداءات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الأخيرة. هذا الخيار، تحديداً، لن يسمح لأوروبا بالصمود مطولاً، إن لم تُعالج المشكلة من الأساس: في سورية، بالنسبة للمهاجرين من الشرق، وفي ليبيا، بالنسبة للوافدين من القارة الأفريقية.
الخيار الثاني، الماثل أمام عيون الأوروبيين، يقضي بالمشاركة الهجومية، في القرار السياسي، أو العمليات العسكرية، ضد مسبّبي اللجوء والاعتداءات. تستلزم هذه المشاركة التمهيد لتحوّلات هائلة في العقلية الأوروبية، الغربية تحديداً، لجعل مجتمعاتها أكثر انخراطاً في ملفات خارجية، متعلّقة مباشرة بالداخل. لم يعد الأوروبيون مجتمعاً حربياً، كما كانوا سابقاً، فحياة الرفاه في محطات كثيرة تدفعهم إلى التروّي في أي عملية عسكرية، ولو خارج الحدود.
بالتالي، فإن الحافز الذي وفّرته الاعتداءات أخيراً جعل الأوروبيين أمام خطوة عملانية. بات التصويت على التدخّل العسكري في سورية والعراق أمراً من الماضي. كبار القارة: فرنسا وألمانيا وبريطانيا، أضحوا في قلب الشرق الأوسط عسكرياً. قد يكون لإسبانيا وإيطاليا واليونان أدوار مماثلة في ليبيا، في المرحلة المقبلة.
ينتقل الأوروبيون، بموجب هذا الخيار، من الدفاع إلى الهجوم، لكنهم حالياً في موضع تردّد. روسيا على الخط، وسبقت الجميع في سورية. ضربت مرة "داعش" وعشرات المرات المعارضة السورية، يريد الروس ثمناً سياسياً لتدخلّهم العسكري. ثمن لا يُمكن أن يقبل به الأوروبي سابقاً: بقاء الرئيس السوري بشار الأسد، ولو لفترة انتقالية.
لم يكن ليقبل الأوروبي بقاء الأسد. أصلاً، لا يُمكن، بعد هذه السنوات الدموية في سورية، أن يقبل أحدٌ بقاء الأسد. لكنّ الأوروبيين باتوا على مشارف جعل الأسد "أولوية ثانية"، لا أولى. "داعش" هو الأولوية المُطلقة بالنسبة إليهم. ولا يرغبون في الدخول لضرب التنظيم، عبر طرفٍ ميداني محدّد، لعدم تكريس حضوره الإقليمي. لا يريد الأوروبيون الدخول عن طريق إيران، لعدم منحها ورقة أساسية في الملف السوري، على الرغم من أنها تملك ذلك أصلاً. ولا يريدون الدخول عن طريق تركيا، لعدم ترتّب أثمانٍ باهظة على ذلك، بدءاً من ترسيخ تأشيرة "شينغين"، وصولاً إلى تحوّل تركيا إلى العضو رقم 29 في الاتحاد الأوروبي. لا يكفي القارة "معاناتها" قبل التوقيع على اتفاقية داعمة لتركيا، يوم الأحد الماضي، لمساعدتها على الاهتمام باللاجئين. لن تقبل أوروبا منح أدوار أكبر لتركيا. بالتالي، لا يبقى أمام الأوروبيين سوى عامل واحد: روسيا.
في هذا الصدد، يعود مؤرخون بالذاكرة إلى الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، التي شهدت تلاقياً من مختلف الأطراف الأيديولوجية، لكسر النازية الألمانية. كان على الغرب الاختيار بين عدوّين، أحدهما أقلّ سوءاً بالنسبة إليه من الآخر. بين الشيوعيين السوفييت من جهة والنازيين الألمان والفاشيين الإيطاليين من جهة أخرى، اختار الغرب السوفييت. اختارهم لكونهم اصطدموا، فعلاً، مع الألمان في معركة ستالينغراد. سمح هذا الاصطدام بزحف الجميع إلى العاصمة الألمانية برلين وتقسيمها.
كان على الأوروبيين الاختيار بين روسيا و"داعش". روسيا عدو تاريخي لهم، أما "داعش" فعدو مرحلي. باتت دائرة الاختيار أكثر وضوحاً بعد التفاهم الفرنسي ـ الروسي، وانضمام الألمان والبريطانيين إليهما، وإنْ بصورة غير مباشرة. اختار الأوروبيون روسيا على حساب "داعش"، رافضين، في الوقت نفسه، الاعتماد على حليفٍ إقليمي، كتركيا أو إيران، مؤهل للنمو لاحقاً وتهديد مصالحهم. كما أن هذا الاختيار سيُساعد على بقاء الأسد فترة إضافية، وفقاً للمفهوم الروسي. لكن، قد يدفع الأوروبيون ثمناً باهظاً لاحقاً، ففلاديمير بوتين لن يقبل بالقسمة، لا في سورية، ولا في أوروبا لاحقاً، عكس ما فعل جوزيف ستالين.
يعكس "مشروع خطة الانتقال السياسي في سورية" قدراً كبيراً من الشعور بالمسؤولية الوطنية تجاه الشعب السوري والوطن والدولة، في ضوء المحنة المريرة التي يتجرعها هذا الشعب كل يوم، بل كل ساعة، عقاباً له على نشدانه الحرية والكرامة، أسوةً بباقي شعوب المعمورة. المشروع الذي أنجزته "مجموعة الخبراء السوريين"، بالتشاور والتنسيق مع قوى الثورة والمعارضة، وفصائل وطنية مسلحة، ومع قطاعات من المجتمع المدني وشخصيات مستقلة، يُمثّل، إلى ما تقدم، وثيقة مهمة تشتمل على خطة تفصيلية لانتقال سياسي يضمن عبور مرحلة جديدة في حياة الشعب والبلاد والدولة، بما ينزع مخاطر الاحتراب والتنازع الخطير، ويملأ أي فراغ محتمل، ويمنح أفقاً لمشاركةٍ ملموسةٍ يُمارس فيها الشعب، بمختلف تلاوينه ومذاهبه ومشاربه، وفي سائر المناطق، حقوقه الأساسية التي طالما تم هدرها، والقفز عنها، منذ نحو خمسة وأربعين عاماً، في وضع الدستور وقوانين تنظيم الحياة السياسية (الأحزاب والانتخابات خصوصاً) واختيار ممثليه في أجواء من النزاهة وتكافؤ الفرص، وأفضل المعايير الدولية للحاكمية الرشيدة التي تخضع لمراقبة شعبية، وتوفر لبرلمان منتخب حق التشريع بما يتلاءم مع فحوى الدستور، ومع التطلعات الوطنية لحياة مدنية مزدهرة، وتنمية شاملة، تعيد بناء ما هدمته آلة الحرب.
جديرٌ بالملاحظة أنه، بينما تبدي المعارضة، بطيفها الواسع وتلاوينها المختلفة، هذا القدر من الانشغال العميق بمستقبل البلاد، والتحذير من مخاطر صراع مفتوح، يفتك بالمزيد من السوريين، ويُقوّض ما تبقى من مظاهر الحياة والعمران والإنتاج، فإن الطرف الآخر، وهو النظام، ينهمك فقط في استجلاب قوى أجنبية متعددة، تضم دولاً ومليشيات مسلحة وطائفية، من أجل تصفية كل مظاهر المعارضة، ومكوناتها البشرية والمادية، حتى لو أدى ذلك الى تحويل البلاد، لا سمح الله، قاعاً صفصفاً، ينعق فيه الخراب والخواء، تحت عنوان "أولوية هزيمة الإرهاب". والهزيمة المقصودة تعني اقتلاع الملايين من بيوتهم وديارهم وقذفهم خارج الحدود، والزجّ بعشرات الآلاف وراء القضبان، وتقتيل مئات الآلاف، أو تعريضهم لإصابات جسمانية بليغة، وتدمير الاقتصاد بمختلف مناشطه، وتعريض الدولة للإفلاس، والتسبب بتفكيك المؤسسة العسكرية، مع منح من يبقى من المعارضين، بعدئذٍ، بضعة مقاعد وزارية في حكومة "موسعة" (بديلاً عن هيئة الحكم الانتقالي)، وإشراف النظام الحالي على وضع دستور جديد، وعلى تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية، بغير تدخل خارجي (بدون إشراف الأمم المتحدة وغيرها من أطراف وهيئات دولية). بما يعني إعادة إنتاج الاستبداد والاستعباد، واستكمال ذلك بالتحذير الرسمي من خلايا نائمة للمعارضة (معارضون صامتون!)، يتم سوق أفرادها مجدداً إلى السجون.
يقرن "مشروع خطة الانتقال.." بين أهمية التغيير، وفقاً لمرجعية جنيف، وتوطيد السلم الأهلي، وإغلاق الأبواب أمام أية نزعة محتملة للثأر وتصفية الحسابات، مع تفعيل العدالة وإرساء دولة القانون، فيما ينزع النظام فقط إلى استعادة سطوته وتعميمها.
لن يتطرق هذا المقال لمناقشة جوانب من مشرع الخطة، فتلك مهمة أولي الأمر من السوريين، على اختلاف ميولهم ورؤاهم ومصالحهم المباشرة والبعيدة، إذ ما يسترعي انتباه المراقب المعني أن المشروع اكتفى بتناول آفاق مرحلةٍ ليس الولوج إليها وشيكاً وقريباً للأسف، وهذا لا يُقلل، بالطبع، من أهمية المشروع الذي يستجيب، بصورة إيجابية وعصرية، لتحدي إعادة بناء الدولة والوطن، ووضع حد للمعاناة الرهيبة لملايين السوريين داخل الوطن وخارجه، فيما الراهن والآني يزخر بتحديات جسيمة وداهمة، لا بد من الاستجابة الناجعة لها بأقل قدرٍ من الأخطار والأضرار، وبما يفتح أفقاً للحل السياسي العتيد.
في طليعة هذه التحديات التدخل العسكري الروسي الواسع، والذي جاء، في البداية، تحت عنوان
"المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية مع التدخل الروسي لا فكاك منها، من أجل شق الطريق نحو الحل السياسي"
"مكافحة داعش" لينتقل بعدئذ إلى شعار "الحفاظ على الدولة السورية"، ليتجلى، بعد أيام، باعتباره تدخلاً، غايته الانخراط في معركة النظام ضد الجيش الحر وعموم المعارضة المسلحة المعتدلة، ودونما إيلاء أي اعتبار، أو اكتراث، بحياة المدنيين، وسلامة المرافق المدنية. وقد لوحظ أن موسكو سرعان ما أخذت تستخدم عبارة "مكافحة المتمردين والإرهابيين"، أو عبارة "مكافحة داعش والنصرة وغيرها .."، والمقصود بذلك خوض معركة بسلاح الطيران، لا حدود ولا قيود عليها في الزمان والمكان، وفي طبيعة الأهداف. وبما يضمن للنظام استعادة سيطرته على سائر المناطق، وبما يُمكّن تالياً من فرض حل يعيد فيه النظام إنتاج نفسه، وبالقفز عن المرجعية الدولية، وعن التفاهمات الإقليمية والدولية، والأهم من ذلك بالقفز عن تطلعات السوريين إلى حياة آمنة مزدهرة، في ظل العدالة وسيادة القانون، ومع تفعيل حق المشاركة والتشريع والرقابة الفعلية على أداء السلطات وأجهزتها.
بغير معالجةٍ سياسيةٍ للمخاطر الداهمة للتدخل العسكري الروسي، يصعب استشراف المرحلة اللاحقة بصورة واقعية. التدخل الروسي، وخصوصاً بصفته العسكرية، يتعاكس مع طموحات السوريين، ومع الإرادة الدولية، كما تبدت في اجتماعات فيينا، بالتقدم نحو حل سياسي (لا عسكري)، ومع جملة الجهود والتحركات الإقليمية والدولية الرامية إلى شق الطريق نحو الحل العتيد، وها هو هذا التدخل ينعكس سلباً على البيئة الإقليمية، ويحمل أفدح المخاطر على السلم الإقليمي والدولي (الأزمة الروسية التركية)، ويفاقم من محنة السوريين، ويوقع في صفوفهم مزيداً من الضحايا، ويُشرّد آخرين، فيما يضع هذا التدخل مكافحة داعش الإرهابية في نهاية جدول أعماله اليومية، كما تنبئ بذلك الوقائع.
كان في وسع موسكو المشاركة النشطة في التحالف الدولي القائم منذ 15 شهراً ضد داعش في سورية، مع ما قد يقتضيه ذلك من متطلبات خاصة بروسيا، غير أن موسكو اختارت أمراً آخر، يختلف تماماً عن مكافحة الإرهاب، وهو خوض معركة النظام ضد شعبه، مع استلهام مأثورات الاتحاد السوفييتي في قمع انتفاضات شعوب "المنظومة الاشتراكية"، كما تم مع ربيع المجر 1956 وربيع براغ 1968، علماً أن الحرب الباردة بين قطبين دوليين لا وجود لها في العام 2015، وليس هناك من حلف وارسو يجمع بين دمشق وموسكو، بزعامة الأخيرة، ولا حلف ناتو يجمع المعارضة بواشنطن.
المواجهة السياسية والدبلوماسية والإعلامية مع التدخل الروسي لا فكاك منها، من أجل شق الطريق نحو الحل السياسي، ومن أجل الحفاظ على الصداقة الروسية والسورية والعربية، حاضراً ومستقبلاً، وكي تنصرف موسكو إلى المساهمة البناءة في الحل السياسي، وحتى لا يغرق السوريون والروس في وحول نزاع دموي مديد.
التحدي الآخر هو إدامة الربط الوثيق بين المكافحة الناجعة لتنظيم داعش الإرهابي وتحقيق انتقال سياسي جدّي، يوفّر بيئة سياسية مواتية، لتعبئة وطنية عامة ضد هذا التنظيم الخطير والهجين، وهو ما تقرّ به مراكز دولية عديدة، ويستحق التمسك به بدون توقف. وكذلك الربط الوثيق بين تحقيق الانتقال السياسي واستقرار الإقليم، ولنزع التوترات القائمة والكامنة، ولعودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، بما يرفع الأعباء عن الدول المضيفة.
والتحدي الثالث هو تنشيط تحركات "الائتلاف" نحو العواصم الإقليمية، بما فيها تلك العواصم التي لا تبدي تجاوباً كافياً نحو تطلعات السوريين، لا أن يكون النشاط الأبرز هو عقد اجتماعاتٍ لا تنتهي في المقر، والتواصل خلال ذلك بكل الجهد المستطاع مع جموع اللاجئين المشردين، في مختلف أماكن تجمعاتهم، لا أن يرى اللاجئون وجوه ممثلي المعارضة الوطنية على شاشات التلفزيون فقط. ومن دواعي الاستغراب عدم وجود هيئة تُعنى بالاتصال والتواصل الدائمين مع اللاجئين، والإسهام في تخفيف معاناتهم.
بالتعامل الدينامي النشط، على الرغم من مشقته، مع هذه التحديات الراهنة، فإن "مشروع خطة الانتقال السياسي في سورية" سوف يكتسب أهمية أكبر في أنظار كل من يهمهم الأمر، وتتوثق صلة المشروع بمجريات الواقع، وتزداد فرص التفاعل معه.