بغض النظر عن الأسباب المباشرة التي حملت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على التدخل الدموي الصاعق في سورية، وفي مقدمتها الخناق السياسي والاقتصادي الذي تتعرّض له روسيا منذ الحرب الأوكرانية، ويريد الخروج منها، مثلما خرج سابقاً عندما اعتلى السلطة، حين شعر أن مقاليد الأمور ليست في قبضته، فبادر فوراً إلى الحرب في الشيشان، ويومها حوّل الرأي العام الروسي من المعاناة الداخلية إلى الحرب، وتتبع الدبابات والطائرات والقتال من بيت إلى بيت.
بغض النظر عن الدوافع الداخلية لشنه حرباً كبيرة خارج حدود الاتحاد السوفييتي السابق، والتي نكرّر أنها أزمة خانقة، مؤشراتها تراجع سعر صرف الروبل، وانهيار أسعار النفط، وتهديدات واشنطن بكشف فساد الدائرة المحيطة به. يريد بوتين، الوحش المجروح والمحاصر، استغلال التهديد الأميركي الأجوف والتردد الأوروبي والعربي الفاضح، لاستعادة المجد الروسي الضائع، فاندفع يجرّب اختبار القوة مع واشنطن وتركيا، بعد أن جرّب اختبار القوة في مجلس الأمن، وفي اعتراض الدبلوماسية الأميركية مراراً.
يجرّب بوتين حالياً اختبار القوة في الجو، وربما سيجرّبها على الأرض، وهو يأمل تحقيق طموحاته التي تتمركز حول الاعتراف بمصالح روسيا الحيوية والنظام العالمي الجديد الذي يخدم "الأمة الروسية العظيمة". يعتقد القيصر أن بلاده سيكون لها كلمة في منطقة الشرق الأوسط، إذا أحرز موقعاً مؤثراً في الأزمة السورية. وهو يجدد أطماع أجداده القياصرة في بلاد الشام، والتي لم تنقطع منذ طلب السلطان العثماني، محمود الثاني، حماية من روسيا، وأبرم معاهدة معها، تتعهد فيها بالدفاع عن الدولة العثمانية أمام الهجمات المصرية، وهو ادعاء بوتين في الحالة السورية. ولم تخدم نتائج الحماية الروسية الدولة العثمانية، فقد انهار الجيش العثماني أمام الجيش المصري في معركة نصيبين عام 1839، لأن هدف الروس الحقيقي لم يكن حمايتها، وإنما أطماعهم الخاصة، ولم تهزم الدولة العثمانية المصريين، إلا بمساعدة البوارج الحربية، البرتغالية والنمساوية.
وفي الأربعينيات من القرن التاسع عشر، تدخلت روسيا، مستغلة الفتن الطائفية في بلاد الشام، وخصوصاً في لبنان، بحجة دعم الأرثوذكس، لكنه تدخل لم يكن إلا من أجل تقوية النفوذ الروسي في شرق المتوسط. ومرة أخرى، محاولة روسية لدخول بلاد الشام، حيث أبدى عام 1854 القيصر الروسي، نيقولا الأول، رغبته في اقتسام الدولة العثمانية، فعرض على بريطانيا فكرة تقاسم الدولة العثمانية بينهما، إلا أن الأخيرة رفضت، فحاول إغراء فرنسا، فرفضت أيضا.
"يعتقد بوتين، اليوم، أن هناك إعادة لتقسيم الشرق الأوسط، وأنه آن الأوان لتحصل روسيا على ما لم تستطع الحصول عليه سابقاً، حين حالت صلابة المفاوضيْن، الفرنسي والإنجليزي، والثورة البلشفية، دون تحقيق أحلام روسيا"
وكانت روسيا دائماً تهدد الدولة العثمانية، بحجة حماية المسيحيين الأرثوذكس، حتى جاء يوم ونفذت تهديدها، وأعلنت الحرب فجأة على العثمانيين، لكن الغطرسة الروسية باءت بالفشل، بسبب تدخل بريطانيا وفرنسا، وأغارت أساطيلهما على الأساطيل الروسية في شواطئ جزيرة القرم، وعلى موانئ روسيا في البحر الأسود، ولتنتهي هذه المغامرة الروسية بعقد معاهدة سلام باريس.
بقيت عند الروس غصّة أخرى، لم يستطيعوا حيالها فعل شيء، في أثناء تدخلهم، عندما تم نقل سكان المناطق الأرمنية من ولايات شرق تركيا وكيليكيا والأناضول الغربية إلى بلاد الشام، حيث لم يُفض هذا التدخل سوى عن قتل سكانٍ مسلمين في الأناضول الشرقية، على يد الأرمن المتطوعين في الجيش الروسي.
أكثر ما كان واضحاً في الأطماع الروسية في بلاد الشام ظهر عندما زار البريطاني سايكس والفرنسي بيكو سان بطرسبورغ عام 1916، للحصول على موافقة روسيا على اتفاقية تقاسم بلاد الشام بينهما، فاشترطت لذلك حصولها على ولايات أرضروم و طرابزون ووان ويتيليس، أي الولايات الأرمنية التركية، وعلى شمال كردستان، من موش وزعرت وحتى الحدود الإيرانية. واشترطت روسيا، وهذا هو المهم، حقها بالدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الشرق الأوسط. ومن هنا، يمكن فهم موقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في دعمها موسكو لشن غارات جوية في سورية، ووصف ذلك "حرباً مقدسة".
يعتقد بوتين، اليوم، أن هناك إعادة لتقسيم الشرق الأوسط، وأنه آن الأوان لتحصل روسيا على ما لم تستطع الحصول عليه سابقاً، حين حالت صلابة المفاوضيْن، الفرنسي والإنجليزي، والثورة البلشفية، دون تحقيق أحلام روسيا. الفرصة مواتية، اليوم، حيث الحجج جاهزة، وحيث التردد الغربي والعجز العربي. وسواء كانت مغامرة بوتين في سورية لاستعراض عضلات روسيا في فضاءٍ لا يهم الدول الأخرى، وفي ظروفٍ مواتية، وبتكاليف زهيدة، كما تكتب الصحف الروسية، حيث القوات الجوية الروسية تستخدم ذخائر قديمة تعود إلى نهاية السبعينيات، وأوشكت صلاحيتها على الانتهاء، أو كانت هذه المغامرة محسوبة، من أجل أن يكون لروسيا موقع قدم، وإمكانية لفرض إرادتها ومجدها، وبالتالي، المشاركة في إعادة اقتسام الشرق الأوسط، فإنها مغامرة بكل معنى الكلمة، مشابهة، أو مختلفة عن مغامرتها الفاشلة في أفغانستان.
مع بدء العدوان الروسي على سوريا و ثوارها ، إعلان أن هذا العدوان هو لإنهاء المعارضة المواجهة للأسد ، باتت ساحة المعارك أشد سخونة وصعوبة ووعورة ، وزاد "فجور" سلاح الجو من ضراوة المعارك ، وحوّلها لنار مشتعلة .
تتبع روسيا و المنفذين على الأرض سياسية الأرض المحروقة بشكل استباقي ، قبل تقدم القوات البرية القليلة العدد نسبياً مع حجم المطلوب استعادته و قوة المدافعين ، ولكن سياسة القصف "العمياء - الكثيفة – المبيدة" ، تجعل من المهمة أقل صعوبة .
لا يمكن لأي شخص مهما كان سلاحه أن يقف في وجه القصف الغزير جداً و الكثيف و المتنوع ، وهذا ما لحظناه من خلال بضع فيديوهات انتشرت هنا و هناك ، عن استخدام أسلحة "محرمة" وعلى رأسها العنقودي و بعيد المدى .
لكن سلاح الجو بنوعيه الطيران الحربي أو المروحي بكافة أشكاله ، وكذلك المدفعية و المجزنرات تقف عاجزة أمام أمر واحد ، وتتحول المعركة من معركة محسومة من بعيد إلى معركة طاحنة ، يثبت فيها من يستطيع الصبر و لديه الإيمان القوي .
ولعل إتباع تكتيك "الإلتصاق بالعدو" ، أي يجب أن تلتصق بالعدو لتقتله عن قرب ولا أن تمنحه فرصة قتلك عن بعد ، هذا التكتيك الأنجع في مثل هذه المواجهات ، فكلما قصرت المسافة الفاصلة بين الثوار و القوات المتعددة الجنسيات ، كلما تم إقصاء نوع سلاح وتخفيف العبء عن المدافعين عن الأرض ، والوصول إلى الإشتباكات وجهاً لوجهاً أو لمسافة تقل 75 م يحوّل سلاح المدفعية و الطيران ، إلى خردة وغير مفيدة ، وهنا تكون المعركة محسومة بشكل حتمي لأصحاب الأرض الذين يعرفونها جيداً ، على خلاف القوات التي تجمعت من مختلف بقاع الأرض لتحارب الشعب و تقضي على ثورته .
تنفذ موسكو مخططاً واضحاً في سورية، يستهدف سحق المعارضة المسلحة وتحييد المليشيات الإيرانية واستعادة سيطرة الدولة تحت سلطة الأسد، قبل الانتقال إلى مرحلة مفاوضات تفرض فيها رؤيتها للحل، وتكرس مركزها المتفوق في المشرق العربي، في مواجهة النفوذ الأميركي الأوروبي. وهي تستفيد في تنفيذ هذا المخطط من دعم دول عربية أصبحت تتبنى موقف نظام الأسد في وسم جميع قوى المعارضة بالإسلامية، وتطمح أن تتمكن روسيا من القضاء عليها جميعاً، وتطهير المنطقة منها، كما تستفيد من دعم أطراف من المعارضة السورية، وقفت باستمرار ضد التيار الغالب في المعارضة، ورفضت الاعتراف بالقوى المسلحة التي تشكلت للدفاع عن النفس، وكرد فعل على الهمجية والأساليب الوحشية التي اعتمدتها أجهزة الأسد ومليشيات النظام في قمع المتظاهرين السلميين، ثم في المواجهة المسلحة المكشوفة لكل مظاهر الثورة والاحتجاج.
حدود المواجهة الروسية الأطلسية في سورية
على الرغم من أن المخطط الروسي، الرامي إلى تصفية المعارضة وإجبار السوريين والعالم على الاختيار بين داعش ونظام الأسد، يهدف إلى تقويض استراتيجية الدول الغربية التي تراهن على وجود شريك من خارجهما، لتبرير الانتقال السياسي، إلا أن من غير المحتمل أن يستثير هذا العمل رد فعل قوي من هؤلاء. وصحيح أن الروس، بقضائهم على المعارضة "المعتدلة"، يضعون الغربيين أمام تحدي الدفاع عن حلفائهم، ويظهرون تخاذلهم، ولا صدقية التزاماتهم في سورية والمشرق، والعالم عموما، لكنهم لا يمسّون لهم مصالح استراتيجية ملموسة، وربما ساعدهم الهجوم الروسي في حرف الأنظار عن المحنة الإنسانية التي يعيشها السوريون، منذ أكثر من أربع سنوات، بسبب سوء إدارتهم الأزمة، ويقدم لهم ذريعة جديدة لتبرير تقاعسهم وشماعة روسية يعلقون عليها فشل سياستهم وخططهم السورية، ويشكل بالنسبة لهم فرصة جديدة للتملص من التزاماتهم التي أعلنوها مراراً تجاه الشعب السوري، تماماً كما قدم لهم الفيتو الروسي من قبل الذريعة، للتحلل من مسؤولياتهم تجاه حماية المدنيين السوريين، ومساعدة الثوار على تحقيق أهدافهم التي أجمعوا على مشروعيتها.
لا يعني هذا أن الانفراد الروسي بعمل يقلب ميزان القوى في سورية، ويقوّض سمعة الغرب لن يستدعي أي رد، فهو سيدفع، لا محالة، إلى انخراطٍ أكبر للولايات المتحدة في دعم الثوار، أو إلى مرونة أكبر في التعامل مع تسليحهم بأسلحةٍ كفيلة بإفشال موسكو، ودفعها إلى التخبط في حربٍ لا أفق لها. لكن، ما لم تحصل تطورات غير محسوبة، من المستبعد أن تؤدي أزمة العلاقات الروسية الغربية الراهنة إلى مجابهة مباشرة حول سورية. وسوف يستمر الروس، من دون خوف من أي رد فعل قوي، في تحقيق ما يعتقدون أنه يخدم مصالحهم، ويرد على استثماراتهم في النظام السوري، ومن بعد، في التدخل لحمايته ومنعه من السقوط. وعلى الأغلب، سيراهن الغربيون على غرق الحملة الروسية في الوحول السورية، وينتظرون عودة الروس إلى منطق التعاون، لحل الأزمات الدولية، من دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات استراتيجية كبرى لهم، أو الاعتراف بهم شريكاً في صوغ أجندة السياسة العالمية.
أما موسكو، فهي ليست معنية، ولم تكن في أي فترة سابقة، معنية بمصير سورية والسوريين. فسورية ليست بالنسبة لروسيا سوى فرصة للاقتصاص من الغرب، ومسرحاً لاستعراض القوة وتصفية الحسابات، وتقويض الصدقية الاستراتيجية للولايات المتحدة وهيبتها الدولية، على أمل فرض نفسها على المجتمع الدولي بمثابة دولة عظمى، من وزن الولايات المتحدة والصين، وإجبار الغرب على التراجع في مسائل العقوبات الاقتصادية وأوكرانيا، وتوسع دائرة الحلف الأطلسي في اتجاه أوروبا الشرقية.
يستخدم بوتين الأسد، مثل ما يستخدم سورية نفسها، وحياة الملايين من أبنائها، ورقة للضغط والمساومة، ولا يعنيه وجوده من عدمه في شيء. ما يهمه مصالح روسيا، وهذه اليوم في نظر بوتين فرض إرادته زعيماً عالمياً والاعتراف بمركزيته، ولا علاقة لذلك، لا بتحقيق السلام في سورية، ولا بإنقاذ اللاجئين والمشردين السوريين.
ولأن سورية لا تعني له شيئاً، فهو لا يهتم بتقديم أي عرض لحل الأزمة التي تمزقها، بل لا يعترف حتى بوجود أزمة، ولا أقول ثورة، ويقترح تحالفاً من الجيش الحر وجيش الأسد لمواجهة داعش، ويرفض الالتزام بأي رؤية للخروج من الأزمة، ويردد أسطوانة واحدة، منذ البداية إلى النهاية، هي معارضة التدخلات الأجنبية، وترك الشعب يقرر مصيره، أي ترك الأسد يقرر مصير سورية والشعب السوري معاً، ما دام الروس يعرفون أن السوريين ليسوا في وضع وظروف تسمح لهم بتقرير مصيرهم بحرية في ظل نظام خارج على القانون، يشن عليهم حرباً تدميرية.
وقد لفتني أن بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسية ومستشار بوتين لشؤون الشرق الأوسط قلل، في لقاءاته أخيراً، مع معارضين سوريين، من رهانات التدخل العسكري إلى درجة مضحكة، مؤكدا أن كل ما تهدف إليه بلاده من إرسالها قواتها الجوية هو القضاء على المتطوعين الروس في المنظمات الإرهابية، قبل أن يعودوا إلى روسيا. وفي اعتقادي، إن إشاعة هذا التفسير الهزلي لهدف التدخل يعني أن الروس يبقون رهاناتهم مفتوحة، ولا يريدون تقييد تدخلهم بأي التزامات، ولا تحمل أي مسؤوليات في الأزمة السورية، ولا تقديم أي عرض، ولا إعطاء أي وعود.
ترجمة هذا الموقف على الأرض تعني أن سورية، وخصوصاً في الشمال الغربي وسهل الغاب وريف حمص ومحيطها، مقبلة على تصعيد عسكري من نوع جديد، وأن القتل والدمار سوف يصلان إلى مستويات غير مسبوقة. ولن يتردد الروس في اللجوء إلى أقصى درجات العنف، لتحقيق أهدافهم. ولن تكون هناك معايير واضحة لمعنى الربح والخسارة في العملية الروسية. ما يهم الروس هو تكبيد المعارضة أكثر ما يمكن من الخسائر، وتحقيق أوسع تدمير ممكن في البنية التحتية للبلاد. وهذه أيضا كانت، ولا تزال، حسابات الأسد. فهو يعتبر نفسه رابحاً، حتى الآن، لأنه نجح في تدمير المناطق التي لا تخضع لسلطته، أو التي خرجت عنها، كما نجح في قتل أكثر ما كان في وسعه أن يقتله من المعارضين والمحتجين والرافضين لحكمه من المدنيين. وهذه أيضا كانت سياسة بوتين في الشيشان.
الرد على التدخل الروسي
لا يطرح هذا الموقف تحديات كبيرة على الدول الأطلسية التي تنتظر فشل الحملة الروسية في سورية، من دون أن تغامر بشيء، أو يلحق بمصالحها الأساسية أي أذى، لكنه يطرح تحديات كبيرة على الدول الخليجية وتركيا، لأنه يقوّض استراتيجيتهم العسكرية والسياسية التي تراهن على تنحية الأسد، مقدمة للإعداد لمرحلة انتقال سياسي، يغير من نمط السلطة والحكم في سورية، ويحبط الأطماع الإيرانية في تحويل سورية إلى منصة للحشد والتجييش ضد بلدان الخليج وبقية البلدان العربية وتركيا. وليس أمام هذه الدول سوى الارتقاء بمستوى التنسيق والتعاون في ما بينها، وزيادة دعمها المعارضة السورية المسلحة، حتى تتمكن من مجابهة العاصفة الروسية والبقاء رقماً أساسياً في المعادلة السورية والإقليمية.
أما التحدي الأكبر فهو موجه للمعارضة السورية التي تجد نفسها أمام تهديداتٍ خطيرةٍ، لا سابق لها. فما يستهدفه التدخل الروسي هو رأس المعارضة نفسه، ووجودها، طالما أنه يعتبرها تمرداً على الحكومة الشرعية، ولا يتردّد في إعلان تغطيته الجوية هجومات النظام البرية على الفصائل المسلحة جميعا. وبمقدار ما يسعى إلى فرض الأمر الواقع بالقوة، يقوّض هذا التدخل كل الجهود الدولية، للبحث عن حل سياسي ومرجعية جنيف التي قام عليها، كما يدفع إلى إطالة أمد الحرب، ويهدّد بتحويل سورية إلى أفغانستان جديدة، مع ما يعنيه ذلك من تفاقم موجات النزوح وتفريغ البلاد من سكانها، وتنامي مخاطر تقسيم البلاد وتعميق القطيعة بين جماعاتها المختلفة. وبدل أن يقضي على الإرهاب، كما تقول بياناته، سوف يزيد التدخل الروسي من جاذبية المنظمات المتطرفة التي تجعل من الحرب ضد روسيا قضية وطنية ودينية في الوقت نفسه. وفي موازاة ذلك، سوف تعزز الحرب الدولية بالوكالة من تبعية السوريين، في الحكم والمعارضة، للدول الأجنبية الداعمة، ويقوّض أمل السوريين في التفاهم والتقارب والعودة إلى الوطنية الجامعة.
لن ينجح الروس، مهما فعلوا في فرض إرادتهم على شعب يدافع عن حقوقه على أرضه، وقدم حتى الآن أكثر من 300 ألف ضحية، لكنهم يستطيعون إسالة مزيد من الدماء، وتعميم الدمار الذي أوغل فيه من قبل بشار الأسد، صنيعتهم الدائمة، وتأخير أجل الخلاص وزيادة معاناة السوريين ومحنتهم، وتسعير النزاعات الطائفية والمذهبية، وتوتير العلاقات الإقليمية والدولية أكثر مما هي عليه الآن. وقد خسرت موسكو منذ الآن رهاناتها السياسية، بمقدار ما أججت روح العداء عند الفصائل المستهدفة، ودفعت المقاتلين إلى التقارب والالتفاف حول الأكثر راديكالية، وضاعفت من جاذبية الأيديولوجيات المتطرفة، ومن مكانة ودور القوى الأكثر تعصباً وتشدداً فيها. وما كان لحديث البطريرك كيريل عن الحرب المقدسة إلا أن يزيد في شحن العواطف الدينية، وتفاقم التوترات المذهبية المتفاقمة أصلاً.
لكن فشل التدخل الروسي ليس عزاءً كافياً للسوريين، ولا يمكن أن يشكل هدفاً لكفاحهم التاريخي. وليس المطلوب منهم، اليوم، تكرار أسطورة أفغانستان أو ملحمة فيتنام المأساويتين. ينبغي أن يكون هدف المعارضة وقف الكارثة، وإنهاء الحرب، وإنقاذ ما تبقى من سورية وشعبها من احتمال الانخراط في حربٍ قاتلة ومدمرة طويلة. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون مواجهة المسألة الأبرز، ومكمن العطب الرئيس الذي لا نزال نهرب من مواجهته، والذي كان السبب الأول في خسارتنا تعاطف الدول والرأي العام العالمي، على الرغم من التضحيات الأسطورية للشعب السوري ومأساته، أعني مسألة الانقسام والتشتت والنزاع الداخلي التي جعلت الثورة تبدو، ثم بعد ذلك المعارضة، كتلة هلامية متعددة الرؤوس والأطراف، لا يمكن التعامل معها، ولا الثقة بمشاريعها وخططها والرهان عليها لإعادة بناء سورية دولةً ومجتمعاً وشعباً متفاهماً ومتضامناً. ولا يقتصر هذا التحدي على تجميع الفصائل في كتلة واحدة، أو تحت قيادة عسكرية مشتركة. ولكن، في تحويلها إلى قوة سياسية واعية، وتزويدها بمشروع وطني واضح ومتفق عليه ومقبول من الجميع، واختيارها قيادة قوية ودائمة تمثلها، منبثقة من الأرض ومرتبطة بها، وقادرة على اتخاذ القرارات الكبرى التي تعكس إرادة القوى التي تمثلها، تنال ثقة المجتمع الدولي والعالم، لأنها تحظى بثقة القوى المقاتلة على الأرض، وتستجيب لمطالبها، وتضمن مصالحها، وتدافع عن أمنها وسلامتها. من دون حل هذه المسألة الحيوية، لن نستطيع أن نتقدم، بعد الآن، خطوة واحدة في تقصير أجل الحرب وإيقافها والدخول في عصر السلام وإعادة البناء، لأننا لن نستطيع، من دونه، أن نكسب ثقة العالم الذي نحتاج مساعدته في تحقيق التغيير السياسي والاجتماعي الذي نأمله، ومواجهة الأوضاع المأساوية التي هي أوضاعنا.
ثم إن تفاقم عواقب الأزمة ومضاعفاتها والتدهور السريع في شروط الحياة في سورية ومحيطها، سوف يدفع الدول إلى ممارسة مزيد من الضغوط، من أجل إيجاد حل يوقف عملية الموت والانتحار الجماعي، ويضع حداً لعملية التدمير المنهجي الذي لا يعوّض. وفي غياب ممثل حقيقي للشعب، مسموع ومقبول، يحظى بثقة السوريين، والمقاتلين في طليعتهم، وكذلك بالضرورة بثقة العالم، سوف تأتي جميع الحلول المقترحة على حساب الشعب وضده. وفي حال استمرار الانقسام الراهن، والافتقار لقيادة معتمدة تدافع عن حقوق الشعب ورؤية المعارضة وخياراتها ومصالحها، سوف تزداد الضغوط من أجل القبول بأي حلٍ يوقف سيل الدماء الجاري، من دون أي اعتبار لميزان الحق والعدالة. وغداً لن تكون روسيا الوحيدة التي ترى المخرج في تحييد المعارضة المسلحة، واستبعادها من كل الحسابات، وفي فرض التسوية التي تراعي مصالح القوى الأخرى المحلية والدولية، ولكن سيصف إلى جانبها مزيد من الدول المحبطة واليائسة من ارتقاء المعارضة السورية إلى مستوى المسؤولية التاريخية.
لن نستطيع أن نتغلب على الموقف الروسي، وهو وضع العالم أمام الخيار الصعب بين الاستسلام لداعش أو التسليم لنظام العنف الوحشي، إلا بجعل الخيار الثالث جدياً وذا مصداقية، وأعني به خيار المعارضة، بما تشمله من جيش حر ومنظمات سياسية ومدنية مؤيدة لقيم الثورة، ونابعة منها. وهذا يتطلب ارتقاء المعارضة في وعيها وممارستها وتعاملها مع الوضع السياسي والعسكري إلى مستوى التحديات المعقدة التي يطرحها مخاض التحول والانتقال، بدءاً من كسب خيار الحل السياسي والتفاوض، ووقف الحرب، وانتهاءً بإعادة بناء الدولة، مروراً بتوحيد الشعب، وتطمين مختلف الجماعات وتنظيم شؤون المناطق والمحليات. هذا هو الخيار الذي أنكره زعيم الدبلوماسية الروسية، عندما تساءل في ما إذا كان هناك وجود لجيش حر، وهو الخيار الذي يحلم بالقضاء عليه كل من يرفض خيار التغيير والانتقال السياسي، ويسعى إلى وضع السوريين والعالم أمام الاختيار المستحيل بين نظام إرهاب الدولة وتنظيم دولة الإرهاب.
بعد تكالب كل قوى العدوان في الشرق ضد إرادة الشعب السوري وتطلعاته في الحرية والخلاص من الظلم والإستبداد وبعد أن حشدت كل من إيران حزب الله والميليشيات الشيعة في العراق وأخرها التدخل الروسي بشكل مباشر والبدء بقصف المناطق المحررة ومناطق الثوار بتفويض من نظام الأسد تلاها محاولات التقدم على الأرض بمساندة الأسلحة الحديثة التي قدمها الروس من طائرات وصواريخ ودبابات في ريف حماة واللاذقية بهدف تشتيت قوة الثوار ومحاولة إشغال عدة جبهات على طول خطوط التماس من محور عطشان بريف حماة الشمالي شرقاً الى سهل الغاب والجب الأحمر وجبل الاكراد غرباً في محاولة لزيادة الضغط على الثوار وإستنفاذ قواهم ثم البدء بالتقدم على كافة المحاور تحت غطاء جوي كثيف من طائرات ومدافع وراجمات.
واليوم وبعد صمود أسطوري لمقاتلي جيش الفتح وكتائب الجيش الحر بمختلف تشكيلاتها والتي سطرت أروع الملاحم في صد هذا العدوان وكبدت قوات النظام وحلفائها عشرات الدبابات والقتلى خلال أيام قليلة في معارك طاحنة مازالت تدور رحاها على عدة محاور وسط محاولات حثيثة لقوات الأسد للتقدم بالرغم من كل الخسائر التي أمنيت بها بات واضحاً عزم قوى العدوان على مواصلة المعركة وأصبح لزاماً على جميع التشكيلات العسكرية أن تتحمل مسؤولياتها في الدفاع عن الدين والعرض والأرض والتخفيف عن الثوار في الشمال حيث اجتمع عدوان تنظيم الدولة وعدوان الأسد وحلفائه.
وفي كلمة صوتية وجه الشيخ عبد الله المحيسني رسالة لكل الفصائل في سوريا لإشعال الجبهات في درعا والقنيطرة وريف دمشق وحمص وحلب واللاذقية وإدلب بأعمال كبيرة تقلب المعادلة قبل ان تتمكن قوى العدوان من خطف زمام المبادرة وقلب الطاولة على جميع الفصائل داعياً للنفير العام في وجه قوى العدوان كافة في كل المحافظات لمساندة إخوانهم في ريف حماة وإدلب واللاذقية ممن يقدمون أرع البطولات في التصدي لهذا العدوان.
ودعا علماء دين وناشطين وفعاليات مدنية للتكاتف جميعاً في مواجهة هذه الحملة البربرية والوقوف صفاً واحدا في صد الهجمة المستعرة على ريف حماة وإدلب والتي تهدف للتقدم والسيطرة على بلدات خان شيخون والهبيط وتأمين الخطوط الخلفية لها لتطويق الثوار في سهل الغاب من جهتي الشرق والغرب والجنوب على محاور جوين والجب الأحمر وسلمي وبالتالي إستعادة السيطرة على ما كسبه الثوار خلال الأشهل القليلة الماضية والتي قدموا لأجلها عشرات الشهداء والجرحى.
بإقحام نفسها في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، تنضم روسيا، إلى أكثر من 20 دولة تزعم جميعها أنها تعمل من أجل هزيمة التنظيم المتطرف الذي لا يزال تماسكه يطرح تساؤلات عديدة، قد لا تتعلق بقوته، بقدر ما تتعلق بمدى جدية القوى التي تحاربه.
يقول الجيش الروسي بأن طائراته الحربية تواصل قصف تنظيم الدولة الإسلامية بعشرات الغارات الجوية مستهدفة مراكزه ومستودعات أسلحته. كما يفخر، وهو المصنف كثاني أقوى جيش في العالم، باستخدامه لصواريخ “كروز” شديدة التدمير في حربه على الإرهاب وقد أطلقها من سفنه الحربية في بحر قزوين. الإعلام الروسي احتفى بتلك الصواريخ وبـ”الحرب لمقدسة” على تنظيم الدولة الإسلامية الذي أصبح “على وشك الانهيار”. وبحسب ذلك الإعلام الذي يجد متسعا لإدعاء متهافت من قبيل أن قادة التنظيم المتطرف لم يخبروا عناصرهم بالتدخل الروسي “خشية الفرار الجماعي”.
تبدو تلك المحاولات لإضفاء طابع عظيم ومخيف على قوة روسيا مضحكة بالفعل، لكنه واقع الإعلام الدعائي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي ينقل “الحقيقة” بصورة مشابهة لإعلام بشار الأسد. لكن الحقيقة في مكان آخر تماما، إذ تشير كل المعلومات إلى أن تنظيم داعش لم يضعف حتى يكون قد أوشك على الانهيار. الحقيقة أن أعداد المقاتلين الأجانب ازدادت وهي تقدر في هذا العام بنحو 30 ألفا، في حين كانت تقتصر على 15 ألف مقاتل العام الماضي أي أنها ارتفعت بنسبة 100 بالمئة في غضون عام واحد.
وإذا كانت أعداد المقاتلين الأجانب القادمين من أجل “الجهاد” قد ارتفعت قبل أن ترسل روسيا بقواتها إلى سوريا، فمن المرجح أن تواصل ارتفاعها في الأشهر القادمة وبوتيرة أسرع مع دخول العدو القديم واللدود للجهاديين في العالم إلى ساحة المعركة. وباعتبار أن روسيا تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد المقاتلين الأجانب غير العرب الذين يقاتلون في سوريا بحسب لجنة الأمن الوطني في الكونغرس الأميركي، فإن تدخل روسيا العسكري في سوريا جعل الأرضية تكون خصبة أكثر لتدفق المزيد من الجهاديين من دول الاتحاد السوفييتي السابق. هكذا، يمكن الاستنتاج بأن تنظيم “داعش” ربما يزداد قوة في الأيام القادمة. تلك هي الحقيقة اليوم، أما “الحرب العالمية” المعلنة ضد التنظيم فهي محل شك كبير.
تقول الحقائق إن الطائرات الروسية استهدفت تنظيم الدولة في أقل من عشرة بالمئة فقط من ضرباتها الجوية، فيما وجهت معظم الضربات ضد قوات المعارضة السورية التي تقاتل الأسد. تقول الحقيقة، أيضا، إن عشرات صواريخ الكروز التي أطلقتها من سفنها الحربية قد عبرت ثلاثة بلدان وبحرا لكي تصل إلى سوريا وتصيب معاقل المعارضة بدلا من معاقل داعش. جميعها مؤشرات واضحة على أن روسيا تدخل الحرب لإسناد نظام الأسد وليس لمحاربة الدولة الإسلامية. تعلم روسيا، جيدا، أنها لو دعمت غيابا مبكرا للأسد عن المشهد السياسي عبر تسوية ما، قبل أعوام عديدة، لما وجدت داعش في سوريا. بهذا المعنى، فقد ساهمت موسكو في نشوء داعش، وهي تساهم، اليوم، بتغذيتها بدل محاربتها وذلك بدعم “الأسد إلى الأبد”.
بالمقابل، يمكن أيضا التشكيك في جدية الولايات المتحدة الأميركية في الحرب على داعش، وذلك بعد أن قادت تحالفا دوليا لهزيمة التنظيم ونفذت أكثر من 2600 غارة جوية في سوريا و4600 غارة في العراق، ولكنها لم تحقق أي نتائج ملموسة. لقد بات من الواضح تماما أن عدم وجود قوة برية في سوريا مكرسة لهزيمة داعش يجعل هذا الهدف مستحيلا، ومع ذلك تواصل الإدارة الأميركية المضي قدما في سياساتها التي اختبرت فشلها على مدار عام كامل.
لم تبذل واشنطن جهدا يذكر في إتاحة الفرصة للمعارضة السورية لقتال داعش وذلك بالتوصل إلى تسوية سياسية، ولو كانت جزئية، تؤدي إلى تحرر عشرات الآلاف من المقاتلين من مراكزهم القتالية ضد قوات النظام من أجل مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. بل فضلت قصر الحرب على داعش فقط من دون الأسد، بل حتى دون حمل الأخير على إيقاف قصف المدنيين والمعارضة التي تقاتل التنظيم المتطرف، وهو ما يثير التساؤل: لماذا تتمسك أميركا بسياسات لا تدع مجالا لا لهزيمة التنظيم المتطرف فحسب بل حتى لإضعافه؟
كان يمكن اعتبار ذلك بمثابة “خطأ” في بداية الحملة العسكرية، ولكن إصرارها على خوض معركة محكومة بالفشل يسلط الضوء على مدى جديتها في هذا الصدد. ويبدو غياب الجدية واضحا في حادثة تدريب المقاتلين السوريين، حيث اشترطت الولايات المتحدة عليهم عدم قتال الأسد فانتهى بها الأمر، بعد عام من التدريب، بمجموعة من خمسة مقاتلين. العبرة واضحة، لكن فقط لمن يريد أن يعتبر.
كما توقع الكثير من المراقبين، لم تتأخر كثيرا عواقب التدخل العسكري الروسي في سوريا تحت شعار “محاربة الإرهاب” ومباركة هذا التدخل من قبل بطريرك الكنيسة الروسية ووصفه لهذا التدخل بـ”المعركة المقدسة” على المسيحيين السوريين. وكرد مباشر وسريع على المزاعم الروسية والتصريحات غير المسؤولة لبطريرك روسيا التي تتنافى مع جوهر العقيدة المسيحية الرافضة للقتل والحروب المقدسة، أعدم مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية ثلاثة مخطوفين آشوريين لدى التنظيم الإرهابي من أصل نحو 200 آشوري مازالوا في معتقلات تنظيم داعش بعد أن اختطفهم من القرى الآشورية على نهر الخابور في محافظة الحسكة عندما غزاها في فبراير الماضي.
عرض التنظيم مقطع فيديو يظهر فيه قيام مقاتلين مُلثّمين بإطلاق الرصاص على رؤوس ثلاثة شبان آشوريين مخطوفين لديه (عبد المسيح نويا وآشـور إبراهام وبسام ميشائيل)، كما ظهر ثلاثة آخرون يرتدون الزي البرتقالي المعد لتنفيذ الإعدامات عند تنظيم داعش ليوجهوا نداء استغاثة لإنقاذهم قبل فوات الأوان، ما يعني أن مصيرهم في خطر وينتظرون اقتيادهم إلى مقصلة التنظيم، ورجّح المرصد الآشوري لحقوق الإنسان أن يكون الإعدام قد تمّ تنفيذه خلال فترة عيد الأضحى الماضي.
دماء وأرواح مسيحية بريئة وقعت ضحية وثمن المزاعم الروسية حول تدخلهم في الحرب السورية لأجل حماية مسيحيي سوريا والمنطقة من إرهاب التنظيمات الإسلامية، وهذه الجريمة قوبلت بإدانات واسعة من قبل مختلف الأوساط الآشورية (سريانية/ كلدانية) والمسيحية، وكذلك لدى أوساط واسعة من المسلمين، كذلك زادت من الاستياء المسيحي على التدخل الروسي في الحرب السورية وعلى تصريحات بطريرك روسيا العبثية.
الناشط السياسي السوري سليمان يوسف الباحث في قضايا الأقليات، رأى في تصريح لـ”العرب” أن جميع أطراف وقوى الصراع في سوريا (المحلية والإقليمية والدولية) تتحمل بشكل أو بآخر مسؤولية خطف المسيحيين والمصير الدموي الذي وصلوا إليه، فالجميع برأيه “تخلوا عن آشوريي سوريا ولم يُحرّكوا ساكنا من أجل إطلاق سراح مختطفيهم الذين أصبحوا بالمئات في الحسكة والقريتين، وهذا لا يعني تبرير جرائم تنظيم الدولة الإسلامية بحق المسيحيين والمسلمين على حد سواء، سوريا كان أم عراقيا”.
بعد التدخل الروسي وتداعياته من المؤكد أن قضية المخطوفين الآشوريين على يد داعش باتت أكثر تعقيدا وتشابكا مع الأزمة السورية
وحمّل مسؤولية إضافية للمؤسسات والهيئات والمنظمات والأحزاب المسيحية (الآشورية والسريانية وغيرها) في سوريا ودول الشتات لأنها “لم تقم بواجبها كما يجب تجاه قضية المخطوفين، ولم تتحرك من أجل الإفراج عنهم، إن كان على الصعيد الدبلوماسي وحث قوى الصراع والقوى الدولية النافذة على التحرك للإفراج عنهم، أم على صعيد جمع المال اللازم دفعه كفدية لقاء الإفراج عنهم إذا ما كان هذا هو شرط الإفراج عنهم رغم شكوكي الشخصية بهذا الأمر”.
إلى ذلك قالت مصادر آشورية سورية من مدينة الحسكة لـ”العرب” إن تنظيم الدولة الإسلامية طلب فدية 10 مليون دولار مقابل إطلاق سراح المختطفين الآشوريين من قرى الخابور شمال سوريا، وأشارت إلى أن الكنيسة المحلية لم تستطع جمع المبلغ، فيما رفض كثيرون المساهمة بدفع الفدية خوفا من أن تصبح قاعدة وتساهم في زيادة عدد المختطفين المسيحيين في سوريا.
ويرى بعض المسيحيين السوريين أن إفراج داعش عن 21 رهينة آشورية بعد أسابيع قليلة من اختطافهم وإفراجه عن بعض المسنين دون مقابل، كانت رسالة إيجابية من التنظيم للآشوريين لكن المؤسسات والكنائس والأحزاب الآشورية لم تتلق الرسالة وراهنت فقط على عامل الزمن وتركت مصير المخطوفين للمجهول.
جميل ديار بكرلي، مدير المرصد الآشوري لحقوق الإنسان، قال لـ”العرب”: هذه الجريمة الأولى من نوعها بحق مختطفين مسيحيين في سوريا لدى تنظيم الدولة الإسلامية، ويجب أن لا ننسى أن لدى داعش بالإضافة إلى 185 مختطفا آشوريا مسيحيا من محافظة الحسكة، أكثر من مئة أسرة مسيحية مختطفة من بلدة القريتين المتاخمة للبادية السورية والتابعة لمحافظة حمص اختطفهم بعد سيطرته على البلدة في أغسطس الماضي. ويبقى لتنظيم الدولة الإسلامية حساباته السياسية وغير السياسية في طريقة تعاطيه مع المخطوفين لديه، لكن المؤكد أن فرص الإفراج عن المختطفين المسيحيين كان من الممكن أن تكون أكبر قبل التدخل الروسي في الحرب السورية وقبل التصريحات التي أطلقها بطريرك روسيا.
بعد التدخل الروسي وتداعياته من المؤكد أن قضية المخطوفين الآشوريين على يد داعش باتت أكثر تعقيدا وتشابكا مع الأزمة السورية، ويطالب السوريون الكنيسة الروسية بسحب تصريحات البطريرك وأن يُقدّم اعتذاره للسوريين، مسلمين ومسيحيين، وهو ما طالب به سليمان يوسف أيضا حيث قال “نطالب من بطريرك روسيا سحب تصريحاته والاعتذار عمّا قاله لأجل تسهيل عملية الإفراج عن الآشوريين المخطوفين لدى تنظيم الدولة، ورغم عدم معرفتنا إن كان التنظيم يقبل الوساطات أو الفدى المالية للإفراج عن المخطوفين، لكن ما نخشاه بعد بدء الهجمات الروسية أن يستخدم التنظيم المخطوفين كدروع بشرية يحتمي بهم من الضربات الروسية”.
التدخل الروسي العسكري و(الديني) في سوريا بدأ يجر الويلات على أكثر من صعيد، وأول الغيث قطرة، وإن لم تضع روسيا حدّا لتدخلها الفوضوي المنحاز بعبثية للدكتاتورية فإنها لا شك ستقود المنطقة برمتها إلى حروب مذهبية دميمة بلا نهاية.
تحدث رئيس إيران، حسن روحاني، عن قضايا ثلاث في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن الاتفاق النووي مع أميركا أنقذ العالم من حرب شرق أوسطية، وأن بلاده ساعدت العراق على إقامة الديمقراطية، وأنها على استعداد لمساعدة سورية على الوصول إلى حلٍّ، يتيح لمختلف أطياف المعارضة التعبير عن رأيها.
أود أن أذكر الرئيس روحاني بقول نصيره الأكبر في إيران، هاشمي رفسنجاني، قبل مفاوضات النووي بأيام: إن إيران تقف أمام أحد خيارين، الاستسلام أو سقوط النظام، وعليها لإنقاذ نفسها أن تسلم برنامجها النووي لأميركا. أنقذت إيران نظامها ولم تجنب العالم الحرب، والفرق بين الأمرين هو الفرق بين الكذب والصدق.
أما مساعدة العراق على الديمقراطية، فيشهد عليها رئيس وزرائه حيدر العبادي، والزعيم الشيعي مقتدى الصدر، فقد كرّر الأول أحاديثه عن عصابات شيعية ستقتله إن هو أجرى إصلاحاً يطالب به معظم الشعب. ووصف الثاني المليشيات الشيعية التي يعرفها، أكثر من أي شخص آخر، بـ "الوقحة"، وطالب بحل قطاعات منها. ولعل روحاني يعلم أن "المرجعية" التي تعتبر معصومة وواجبة الطاعة، أفتت بضرورة الحد من طائفية النظام العراقي، من دون أن يطيعها أحد، والسبب أن إيران التي تدعم مليشياتٍ بلغ من ديمقراطيتها أنها صفت عشرات آلاف الأبرياء على الهوية والشبهة، وقتلتهم من دون محاكمة وخارج أي قانون، بالطرق التي علمهم إياها "جيش القدس والباسيج" الإيرانيين، حرقاً وشنقاً وخنقاً وتقطيعاً بالمناشير وذبحاً بالسكاكين ودفناً وهم أحياء، في داعشية صارخة لا يشن أحد الحرب عليها، لأن إيران الديمقراطية تحميها، بينما يكثر الحديث عن "داعشية السنة"، مع أن الداعشيتين تتبنيان أيديولوجيا مذهبية خلاصية، تقول بإقصاء المختلف، وتجعل قتله واجباً مقدساً.
تبقى المسألة الثالثة، أن إيران تريد مساعدة السوريين: هل روحاني جاهل إلى الحد الذي لا يعلم معه كم ساعدتنا دولة وكيل الإمام الغائب، أو وكيل الله الذي يفترض أنه لا يغيب؟ ألم ير روحاني مواكب جنرالاته القتلى الذين ضحوا بأرواحهم، وهم يعلمون السوريين الديمقراطية؟ ألم يسمع أنشودة حزب الله "الديمقراطي" "رصاصة منك ورصاصة مني ما منترك ع الأرض سني"؟ ألا يعلم النية الكامنة وراء المفاوضات التي خاضتها بلاده لتهجير أهل الزبداني ومضايا وسرغايا وبلودان وسوق وادي بردى وغوطتي دمشق، واستبدالهم بـ "ديمقراطيين" مستجلبين من إيران، ليشكلوا حلقة في سلسلة بشرية يقيمها ملايين المستوطنين الإيرانيين، فيمتد بهم وجود إيران المذهبي الموحد بين أفغانستان وجنوب لبنان مرورا بسورية والعراق؟ أخيراً، لو امتلك روحاني ذرة احترام واحدة لعقول سامعيه وذاكراتهم في أعلى محفل سياسي دولي، يعرف أعضاؤه "البير وغطاه"، لما سرد على مسامعهم، من دون أدنى خجل أو حرج، ترّهاته عن تجنيب العالم الحرب، وحديثه عن الديمقراطية التي أقامتها بلاده في العراق، ولما نسي أقواله هو نفسه عداء أطرافٍ حاكمة فيها للديمقراطية وحقوق الإنسان، وللمواطنة مبدأ وممارسة، ولشعر بحرج شديد قبل الإعلان عن استعداد نظامه لمساعدة سورية، كأنها توقفت يوماً عن مساعدة نظام الأسد على إبادة شعبه، وتدمير دولتها ومجتمعها، والقضاء على جميع مظاهر العمران والإبداع الإنساني فيها، ما اتصل منه بالحاضر أو بالماضي.
سيد روحاني: كنت أعتقد أنك رجل دين لا يكذب. أشكرك شخصياً، لأنك أخبرت العالم كله أن دينك هو الكذب.
بعد أسبوع على بدء العمليات الروسية العسكرية في سورية، أين تقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية؟ وماذا بعد؟
بدأت روسيا عملياتها العسكرية تحت عنوان «الحرب على الإرهاب» واستثنت «الجيش السوري الحر» من هذا التصنيف. لكن التشكيك رافق الغارات الروسية وانطلقت الاتهامات بأن الغارات الروسية استهدفت المعارضة وأنها كادت تركز عليها بدلاً من «داعش» أو «جبهة النصرة».
موسكو لم تكن في حاجة لمن أراد تقنين عملياتها العسكرية في الحرب على الإرهاب لأنها، منذ البداية، أوضحت - علناً - ان احد ركائز تدخلها العسكري هو دعم نظام بشار الأسد. أبلغت كل من يعنيهم الأمر ان هدفها الإستراتيجي ذو شقين أساسيين: توفير الغطاء الجوي لقوات النظام البرية لكي يستعيد قواه ليكون لاعباً في المستقبل السوري - أقله في حال التقسيم. وثانياً، القضاء على التنظيمات الإرهابية الإسلامية في عقر الدار السوري كي لا يتطاول التطرف الإسلامي على روسيا في عقر دارها أو في جيرتها المسلمة في الجمهوريات الخمس المعروفة بالـ «ستان».
الصمت العربي النسبي على الدور الروسي العسكري في سورية له دلالات، وكذلك التصريحات - على نسق ما قاله وزير الخارجية المصري سامح شكري - التي تضمنت شبه مباركة للغارات الروسية على «داعش» في سورية. قراءة المواقف العربية ليست سهلة سيما ان المواقف المعلنة تتمسك برحيل الرئيس السوري فيما المواقف الروسية تتمسك به.
هناك قراءتان أساسيتان: إما أن الدول العربية الأساسية تفاهمت ضمناً على أولوية سحق «داعش» الذي يهددها وجودياً حتى لو كلّف ذلك تقوية النظام في دمشق بما في ذلك بقاء بشار الأسد لفترة زمنية، وبالتالي توصلت هذه الدول الى اقتناع بأن عليها القفز على «عقدة الأسد» والكف عن اعتبار رحيله أو بقائه مسألة مركزية. أو أن هذه الدول العربية حصلت على تفاهم ضمني من موسكو - ومن واشنطن أيضاً - بأن المعادلة الآن هي بقاء النظام من دون الأسد على المدى البعيد انما مع تفهم ضرورة بقاء الأسد في المرحلة الآتية.
المشكلة الرئيسية في السيناريو الثاني تكمن في ما يسمى إما «الضمانات» أو في عقدة الثقة. وهذه العقدة ليست فقط بين الروس والأميركيين ولا بين الأتراك والروس والعرب أو الأميركيين والعرب. انها عقدة الثقة المفقودة بين جميع اللاعبين بلا استثناء. ولذلك انها اللعبة السياسية على انقاض سورية وعلى جثث السوريين.
إيران ليست جزءاً من لعبة الثقة. انها واضحة في انها لا تثق، واضحة في دعمها القاطع، منذ البداية، لبشار الأسد ونظامه بكل امكانياتها العسكرية - عبر «حزب الله» و»الحرس الثوري» - وسياسياً، عبر رفضها البصم على عملية جنيف الداعية الى هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة لأنها تعني الانتقاص من سيطرة الأسد.
تركيا وأوروبا تتصدران قائمة اللاوضوح. تركيا زايدت ثم تراجعت، وساهمت في ما آلت اليه الأوضاع في سورية. وهي بذلك تقع في الخندق ذاته مع دول خليجية توعّدت وتقهقرت بكلفة باهظة على سورية.
روسيا وتركيا لهما تاريخ في اللاثقة وفي المنافسة. روسيا ورثت العظمة عن الاتحاد السوفياتي، وتركيا تريد أن تحيي العظمة العثمانية. كلاهما يفكر ليس فقط في أهمية الدور الإقليمي والدولي في المعادلة السياسية - الجغرافية. انهما يفكران في المصالح الاقتصادية بما فيها أنابيب الغاز وسبل تصدير الطاقة الى أوروبا والقوقاز. كلاهما يرأسهما رجلان يعتبران نفسهما عازمين على صنع التاريخ. وسورية اليوم ساحة للشخصية النرجسية، الروسية والتركية.
أحد مراكز القوة لدى تركيا هو جيرتها المباشرة مع سورية بما ينطوي ذلك عليه من سيطرة على الهجرة السورية والكردية وكذلك العراقية الى الدول الأوروبية - تلك الهجرة التي ترعب الأوروبيين. وكما يستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسألة الهجرة كجزء من استراتيجيته السورية، كذلك يفعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
إنما النقطة الأخرى في مراكز القوى التركية هي انتماء تركيا الى حلف شمال الأطلسي (ناتو) الأمر الذي يضع أية تجاوزات روسية عسكرية في عملياتها العسكرية في سورية موضع قلق لموسكو - وأنقرة واعية جداً لتلك الورقة المهمة. لذلك، لن يحدث صدام بين روسيا وتركيا مهما آلت اليه الأمور. موسكو لن تتجاوز. وأنقرة لن تتمكن من جرّ الناتو مهما فعلت. فالقرار الأوروبي، كما القرار الأميركي، ليس في وارد التورط مع روسيا في سورية، بل ليس في وارد التورط في سورية بروسيا، أو من دونها.
ألمانيا صريحة في وقوفها مع روسيا وإيران حتى لو تضمن ذلك وقوفها مع نظام الأسد و «حزب الله» معه.
فرنسا متأرجحة دائماً ولقد حان لها ان تستقر لأنها في هذا التأرجح لا تخدم نفسها ولا تساعد سورية أو الدول العربية التي تعيرها أهمية. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يحذر من حرب شاملة لن تكون أوروبا بمنأى عنها. يقول ان الإقدام العسكري الروسي يهدد التوازن الإستراتيجي وإن الحرب «ستصبح شاملة» ما لم تتحرك أوروبا. لا يتقدم بإستراتيجية متكاملة ويكتفي بخطوة هنا وخطوة هناك، معظمها متأخرة. فرنسا تطرح اليوم مشروع قرار في مجلس الأمن ضد استخدام البراميل المتفجرة. اليوم؟ ولماذا ليس قبل سنة؟ فرنسا تتحدث بلغة التصدي داخل الاتحاد الأوروبي وفي وجه تلكؤ الولايات المتحدة. لكنها ما تلبث ان تهرول، كما فعلت في أعقاب الاتفاق النووي مع ايران.
لذلك. ليس مريحاً للرئيس الفرنسي أن يكشف الرئيس الروسي انه اقترح عليه صيغة «خلاقة» هي المزيج بين قوات «الجيش السوري الحر» وقوات النظام في دمشق من أجل تشكيل جبهة ضد «داعش». بوتين كشف عن ذلك للازدراء بهولاند وبالطبع، هولاند ينفي لأن مثل هذا الاقتراح منتهى السخافة.
بريطانيا لها أسلوبها لكن سياستها لا تخفى على أحد. إنها الملهم والملبّي لواشنطن. رئيس الورزاء ديفيد كامرون يتحدث اليوم بلغة تقوية قوات النظام وقوات «الجيش السوري الحر» معاً. وهو بذلك، عملياً، يتحدث بنفس لغة هولاند. وربما هذه هي المعادلة الأوروبية الجديدة التي إما لها دعم من واشنطن أو أن واشنطن صاحبة الوحي بها.
الصين لها حساباتها الخاصة. إنها في تحالف مع روسيا في الشرق الأوسط ولن تتدخل في الإستراتيجية الروسية ما لم تضطر إلى ان تقوم بذلك. وبما أن العلاقة الاقتصادية الصينية - العربية على ما يرام، لا داعي لبكين ان تفعل أكثر مما تفعله وهو النأي بالنفس عن أحداث المنطقة العربية.
أما الولايات المتحدة، فإنها في حال انفصام كما يبدو في المشهد العام، إلا أنها في غاية التماسك عند النظر في إستراتيجياتها البعيدة المدى.
رأي روسيا هو أن الولايات المتحدة في حال ضعف وتردّد وتراجع في البنية التحتية السياسية وكذلك مع فرصة نادرة لموسكو تتمثل في إدارة أميركية قرّرت عدم الانخراط في صراعات الشرق الأوسط والانسحاب منه طوعاً.
لا يهم روسيا أن يقول وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر إن واشنطن غير مستعدّة «للتعاون» مع روسيا في سورية طالما يقرّ بضرورة «التوافق على إجراءت السلامة» عند التنسيق في الطلعات الجوية. لا يهمها أن يقول ان السياسة الروسية في سورية «معيبة في شكل مأساوي» طالما أن واشنطن أوضحت أنها لن تفعل أي شيء إزاء تلك السياسة «المعيبة». من الواضح لموسكو أن واشنطن أعطتها الضوء الأخضر في سورية وأنها، كما أوعزت لها عملياً، تنوي التنديد علناً.
ما يهم روسيا هو أن أمامها فرصة تاريخية لنحت جغرافيا جديدة لدورها السياسي في الشرق الأوسط عبر سورية. إنها في صدد بناء محور أو محاور في الشرق الأوسط بقيادة روسية. وهي تريد أن تقود تسويات سياسية لأزمات الشرق الأوسط وفق الشروط الروسية بدءاً ببقاء نظام بشار الأسد في السلطة رغم أنف الادعاءات الأميركية والأوروبية والعربية بأن ذلك مستحيل لأنه، وفق رأيهم، «جزار» دمشق ومن المستحيل إعادة تأهيله سورياً أو إقليمياً أو دولياً.
بغض النظر إن كانت «النهاية» استبعاد الأسد من الحكم أو الاكتفاء برئاسته لجزء من سورية المقسّمة، موسكو تريد اليوم «إشراك» نظام الأسد في المستقبل السوري. ولذلك تتدخل عسكرياً، بشراكة مع النظام، لتقوية الأسد كي يكون جزءاً من الحكم في سورية الغد بأية صيغة كانت. إنها تنفّذ إستراتيجية إنقاذه وإعادة تمكينه كي يكون ورقة قوية في مفاوضاتها المستقبلية مع واشنطن وعواصم أوروبية وعربية. واقع الأمر أن لا أحد، سوى الكرملين، يعرف إن كانت الإستراتيجية الروسية تقوية بشار الأسد لإنقاذ النظام من دونه وبالتالي الاستغناء عنه، أو إن كانت تنوي التمسك به مهما كان.
الواضح اليوم هو أن فلاديمير بوتين أبلغ كل من يعنيه الأمر أن روسيا تعتبر الأجواء السورية متاحة لها فقط على أسس شرعيّة لأن الغارات الروسية تتمّ بطلب رسمي من الحكومة السورية الشرعية. شرعيّة لأن الاتفاق الأميركي الروسي الرسمي المعني بالأسلحة الكيماوية السورية شرّع رسمياً الحكومة السورية رغم نعتها بأنها «لا شرعية» في تصريحات أوباما أو غيره.
موسكو تطالب قوى «التحالف الدولي» ضد «داعش» الذي تقوده الولايات المتحدة أن تقرّ بأن روسيا هي القيادة الشرعية فوق الأجواء السورية وأن روسيا هي التي تملي قواعد الاشتباك. وهذا تحوّل أساسي في العلاقات العسكرية الجيو - سياسية في الشرق الأوسط، بدءاً بسورية.
وموسكو لن تكتفي بسورية. لذلك، إنها تنوي توسيع قيادتها وسلطتها لتشمل العراق تحت غطاء الحرب على «داعش» وهي في انتظار الدعوة الرسمية المرتقبة من بغداد لتطلب من موسكو توسيع رقعة غاراتها لتشمل الأراضي العراقية.
روسيا تقول لأميركا: القيادة لنا، وعليك التنسيق معنا لأننا نحن الشرعية الممتدة من سورية إلى العراق. وواشنطن ستلبي مهما كابرت لأنها لا تريد الانخراط ولأن دول المنطقة ستطلب المعونة الروسية في ظل الامتناع الأميركي.
هكذا ستنجح موسكو في صنع المحور الذي تحدثت عنه والذي يضمّ العراق وسوريا وإيران وروسيا. رسالتها هي: أنا الأقدر وأنا الأقوى. وأميركا لا تمانع، عملياً، لأنها لا تريد أن تكون الأقوى والأقدر في الشرق الأوسط. والسؤال هو: هل كل هذا بسبب قرار إدارة أوباما العازمة على اللاانخراط؟ أم أنه وفق إستراتيجية أميركية بعيدة المدى ترى أن المصلحة الأميركية تقضي بإيكال القيادة إلى روسيا في بقعة جاهزة لتكون مستنقعاً يمتص منها كل ما يتخيل لها أنه عظمة أو انتصار؟
هناك رأيان في شأن الدور الروسي في سورية. رأي يصرّ على أن سورية ستكون أفغانستان روسيا وفيتنام أميركا. ورأي آخر يقول إن في زمن أفغانستان كان هناك من يعبئ الجهاديين ويدعمهم عملياً لإلحاق الهزيمة بالشيوعية، بينهم الولايات المتحدة. أما اليوم، فليس هناك من يقوم بالتعبئة، ولذلك موسكو لا تخاف.
في المقابل، إن انعدام التنظيم والإشراف على تنظيمات مثل «داعش» وأمثاله قد يثبت أن أفغانستان آتية على روسيا أكثر مما كانت على الاتحاد السوفياتي. فلنرَ.
تجاوز التدخل العسكري الروسي بقوة نيرانه الهائلة أهدافه المعلنة بأشواط. وأخذ يؤشر إلى حرب طويلة الأمد يخوضها القيصر، لا تتعلق بسورية وحدها، وبما يعلنه عن محاربة «داعش»، بالتعاون مع جيش نظام بشار الأسد، وبتغطية قيام الأخير بهجمات برية لاستعادة مناطق خسرها نتيجة تقدم تشكيلات المعارضة السورية المتعددة فيها.
ولا تكفي التناقضات التي رافقت الحملة الدعائية الروسية للعمليات العسكرية التي تقوم بها المقاتلات الروسية من الجو والتي تشمل إطلاق الصواريخ الباليستية من بحر قزوين مستهدفة الأراضي السورية للدلالة إلى أن هذا التدخل العسكري يتعدى تلك الأهداف المعلنة. وإذا كان الكرملين احتاج إلى ابتكار أساليب إعلامية جديدة لتبرير حملته العسكرية للتغطية على انكشاف التناقض بين الأقوال والأفعال، فإن الإعلام الروسي نفسه وقع في الفخ حين أخذ ينشر خرائط لمواقع القصف، تظهر بوضوح أن القذائف الآتية من طائرات «سوخوي» 24 و25 والتي حملتها الصواريخ استهدفت مناطق تخضع لسيطرة «الجيش السوري الحر»، ولتشكيلات مسلحة أخرى من التي تصنف على أنها «معارضة معتدلة»، وليس لمواقع «داعش» و «جبهة النصرة»، كما ادعى الجانب الروسي. وأعطى ما نشره الإعلام الروسي الموالي للكرملين صدقية لما قاله الأميركيون ورئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو من أن القصف الروسي لم يستهدف سوى موقعين لـ «داعش»، من أصل 57 غارة حتى الثلثاء الماضي.
واحد من المؤشرات إلى الاستهداف الأوسع من سورية وإنقاذ النظام من الانهيار التدريجي بعد فشل التدخل الإيراني في إعانته على التفوق في المحرقة السورية، هو رد فعل حلف شمال الأطلسي واجتماع قادته أمس في بروكسيل. ومن الطبيعي أن تظهر التناقضات في ما يعلنه المسؤولون الروس عن أهدافهم في سورية، حين تتحرش المقاتلات الروسية بالمقاتلات التركية وفي الأجواء التركية، فقادة الحلف فهموا الرسالة، التي أراد بوتين إرسالها بعد فشل اجتماعه مع نظيره الأميركي باراك أوباما في نيويورك في 28 أيلول (سبتمبر) الماضي، حول أوكرانيا، التي استغرق البحث في أزمتها الجزء الأكبر من الاجتماع قبل التطرق إلى الأزمة السورية، والتي لم تشهد أي تقدم في تقريب المواقف منها. فكان طبيعياً ألا يحصل التقدم المنتظر في شأن الموقف من الحرب في بلاد الشام، بعدها.
الهدف الأبعد في رد الفعل الروسي بعد يومين من فشل القمة الثنائية، عبر التحرش بالأجواء التركية، «الأطلسية»، هو إنذار الغرب بقدرة الدب الروسي على الرد على سياسة تعزيز وجود حلف شمال الأطلسي في دول شرق أوروبا وعلى التغلغل الغربي الدؤوب في هذه الدول، التي تشكل المدى الحيوي للإمبراطورية الروسية الغابرة والتي كانت ضمن فلك الاتحاد السوفياتي قبل انهياره. فهذا التغلغل الأوروبي الغربي المدعوم أميركياً هو الذي دفع بوتين إلى التدخل في جورجيا عام 2008 وإلى اقتطاع القرم من أوكرانيا قبل سنة ونصف السنة، ما أطلق سياسة العزل الأميركية - الأوروبية لروسيا عبر العقوبات التي أنهكت اقتصادها، والمعطوفة على خفض أسعار النفط التي أفقدت موسكو مئات بلايين الدولارات وتسببت بانكماش اقتصادها وتراجع عملتها أكثر من 40 في المئة وتصاعد التضخم في سوقها، إلى مستويات غير مسبوقة منذ انهيار الروبل في التسعينات من القرن الماضي.
ولم تكن موسكو بحاجة إلى الصواريخ الباليستية لقصف ما قالت إنه مواقع «داعش» و «النصرة»، لولا أنها أرادت من ورائها افهام الغرب أنها قادرة من مناطق نفوذها المترامية ومنها بحر قزوين، على تخطي مشروع الدرع الصاروخية الأميركية، التي تعمل واشنطن على إقامتها منذ سنوات في بعض دول شرق أوروبا.
لا تقتصر أهداف المرحلة الجديدة التي افتتحها بوتين على سورية حكماً، مع أنها تشكل منصة مهمة له للتصويب على الأهداف الأبعد مدى، مع ما يحمله التورط الجديد من مخاطر، فدول الغرب تسلّم لموسكو بنفوذها في سورية، بل بعضها يعوّل على هذا النفوذ وصولاً إلى حل سياسي. وهذا البعض كان على قاب قوسين من القبول معها باشتراك بشار الأسد في بداية الحل السياسي على أن يجري الاتفاق على مخرج له في مرحلة متقدمة من العملية السياسية. بل إن هذا الغرب يسلّم بالتعاون مع موسكو على حقها في استباق عودة المقاتلين الشيشان المتطرفين إلى روسيا. ولم يكن بوتين في حاجة إلى استنفار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لتأييد حربه «المقدسة»، مغامراً بإعطاء أبعاد دينية لحربه، لو لم يكن يعتقد أنه يخوض معركة قومية تتعلق بموقع ونفوذ بلاده في أوروبا.
يوم ركّزت وسائل الإعلام الروسية على منظر أحد المتطرفين وهو يأكل كبد إنسان ميت في مقطع للفيديو (حتى أن بوتين نفسه عبّر في ذلك الحين عن سخطه واشمئزازه في مواجهة الحدث المدان بكل المقاييس)، أدركنا أن روسيا هي في طريقها إلى تغيير دورها في الوضع السوري من موقع المتحالف الداعم إلى موقع المشارك المنفذ. فالرئيس الروسي لم يسبق له أن عبّر عن مثل هذا الشعور وهو يشاهد ويتابع تقارير الاستخبارات الروسية، التي من المفروض أنها وضعته في صورة التفاصيل الدقيقة لوقائع مجازر النظام السوري في الحولة ومعرزاف وتلبيسة، وجرائمه الخاصة ببراميل البارود التي باتت جزءا من المألوف السوري، وهي براميل يعرف بوتين جيدا أنها توّزع الموت على الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، ولا تطاول المقاتلين الذين يمتلكون القدرة على متابعة وتحاشي غباء تلك البراميل وحقدها.
ولم يتوقف بوتين مطلقا، على الأقل عبر الإعلام، عند مناظر أطفال ونساء مجزرة بانياس ومجزرة الكيماوي في الغوطة. وهذا مؤداه أن توقفه عند مشهد بغيض مقيت لحالة شاذة ندينها جميعا حالة لا علاقة لها بالثورة السورية وقيمها، إنما كان ذلك ضمن إطار وضعية الانسجام والتضايف، بل التكامل المدروس مع استراتيجية النظام التي اعتمدها منذ اليوم لانطلاقة الثورة السلمية. وهي استراتيجية متمحورة حول فكرة الربط بين الثورة السورية والإرهاب، وهي الاستراتيجية نفسها التي اعتمدها النظام الإيراني في كل من العراق وسورية، حتى أن الرئيس روحاني -الذي راهنّا بعض الشيء على دوره الإصلاحي، من موقع حسن النيّة- خرج على العالم ليتباهى بأن نظامه هو الأقوى والأكفأ في مواجهة الإرهاب في المنطقة، وهو يعلم جيدا أن الإرهاب الذي يتحدث عنه مترسّخ متأصل في ذهنية وممارسات نظامه، وهو يتجسّد في السعي المستمر لتصفية الخصوم المحليين والإقليميين، أو المغرّدين خارج السرب سواء في العراق أم في لبنان أم في سورية.
كما انه يعلم جيدا أن نظامه الأصولي المذهبي النزعة قد تمكّن بالتحالف والتنسيق الفاعل مع النظام البعثي "العلماني" السوري من دفع الأمور في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين نحو الفوضى العارمة، وذلك عبر تدبير التفجيرات والمذابح التي نفذتها قوى متباينة المشارب والعقائد والمزاعم، ولكنها كانت جميعها محكومة بقواعد اللعبة التنسيقية بين الحليفين: الأصولي المذهبي، والبعثي "العلماني".
لقد اصبح الإرهاب فزّاعة بالنسبة إلى الأنظمة الاستبدادية في المنطقة والعالم، فهو الدجاجة التي تبيض ذهبا. وهي فزّاعة تصنعها الأنظمة المعنية، وتروّج لها، وتمكّنها من الانتعاش والتمدد، ومن ثم تعلن نفسها مناهضة لها، ومستعدة لمحاربتها، مستغلة الأوضاع الإقليمية والدولية، لتضع العالم أمام بديلين سيئين: إما الأنظمة الاستبدادية الفاسدة الإفسادية، أو الإرهاب الظلامي المتوحش. ولم يكن لهذه الفزّاعة أن تصبح فاعلة هكذا، لولا قبول الرأي العام الغربي بواقعيتها، وخشيته من مآلاتها.
وفي ما يخص الحالة السورية نرى أن لهذا الأمر أسبابه وعوامله التي من بينها إخفاق المعارضة السورية بمختلف أجنحتها في ميدان التواصل مع الرأي العام المعني بمؤسساته ومفاصله المؤثرة، بخاصة في العامين الأولين من الثورة حين كانت الأجواء مهيأة للتفاعل إيجابا مع مطالب السوريين. بل انشغلت المعارضة المعنية بحساباتها الخاصة، وكان ذلك نتيجة تعاملها مع الوضعية بعقلية كسولة اتكالية، عقلية اعتمدت سلوكية انتظار تنفيذ الوعود العامة الضبابية التي كانت تتوالى من دول مجموعة أصدقاء الشعب السوري، وذلك عوضا عن العمل الجاد من أجل بناء القدرات الذاتية، وتنظيمها في مختلف الميادين وعلى مختلف المستويات.
ولكن يبقى للتردّد الأميركي تأثيره الأكبر على صعيد عدم حسم الأمور لصالح الشعب السوري، مما اضعف قوى الثورة الميدانية، وأخرج المئات من الضباط القادة والأمراء، وعشرات الآلاف من ضباط الصف والجنود المنشقين خارج نطاق المعادلة، بل فتح الباب واسعا أمام المتشددين والإرهاب، الأمر الذي استفاد منه النظام ضمن إطار استراتيجيته العامة التي اعتمدها مع حليفيه الإيراني والروسي.
الإدارة الأميركية لم تعتمد الحزم المطلوب في تعاملها مع نظام بشار الأسد، الحزم الذي كان من شأنه أن يفعل الكثير. والتجارب السابقة مع هذا النظام تؤكد ذلك.
أما النهج وحيد الاتجاه الذي التزمته هذه الإدارة في تعاملها مع قضية الإرهاب في سورية فهو الآخر خدم النظام، واسبغ قسطا من المشروعية على مزاعم روسيا بخصوص مخاطر الإرهاب الإسلامي المتطرف. فمنذ اليوم الأول كان واضحا للجميع أن النهج المعني لن يعالج المشكلة في سورية باعتباره لا يعالج قضية الإرهاب بصورة متكاملة، وإنما كان يركز الجهود حول داعش – النتيجة، في حين أنه كان يتناسى أو يتجاهل أن النظام مصدر الإرهاب الداعشي وغيره. وكل ذلك تناغم أو تكامل بهذه الصورة أو تلك مع استراتيجية النظام وحلفائه.
القوات الروسية دخلت سورية بدعوة من رئيس فاقد للشرعية. وهي تمارس عدوانها على الشعب السوري عبر قصف مدنه وقراه، مرفقة بمؤازرتها الصريحة للنظام، ودعوة موسكو الصريحة بضرورة الإبقاء على الأسد.
ردود الأفعال العربية والدولية لم ترتق بعد إلى المستوى المطلوب من جهة الإدانة والدعوة الحازمة إلى ضرورة التوقف عن التدخل، وإنما تراوحت بين الشجب الخافت، والامتعاض، والدعوة إلى التفاهم، وإمكانية التنسيق بخصوص الإرهاب.
بشّار الأسد بوصفه عنوان مجموعة القرار في النظام هو أساس المشكلة. ولن تكون هناك أية إمكانية للحل من دون تجاوز هذه العقدة، وإبعادها عن العملية السياسية القادمة التي لا بد منها للوصول إلى الحل في سورية. ومن هنا نرى أن مهمة المبعوث الدولي دي ميستورا مسدودة الآفاق ضمن الأجواء الراهنة، وبناء على المعطيات المتوفرة حاليا.
أما الإصرار الروسي على دعم بشار بكل الأساليب، فهذا مؤداه حرب طويلة الأمد في سورية، بل في المنطقة بأسرها، حرب ستؤدي إلى تغييرات في الجغرافيا السياسية، وانزياحات سكانية كبرى، وهي تطورات ستكون لها، في حال حدوثها، تبعات جسيمة على المستويين الإقليمي والدولي.
انطلاقاً من رؤيتها أنّ "الأزمة في سورية التي تدخل عامها الخامس تعد أكبر أزمة إنسانية في العالم"، يبدو أن الممثلة السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، قرّرت التحرك لإيجاد آلية لحل القضية السورية، وهي آلية، ربما تكون على غرار التي أدت إلى التوصل إلى اتفاق بين المجموعة الأوروبية وإيران، بشأن برنامج الأخيرة النووي، في 14 يوليو/تموز الماضي في فيينا. ولكن، وبالقياس مع أهمية الملف النووي الإيراني، لا تعد الأزمة الإنسانية الدافع الحقيقي لذلك التحرك، إذا ما أخذنا عامل وجود القوات الروسية في سورية، أخيراً، وخطورته، من الناحية الجيوسياسية، بالنسبة لصانعي القرار الغربيين، علاوة على موضوع تدفق اللاجئين السوريين وغيرهم إلى أوروبا.
وكانت موغيريني قد صرحت بذلك، في بيان أصدرته عقب لقائها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، في بروكسل في العاشر من الشهر الماضي. وقد ناقشت معه، السبل المثلى لمساهمة الاتحاد الأوروبي في مبادرات الأمم المتحدة الخاصة بالشأن السوري، بما فيها اقتراح دي ميستورا مجموعة عمل حول سورية وإنشاء مجموعة اتصال دولية، إلا أن موغيريني عادت، بعد ذلك، إلى الاستفادة من الجو الذي ساد في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي، وخيّم عليها الموضوع السوري، للحديث عن إعادة إحياء المجموعة الدولية 5+1 التي تشكلت لحل مشكلة البرنامج النووي الإيراني، لحل الأزمة في سورية، مع احتمال دعوة دول أخرى من المنطقة، للمشاركة في المجموعة، وخصوصاً العربية السعودية وتركيا.
من المحتمل، أو شبه المؤكد، أن لدى الغرب مفتاح حل الأزمة في سورية، وهو لا يستخدمه سوى حين يتألم. وقد حبس ذلك الحل طوال فترة تقارب السنوات الخمس، هي عمر الأزمة في سورية، إلا أن شيئاً ما تغيّر جعل هذا الغرب، وخصوصاً أوروبا، جعلها تفكر في إطلاق الحل من حبسه، متأثرةً بآلامٍ بدأت تشكو منها. فها هي موجات الهجرة أخذت تؤلمها، وبدأ حكامها يدركون أن أوروبا هي الكيان الوحيد الذي يتأثر، مباشرة، بالنزاعات الواقعة خلف الطوق الأوروبي. وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية تصنع أزمات على غرار العراق وأفغانستان، وتزكي نيران أزمات أخرى، فإن أوروبا هي أول من يتلقى تداعيات الأزمات في العالم، لبعد الولايات المتحدة الجغرافي، والذي يبقيها بعيدة عن موجات الهجرة أو عن الأعمال الانتقامية.
وقد شهدنا، في الأشهر الأخيرة، تدفق موجات اللاجئين السوريين إلى أوروبا بشكل لم يسبق له
"ربما يكون التدخل الروسي هو الدافع المسرّع لتدخل الغرب لفرض حل سياسي، وفق آلية حل الخلاف حول النووي الإيراني"
مثيل، وبطرق لم يعرفها العالم، تبين أن سالكيها لا يأبهون بالمخاطر المصاحبة لتنقلهم، مقابل الوصول إلى بر الأمان. وهو أمر لا يقدم عليه سوى من وصل إلى مرحلة من اليأس، بعد أن تقطعت به السبل للعيش وفق أبسط المعايير، واكتنف الغموض رؤيته للمستقبل. ودفعت موجات الهجرة هذه دول الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في أساليب جديدة، للحد من تلك الموجات، حيث رأى بعض من قادة الدول الأوروبية أن السبيل الوحيد إلى ذلك إيجاد حل للقضية السورية على المدى الطويل، وتحسين ظروف اللجوء في دول الجوار على المدى القريب. لأنه من الواضح أن وتيرة الهجرة ازدادت بسبب فقدان سكان المخيمات أي أمل في الحل، وبالتالي، في العودة السريعة إلى بلادهم. وأنها ستزداد بسبب هذا الأمر، وبعد تواتر قصص النجاح في وصول من سبقوهم. لذلك، رأينا، بعد حادثة غرق الطفل السوري، عيلان كردي، والصدى الذي لاقته حول العالم، زيارة رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان والأردن، والزيارة المزمعة للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في أكتوبر/تشرين أول الجاري. والتركيز على تحسين شروط العيش الإنساني للاجئين في المخيمات، والإضاءة على مخاطر الهجرة غير الشرعية لحضهم على عدم المغامرة.
ولكن، لم يكن للغرب أن يتحرّك بشكل جدي أكثر، ويبحث في سبل لحل القضية السورية، إلا بعد أن استشعر خطورة التدخل العسكري الروسي في المنطقة. فانتقال روسيا من دعم النظام السوري، عبر مده بالسلاح والذخيرة، إلى مرحلة التدخل الفعلي على الأرض، قد ينظر إليه الغرب باعتباره وجوداً يتيح لروسيا حرية التحرك، انطلاقاً من بيئة صديقة، سورية والعراق، وصولاً إلى منطقة محيط قطرها يصل إلى آلاف الكيلومترات. وربما ينطلق، لاحقاً، من سورية، ليطاول ليبيا واليمن والعراق، مع إمكانية تغطيته كل المنطقة العربية، وخصوصاً الخليج العربي. وما يشكله ذلك من تهديد للمنطقة وللمصالح الغربية فيها، ولا سيما وأن القوات الروسية قد تجد في المنطقة، المرحبة بوجودها، مستقراً لها فترة لا يعرف أمدها، تحتاجه موسكو في إطار مسعاها فرض نفسها قطباً عالمياً.
لا شك أن التدخل العسكري الروسي في سورية يعتبر عامل إطالة لأزمة البلاد، وليس مساعداً على حلها، وهو جاء في فترةٍ كثر الحديث فيها عن حل سياسي. فالغارات الأولى للطيران العسكري الروسي أظهرت عبثية هذا التدخل، إذ أنها استهدفت المعارضة المصنفة معتدلة، وبيوت السكان الآمنين، فيما أعلن القادة الروس أنها استهدفت تنظيم الدولة الذي تعتبر محاربته مبررهم للتدخل في سورية. لكن ما استهدفته الغارات تجعل كل التبريرات غير معتد بها. وتعطي انطباعاً أن المهمة الرئيسية للتدخل خلط الأوراق وزيادة القضية تشعباً بزيادة عدد الدول المتورطة بالنزاع، وبالتالي، ظهور مصالح جديدة ومستفيدين جدد من الحرب في البلاد.
لذلك، ربما يكون التدخل الروسي هو الدافع المسرّع لتدخل الغرب لفرض حل سياسي، وفق آلية حل الخلاف حول النووي الإيراني. وتأتي موجات الهجرة التي لا يبدو أنها ستتوقف في القريب، ومسعى موغيريني التي هالها حجم المأساة السورية، على المقلب الآخر، لدفع الغرب إلى التحرّك لإيجاد حل. فأن تفعلها موغيريني، مستفيدة من كل هذه العوامل، هو آخر ما تبقى للسوري، في جو عبث الحرب التي لم تعرف حدوداً لفظاعاتها.
في كل مرة تجتهد داعش بكل ما أؤتيت من قوة و تمكين بالسلاح و العتاد و الإمداد البشري ، لتثبت أنها عدوة و موغلة في عداوتها لكل من يناصر الحق ، ومسالمة و موائمة لكل من يصر على عدواة الحق ، ما قامت به منذ الأمس في ريف حلب يؤكد أكثر فأكثر أنهم عبارة عن "القتلة المأجورين" الذين زرعهم العالم لتحقيق كل مآربهم ، على رأسها محاربة الإسلام .
فمنذ أمس الأول أعلنت روسيا و تابعهيا من نظام الأسد بدأ الحملة لإسترجاع المناطق المحررة في أرياف إدلب و حماه و اللاذقية ، فكانت هذه الشارة هي شارة الفناء لكل من اقترب من هذه المناطق و استطاع الثوار تكسير موجة جديدة من موجات المواجهة مع جميع من وطئة اقدامه سوريا .
مع النجاح السابق ، والمواجهة العدو الذي من المفروض أن يكون مشتركاً و متفق عليه ، أنه يضر بالجميع و ليس بطرف بعينه ، تواصل داعش غيها في مواجهة أبناء الأرض ، وتركيز قواتها لضربهم بدلاً من توجيهها للعدو المشترك في كل نقطة متواجدة فيها ، فمدرسة المشاة في ريف حلب يجانبها المدينة الصناعة التي يوجد فيها نظام الأسد و العديد من المليشيات الشيعية ، وغير بعيد عنها عناصرمنظمة بي ك ك التي تدعي أنها تحاربها و بينهما ثأر منذ عين عرب و بعدها تل أبيض ووصولاً إلى حدود الرقة ، إلا أنها قررت ترك الجميع و توجيه ضربة للثوار هناك ، ليفشلوا مخطط جديد للتقدم في حلب بعد أن كانت التحضيرات تصب بإتجاهين الأول وقف أطماع حزب العمل الكردستاني في حي الشيخ مقصود ، وتوجيه ضربة لقوات الأسد على جبهة المدينة الصناعية .
ولكن الغريب في الأمر هو ما نقله بعض المتواجدين في ساحات المواجهة مع داعش ، أن طيران التحالف لم يفارق أجواء محافظة حلب بالأمس و كأنه يرصد لداعش لضمان التقدم ، في حين يمارس الطيران الروسي المراقبة على ريف حلب الغربي الذي يعتبر مركز الثقل للدعم و المؤازرة لشطره الشمالي ، فاليوم روسيا والتحالف بقيادة أميركيا و داعش في ذات النسق كما كانوا منذ البداية ، سيبقون كذلك إلى نهايتهم .