سقطت مساء الاثنين 19 من الشهر الحالي ثلاث طائرات استطلاع في ريف إدلب الجنوبي، ما أدى إلى مقتل أحد سكان المنطقة من المدنيين، وإصابة ثلاثة أشخاص آخرين.
وفي هذا السياق التقت «القدس العربي» بالحقوقي وعضو شبكة توثيق إدلب، حسن المصطفى، وهو من بلدة معرشمارين التي وقعت فيها الحادثة فقال: «حلقت خمس طائرات استطلاع صغيرة في سماء المنطقة لمدة تزيد عن نصف الساعة في دائرة لا يتجاوز قطرها 10 كيلومترات مربعة. لكن تفاجأنا بسقوط ثلاث طائرات من السرب على أطراف البلدة، وأحدثت انفجارات فور اصطدامها بالأرض في حين غادرت طائرتان من بقية السرب». وأكد أن سقوط الطائرات أسفر عن مقتل مدني، وإصابة ثلاثة، فضلا عن نشوب حريق في سيارة لأحد المدنيين بعد اصطدام إحدى الطائرات بها.
من جهته أفاد الخبير العسكري والرائد المنشق أبو البراء لـ»القدس العربي» أن «الطائرات الاستطلاعية تنقسم إلى قسمين: أولهما يطلق من راجمة صواريخ روسية ضخمة على شكل صاروخ فينفجر في السماء ليخرج منه ستة صواريخ حرارية موجهة على شكل طائرات استطلاعية، يتم توجيهها تلفزيونيا عبر قواعد مراقبة حتى تصيب الهدف الذي أرسلت من أجله».
ويضيف أبو البراء: «أما النوع الثاني فعبارة عن طائرات صغيرة تسيّر عن بعد للتصوير وجمع المعلومات، وربما يتم تزويدها برأس متفجر لاستهداف مركبات أو أشخاص». كما أشار أبو البراء إلى أن ما يصطلح تسميتها «الطائرات الانتحارية» قد تكون أدق في إصابة الهدف من الصواريخ والقذائف الأخرى، إذ أنها تُسير تلفزيونيا وما على الذي يجلس أمام الشاشة إلا أن يتابع الهدف حتى لحظة انفجار الصاروخ.
وأكد أبو البراء على أن استخدام هذا النوع من الأسلحة يفرض على العسكريين الأخذ بأسباب السلامة كالتمويه، وافتعال الحرائق كي يحجب الدخان الناتج عن الحرائق الرؤية عن أي أجهزة رصد وتصوير، منوها إلى أنه من السهل جدا إسقاط هذه الطائرات بالمضادات الأرضية والصواريخ الحرارية.
وأشار أبو البراء إلى هوية هذه الطائرات فقال إن من المحتمل أن تكون إيرانية أو روسية، وأنها ليست ذات أهمية كبيرة، وليست سلاحا عسكريا خطيرا، بل أوضح أن أي دولة أو أي جهة عسكرية من الممكن أن تمتلكها.
وقال الإعلامي محمد أبو الوفا أن من المرجح أن تكون هذه الطائرات إيرانية. فقد صرحت إيران في وقت سابق بامتلاكها لمثل هذه الطائرات مشيرا إلى أنه في الوقت الذي كانت تحلق فيه هذه الطائرات لم يكن هنالك في السماء أي طائرة سوخوي روسية.
وكان قائد القوات البرية الإيرانية أحمد رضا بورد ستان قد أعلن في المناورات التي أجرتها بلاده بمضيق هرمز في ديسمبر/كانون الاول 2014 أن بلاده جربت لأول مرة طائرة «انتحارية» من دون طيار تهاجم هدفها وتنفجر فيه.
وأضاف بوردستان لوكالة إيرن الإخبارية أن الطائرة التي أطلق عليها اسم «رعد» يبلغ مداها 250 كلم، وتستطيع التعامل مع أهداف برية وجوية، واصفا الطائرة بالقنبلة المتحركة، مشيرا إلى أنها قادرة على مهاجمة أي هدف مشبوه في حال مشاهدتها له.
كما تمتلك روسيا التي دخلت الحرب صراحة، إلى جانب النظام السوري، ثاني أكبر ترسانة سلاح في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وقد سخرت لهذه الحرب كل ما تملك من أجل أهداف استراتيجية وجغرافية لها في الشرق الأوسط.
لاشك أن الأسد طوال السنوات الماضية يسعى لأن يظهر على أنه مسيطر و ناجح في عمليات القتل الممنهج ، و تلميذ نجيب في التدمير و التشريد و تخريب البلد ، و يعمل في هذا السياق على ظهور إعلامي هنا أو هناك ، مع بعض الزيارات الخاطفة لتأكيد أنه موجود و لم "أمُت" ، ولكن في كل محاولة تكون النتائج كارثية عليه و على أنصاره ، و تسهم أكثر في زعزعة الإستقرار المتهاوي داخل أركان نظامه و بقايا حاضنته الطائفية .
اليوم مع إنتشار خبر زيارته المكتومة و الليلة ، كـ"لاعبي الهوى" ، يزداد تعزيز الواقع بأنه بات "جرذاً" يختار الليل ليستر حركاته ، وفي الصباح تنكشف مصائبه و مخلفاته ، التي تدفع بمكافحيه إلى إتخاذ أساليب أشد قوة لإنهائه .
و لعل ظهور "هيكل" الأسد أمس مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، وعرضه على الإعلام ، ماهو إلا استخدام ورقة جديدة من جيب اللاعب الروسي ، ليؤكد أنه يعمل بشكل مدروس و مخطط على الحل .
لن يخرج هذا الإستخدام عن إطار "الفشل" الذي تتقنه روسيا ، ومن هذا الإطار الضربات الجوية التي ارادت منها حسماً سريعاً للمعركة في سوريا ، إذ بها تطول و تتوسع أكثر ، وبات طريق الإرتداد عليها قصيراً جداً.
روسيا التي تعتمد بسياساتها على الفشلة ، من أفغانستان إلى صربيا فأوكرانيا ، واليوم الأسد في سوريا ، لن تنجح في تحقيق أي نصر أو إنجاز ، فهيكل الأسد الذي ظهر بالأمس في موسكو ، لن يكون قادر على إدارة ملف زيارته حتى التي تمت و إنتهت بسرية ، و لم نشهد إلا صوراً مبعثرة هنا و هناك ، لتكون "زيارة الموت" و الصور هي للتذكار أن النهاية الفعلية دنت من وقتها.
الأول من فلسطين والثاني من تونس، كلاهما صحافي وكلاهما صديق أو.. هكذا يفترض. يقول الأول « ليس مهما أن يبيـــد بشار الأسد شعبه بالكامل، المهم أن يبقى هـــو ومعه شعلة المقاومة ضد إسرائيل»، أما الثاني فكلامه أهون بكثير إذ يقول «أنا مع الأسد، أحيانا يجب في لحظة اتخاذ القرار…إما أن تختار السيىء مع بعض الأمل في أن يتغير الحال وإما أن تختار الأسوأ وترى بعينيك الانهيار».
أما الفلسطيني، وهو ليس الوحيد من هذا الرأي بين قومه، فمن الصعب جدا، حتى لا يقال شيء آخر، فهم كيف يمكن لمن ضاع وطنه بالكامل، وهو من مناطق 1948، ويرى ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي بإخوانه في الضفة والقطاع، ويستغيث بالعرب والعالم كله لنجدته، أن لا يرى غضاضة في أن يلتفت إلى جاره السوري، وهو من لم يقصر معه يوما ونكبته قد تكون أكبر من نكبته أصلا، ليقول له.. «إسمع أنا مع بشار ولو أبادكم جميعا»!!. أكثر من ذلك، ما يفعله نتنياهو اليوم بالفلسطينيين، بل وما فعله جميع أسلافه من قبله، لا يساوي شيئا أمام ما فعله بشار بشعبه، ومعه أبوه من قبله. بل أكثر وأكثر من ذلك، ما فعله حكام سوريا «المقاومون» بالفلسطينيين في أكثر من مناسبة لم يكن بعيدا، في أحسن الحالات، عن كثير مما فعله بهم كثير من الزعماء الصهاينة. يكفي أن نتذكر ما جرى في مخيم «تل الزعتر» في لبنان عام 1976 أو حرب المخيمات وحصارها عام 1983 في طرابلس أو مؤخرا مخيم اليرموك في دمشق. هذا دون الحديث عن الضرر الذي ألحقته القيادة السورية طوال نصف قرن بالعمل الوطني الفلسطيني ككل وأغلبه يدخل في باب المزايدات الفارغة.
وأما التونسي، وهو الآخر ليس الوحيد من هذا الرأي هناك، فمن الصعب جدا، حتى لا يقال شيء آخر، كيف يمكن له أن يفتخر بأنه أنجز ثورة أطاحت بحاكم مستبد ولا يرى غضاضة أن يعلنها صريحة أنه مع بشار الأسد الذي يهون أمامه بطش أي حاكم عربي آخر. بن علي ،الذي قيل فيه كل ما قيل، لا شيء يذكر لا من قريب ولا من بعيد ببشار. ثم ماذا لو جاء إلى التونسيين في عز سعيهم للإطاحة ببن علي من يقول لهم : أنا مع بن علي!! ترى بماذا كان سيشعرون أو كيف يردون وهم من لم ينسوا أو يغفروا إلى الآن كيف أن فرنسا وقفت مع الرئيس السابق وأمدته بوسائل قمع المظاهرات، فكيف لو أنها تدخلت عسكريا لنجدته، كما يفعل الروس اليوم مع بشار؟! هذا بالضبط ما يمكن أن يشعر به السوري اليوم عندما يسمع تونسيين يقولون إنهم مع بشار وتدخل الروس إلى جانبه، مع أن بن علي لم يفعل في شعبه في أقل من شهر ما يفعله بشار باستمرار في شعبه في يومين لا غير.
الفلسطيني أعمى بصيرته كرهه للإسرائيليين فوقف مع كل من يصرخ ضدها ولو زورا وبهتانا، والتونسي أغشى بصيرته كرهه لكل الحركات الإسلامية المسلح منها وغير المسلح فصار يؤيد من يعاديها مهما أتى من أفعال. لو عبر الإثنان عن استهجانهما للحركات التكفيرية المخيفة التي تحارب الأسد (وليست كلها كذلك)، وهي من تحاول تعويض دكتاتورية دموية بدكتاتورية أخرى باسم الدين، لفـُـــهم ذلك بسهولة، إذ في هذه الحركات فعلا الكثير مما يـُـرعب عن الديمقراطية والدين معا، لكن أن يــركن الإنسان للظالم فقط لأنه يحارب سيئين، هو المتسبب الأول في جلبهم إلى بلاده، فذاك ما لا يمكن استساغته.
لا كره إسرائيل وممارساتها ولا كره الحركات الجهادية المتطرفة، ولكل وجاهته الخاصة، يمكن أن يبررا القول إني مع بشار، فالمقارنة بينه وبين من يحاربونه لا تعطي للوقوف معه أي مشروعية إذ «المقارنة لا تعني الصواب» كما تقول الحكمة الفرنسية، وأقوى منها طبعا ما جاء في كتاب الله العزيز «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلا تَعْدِلُوا»، أي لا يحملـكم بغض قوم على ألا تعدلوا في الحكم عليهم أو فيهم.
لو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن من وقفوا مع ستالين وهتلر وموسوليني في انتهاكاتهم الداخلية أو مغامراتهم الخارجية، أو إلى التاريخ القريب مع ميلوسوفيتش في حربه المجنونة ضد البوسنة، كان لهم هم أيضا حججهم وتبريراتهم، غير أن رحيل هؤلاء الطغاة لم يترك لهؤلاء من بعدهم سوى وصمة تلاحقهم إلى اليوم أنهم كانوا يوما ما مع من لا يجوز أخلاقيا قبل سياسيا الانحياز لهم. وهكذا سيؤول الوضع مع أنصار الأسد. أما التذرع ببقاء سوريا لتبرير دعم الأسد، مع أنه هو نفسه من أضاع البلد بصلفه وعناده وفتحها على مصراعيها لجيوش أجنبية وجعلها نهبا لميليشيات متطرفة، معه وضده، فكلام متهافت للغاية… فأي معنى لبقاء الوطن بعد أن يهلك كل مواطنيه!!؟؟
ألمح مسؤولون روس إلى إمكانية استخدام قطع بحرية تتجول قبالة السواحل السورية بشكل فعال، للقيام بمهمات محددة، كإطلاق الصواريخ. ولن يطول الأمر حتى يدخل حيز التطبيق، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار التصريح الجديد عن نية روسيا إقامة قاعدة دائمة في سورية، فعادة لا تطلق مثل هذه التصريحات بغرض الاستهلاك فقط.
الصورة العامة سهلة القراءة، ويمكن لنا استنتاج أن روسيا تعتبر ما تبقى من الأرض السورية التي يسيطر عليها الأسد مستعمرة خاصة، ينطبق عليها ما كان ينطبق على الدول المُنْتَدَبة، بعد الحرب العالمية الأولى، من دون أن يستخدم الروس عبارة انتداب، أو ما شابهها، لكنهم وضعوها، عملياً، في حيز التطبيق.
واضح أن للروس رغبة قديمة في الاستلقاء على الرمال الشرقية للبحر المتوسط، يدل على ذلك الوجود البحري الضعيف في طرطوس ما قبل الثورة، لكنهم سرعان ما فغروا أشداقهم، عندما وجدوا الفرصة مواتية للحصول على قطعة الحلوى كاملةً، وأن السيطرة المطلقة على كامل الساحل السوري باتت ممكنة، ففرضوا وجودهم أمراً واقعاً، كون النظام في أسوأ حالاته، ويتضور ألماً من وقع ضربات الكتائب المحيطة به، وتبدو أميركا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، وكأنها تشفق من انهياره السريع، وهي تروج أن المد الإسلامي المتشدد سيعم سورية سريعاً، وقد يتمدد ليغمر بعض أجزاء من أوروبا، فأخذت تتغاضى عن الوجود العسكري الروسي المباشر، بوصفه حلاً منخفض التكاليف، لمشاغلة التنظيمات المتشددة، وترك روسيا، ربما، تغرق في مستنقعٍ قد تجد نفسها، فيما بعد، بحاجة إلى أميركا بالذات لإخراجها منه.
تبقى العين الروسية التواقة إلى الساحل العريض الذي يتيح لها إطلالة مجانية على سواحل الدول الأوروبية المطلة على البحر المتوسط راغبة في إقامة دويلة بحرية ذات عمق جغرافي كاف، يؤمن إقلاعاً مريحاً للطائرات الضخمة، ويضمن مرسى مضيافاً لجنود البحرية الروس، وهو ما تؤمنه طرطوس واللاذقية، إذا أضيفت إليهما حلب، وبضع أجزاء من إدلب، كعمق يضمن التماسك الجغرافي، وهو ما بُدئ تنفيذه بالفعل، فشرع النظام في فتح جبهات في حلب وإدلب، بمساندة مطلقة من الطيران الروسي، لتأمين الحيز المطلوب والكافي، لتشكيل رئة مريحة لدويلة ساحلية، تقوم بدور المضيف للبحارة الروس، مع طائراتٍ تشكل خط دفاع متقدم في وجه حلف الأطلسي.
لا يبدو الروس مهتمين بدمشق، ولا بحمص، فالاهتمام حالياً محصور بين الساحل ومدينة حلب، على الرغم من أن (تلبيسة) الحمصية تلقت باكورة الضربات الجوية، فهي تقع على تخوم الدويلة المفترضة، ومن المهم تأمين حدودها مسافة كافية، ونقل المعركة إلى أراضي "العدو" إن أمكن، لكن النظام الحريص على بقايا ماء وجهه، المتشبث بعاصمته التي تشكل له سلطة إصدار جوازات السفر وقيود النفوس، قد ترك مهمة تأمين العاصمة، وما تبقى من حمص، لقوات حزب الله وإيران، الخطوة التي بدأت تملأ أخبارُها الصحف وقنوات البث، في تسليم واضح، يوحي أن النظام لم يبق لديه رمق في هذه المناطق، إلا ليمد مذيعي التلفزيون بمادة إخبارية معظمها كاذب.
ليس من المتوقع أن يغادر الروس مملكتهم التي أنشأوها بقوة السوخوي بسهولة، وهذا أمر يتجاوز بشار الأسد وحكومته. لذلك، يبدو، الآن، الحديث عن مغادرته أو بقائه سخيفاً، وقد حضرت أساطيل ضخمة، مدعومة بما يشبه الموافقة الدولية، إلى البحر والجو. الأمر الذي يضخم مهمة الثورة ويعقدها، بسبب دخول عوامل تقسيمية جديدة، فكامل التراب السوري، اليوم، موضع مساومات دولية، ويمكن التخلي عن أجزاء منه لجهات متعددة، بشكلٍ لم تعترف به وثائق الأمم المتحدة بعد، لكن خطوط الفصل تتبدى تدريجياً.
نهايةً، يجب التنويه إلى أن الوجود الروسي ليس داعماً للنظام في سورية فقط، بل جاء حدثاً مناسباً زمنياً في أثناء موسم التقاسم، وتتطلع روسيا إلى لعب دور قيادي في توزيع الحصص.
ترفض روسيا، حتى اللحظة، توضيح طبيعة استراتيجيتها السورية ومآل الحرب التي تخوضها في هذا البلد الممزّق، كما ترفض الاتفاق على قواعد للاشتباك، وتحديد قواعد للّعبة عموماً، بما فيها التوافق على مبادئ إدارة الحرب، على الرغم من أنها تتشارك، مع أطراف كثيرة، في العمل ضمن بقعة جغرافية محدّدة، الأمر الذي يفسح المجال أمام ظهور مساحات واسعة من الخطر، متروكة من دون مراقبة أو علاج.
حتى اللحظة، لا ترغب روسيا في التوافق على تفاهماتٍ مع الغرب، وتتعمّد السير بهذه الاستراتيجية لسببين، يفضحهما السلوك الروسي نفسه، الأول لإيصال رسالة إلى الأطراف الإقليمية والدولية، أنها تتبع سياسة حافة الهاوية في حربها السورية. وبالتالي، فإن سقف التصعيد مفتوح إلى أبعد الحدود، ولا مشكلة لديها في هذا السياق، وتحاول، تالياً، استثمار هذه السياسة في تحقيق أكبر قدر من التنازلات. والثاني، لاعتقادها أن من شان التوافق على قواعد واضحة للّعبة أن يؤثر على خططها، ويقيّد تصرفاتها، وهي قد تميل إلى هذا الخيار، لكن بعد أن تكون قد فرضت واقعاً معيناً. لكن، لا الفترة الفاصلة بين تجريبها استراتيجيتها وموافقتها على التفاهم مع اللاعبين الأخرين يمكن أن تكون مأمونة من المخاطر، ولا الواقع الذي ترغب بتأسيسه قد يضمن قبول أو خضوع اللاعبين له.
في كل الأحوال، صاغت روسيا المهجوسة بمحاولات تطويقها من الغرب، وخنقها عبر ما تسمّيه مشاريع الفوضى الخلاقة، في السنوات الأخيرة، استراتيجية لمواجهة المشاريع السياسية التي تستهدفها من الغرب، تقوم على إيجاد وقائع جغرافية وسكانية، تمثل حاجزاً أو كاسراً لهذه المشاريع، كما فعلت في جورجيا وأوكرانيا، وارتكزت، في الحالتين، على العوامل الدينية والعرقية، لتثبيت استراتيجيتها تلك.
"صاغت روسيا المهجوسة بمحاولات تطويقها من الغرب، وخنقها عبر ما تسمّيه مشاريع الفوضى الخلاقة، في السنوات الأخيرة، استراتيجية لمواجهة المشاريع السياسية التي تستهدفها من الغرب"
ولا يبدو أن الأمر في سورية سيخرج عن هذه الوصفة التي باتت روسيا تتقن صناعتها جيداً، وخصوصاً أن الظروف ملائمة جداً في هذا البلد، ومهيأة نتيجة تراكم سنوات من العمل في هذا الاتجاه من نظام الأسد وحليفته إيران، اللذين اتبعا سياسة التفريغ الديمغرافي في إطار جغرافي، أطلقا عليه صفة سورية المفيدة.
واضح هنا أن الفعالية الروسية تتركز ضمن الإطار المذكور، عبر استكمال عملية التفريغ، ومحاولة فتح شرفة اتصال مع العراق. من هنا، يأتي التركيز على تدمر، نظراً لأهميتها الاستراتيجية على الطريق إلى العراق، وليس لقيمتها الثقافية والمعنوية، كما يعتقد بعضهم، بالإضافة إلى تحقيق التواصل مع مناطق لبنان الشرقية التي تشكل بيئة لحزب الله، وترك بقية سورية للريح تعصف بها.
ويستلزم نجاح هذه الاستراتيجية إيجاد بنى عسكرية وخطوط دفاعية في مناطق التماس بين سورية المفيدة والصحراء. وبالتالي، نقل الفعالية العسكرية إلى الحدود بعد تنظيف الدواخل من المكوّن السوري الأكثري، باعتباره يشكل البيئة الولّادة، وليس الحاضنة فقط للتمرد على هذا المشروع، ما يستدعي شرذمة بنية وهيكلية المجموعات العاملة في هذه المناطق وتحطيمهما، بحيث تدفع بعضها إلى إلقاء سلاحه، وإخضاعه تحت ذريعة المشاركة في العملية السياسية، أو دفعه إلى الالتحاق بـ"داعش"، وتحويله إلى مشكلة للتحالف الدولي الذي سيرضخ، في النهاية، إلى التفاهم مع روسيا بشأن خطتها في الحرب على الإرهاب. فهدف الحرب الروسية الدفع بالمزيد من السكان والفصائل إلى المناطق الصحراوية التي تقع تحت سيطرة داعش، لإثبات أن القوى السنية كلها متطرفة، هذا جزء من تطبيقات متدرّجة لتفاهم إيراني روسي، وهذه القضية تشغل روسيا وتعتبر إحدى أهم أولوياتها، حيث تنصرف موسكو، وفي سبيل إحراج الغرب، إلى تحريف الوقائع، باستبدال المصطلحات، والتشكيك بوجود فارق بين الأطراف المقاتلة لنظام الأسد، وعمّا إذا كان هناك إرهابي جيد وإرهابي سيئ، والتساؤل عن "منظمة" الجيش الحر، وما إذا بقي شيء منها، بهدف نزع القضية السورية من مداراتها الوطنية، وتحويلها إلى مجرد تمرد على حكومة شرعية أو إرهاب.
هي، إذاً، عملية هندسة جغرافية وديمغرافية، تجريها روسيا على الواقع السوري، وقوامها صناعة مجال جغرافي، ينطوي على موقع استراتيجي، يتضمن الساحل واجهة على البحر المتوسط وسلسلة الجبال الممتدة من جبل الشيخ والقلمون، وصولاً إلى جبال العلويين، وهي ذات موقع مشرف على كامل الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الأراضي الخصبة الواقعة ضمن هذه المساحة. أما التركيبة الديمغرافية ضمن هذه المساحة، فتضمن غالبية للأقليات في إطارها، بعد إجراء عملية مناقلات مستقبلية، إلى إطارها وتبادلات سكانية. وتتكامل هذه السياسة مع تلك التي تجريها إيران في العراق، لإيجاد واقع سكاني جديد متواصل، يمتد من طهران حتى جنوب لبنان، يتناسب مع مصالح الطرفين، ويحمي الخاصرة الجنوبية لروسيا من خطر المتطرفين.
ما لم تدرك الأطراف الإقليمية والدولية خطورة المخطط الروسي، وتعمل على كسره وإفشاله، عبر تغيير طبيعة انخراطها، فإن روسيا ستكمل صناعة حواف مجالها في سورية وحدودها، مستغلة انشغال العالم ومخاوفه من حرب عالمية، ومتذرعة بالقانون الدولي الذي دفعها إلى تلبية طلب حكومة الأسد "الشرعية"، فيما تثبت الوقائع أن قاسم سليماني هو من طلب هذا التدخل، وأنه نتاج عملية منسقة من شهور سبقت دعوة بشار الأسد، وبهدف استكمال عملية الإبادة، وهو ما يحيل القضية إلى مبدأ "مسؤولية الحماية" الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 2005، ويبدو منطبقاً على الحالة السورية أكثر من تفسيرات بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، عن القانون الدولي.
قبل ثلاث سنوات، وبعد شهرين على اقتحام الجيش الحر لمدينة حلب، دخلتُ المدينة مراسلا صحفيا، واستمعت لآراء الثوار والمدنيين، وكان من أوضح مشاهداتي العفوية أن البسطاء يؤيدون المنتصر أياً كان، فالذين كانوا يرددون لجندي النظام وعنصر الأمن إذا التقوا به في الطريق "الله يحميك وينصرك" باتوا يقولونها للمقاتل المنتسب إلى الجيش الحر، الذي كان في أوج قوته، مع أنهم لم يكونوا مضطرين غالبا للتملق لأي من الطرفين في مواقف الحياة اليومية.
غير أني اكتشفت أيضا في الأحاديث الخاصة أن الناس لم يكونوا مطمئنين ولا ممتنين بالضرورة لمن حررهم، وسمعت ممن يُعطى الأمان ليعبر عن رأيه تساؤلات عن سبب تحرير أحياء المدينة التي لم يصبها سوى التدمير، دون أن يصاب النظام بأذى.
التقيت بالقادة في الجبهات وغرف العمليات وأماكن أخرى، وسألت بعضهم في حوار تلفزيوني تم بثه آنذاك عن سبب اختيارهم خيار اقتحام المدن وانتزاع أراضي الدولة الواسعة شبرا شبرا بدلا من ضرب مقراته وثكناته ومؤسساته، وقيل لي إنهم كانوا يتمنون ذلك لكن الأمر صعب، فاختاروا القيام بالخيارين على التوازي. وإذا كان هذا جواب المُخلصين، فإن قادة آخرين لم يكونوا يهتمون أصلا لضرب النظام بقدر اهتمامهم بالسيطرة على المدن والقرى، ومن المعروف أن المبررات جاهزة دائما.
ومع أني عدت من تلك الرحلة بشحنة إيمانية قوية من فيوض التضحية والبطولة التي يبذلها أولئك الأبطال، إلا أني لم أغفل عن حقيقة أن معظمهم -بما فيهم القادة- لم يكونوا متعلمين ولم يقرأوا في السياسة ولا التاريخ ولا العلوم العسكرية، ولا حتى في الفقه غالبا. وإذا كان معظمهم يقول إن الضباط المنشقين والمتعلمين لم يأتوا إلينا ليفيدونا بخبرتهم، فإن الضباط كانوا يقولون بالمقابل إن الثوار لم يسمحوا لهم بالتدخل أصلا.
في تلك الفترة، والتي يسميها الكثيرون بأيام الثورة الجميلة، بالرغم مما فيها من فواجع، كانت بعض التحليلات تتنبأ بانهيار النظام بعد ستة شهور من اقتحام حلب، ليس لأن النظام خسر نصف المدينة المهمة خلال أيام فحسب، بل لأن الأمل الأكبر كان معقودا على عمليات الاغتيال وشراء ذمم الضباط وزرع السيارات المفخخة في قلب دمشق، ومن ثم خلخلة النظام من الداخل. وعندما حدثت عملية التفجير التي قضى فيها آصف شوكت وبقية الخلية المخابراتية تداول الناس إشاعة تقول إن النظام اختفى من دمشق وإن عناصره وشبيحته يطلقون الرصاص عشوائيا في عملية انسحاب كيفي نحو مصير مجهول تركهم فيه النظام!
تتمة القصة معروفة، فالجيش الحر الذي اقتحم نصف حلب في أيام ظل على حاله تلك ثلاث سنوات، بل خسر بعض مواقعه بالرغم من اكتسابه مواقع أخرى في الريف والأطراف. وحسب الخرائط التي نعدّها (صحفيا) كل فترة لتوزع مساحة البلاد على القوى الفاعلة؛ فإن الجيش الحر كان أكثر انتشارا، وخصوصا بعد دخول داعش على الساحة.
القوة ليست بالمساحة
في كتابه "خرافة التنمية الاقتصادية" يصف المؤلف أوزوالدو دي ريفيرو الدول التي فشلت في التنمية خلال القرن العشرين بأشباه الدول، ويجد أن الدول التي لحقت بالمتقدمة هي غالبا دول مدينية (أي صغيرة بحجم مدينة) مثل تايوان وسنغافورة وهونغ كونغ، ويمكن أن نضيف لها دبي مؤخرا. ومع أنه لا يلتفت إلى تحالفات الكواليس والأدوار الخفية التي دفعت بهذه الدول-المدن إلى رأس القائمة فإنه يقصر اهتمامه على انتهاء صلاحية فكرة الاستعمار (ومرحلة الاستقلال أيضا) القائمة على احتلال المساحات الشاسعة وتسخير الشعوب في المصانع والمزارع، فالذين يديرون دفة العالم اليوم يتحكمون بمفاصل القوة عن بعد.
وقد يقال إن هناك نماذج تنموية أخرى ناجحة باعتمادها على المساحة والموارد التقليدية، مثل تركيا ودول مجموعة البريكس، لكن المؤلف يرى حسب معايير عدة أنها لم تصل إلى مراتب الدول المتقدمة، فنموذج الدولة-الأمة المتقدمة لم تستطع أي دولة-أمة من خارج إطار الغرب اللحاق به حتى الآن؛ باستثناء اليابان.
ولطالما سمعنا ونحن صغار عن تحكم 15 مليون يهودي فقط بأمة المليار مسلم، والحقيقة أنهم يتحكمون بستة مليارات آدمي، لكن الواقع هو أن معظم تلك الملايين من اليهود تخضع للتحكم والتسيير أيضا، فالذين يسيطرون هم النخبة المخططة والمحركة، وهم بضعة عوائل في المركز مع أعداد محدودة ومنتقاة بعناية من العقول المميزة في أطراف المركز، أما البقية فينفّذون الخطة من مواقعهم المختلفة.
وحتى أكثر النظريات تعاطفا مع اليهود، لا سيما الماركسية منها، فإنها لا تغفل دور المركزية الشديدة والشتات (انعدام المواطنة) في قدرة النخبة اليهودية الأوربية على الانتقال بأقليتهم من الاضطهاد إلى السيطرة والتحكم خلال بضعة قرون. فاليهود الذين حركوا معظم الحروب الأوربية الكبرى في القرون الخمسة الماضية وسيطروا على المعسكرين الرأسمالي والشيوعي في آن واحد؛ كانوا هم الطرف الوحيد الذي لم يخسر، ليس لأن طرفي الرهان يلعبان لصالحهم فقط، بل لأنهم ظاهريا خارج اللعبة أيضا، ولأنهم –وهذا هو الأهم في حساباتنا هنا- ليسوا على الأرض عمليا، أي ليس لهم وطن ولا جغرافيا، بل لديهم القوة التي تشتري الأوطان وترسم حدود الجغرافيا.
لذا لا يسكن في "إسرائيل" سوى ثلث يهود العالم تقريبا، وهم الفئة الأضعف من الجماهير المنفذة. و"الوطن" لم يُشترَ هناك بتكاليفه الباهظة جدا لتوطين اليهود ولا لاستغلال خيرات أرض فلسطين، فتكلفة إنشاء الكيان الصهيوني والحفاظ عليه أغلى بكثير من التخلي عنه، لكنها الأرض المقدسة التي لا يهم النخبة اليهودية أن تتوسع فيها حاليا (التخلي عن سيناء كمثال)، فما بين النيل والفرات قد يُحكم باسم العملاء مؤقتا، إلى أن يحين موعد بناء الهيكل ليُحكم به العالم مباشرة، كما يظنون.
التحرير وإسقاط النظام
وبالعودة إلى قضيتنا، هل يمكن القول إن تحرير كامل المحافظات السورية، باستثناء الساحل ودمشق، سيسقط النظام؟ وذلك لو افترضنا أصلا أن النظام لا يملك الخزان البشري الهائل الذي يشمل ملايين الشيعة والممتد من لبنان والعراق إلى دول وسط آسيا مرورا بإيران، وأنه لا يملك الدعم المالي والعسكري المفتوح والمعلن من روسيا، وغير المعلن من بقية القوى العظمى في العالم.
وبالرغم من الاختلاف المعروف فيما بين آراء المعارضة والناشطين السوريين، فلعل الحقيقة الوحيدة التي باتوا يتفقون عليها جميعا هي أن الغرب وروسيا وجهان لعملة واحدة، وأن ما كانت تسمى بمجموعة "أصدقاء سوريا" لم تكن سوى خدعة كبيرة.
واليوم تعلن الولايات المتحدة أن دعمها سيكون لتحالف "قوات سورية الديمقراطية" المكون من كتائب علمانية كردية ومسيحية وعشائرية في الحسكة والرقة، وذلك بعد أن فشل مشروع تدريب المعارضة "المعتدلة" الذي اقتصر على 50 عنصرا فقط، وهذا يعني أن كل ما حرره وسيحرره الثوار يجب أن ينتهي في يد داعش ومتطرفي الأكراد، أو يبقى منطقة توتر إلى أجل غير مسمى مثل أفغانستان والصومال.
وحتى قبل الوصول إلى تلك المرحلة، فإن الثابت عمليا هو أن تحرير المدن والقرى، وصولا للمحافظات كاملة، لم يؤد سوى لتهجير أهلها وتدميرها بدءا من اليوم التالي لإعلان التحرير، ونموذج إدلب مازال الأكثر حضورا في الذاكرة.
كان الأمل معقودا على نجاح تجربة الدولة البديلة في حلب المحررة، فتم إنشاء مدارس ومستشفيات وجهاز شرطة وأمن وقضاء، وانتشرت صحف وإذاعات بديلة، وأعلن الائتلاف عن حكومة مؤقتة ووزراء، وانتعش الأمل بتقديم نموذج مدني للثورة يُقنع العالم بأننا قادرون على إدارة سورية في حال إسقاط النظام العلوي، لكن العالم كله لم يسمح، وأعطى الضوء الأخضر للنظام بتدمير حلب بالبراميل المتفجرة، والأمر نفسه تكرر في حمص والغوطة، وفي كل مكان حاول إيجاد بديل محرر.
ربما كان التحرير سيحقق النتائج المرجوة في حال توسعه بسرعة لإسقاط النظام خلال سنة من بدء الصراع المسلح، حيث كانت شعبية الجيش الحر في أوجها، والكتائب أقرب إلى التعاون والتوحد، فضلا عن أن داعش والقوات الكردية لم تكن قد ظهرت بعد. أما اليوم فقد ذهب نصف المساحات المحررة تقريبا لصالح تلك القوى، وهي ما زالت تتمدد بدعم غربي وروسي.
الروس بدأوا في أواخر أيلول بالسعي لتحقيق التقسيم مباشرة، فهم يرسمون بنيران صواريخهم حدود الدويلة العلوية المرتقبة، ويريدون إفراغ الشريط الحدودي من الثوار بأسرع ما يمكن، بينما يطعن خوارج داعش في ظهر الثوار من الخلف، ويستعدون لانتزاع أي أرض تُحرر في غضون أشهر، فالقذائف التي قصف بها الروس كتائب الثوار خلال أسبوعين قد تزيد عن كل ما أطلقه التحالف الدولي على داعش منذ سنة تقريبا.
وفي ظل شح التمويل والإمداد والدعم للثوار، والحظر الدولي على إمدادهم السلاح المضاد للطيران، واتساع دائرة اتهامهم دوليا بالإرهاب، فمن غير المنطقي أن يستمر التعويل على وعود تضاف إلى قائمة بآلاف الوعود السابقة بالتسليح أو تغير المواقف الدولية أو حدوث أي شيء لصالح الثورة، ما لم يكن معجزة إلهية لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم نفسه بانتظارها.
ومن خلال متابعتي اليومية في العمل الصحفي، واطلاعي على ما يكتب ويقال، فإني أجزم بأن كل ما تردد ويتردد عن وعود عربية وإقليمية بتسليح الثوار بمضادات الطيران، أو بمفاجأة غير متوقعة على غرار "عاصفة الحزم"، هي كلها تخمينات فارغة، ومازال أصحابها أنفسهم يصرحون بأنهم غير واثقين من صحتها. ومع أننا لا نستبعد تحققها لكن العاقل لا يعلق مصير بلده وقضيته بسراب.
من المؤكد أن يحقق تحرير الأراضي مكاسب إعلامية وجماهيرية، فتحرير إدلب وجسر الشغور -مثلا- كان له أثر نفسي كبير، وهذا هدف يسعى إليه النظام أيضا للحفاظ على هيبته، لكن الضريبة تكون باهظة دائما، والمكاسب الاستراتيجية أقل مما يُعلن، أما سقوط النظام فهو أمر آخر.
وما ينبغي على قادة الفصائل أن يطرحوه الآن للبحث في مجالسهم المغلقة ليس فقط التحقق من جدوى تحرير الأراضي، بل مدى قدرتهم على الاحتفاظ بها أيضا، ووضع سيناريوهات مستقبلية لما سيحدث في ظل التدخل الروسي. فسواء كان الهدف هو منع التقسيم أصلا، أو زعزعة أمن الدويلة العلوية المستقبلية –طالما كان إسقاط النظام صعب المنال حاليا- فالحل الوحيد اليوم هو غزو النظام في منطقته ووسط حاضنته الشعبية على امتداد الساحل كله، وإجباره على الانكماش من كل سورية إلى هناك، وتوريطه هو والروس في معركة جبلية وعرة كما حصل في أفغانستان، وقلب الطاولة عليه بدفعه لتدمير قرى العلويين وإجبارهم على النزوح حتى ينفضوا عنه.
من يتخذ القرار؟
والعجيب أنه لا يُكتب مقال أو منشور في هذا السياق إلا ويتهافت عليه ناشطون –لا نشك في إخلاصهم- ممن لم يقرؤوا كتابا واحدا -سياسيا كان أم فقهيا- في هذا المجال، للحكم على هذا الطرح بالتعارض مع مقتضيات الإيمان، ولعلهم يقصدون هنا الإيمان بالمعجزات وليس بالسنن الكونية، فضلا عن الاعتراض على ما يسببه هذا النقاش من إحباط واستياء، مع أن ما يُكتب على الإنترنت في أقصى حالات انتشاره لن يصل في تقديري إلى عُشر المجاهدين والناشطين والفاعلين، فضلا عن أن يصل للعوام في داخل سورية ممن لا يؤبه لرأيهم كما يبدو.
ولا أكشف سراً إن قلت إني لمست حالة استياء واسعة بين "العوام" في آخر زيارة قمت بها لريف إدلب قبل أكثر من عام، ولا أظن أن أحدا يفترض أنهم باتوا أفضل حالاً الآن. لكن العجيب في الأمر أن يُعلن جهارا على ألسنة بعض القادة العسكريين أن تذمر الناس ليس بحجة، وأنهم لو استمعوا لكلام العوام لما قاموا بالثورة أصلا، ثم يحاجج بعض الناشطين بأن هذا هو منطق الأبطال، وأن من يطالب بتفهّم حاجات الناس هو المتعالي، أي أنه يتعالى -كما يبدو- على الجانب الثوري والناشط من الشعب وليس على عامة الشعب التي يُراد لها أن تؤيد المنتصر فقط، وكأننا أمام إعادة إنتاج علنية ومتوافق عليها للاستبداد الذي يجب على الشعب المنكوب أن يتحمل الموت كي يتخلص منه!
من المعروف تاريخيا أن الثورات التي يطول أمدها تبدأ بافتراس أبنائها، ولدينا أمثلة لا تحصى لمقاتلين وناشطين غسلوا أيديهم من كل شيء وخرجوا لالتماس طريق الخلاص الفردي في تركيا أو أوربا. ونحن شعب يجيد تبادل إلقاء المسؤولية على الآخرين، ولا أذكر أني سمعت قياديا يعترف بالخطأ ويعتذر من الشعب سوى أبي يزن الشامي الذي قُتل قبل أن يشتهر.
معظم الذين يقرؤون هذا الكلام يقيمون في الخارج، مثل كاتبه، وما أصعب أن يتقمص أحدنا دور المنكوبين هناك، وما أصعب أن أقارن شعوري عند سماع نبأ احتمال خسارتي لوظيفتي بشعور من يعيش على الكفاف عندما يسمع نبأ احتمال قدوم الفاتحين إلى مدينته لتحريرها من النظام المحتل، فهو يعرف جيدا كيف سيدفع ضريبة هذه "الحرية".
نحن ننتشي بأخبار الفتوحات وتحرير المدن والقرى كما ينتشي من يشجع فريقا رياضيا يحقق فوزا على ملعب يبعد عنه آلاف الأميال، ثم نتعاطف مع المهجّرين والمقتولين والمسحوقين عقب كل تحرير كما نتعاطف مع ضحايا الزلازل والحوادث المرورية.
نحن لا نسمح بأي مقارنة بين أبطالنا الذين يضحون بحياتهم وبين النظام، وتثور ثائرة الكثيرين من المخلصين لمجرد سماعهم نقدا أو تشكيكا بحق الأجنحة المتطرفة داخل الفصائل السلفية الجهادية، والتي كان ولا يزال سلوك الكثير منها متوافقا تماما مع مصلحة النظام، كما هو حال داعش بالضبط، وكأننا لا نريد أن نستفيد من تجارب من سبقونا في الجزائر والشيشان وأفغانستان، والذين سجلوا ووثقوا حالات اختراق المخابرات لقياداتهم.
المشكلة ليست في فكرة تقديس من يضحي بروحه فقط، بل أيضا في عدم الاقتناع بأن الذين يخترقون الثورة ويحوّلون مسارها هم بضعة أفراد لا يضحّون بشيء ويعيشون كأمراء الحرب وسط حراسة مشددة، وأيضا في عدم التصديق بأن المجاهدين المخلصين يمكن خداعهم، مع أن آلاف المخلصين قد خُدعوا أمام أعيننا وتحولوا إلى خوارج وقتلة بسبب دعاية داعش.
يكفي أن نتذكر أن معظم الشعب السوري كان قبل الثورة مخدوعا بدعاية المقاومة التي رفعها النظام وحزب الشيطان زورا وبهتانا، ولو لم تقم الثورة لظل معظمنا في طرف يراه اليوم عدوا مبينا.
قبل بضع سنوات كنا نسخر من الأنظمة التي تردد شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وبعض إخوتنا الثائرين على تلك الأنظمة باتوا يرفعون الشعار نفسه اليوم ضد كل من لا يوافقهم على طريقتهم في إدارة المعركة
لم يكن مجتمع المرأة السورية قبل الثورة المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات، خالياً من المشاكل الخاصة به، فقد كانت مشاكل الزواج المبكر، والعنوسة، والعنف ضد المرأة، من أبرز التحديات التي تواجه الجمعيات والمنظمات النسائية. ارتفاع واضح في سن الزواج قابلته ظاهرة العنوسة التي تستخدم كمصطلح يطلق على الرجال والنساء الذين تجاوزا سناً معيناً دون أن يتزوجوا.
وبعد أن كانت أسباب العنوسة وتبريرات عدم الزواج تعود إلى الأعباء التي تلقى على الشبان مثل الهجرة والمهور المرتفعة وتكاليف الأعراس الباهظة ومسؤولية العائلات، جاءت الحرب التي تعيشها البلاد لتزيد الأمر سوءاً.
ما إن تسأل أحداً عن سبب العنوسة، حتى يشير بيده الأولى إلى الأسعار المجنونة التي تلاحق مستلزمات الزواج، والأخرى للظروف الاستثنائيَة التي تعيشها البلاد، فإن تكلفة الزواج خيالية ومعظم متطلباته تضاعفت أربع أو خمس مرات، وذلك في وقت يُقلع فيه معظم الشباب السوري عن الزواج.
إذ ارتفعت ثمن غرفة النوم المتوسطة من 40 إلى 230 ألف ليرة، في حين لم ينج الذهب من الارتفاع، وينطبق الأمر أيضاً على غلاء أجرة العقارات، إذ بات الحصول على منزل في منطقة آمنة حلماً يراود الجميع.
باختصار فإنَّ تكاليف الزواج باتت خيالية ويصعب تأمينها على معظم الشباب بمن فيهم المستقرون مادياً الذين لا يعيشون تداعيات الحرب والأزمة الاقتصادية الخانقة.
ويعترض الدكتور النفسي غزوان سليم من ريف ادلب على مصطلح العُنُوسة، ويستبدله بواقع ارتفاع سن الزواج «لأن ما يجري حالياً هو ارتفاع سن الزواج للشاب من 26 إلى 37 سنة بشكل وسطي، في حين ارتفع سن الزواج لدى الفتاة من 23 إلى 32 سنة». ويضيف: أن سن الزواج لدى الطبقة المثقفة مرتفع أساساً، أما ما يتم تداوله عن العُنُوسة اليوم فهو غير موجود، لأن واقع الزواج بين الفئات الاجتماعية ذات المستوى التعليمي المنخفض ما زال مستمرا، بل ازداد أكثر مما كان عليه قبل اندلاع الأحداث بعد ظهور زواج الفقراء الذي أوجدته الأزمة الأخيرة، وكان نتيجته تنازلات كثيرة من جانب عائلة العروس عن اللباس ومراسم العرس والمسكن والكسوة والذهب». ويقول، أنَّ الزواج في أماكن النزوح ومراكز الإيواء مستمر ولم يتأثر بالأحداث.
مشاكل عدة باتت تطفو على السطح بشكل أسرع مع دخول الثورة عامها الخامس، ومن أبرزها، العنوسة، والتي عزاها أغلب من تحدثوا لـ «القدس العربي» إلى هجرة الشباب، أو التحاقهم بالقوات العسكرية المتصارعة على الأرض، الأمر الذي فاقم المشكلة وأصبح يترك تأثيراته النفسية السلبية على نفسية الشباب.
«د. أ» من أبناء مدينة سلقين في شمال ادلب طالبة في كلية الأداب في جامعة حلب تقول: «من المعروف أن الفتاة بعد الانتهاء من مراحل تعليمها، تنتظرها مرحلة ثانية في مسيرة حياتها، ألا وهي الزواج والاستقرار، إلا أن ما آلت إليه حال البلد وشبابها أصبح يشكل عامل قلق كبيرا لشريحة واسعة من الفتيات اللواتي على وشك الزواج» وأضافت «كما أن العادات السيئة في المجتمع الشرقي، لها دور بارز في زيادة عدد العانسات في المنطقة، فأغلب البنات يتعرضن لحصار خانق في المنزل، وكبت لحريتهن من قبل الأهل، وحتى يصل الأمر أحياناً إلى ضربهن في حال تجاوزن الحدود المرسومة لهن من قبل الأسرة. والفقر من الأسباب الرئيسية التي أدت لتفاقم هذه الظاهرة، والتي زادت بدورها من عدد العانسات، ودفعت في المقابل الشباب للهجرة خارج البلاد بحثاً عن حياة أفضل أمناً واقتصاداً وتعليماً. وتتحدث «ك. ج» من مدينة سلقين شمال ادلب قائلة: «شباب كثر طلبوا الزواج مني، ولكن الرفض كان دائماً من عائلتي، لأني أعمل في الشتاء في مواسم قطاف الزيتون والرمان، وأعيل عائلتي. وأنا حالياً تجاوزت الـ 35 عاماً، وأخاف ألا يتقدم لي بعد الآن إلا الشاب المتوفية زوجته، أو المطلق، أو من تجاوزت زوجته الخمسين».
تغيب الاحصائيات الدقيقة التي تفيد عن أعداد النساء السوريات، اللواتي تعرضن للاغتصاب، إلا أن الروايات غير الرسمية تفصح عن واقع حال صعب تعيشه النساء في الداخل السوري. كما إن النساء في سوريا تعرضن للاعتقال والاحتجاز التعسفيين، والأذى البدني والتضييق والتعذيب أثناء النزاع السوري من جانب القوات النظامية والميليشيات الموالية لها، وهذا لا يبرئ جماعات المعارضة للنظام فهي أيضاً قد ارتكبت بعضاً من هذه الجرائم. كما كل تفاصيل الحياة السورية المقسمة تختلف مبررات تزويج القاصرات، تبعـــاً للطرف الذي يسيطر إن كان نظاماً أم معارضة، ولدى الطرفين مسوغات للقيام بهذا العمل بحسب الأهالي. قمر، 15 عاماً من ادلب، تزوجت من رجل يكبرها بـ20 عاماً وتعيش معه في أنطاكيا، تقول «خوف أهلي علي كان الدافع وراء زواجي، وذلك بسبب المداهمات المتكررة من رجال الأمن والشبيحة لبيتنا وبشكل شبه يومي قبل تحرير مدينة ادلب» وتتابع: قبل تحرير ادلب كان حلم كل الفتيات الخروج من المدينة التي تتوغل فيها العصابات والأجهزة الأمنية، التي لا تتوانى عن التحرش بالفتيات.
أما محمد، فكان له مبرر من نوع خاص حتى يزوج ابنته التي لم تبلغ الـ15 عاماً، مبينا أن «من الطبيعي أن تكون الفتاة أمام خيارين، الأول إكمال دراستها، والثاني زواجها، والمدارس باتت غير متوفرة في الداخل بشكل منطقي، ناهيك عن انقطاع الطلاب عنها لمدة طويلة، لذلك لم يتبق لنا أمل بمتابعة الدراسة، فلا بوادر لحل قريب للحرب، لذلك اتخذنا القرار». وأضاف «حتى الدوافع الاقتصادية كان لها دور في اتخاذي القرار، فلا مورد اقتصادي ثابتا لدينا هنا، وخسارتي للعمل جعلتني أفكر ملياً قبل رفض عرض الزواج، الذي عرض على ابنتي، في المقابل قد لا يأتيك شاب جيد في كل الأحيان».
موروثنا الشعبي العربي، قد يجعلنا نتقبل فكرة زواج القاصر، وأبعد من ذلك قد يدفعنا للتعامل مع هذه الظاهرة، على أنها أمر بديهي، وفطري أيضاً.
ولا يمكن توجيه اللوم إلى الأب العاجز عن إطعام أولاده في بعض الأحيان، بل نلوم الحرب التي تضع هذا الأب بين خيارات قاتلة.
إن الآثار الاجتماعية لزواج القاصرات غير قابلة للإحصاء، لأن القاصر وبشكل فطري قد تكون صالحة جسدياً للإنجاب والأمومة وغير مكتملة نفسياً وانفعالياً، بالتالي سوف يجلب عدم النضج مشاكل لا حصر لها، من أهمها تربية الأطفال.
المضحك أن الكثير من العرب، والسوريين على وجه الخصوص، يعتقدون أن القوى الكبرى كأمريكا وروسيا، مجرد شركات حماية أمنية، بإمكانك أن تطلبها، أو ترفضها متى تشاء. والمضحك أكثر أنهم لا يثبتون على رأي في نظرتهم إلى أمريكا أو غيرها من القوى الدولية، فإذا تدخلت أمريكا أو روسيا في مكان ما، على عكس بعض الرغبات، فيا ويلها، فتصبح قوة غازية يجب مقاومتها والتصدي لها بكل الطرق والأسلحة، كما كان الحال بالنسبة للذين عارضوا الغزو الأمريكي للعراق، وكما هو الحال الآن بالنسبة لمعارضي الغزو الروسي لسوريا. وإذا نادى العرب أمريكا للتدخل في مكان آخر، وتقاعست، فأيضاً يا ويلها، بل يجب عليها أن تلبي النداء بسرعة البرق، وإلا فهي دولة عاجزة مترددة، متقاعسة، ضعيفة، متواطئة مع الطغاة العرب، ولا تقيم للدم العرب أي وزن. وهذا الموقف نراه الآن لدى قوات المعارضة السورية التي تطالب أمريكا منذ سنوات للتدخل للقضاء على نظام الأسد، بينما أمريكا ترفض.
لاحظوا التناقض في الموقف من أمريكا أثناء اجتياحها للعراق عام 2003 عندما عارضها قطاع عربي واسع، وتقاعسها عن التدخل في سوريا منذ بدء الثورة السورية عام 2011 لإزاحة بشار الأسد، رغم الدعوات والمناشدات العربية والسورية الكثيرة لأمريكا كي تتدخل.
لم يترك الإعلام العربي، ولا الشعوب، ولا المثقفون العرب على مدى سنوات تهمة إلا وألصقوها بالمعارضين العراقيين السابقين، وبكل من عمل مع الأمريكيين في بداية هذا القرن للإطاحة بالنظام العراقي السابق. لقد كان الشارع العربي من المحيط إلى الخليج ينظر إلى السياسيين العراقيين الذين كانوا ينسقون مواقفهم مع الأمريكيين قبيل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 على أنهم ثلة من الخونة والعملاء، لا لشيء إلا لأنهم كانوا يتعاونون مع العم سام لإسقاط نظام صدام حسين. والعجيب في الأمر أن الكثيرين ممن مازالوا يعيّرون أعضاء الحكومة العرقية الحالية بأنهم أزلام الأمريكان، وبأنهم عادوا إلى العراق على ظهور الدبابات الأمريكية، هم الآن يدعمون المعارضين السوريين الذين يناشدون الأمريكيين منذ سنوات كي يساعدوهم في إسقاط بشار الأسد، حتى لو تطلب ذلك قصفاً أمريكياً مكثفاً لدمشق.
من المضحك جداً أن الكثير من الشعوب بات يتوسل للخارج بكل أريحية أن يتدخل كي يحميه، وينقذه، إما من براثن الطغاة، وجيوشهم، كما هو الحال بالنسبة للمعارضة السورية، أو كي يحمي الطاغية ونظامه من المعارضين، كما هو الحال بالنسبة لمؤيدي بشار الأسد. من المفارقات السورية الهزلية أيضاً أنه لم تعد المطالبة بالمساعدات العسكرية الخارجية، حتى بثمن، رجساً من عمل الشيطان فاجتنبوه، بل غدت مشروعة، لا بل مطلوبة تماماً، إن لم نقل «فرض عين». قليلة جداً هي الأصوات التي تحذر، أو تسخر من المطالبين بالتدخل لدى المؤيدين أو المعارضين في سوريا. لقد أصبح الوطني في سوريا، للمفارقة المضحكة، هو ذاك الذي يطالب، ويبارك الاستعانة بالروسي، كما هو حال مؤيدي الرئيس السوري وحلفائه من « بتوع المقاولة والمماتعة»، والخائن هو الذي يعارض الاستعانة. بعبارة أخرى، فقد أصبح، بالنسبة لمؤيدي بشار الأسد مثلاً، كل من يعارض التدخل الروسي لحماية النظام، ويطالب بالتدخل الأمريكي لإسقاطه، عميلاً، وخائناً، وغير وطني. يعني التدخل الروسي حلالا، والأمريكي حراما بالنسبة لشبيحة الأسد. وكما أن الكثير من المعارضين السوريين شعروا بالخذلان لأن أمريكا لم تتدخل للإطاحة ببشار الأسد، فقد كانت فرحة الموالين لبشار عارمة جداً عندما تدخلت روسيا وإيران لحمايتهم من قوات المعارضة. لقد راح مؤيدو بشار الذين كانوا يعتبرون المعارضين عملاء وخونة، لأنهم طالبوا بالتدخل الخارجي في سوريا، راحوا يؤلفون الآن القصائد في مديح طائرات السوخوي الروسية، لا بل بدأوا يمجّدون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويصورونه على أنه المسيح المخلص. وقد شاهدنا «الأراجوز الطرطور» خطيب الجامع الأموي في دمشق وهو يبتهل إلى الله ليحمي بوتين العظيم، كما لو أنه حامل لواء القومية العربية، مع العلم أن التدخل الروسي في سوريا لا يختلف أبداً عن التدخل الأمريكي في سوريا أو غيرها. فكما هو معلوم، فإن القوى الكبرى ليست جمعيات خيرية، بل تتدخل، بالدرجة الأولى، من أجل مصالحها، وليس من أجل السخفاء البلهاء الذين يهللون ويطبلون لتدخلها، لا في العراق ولا في سوريا. في الماضي، كان البعض يتوعد بشار الأسد بالطائرات الأمريكية، واليوم يصفق مؤيدو حلف «المقاولة» للطائرات الروسية التي تقصف المدن السورية. وكأن إدلب وحلب وحمص بالنسبة لهم أرض الأعداء.
لم يعد، لا بإمكان قومجية بشار الأسد «بتوع» السيادة الوطنية المهترئة، ولا بإمكان معارضيه، أن يعيّر الآخر بالعمالة والخيانة للخارج. فقد تساوى الطرفان في العمالة والخيانة، إذا كان المقياس هي الاستعانة بالخارج. وأرجو أن لا يتشدق أحد بالقول من جماعة بشار بأنه يحق للدولة ما لا يحق للمعارضين. فمن المعلوم أن الدولة السورية لا وجود لها منذ زمن بعيد، والعصابة لا يمكن أن تسمي نفسها دولة. وحتى لو كان النظام السوري يعتبر نفسه دولة، فقد خسر هذه الميزة منذ اندلاع الثورة. وحتى لو ادعى أن بعض السوريين يؤيدونه، فإن بقية الشعب السوري سحبت منه الشرعية منذ أن أطلق الرصاصة الأولى على المتظاهرين السلميين في شوارع سوريا. كيف يزعم بشار أنه يحظى بشرعية إذا كان الشعب يحاربه على الأرض بمختلف أنواع السلاح من الشمال إلى الجنوب؟ ولا قيمة لنتائج المهزلة الانتخابية الأخيرة، خاصة وأن عدد السوريين المحرومين من المشاركة بها، من لاجئين ونازحين، زاد عن ثلثي الشعب السوري.
لقد سقطت الأقنعة تماماً. وإذا كان التدخل الأمريكي في سوريا حراماً، فإن التدخل الروسي والإيراني خطيئة لا تغتفر. ومن طلبه فهو عميل، وخائن، وبائع للوطن إلى يوم الدين.
هل يا ترى سيصفق مؤيدو بشار الأسد لإسرائيل فيما لو تدخلت لإنقاذ نظامه؟
بعد ساعات قليلة من تصريحٍ، استثنى فيه الجيش الحر من تهمة الإرهاب، وتعهد بألا تستهدفه غارات سلاح الجو الروسي على سورية، وأن تفتح بلاده حواراً معه، باعتباره قوة معتدلة، أنكر وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، أن يكون هناك "جيش حر"، بينما كانت بيانات الناطق العسكري باسم جيش الغزو تعتبر كل من تستهدفه غارات طيران روسيا "داعشيا"، باعتبار أن من لا ينتمون إلى النظام جميعهم "دواعش"، وأنه لا وجود لغير هؤلاء على الطرف الآخر من الصراع ضد الأسد. لذلك، لم يتعرض أحد سواهم للقصف، وليس بين من قتلوا أحد غيرهم، حتى إن ثبت أنهم أطفال في مقتبل العمر، قتلوا وهم نيام تحت ركام منازلهم المدمرة.
يظهر الروس قدراً غير مألوف من الاستهانة بقطاع كبير من شعبهم، ومن الرأي العام العالمي، يرجع إلى رؤيتهم لحربهم في سورية. ومثلما تعتبر "داعش" كل من لا ينتمي إليها "مرتدا" يستحق القتل، ترى روسيا في الذين يعارضون النظام "دواعش"، من الضروري قتلهم بقنابل طائراتها. المشكلة أن روسيا دولة كبرى، ولها مسؤوليات أخلاقية تجاه العالم، وأن تدعيش سياساتها الذي بدأ قبل ظهور تنظيم داعش في سورية بعامين لعب دوراً مرعباً في انهيار الشرعية الدولية، وانتشار فوضى واسعة في عالمنا العربي، بين أسبابها غياب المعايير الإنسانية والقانونية عن مواقف حراس الشرعية الدولية وممارساتهم، وبالأخص منهم روسيا التي أيدت دوماً قتل السوريين برصاص الجيش الأسدي، واتهمت طالبي الحرية بالأصولية والإرهاب، وشاركت تخطيطاً وتنفيذاً في جميع العمليات العسكرية التي استهدفت حياتهم الشخصية ووجودهم الوطني، واستفزت قطاعاً كبيراً من مسلمي روسيا، تعاطف مع ثورة السوريين من أجل الحرية، وتفهم أن ينالوا الحقوق التي سبق لهم أن نالوا بعضها، عقب سقوط نظامهم الاستبدادي. وتقول استطلاعات الرأي إن غالبيتهم ترفض غزو بلادهم سورية، وقتالها مقاومي نظام استبدادي متوحش، يضطهد شعباً لم يناصب روسيا العداء يوماً، ولم يلحق ضرراً بمواطنيها ومصالحها. وزاد طين هؤلاء بلة أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية رأت في قتل السوريين على يد الغزاة الروس "حرباً مقدسة"، يخوضها جيش مؤمنين أطهار ضد كفرة أشرار، على طريقة "داعش" التي تدّعي أنها تقاتل، باسم الإيمان القويم، مرتدين عنه، ليسوا غير كفرة ومارقين، تجب إبادتهم من دون رحمة.
هل يمكن لسياسات دولة عظمى، هذه مبادئها وممارساتها، أن تبقى في منأى عن "تدعيش" حياة مواطنيها العامة، وعلاقات مكونات مجتمعها الدينية، وعلاقاتها مع المجتمع الدولي التي شهدت، منذ غزت سورية عسكرياً، واستهدفت الآمنين وأنصار الحرية من المقاتلين، عودة مخيفة إلى زمنٍ لطالما تحكم فيه القوي بالضعيف، وأجاز لنفسه ما منعه عن سواه، يهدد انبعاثه من جديد على يد روسيا، بطي حقبة "نزع الاستعمار" التي كانت الأمم المتحدة قد أقرتها، في سبعينيات القرن الماضي، وفتح إغلاقها الباب رحباً أمام تحقيق أماني عديد من الشعوب، وحماها من عدوان حيتان السياسة الدولية الكبار وتجبرها؟
تدمر سياسات روسيا السورية الأسس التي تنهض عليها الشرعية الدولية، وتعتبر ركائز أمن العالم وسلامه وتوازنات نظمه المتنوعة، وتعيدنا خيارات موسكو، التدخلية والعدوانية، إلى عصر أشد سوءاً بكثير من عصور الاستبداد التي حفل بها تاريخ عالمنا، وخصوصاً منه التاريخ الروسي، تمتزج فيه نزعة مذهبية، داعشية المضمون، بسياسات قوة مفرطة، كونية الانتشار، لن ينعم العالم بأي قدر من السلام والأمان، إن سمح بانتصارها على سورية.
في معرض رده على التدخل العسكري الروسي في سورية، والذي بدا "محرجاً"، بمقدار ما كان "مفاجئاً"، على الرغم من أن واشنطن رصدت، منذ يوليو/تموز الماضي، زيادة ملفتة في حركة النقل العسكري الروسي إلى سورية، صرح الرئيس الأميركي، باراك أوباما، أنه لن يسمح لنظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بجره إلى حرب بالوكالة في سورية. بدا هذا الكلام، من جهة، منسجماً مع سلوك أوباما الشخصي تجاه الأزمة السورية منذ بدايتها، فقد أبدى مقاومة شديدة تجاه التدخل، على الرغم من سيل الانتقادات والإهانات التي تلقاها من خصومه داخل الولايات المتحدة وخارجها. لذلك، بدا أوباما، في هذا التصريح، وكأنه يحاول، مع إصراره على عدم تغيير سياساته، الحفاظ على ماء وجهه، مع أن بعضهم يعتقدون أنه لم يعد معنياً حتى بهذا، إلى درجة أنه غدا مثالاً للرجل الذي يبغضه حلفاؤه، ولا يحترمه أعداؤه.
لكن، من جهة ثانية، بدا هذا التصريح غير ذي معنى، لأنه يتناقض مع مبدأ أوباما نفسه في السياسة الخارجية، والذي يقوم على فكرة الانكفاء عن التدخل المباشر، وإنشاء موازين قوى إقليمية وإدارتها، من خلال الصراع السوري، تؤدي إلى استنزاف مستمر للجميع، وتحول دون هيمنة طرف على آخر. يخل التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانب النظام السوري بقواعد اللعبة التي تديرها واشنطن، منذ نحو خمس سنوات، بين القوى الكبرى المنخرطة في الصراع الإقليمي، وهي تركيا والسعودية وإيران، ويصب في مصلحة ترجيح كفة طرف على آخر، وهو أمر لا تملك واشنطن قدرة التغاضي عنه. من هذا الباب، لم يأخذ المطلعون على حقيقة التفكير الأميركي كلام أوباما على محمل الجد، على غرار أكثر ما يقوله بشأن سورية، أو ما ظل يقوله منذ خمس سنوات. فوق ذلك، بدا واضحاً أن أوباما فقد زمام المبادرة في المنطقة، ولم يعد يملك مفاتيح السيطرة على الأحداث فيها، بعد أن أدار ظهره لها، بل أصبح يعمل بمنطق ردود الأفعال على سياسات الفاعلين الآخرين فيها، والتي أخذت تجرفه نحو تبني مواقف لا يرغب بها. لذلك، نجده، وهو الذي قرر الخروج من العراق بأي ثمن عام 2011، يعود إليه إثر سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة عام 2014، وله اليوم فيه قوة عسكرية من خمسة آلاف عنصر، على الرغم من أن أوباما يصر على أنها قوة غير قتالية، وأنها هناك لأغراض تدريبية واستشارية فقط. ليس هذا فحسب، بل انجرّ أوباما إلى الصراع السوري الذي ظل يحرص على البقاء بعيداً عنه، بعد أن "أحرجه" تنظيم الدولة بقتل صحافييْن أميركييّْن.
واقع الأمر أن واشنطن قررت، على الفور، الرد على التدخل العسكري الروسي المباشر الذي يخلّ بموازين القوى على الأرض في سورية، إذ أفشلت صواريخ "تاو" الأميركية التي تملكها فصائل المعارضة السورية المحاولات اليائسة لقوات النظام، المدعومة بغطاء جوي روسي، لتغيير المشهد الميداني في مناطق ريف حماة واللاذقية. وقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست في تقريرٍ، نشرته يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أن دفعات جديدة من أجيال أكثر تطوراً من هذه الصواريخ المضادة للدروع في طريقها الآن إلى فصائل معارضة سورية.
ليس هذا فحسب، بل يبدو كأن كلاً من روسيا والولايات المتحدة تتجهان نحو إنشاء قوات برية
"انجرّ أوباما إلى الصراع السوري الذي ظل يحرص على البقاء بعيداً عنه، بعد أن "أحرجه" تنظيم الدولة بقتل صحافييْن أميركييّْن"
حليفة على الأرض السورية، تكون بمثابة ذراع ضارب لكل منهما في هذه المواجهة التي تستهدف، من جهة، تسجيل نقاط في الحرب على تنظيم الدولة. وتسعى، من جهة أخرى، إلى منع سقوط النظام السوري أو انتصار المعارضة. وفي هذا الصدد، بدأت القيادة العسكرية الروسية في سورية عملية إعادة تقييم وتنظيم لبقايا جيش النظام والمليشيات المرتبطة به، في إطار توجه لحصر كل القرارات العسكرية والأمنية بها، وهي تدفع لذلك نحو حل المليشيات المحلية التي أنشأها رجال أعمال، أو مسؤولون داخل النظام، ودمج من يرغب منها بالجيش النظامي. وفيما يتعلق بالمليشيات غير السورية التي ترعاها إيران، فإنها ستغدو أيضاً بإمرة غرفة عمليات مشتركة، يكون للروس الكلمة الفصل فيها، ما يعني أن دخول "الدب الروسي" إلى حلبة الصراع السوري بدأ يدفع "النمس الإيراني" إلى التواري، أو القبول بالدور الموكل إليه روسياً.
أما الولايات المتحدة، فتعمل على إنشاء جيش آخر أطلق عليه اسم "جيش سورية الديموقراطي" وتأهيله وتجهيزه (سوف نحتاج طبعاً الى أن تشرح لنا واشنطن لاحقاً كيف يمكن أن يكون الجيش ديموقراطياً)، قوامه الرئيس قوات حماية الشعب الكردية. كما يضم الجيش، وقد غدا يحمل اختصاراً اسم "جسد"، إلى ذلك قوى عربية لأغراض تجميلية. وقد أقرت واشنطن للتو تزويده بـ 100 طن من السلاح، تم إسقاط جزء منها، أخيراً، عن طريق الطائرات. ويتراوح تعداد الجيش العتيد، بحسب وسائل إعلامية مختلفة، بين 25-30 ألف مقاتل، وستكون مهمته الأساسية، على ما يبدو، استخلاص الرقة من يد تنظيم الدولة، وتحقيق سبق أميركي على الروس الذين يكتفون، حتى الآن، من حربهم المعلنة على التنظيم، بضرب قوات المعارضة في مناطق التماس الرئيسة مع النظام، شمال سورية وغربها.
وبهذا، يكون المشهد السوري قد جمع، على اختلاف التفاصيل، كل "أمجاد" التجربة الأفغانية،
"دخول "الدب الروسي" إلى حلبة الصراع السوري بدأ يدفع "النمس الإيراني" إلى التواري"
بنسختيها الروسية (1979) والأميركية (2001). ففي 1979 تدخل الروس لدعم نظام بابراك كارمال، فأدار الأميركان ضدهم حرباً بالوكالة، يساعدهم في ذلك السعودية (دفعت المال) ومصر (باعت السلاح الروسي الذي كانت تملكه إلى المجاهدين الأفغان) وباكستان (نظمت عمليات التوزيع وغيرها من أمور لوجستية). وأدى ذلك، في نهاية المطاف، إلى هزيمة روسيا وسقوط نظام نجيب الله الذي خلف كارمال. وفي 2001، تدخلت واشنطن لإسقاط حكومة حركة طالبان، وكان ذراعها الضارب في ذلك تحالف الشمال الذي ضم أقليات من الطاجيك والأوزبك والهزارة، بزعامة أحمد شاه مسعود. وقد تمكن هذا التحالف، بدعم جوي أميركي، من الوصول إلى كابول وإخراج "طالبان" منها. وتزاوج الولايات المتحدة اليوم بين الأمرين في سورية، وتدير حرب وكالة مزدوجة على أراضيها، فهي، من جهة، تقود تحالفاً دولياً إقليمياً محلياً، هدفه الرئيس إفشال التدخل الروسي الداعم للنظام السوري. ومن جهة ثانية، تعمل على إنشاء وكيل محلي، قوامه الرئيس قوى كردية وسريانية مع بعض العرب، لضرب تنظيم الدولة وإخراجه من الرقة. وإذا كان المثل الإنجليزي الشهير ينطبق هنا: "إذا كانت تبدو كالبطة، وتسبح كالبطة، ولها صوت كصوت البطة، فالأرجح أنها بطة". وعليه، فالأرجح أن ما يجري اليوم في سورية هو حرب بالوكالة، تدار على الأرض السورية، ويسدد ثمنها السوريون، إنما الأرجح أيضاً ألا يربحها الروس، ولا الأميركيون.
لعل من فوائد العدوان الروسي على سوريا ، هو إعادة إحياء فكرة أو التذكير بالقلة التي لازالت محافظة على وجودها رغم كل ما أحاط بها ، وما عُمل على إنهائها و تشريدها ، وواجهة كل القوى التي تلعب بالملف السوري الصديق و العدو و الذي يلعب بين الطرفين ، ألا هو "الجيش الحر".
والعودة إلى بداية ظهور أول هوية على الملأ وملحقة بكلمات لازالت محفورة في أذهان ووجدان الجميع "أعلن إنشقاقي عن النظام القاتل و هذه هويتي" ، وتشكيل اول مجموعة لحماية السلمية ، و ليس لحرب القتلة ، لم تكن غايتهم الدخول في معارك أو تحقيق مكاسب شخصية أو دولية ، وإنما كل مافي أمر هو حماية من يرغب بالتعبير عن رأيه ، تأمين له سند يضمن ممارسة أبسط حقوقه "الرأي" ، في مواجهة آلة القتل التي عملت أربعين عاماً بالقتل الصامت و إنفجرت فعلاً وعلناً بالقتل المباشر لكل من يرفض الموت تحت الأضواء الخافتة.
واجه الجيش الحر خلال السنوات الثلاث الماضية سلسلة من العمليات المنظمة و الممنهجة ، لتدميره و إنهاء هذه الفكرة التي تشكل الخطر الأبرز على وجود أي نظام ، عندما يفقد أبرز و أهم عناصره البشرية ، ووقوفها بالطرف المقابل و الممانع لرغباته الطائفية ، ولم يكن مقبول وجود هكذا تشكيل الذي يمنع اي إمكانية للإستمرار في الحكم أو بالقبضة القاتلة أكثر .
اجتهد الجميع على وأد و تشويه هذا الوجود و على رأسهم مخططي نظام الأسد ، الذي زجوا بمختلف الملونات التي تشوه المولود الذي يعتبر "المنتظر" أو المخلص للشعب السوري .
اليوم تتهم الثورة السورية بإنها تحولت إلى ثورة إرهابية أو قاعدية و المسمى الأكثر تداولاً "الداعشية" ، و لكن هل كانت كذلك أم مايقال صحيح ..!؟
في أحادثينا عن بدايات الكفاح المسلح و مراجعة لبعض الذكريات ، نجد أن البطولة التي وجدت لدى بذار "الجيش الحر" لا نجد لها مثيل الآن ، من مواجهة دبابة أو آلية بـ"كلاشنكوف" أو من يهاجم حاجز ببضع بنادق و قاذف "آر بي جي" ، أو من يحاول صد رتل مجنزر ببضع مفرقعات التي لاترتقي لـ"عبوات ناسفة" ، فهؤلاء ليسوا بضعفاء أو ناقصي رجولة والأهم ليسوا بكفار أو ضعيفي الإيمان .
يسعى الجميع إلى إسباغ الجنسيات الأجنبية على المقاتلين المتواجدين حالياً في سوريا ، وتحويل الثورة من ثورة سورية إلى ثورة تحت مسميات خلافة و إمارة أو دولة ذات قومية أو صبغة معينة ، وكل التسميات التي من الممكن أن تخطر على بال لكن شرط أن لا تكون "سورية" .
وفي الحقيقة لايمكن إخفاء العنصر الأجنبي أو تواجده في صفوف الثورة ، و لكن في المقابل لايمكن جعله قاعدة أو غالبية ، فالعدد الموجود منهم لاتتجاوز نسبة تمكنه من بسط السيطرة و النفوذ ، إذ أن الغالبية الساحقة ممن يحملون السلاح هم سوريون ، وكذلك من "جيش حر" بالأساس والأصل ، تم إجباره و احاكة الظروف لخنقهم و إدخالهم في متاهات أجبرتهم للتحول من طريق إلى آخر ، و لكن الهدف لم يتغير ، والخلاص من الطغمة الحاكمة و من يدعمها هو النهاية المطلوبة .
مع إشتعال المعارك حالياً على مختلف الجبهات من الشمال إلى الجنوب ، جعل من إسطورة "الجيش الحر" تعود من جديد للظهور ، وعادة الكلمة لتتردد في مسامعنا ، وعاد أبطالها للظهور و الوقوف من جديد ، بعد سنين كانت عصيبة ، ورغم شدتها لم تنه الحلم ، الحلم الذي دفع ثمنه مليون شهيد ومغيب وملايين المشردين ، ولازال العدد مفتوح .. حلم لابد من المواصلة لتحقيقه ..
أجبر الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي بسوريا السكان على البحث عن وسائل بديلة لتأمين الكهرباء، فبدأوا باستخدام البطاريات القابلة للشحن، ومن ثم انتقلوا إلى المولدات الصغيرة وانتهى بهم المطاف إلى المولدات الكبيرة التي انتشر استخدامها بشكل كبير في الآونة الأخيرة، حتى أصبح يندر وجود تجمع سكني ليس فيه مولدة كبيرة يحصل السكان على الكهرباء منها عن طريق اشتراكات.
آلية الاشتراكات تكون على أساس قيام شخص في كل تجمع سكني بشراء المولدة وتأمين تشغيلها وتوفير الوقود والصيانة لها، ومد الكابلات اللازمة للبيوت، وذلك مقابل حصوله على مبلغ نقدي من كل بيت يتناسب مع حجم استهلاكه.
وظهرت هذه الخدمة أولاً في المناطق التي سيطر عليها الثوار، لتنتقل مؤخراً إلى المناطق التي بقيت تحت سيطرة قوات النظام، والتي تعاني هي الأخرى من انقطاع الكهرباء، وإن بدرجة أقل من تلك التي تحدث في مناطق الثوار.
مولدات الكهرباء الكبيرة بديل لشبكة الكهرباء العامة
“أبو طاهر” صاحب مولدة كهرباء كبيرة في ريف ادلب يقول للغربال: “مولدات الكهرباء جاءت لتلبية احتياجات الناس خاصة مع انقطاع شبه كامل للكهرباء، عدد البيوت التي يتم تخديمها يعتمد على استطاعة المولدة، لدي مولدة استطاعتها 300 كيلوفولت تعطي 1360 آمبير، تزود ما يقارب من 500 منزل بالكهرباء، وذلك حسب حاجة المنزل المستهلك”.
يتم وضع لوحات توزيع في رأس كل شارع في محيط مكان تواجد المولدة، كل لوحة تحوي على قواطع تفاضلية، بحيث يخصص كل قاطع لمنزل معين، ويمتد خط تغذية يعرف بالخط الساخن إلى اللوحة من المولدة، فيما يتم الحصول على الخط البارد من أعمدة الكهرباء، وتقدم مولدات الكهرباء “الأمبيرات” للمشتركين بمعدل سبع ساعات يومياً.
“علي الفرج” أحد المستفيدين من خدمة المولدات يقول للغربال: “لا يوجد بديل أمامي سوى الأمبيرات، فحتى الشواحن الكهربائية بحاجة للكهرباء لتشحن، والكهرباء أصبحت غير موجودة حالياً، لقد أصبح لدينا ميزانية خاصة للكهرباء إضافة لما نعانيه من غلاء في المعيشة، ولكن الحاجة أقوى من كل شيء، الظلام أعمى عيوننا، ونريد أن نحافظ على حد أدنى من الحياة الكريمة”.
أسعار كهرباء المولدات المرتفعة تضغط على السكان
يتفاوت سعر اشتراك الكهرباء “الأمبيرات” من منطقة الى أخرى بحسب وجود رقابة من المجالس المحلية أو من المحاكم الشرعية أو وجود مساعدات من الوقود مقدمة من المجالس المحلية والمنظمات العاملة في الداخل السوري، ففي مدينة “كفرنبل” بريف إدلب يتراوح سعر الاشتراك بالأمبير الواحد يومياً بين 45 و50 ليرة سورية وذلك بسبب حصول المجلس المحلي في المدينة على مولدات اشتراك من منظمة مهتمة بدعم المجالس المحلية أي أنهم لا يأخذون من المشترك سوى قيمة الوقود وأجور العمال وربح صغير لدعم المجلس المحلي، أما في مدينة “سلقين” ومدينة “حارم” فهناك اختلاف بالأسعار بين الأحياء ففي مدينة سلقين هناك مستثمرون ينافسون أصحاب المولدات القدامى، وتكون المنافسة بزيادة عدد ساعات التشغيل من سبع ساعات إلى تسع ساعات ومن ناحية بدلات الاشتراك فبدلاً من 75 ليرة سورية كبدل الاشتراك بالأمبير الواحد يأخذ المستثمر الجديد 60 ليرة فقط لاستدراج المشتركين إليه وحين اكتمال النصاب يقوم بتخفيض ساعات التشغيل إلى سبع ساعات ورفع سعر الاشتراك الى 75 ليرة.
لا يتوقف السكان عن التفكير في وسيلة ما لتوفير القليل من المال نظراً لارتفاع نفقاتهم، يعتبر من التقتهم الغربال أن أصحاب المولدات يقومون باستغلالهم، خاصة وأن هذه الاشتراكات هي الوسيلة الوحيدة لتزويدهم بالكهرباء.
إن التفاوت الكبير بأسعار الاشتراك بالمولدات يعود أيضاً إلى تحكم أصحابها الذين يحددون الأسعار متفلتين من رقابة من المحاكم الشرعية أو المجالس المحلية، ويحمل الأهالي في ريف إدلب الشمالي المؤسسات المسؤولة في مناطقهم وزر هذا الاستغلال والتفريق، ويتهمون القائمين عليها بالفساد والإهمال.
عضو أحد المجالس المحلية في ريف إدلب الشمالي يقول للغربال طالباً عدم ذكر اسمه: “يتهمنا البعض بالتقصير والإهمال، والبعض الأخر بالفساد، لأننا لا نستطيع توفير الكهرباء لهم على حد زعمهم، في الحقيقة نحن لا نسد حاجتهم، لكن ليس بسبب الإهمال أو الفساد كما يظنون، بل لعدة عوامل أهمها عدم قدرتنا على التحكم في أسعار الاشتراكات، وذلك لعدم توفر البديل لدينا لتأمين حاجة المواطن، فالجهات الداعمة للمجالس المحلية في الحكومة السورية المؤقتة لا تملك ميزانية التي تسمح بإنشاء هكذا مشاريع في القرى والمدن الخارجة عن سيطرة النظام”.
ورغم ذلك يبدو حديث المواطن عن ارتفاع سعر “الآمبير” مبرراً بسبب الفقر المدقع الذي دخل في متاهاته، لكن مستثمري المولدات لديهم مبررات أيضا لرفع الأسعار، أحد أصحاب المولدات الكهربائية في “سرمدا” يقول للغربال: “من الطبيعي أن تكون أسعار الأمبير مرتفعة بسبب ارتفاع أسعار الوقود “المازوت”، التي تشغل المحركات الخاصة بالمولدات، بالإضافة إلى ارتفاع سعر مجموعة المولدة، وهو ما يعتبر رأس مال يريد صاحبه الاستثمار به لتأمين معيشته مثل أي عمل آخر، وكذلك ارتفاع كلفة الصيانة وارتفاع أسعار قطع التبديل وأجور العمال، وبحساب بسيط تجد أن ما نكسبه يؤمن المعيشة بالحد الأدنى”.
وتسبب ارتفاع أسعار اشتراكات المولدات بارتفاع بأسعار منتجات أخرى يعتمد إنتاجها على الكهرباء الأمر الذي سيزيد بلا شك من العبء المالي على السكان، يقول
“أحمد” وهو صاحب ورشة خياطة في “سلقين” للغربال: “كل يوم أحتاج لـ 30 أمبير لتشغيل الآلات (75×30 = 2250 ليرة سورية)، علماً أن المولدة تعمل 7 ساعات يومياً، وهذا ما يزيد في التكلفة أكثر، لذلك أضطر إلى رفع أسعار البضاعة”.
مولدات الاشتراك مشروع تجاري رابح
يعد مشروع مولدات الاشتراك أحد أربح المشاريع التجارية في الشمال السوري حالياً بسبب حاجة الناس الماسة للكهرباء وطلبهم الدائم لها، يقول “محمد الأحمد” وهو أحد الموظفين المراقبين على أحد مشاريع مولدات الاشتراك للغربال: إن المولدة التي نشغلها تعتبر من المولدات المتوسطة حجماً بين المولدات المتواجدة في مدينة سلقين والتي تعطي ما يقارب 2000 أمبير، نحن يلزمنا لتشغيلها لمدة سبع ساعات يوميا ما يقارب 350 لتر مازوت ويبلغ سعر لتر المازوت الواحد من “معرة النعسان”، التي تعتبر السوق الوحيد لبيع الجملة للمحروقات، نحو 115 ليرة سورية أي أن قيمة المحروقات اليومية 40250 ليرة بالإضافة إلى أجر عامل مراقب يبلغ 1000 ليرة وأجر عامل صيانة كهربائية يبلغ 1000 ليرة وتكاليف صيانة تبلغ 8000 ليرة أي تكلفة التشغيل 50250 ليرة يومياً.
لكن بالمقابل نحن نكون قد اخذنا قيمة “2000 أمبير” من المشتركين، قيمة الأمبير الواحد “65 ل.س” أي أن مجموع قيمة الاشتراكات 130000 ليرة سورية، فيكون ناتج الربح يومياً 79750، وشهرياً 2392500 أي يمكن من ناتج الربح شهرياً شراء مولد كهربائي ثاني وفتح مشروع جديد كالمشروع الأول.