وسعت روسيا مع بداية عدوانها على سوريا من مساحات المعارك و نوعيتها لتشمل مختلف المناطق السورية ، في خطوة مخالفة تماماً لتوجهات نظام الأسد الذي اعلن عبر رئيسه الإرهابي بشار الأسد أن العمليات ستركز على المناطق المهمة أو ما سماه "المفيدة" .
من حلب في الشمال إلى أرياف إدلب و حماه و اللاذقية ، مروراً بحمص إلى ريف دمشق و إنتهاءً في الجنوب ، في محاولات تبدأ من أقصى الشمال حتى الجنوب إلى إستعادة التوازن النسبي و زيادة المساحات التي يسيطر عليها النظام ، بعد أن إنخفضت إلى 14% وفق تصريحات وزير الخارجية التركي أمس ، للوصول إلى مايساعدها على تحسين شروط التفاوض .
يبدو السعي الروسي السريع و المتسرع ، بغية إستغلال الوقت المتاح له ، و الذي يقتصر على ثلاثة أو أربع أشهر لا أكثر وفق ماهو محدد من أموال لهذا العدوان ، يبدو أنه سيعطي نتائج عكسية تماماً ، وأن توسيع المعارك و ساحات الإشتباك و تنوعها و تلونها جغرافياً و لوجستياً وتوسع الإحتياجات من دعم تقني و بشري ، ستكون بمثابة "توسيع القبر" الذي سيدفن فيه الطموح الروسي لإيقاظ الدب الذي يُظن أنه في سبات ، و لكن في الحقيقة هو في مرحلة الإنعاش أو ما يعرف طبياً بـ" الكوما" .
ويظن الروس أنهم يمكن حسم المعركة جواً ، مع عمل بسيط من بقايا قوات الأسد و من آتى ويأتي من مليشيات شيعية وقوات إيرانية ، لتحقيق الأهداف ، و لكن على العكس تماماً ، التجارب السابقة تثبت أن قوات الأسد ومن معها في معركة واحدة فقط ، إذا ما تم فتح جبهتين أو ثلاثة معاً في مساحة لاتتجاوز الـ20 كم ، فإنها تنكسر و تخسر و تتراجع ، مهما تعاظمت المساندة الجوية و المدفعية القريبة و البعيدة و حتى العابرة للقارات ، فكيف بمعارك متعددة الجهات و المتفرقة و المتوزعة ، وتواجه قوات على الأرض تعرف الجغرافية جيداً و تدرك تفاصيل ووعورة الطرق كراحة يدها ، والأهم تعمل على شكل مجموعات قادرة على المناورة و العمل بشكل غير معلوم أو مرسوم يمكن توقع ضرباته القادمة سواءً مكانياً أو زمانياً.
يفرط المؤيدون و الموالون لروسيا و الاسد بالتفاؤل إلى حد الخيال و الحلم ، يعيشون على أنه واقع ، لا يعني أن الخسارة لبضع مناطق هنا أو هناك أن الأمر قد حُسم ، ولكن هناك وقت يطلق عليه "إمتصاص الصدمة" أو "استيعاب الموجة الأولى" التي تشبه المد الذي حتماً سيعقبه جذر قد يكون أشد تقلصاً ، و قد يسحب معه كل ما خلفه الموج في مده.
هناك شبه إجماع دولي على ألا مكان لبشار الأسد في سوريا، وقبل أيام أكدت المملكة العربية السعودية ذلك، والحقيقة أنه يجب أن يقال إنه لا مكان للأسد، ولا حتى لإيران، وأتباعها وعملائها في سوريا ذات الأغلبية السنية الساحقة.
قد يقول البعض إن هذه دعوة للتصعيد، وتعنت، والحقيقة أنها ليست كذلك.
ولأن الشيء بالشيء يذكر؛ فقبل عدة أيام نشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية تقريرا عن أسباب استدعاء الأسد للروس في سوريا، وخلص التقرير، الذي استقى معلومات من مصادر دبلوماسية روسية، وغربية، مطلعة عن كثب، حول ما يجري في دمشق، إلى أن الأسد قرر دعوة الروس بعد أن استفحل الدور الإيراني في سوريا، وبات الإيرانيون هم من يحرسون الأسد جسديا الآن، وأصبح بمقدورهم التخلص منه في أي لحظة، وذلك بعد أن تمكن الإيرانيون من إقصاء شخصيات مؤثرة من الدائرة الضيقة للأسد.
ويشير التقرير إلى أن الإيرانيين باتوا يتعاملون بتعال مع دوائر الأسد، وأنهم فاجأوا الأسد عندما قاموا بعقد اتفاق وقف إطلاق نار في الزبداني دون استشارته.
والقصة لا تقف عند هذا الحد؛ حيث يشير التقرير إلى أن الإيرانيين عمدوا إلى شراء أراض سورية بمواقع مهمة، وفرضوا تدريس المذهب الشيعي على الأغلبية السنية، وليس هذا فحسب، بل إن تقرير مجلة «دير شبيغل»، التي منحها الأسد بعد الثورة مقابلة مطولة، ينقل عن أحد العلويين قوله إن الإيرانيين يفرضون عليهم مفاهيم إيرانية مذهبية، قائلا: «إنهم يرموننا ألف عام إلى الوراء»! وبالطبع، فإن من ضمن ما لم تذكره المجلة الألمانية عن الغرور الإيراني في سوريا، هو أن حسن نصر الله كان، ولفترة قريبة، يتحدث عن سوريا أكثر من الأسد الذي لو استطاع نصر الله أمنيا جلبه للضاحية للتوجيه وإعطاء الأوامر، لفعل. وما لم تذكره المجلة أيضا، أن الأسد تحرك ودعا الروس بعد أن قدمت طهران مبادرة معدلة حول الأزمة، ومن أربع نقاط، ورفضها الأسد!.
حسنا، هل يمكن بعد كل ذلك تصديق أن الأسد المتقزم أمام الإيرانيين يريد كسر الطوق الإيراني، ومن المصلحة فتح صفحة جديدة معه؟ بالطبع لا، وهذا عبث! فأيا يكن مصير الأسد، فإنه غير مأسوف عليه، وهذه هي النتيجة الطبيعية، وهذا مآل كل من يتلحف بإيران، وأعوانها، طائفيا، أو ماليا، وسياسيا.
الأصل هو أن يرفض وجود الأسد، كما يرفض الوجود الإيراني في سوريا، الذي لم يتحمله حتى العلويون، فكيف بسنة سوريا وهم الأغلبية المطلقة؟ صحيح أن ما يحدث في سوريا محزن، ومأساوي، لكن النتيجة الحتمية، طال الزمان أو قصر، ألا مكان للأسد، ولا إيران هناك، وسيدفع كل أتباعهم وعملائهم الثمن سواء في لبنان أو العراق، لأنهم يلعبون بالنار، ويتجاهلون المخزن السني الحقيقي.
وما يجب تذكره هنا، هو أن عملية تدوير الزوايا، وعلى الطريقة اللبنانية، لن تجدي نفعا بسوريا ذات الزاوية الحادة، وحتى بعد التدخل الروسي هناك.
قال الرئيس بشار الأسد، في آخر خطاب له، إن الجيش السوري متعب، ولذا يتخلّى عن مواقع أقل أهمية لينصرف إلى حماية الأجزاء الأكثر أهمية من البلاد. لم يحدد ماهية الأهمية التي يعنيها، لكنه أطلق شعارًا لا سابقة له، وهو أن ((سوريا لمن يدافع عنها))، وهذا ينزع الجنسية عن نصف السكان الهاربين على الأقل.
في الأيام الثلاثة الأخيرة بدأت تظهر إلى العلن عملية معروفة منذ ثلاث سنوات، وهي أن الذين يدافعون عن سوريا المقصودة بالخطاب، ليسوا جميعًا سوريين: ضباط إيرانيون من أعلى الرتب، ومقاتلون قياديون من حزب الله، وقوات عراقية وإيرانية رسمية، وفوقهم جميعًا غطاء جوي روسي لا مثيل له منذ الحرب العالمية.
ماذا سيطلب «الذين يدافعون عن سوريا» في المقابل؟ ليس قاعدة بحرية، فهي لا تستحق كل هذه الحرب. وليس نفطًا أو غازًا موعودًا، فلدى إيران وروسيا والعراق منهما ما يفيض.
وليس حماية النظام، لأن روسيا تعلمت من أفغانستان وأوروبا الشرقية أن أول من يتأذى هو النظام المسوّر بالحماية والدبابات والسوخوي.
إذن ماذا؟ إيران تعرف، وروسيا لا تعرف. إيران تريد إقامة قوس دائم من بيروت إلى طهران، مرورًا بدمشق وبغداد.
ويكفي أن نعرف نوعية الضباط الذين يسقطون في سوريا، إضافة، طبعًا، إلى من لا نعرف.
أما روسيا، فالقوي ليس بالضرورة ذكيا دائمًا. والأرجح أن بوتين يركب رأسه كما فعل ليونيد بريجنيف في براغ، ثم في أفغانستان. لكن لا أرتال الدبابات غيرت شيئًا هنا، ولا أسراب الطائرات غيرت شيئًا هناك. كل ما في الأمر أن المستقوين سوف يوسّعون رقع الحرب والدمار، ويطيلون أمد الاثنين.
وسوف ينفجر الغاز بالجميع. وفي البيت الأبيض، يوضب فخامة السيد أوباما حقائبه ومذكراته. ومع صدورها، يكون قد انسحب من العراق وسوريا والخليج وأوروبا، ولكن أفشل أهم تجربة تاريخية في وصول رجل أسود إلى رئاسة أميركا. كم يندم الذين راهنوا على إنسانيتك. لم يكن مطلوبًا منك الحرب والتدخل الأعمى، وإنما صناعة السلام.
لا يحتاج فلاديمير بوتين الى مَن يقول له أن خطته في سورية «خاطئة» أو «وصفة كارثية» أو معطّلة لأي «حل سياسي»، كما لا يحتاج الى مَن يخبره بأن الحرب التي بدأها لن تتوصّل الى القضاء على الإرهاب بل لعلها تضاعف مخاطره، فهو يعرف كل ذلك وربما يقدّر عواقب استراتيجيته على سورية وحتى على العراق، لكنه مهتم فقط بالمقامرة التي يديرها مع الولايات المتحدة، ولديه شعور بأن ثمة ما يمكن أن يكسبه منها. وضع «القيصر» في حسابه أن الخصم الاميركي - الاوروبي لا يريد الانجرار الى تصعيد عسكري في سورية، وللتأكد من ذلك كان الاحتكاك المبكر بتركيا، فوصلت الرسالة الى حلف الأطلسي وجاء الجواب بأن «الناتو» معني بحماية تركيا، أي أنه لا يزال غير معني برعاية أو حماية أي دور لها في سورية. لذلك لم يبقَ لرجب طيب اردوغان، استبعاداً للخطر، سوى التذكير بـ «الصداقة» بين تركيا وروسيا. لكن بوتين لا يستطيع المراهنة على انعدام لانهائي للخيارات الاميركية والغربية.
كان ذلك هو الاختبار الأول للتصعيد في سورية، ولتمكّن بوتين من أن يحصل على تحييد موقت وجزئي لتركيا، موقت لأن المواجهة لا تزال في بدايتها، وجزئي لأنه لن يمنع أنقرة من مواصلة تقديم الدعم العسكري للفصائل المقاتلة في سورية. لكن حليفي موسكو في طهران ودمشق يعتبران هذا «التحييد» معطىً مهماً يمكن أن يبنيا عليه، وقد رأى رئيس مجلس الشورى الايراني، مثلاً، أن التفجيرين الأخيرين في أنقرة «جزء من الأزمة التي تعصف بالمنطقة». وإذ يرتاب الأتراك بأن «أطرافاً خارجية» تعمل على وضع تركيا وأمنها في سياق تلك «الأزمة» فإن معلوماتهم وشكوكهم أصبحت تساوي بين اتهاماتهم لتنظيم «داعش» وبين ضلوع «حزب العمال الكردستاني» في دور إيراني - أسدي. واللافت أن يكون هناك تناغم بين عمليات الطرفين («بي كي كي» و»داعش») لا يمكن أن يفسّر فقط باستغلالهما الظرفي للثغرات الأمنية بل بوجود جهة تخطّط وتحرّك، ولديها أهداف بعيدة المدى.
في أي حال، لم تعد طهران ودمشق تكتفيان بتسويق التدخل الروسي كعامل حاسم لمصلحة نظام بشار الاسد، بل راحتا تتحدّثان عن تغيير وجه المنطقة وخريطتها. أي أن مخططات الملالي عادت للانتعاش بعد مرحلة رمادية امتدّت لشهور واضطرّت خلالها ايران للظهور بمسلك «دولة مسؤولة» تستحق أن يُبرم «اتفاق نووي» معها، ومرحلة تخللتها هزائم للنظام في سورية ومعوقات قنّنت مشاركة ميليشيات «الحشد الشعبي» في الحرب على «داعش» في العراق مع اصرار اميركي على دور للعشائر في تحرير الأنبار والموصل، بل شابتها أيضاً حرب في اليمن فرضت تراجعاً على طموحات النفوذ الايرانية. وعلى رغم أن طهران كانت موافقة على طلب بغداد - نوري المالكي تدخلاً اميركياً لمواجهة انتشار «داعش»، إلا أنها لم تنجح في توجيه هذا التدخل أو في تحويله فرصة لها، لذا استكانت لجعله حافزاً للاميركيين في مسار التفاوض على الملف النووي ورفع العقوبات. وفيما كان الاميركيون والايرانيون يكثرون من مظاهر «تطبيع» تلقائي يسري في ما بينهم، كانت طهران وموسكو تناقشان خطط «ما بعد الاتفاق النووي»، ومنها على الأخص رفع درجة التدخل الروسي، وتغيير قواعد الحرب على الارهاب في سورية والعراق. وبعدما تأكد المرشد علي خامنئي بأن العمليات الروسية بدأت فعلاً ضد المعارضة في سورية عاد فجدّد حظر أي اتصال بالاميركيين خارج ما يتعلّق بتطبيق الاتفاق النووي.
في حدود ما هو معروف عن العمليات الروسية، حتى الآن، فإنها شديدة الارتباط برغبات نظامَي الأسد وأيران. وفي الجهة المقابلة لم يسجّل سوى المزيد من التحليل والتنبؤات بفشل روسي، غير أن الإفصاح عن تسليح أميركي لمجموعات معينة من المعارضين السوريين يشير الى نقلة نوعية في الردّ على التدخل الروسي. ثمة مؤشرات لتبدّل متسارع في خريطة تحالفات فصائل المعارضة المقاتلة في مناطق مختلفة، ما يعكس توصيات الدول الداعمة التي تحتاج الى وقت للتعرّف الى الخيارات الدولية، لا سيما الاميركية، ولبلورة التوجّهات التالية. واذا كانت المعارك البريّة الأولى لم تسفر عن تغيير ميداني واسع وسريع إلا أن نتائج المساندة الجوية الروسية وعدم تكافؤ السلاح لا بد أن تظهر قريباً، حتى لو لم تكن فيها ملامح حسم عسكري للصراع. وفيما يُضعف هذا التوجّه «الجدّية» الروسية في محاربة «داعش» ويجعلها مجرد ذريعة دعائية، إلا أنه يقوّي موقف الايرانيين ونظام الاسد الساعيين أولاً الى إضعاف المعارضة، وقد بيّنت استهدافات الاسبوعين الماضيين اهتمامهم الرئيسي بضرب بقايا «الجيش السوري الحرّ» وتزويدهم الطائرات الروسية قوائم بمواقعه، فهو عدوّهم الحقيقي الذي تضافرت الفصائل جميعاً لإضعافه.
في المقابل يبدو أن الاميركيين يريدون تسريع الحرب البريّة على «داعش»، وافتتاح حملة عليه في الرقّة قبل أن يشقّ الأسديّون والإيرانيون طريقهم اليها. وفي سياق الحديث عن تسليح معارضين سوريين أُشير فجأة الى ما سمّي «التحالف العربي السوري» الذي قيل أن الاميركيين يركّزون على تسليح مقاتليه ليباشروا فوراً محاربة «داعش»، تحديداً في الرقّة. وفُهم من المعلومات الأولية أن الأمر يتعلّق بمجموعات من «الجيش الحر» درّبتها وكالة الاستخبارات الاميركية (بشروط أقلّ تشدّداً من شروط البنتاغون) وحان وقت استخدامها لمنع الروس وحلفائهم من فرض خطّتهم لمحاربة الإرهاب. لكن الجديد أن هذه المجموعات تضم «مقاتلين عرباً»، ويُعتقد أن الغارات الروسية استهدفت مواقعها. وعدا أن هذا التطوّر يتضمّن ملامح تذكّر بسيناريوات مواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان قبل خمسة وثلاثين عاماً، إلا أن الأدوار تغيّرت. ففيما يواصل «داعش» التجنيد والدعوة الى «الجهاد» يحاذر الاميركيون وحلفاؤهم هذه المرّة الإشارة الى أي مغزى «جهادي» كالذي استُخدم لصدّ المدّ الشيوعي آنذاك ثم تطرّف لاحقاً وانزلق نحو الإرهاب.
والواقع أن التدخل الروسي طرح هذه المعضلة على الأطراف التي تواجهه، بل ذهب بعيداً عندما اقحم الكنيسة الارثوذكسية لتزكية ما سمّته «حرباً مقدسة» في الوقت الذي تجهد حكومات عربية وإسلامية لنزع الغطاء الديني الذي يتنكّر به «داعش» وأشباهه، وتصرّ على محاربته باعتباره تنظيماً اجرامياً لا علاقة له أو لأهدافه بأي دين. ومع إصرار روسيا على إغفال حقائق الصراع السوري والشروع في تجريب أسلحتها الفتّاكة ضد المعارضة فقد برهنت عزماً واعياً ليس فقط على استثارة البعد الديني بل خصوصاً على تفجير صراع مذهبي بمناصرتها الحلف الايراني ضد السنّة السوريين. أكثر من ذلك لم يخفِ الروس لامبالاتهم بتحذيرات تلقوها من مصادر عديدة تُلفت الى أن اسلوبهم في محاربة الإرهاب، اذا كانت هي الهدف فعلاً، سيكون بمثابة تعزيز لـ «داعش»، سواء بالتضييق على المعارضة وتدعيشها رغماً عنها أو بزرع أسباب اضافية للتشدد وفتح مرحلة جديدة من «الجهادية» المتهوّرة.
لكن مَن يعتقد أن الروس ذهبوا الى سورية لمحاربة الإرهاب فقد أخطأ ولا داعي لانتظار المزيد مما شهده حتى الآن كي يراجع موقفه. صحيح أن المآخذ على الاستراتيجية الأميركية وانتقاد عدم جدواها والتشكيك بمجرياتها وأهدافها كانت محقّة، لكن الاستراتيجية الروسية بدت سريعاً أكثر اقلاقاً لأنها تريد حسم الصراع السوري لمصلحة الأسد وايران اللذين لا يمانعان تعايشاً مع «داعش» شرط أن توفّر روسيا الوسائل اللازمة لاحتوائه. هذا يفترض أن بوتين جاء الى سورية لخدمتهما، أما الأرجح فهو أنه يتخذ من الحرب على الإرهاب والعبث بها وسيلة لاستفزاز الأميركيين والأوروبيين واستدراجهم الى التفاوض معه على أوكرانيا وملفات الأمن الاستراتيجي، لكنهم يرفضون ولا مانع لديهم من خوض مواجهة طويلة في سورية طالما أنهم لا يورّطون جنودهم. الاميركيون كما الروس متهمون باستخدام «داعش» والاستفادة من محاربته أو ادّعاء محاربته لتحقيق أهداف اخرى لا علاقة لها بسورية.
لا تبعد مدينة حلب السورية سوى 45 كيلومترا فقط عن باب الهوى، نقطة الحدود مع تركيا. ويزحف باتجاه حلب، كبرى المدن السورية سكانا، جيش إيراني من آلاف الجنود والمقاتلين يستعد لخوض أكبر معركة عسكرية في تاريخ الثورة السورية منذ بدايتها في عام 2011. الإيرانيون حركوا جيشهم هذا بعد أسبوع من مقتل أحد أكبر جنرالاتهم، حسين الحمداني، في القتال في حلب، التي رغم الدعم الإيراني خسرها النظام السوري، وخسر عددا من البلدات شمال المدينة. الهزيمة تفسر عزم إيران إرسال مزيد من القوات للقتال هناك بغطاء جوي روسي.
وبخلاف تركيا، الملتصقة جغرافيا بسوريا والقريبة من مدينة حلب، فإن إيران التي تريد فرض نفسها قوة إقليمية، جاءت من بعيد بقضها وقضيضها إلى سوريا رغم أنها لا تشترك مع سوريا حدوديا، ولا تستطيع الوصول إليها إلا عبر الجو، أو عبر الأراضي العراقية، غير المأمونة بسبب وجود مسلحي تنظيم داعش على أجزاء من الطريق الطويل.
وفي مثل هذا الأسبوع من العام الماضي كنت كتبت مقالا متسائلا: لماذا لم يدافع الأتراك عن مصالحهم وأمنهم في شمال سوريا، خصوصا محافظة حلب؟ فقد كان هناك كثير من المبررات في جانبهم، من بينها اختراق النظام السوري الأجواء التركية، والقصف المدفعي عبر الحدود، وإسقاط طائرة في بداية الحرب، إلى جانب حق تركيا في حماية حدودها في الداخل السوري.
ربما صار التدخل العسكري أصعب اليوم على الأتراك بوجود آلاف المقاتلين من روس وإيرانيين وعراقيين ولبنانيين بالقرب من حدودها، وتطور النزاع إلى مستوى أعلى بين الولايات المتحدة وروسيا. وما التفجير الإرهابي الذي أصاب العاصمة أنقرة، الذي قتل فيه نحو مائة شخص، إلا جزء من تداعيات الأزمة السورية على تركيا، وربما هو رسالة من أحد الأطراف المقاتلة هناك سواء كان إيرانيًا أو روسيًا أو من «داعش».
معركة حلب الكبرى المنتظرة، بين القوات الإيرانية والثوار السوريين، احتمالاتها كلها سلبية على تركيا. ففي حال انتصر الإيرانيون فإن ذلك سيعني هزيمة لحلفاء تركيا، وستكون تركيا نفسها في مرمى وكلاء إيران والنظام السوري، من الميليشيات. أما في حال عجز الإيرانيون عن احتلال حلب، فإنهم سيلقون باللوم على الأتراك ويتهمونهم بتمويل الجماعات المسلحة. وفي حال استمرار القتال طويلا في محافظة حلب بالعنف المتوقع، وعدم انتصار أحد الطرفين، فإن نيرانها أيضًا قد لا تتوقف عند معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.
وإلقاء نظرة على الخريطة سيوضح طبيعة المخاطر الجيوسياسية التي ستفرزها معركة حلب المقبلة، فالمدينة على بعد أقل من نصف ساعة بالسيارة فقط من تركيا، وفي حلب بقي على الأقل نصف سكانها المليونين، رغم الدمار الرهيب الذي ألحقته قوات نظام الأسد بالمدينة على مدار عامين تقريبا، التي بدأت تدميرها منذ أواخر عام 2013، مستخدمة البراميل المتفجرة التي تلقيها من الجو ونجحت في تهجير نصف السكان من أحيائهم، وتدمير المدينة بشكل لا مثيل له في تاريخ المنطقة. الآن، وبعد فشل المحاولات السابقة يتأهب حلفاء نظام الأسد لاقتحام المدينة من جديد، إنما هذه المرة هي حرب بقوات إيرانية كبيرة برية، وقوات جوية روسية متطورة. وبكل أسف سنرى مأساة أعظم، لأن المدافع الإيرانية والقصف الروسي سيستهدفان المناطق المدنية، حيث يوجد المقاتلون على الطرف الآخر، وقد نرى عمليات نزوج بشرية كبيرة غالبا باتجاه الحدود التركية.
الغزاة الروس والإيرانيون يعتقدون أنهم قادرون على استرداد مدينة حلب وقراها، ونحن نعرف أن قوات الأسد حاولت في الماضي، وحتى في المرات التي نجحت فيها عجزت عن الاستمرار في حراستها وإدارتها. وهم ينوون أيضًا التوجه إلى محافظة حماه في محاولة لتطهير المنطقة في مشروع غبي هدفه ترميم حكم نظام الأسد، ونحن نراهن على فشله حتى لو كسبوا المعارك العسكرية، لأنه ستعقبها جولات لن يستطيع الإيرانيون وحلفاؤهم الاستمرار في تحملها.
لأن طبيعة المواجهة، سياسيَّا وعسكريَّا، قد تغيّرت وتبدّلت بعد التدخل الروسي الذي من الواضح أنه سيزداد وسيتعاظم وسيتّخذ أشكالاً أكثر خطورة. وكذلك، ولأنه لا بد على المدى القريب أو البعيد من أن يكون هناك حلٌّ ستُمليه أو على الأقل ستؤثّر فيه موازين القوى المستجدة، فإنه لا بد، بل من الضروري، أن تبادر المعارضة السورية، المعتدلة طبعًا، إلى التخلص من حالة التشرذم هذه التي تعيشها الآن، والتي إن كانت مقبولة ومحتملة في السابق وعلى مدى نحو أربعة أعوام متواصلة، فإنه لم يعد مقبولاً ولا محتملاً أن تستمر وتتواصل بعد كل هذه التطورات الخطيرة فعلاً وبعدما أصبحت الأمور على ما هي عليه.
لا يجوز على الإطلاق، وقد غدت «الثورة السورية» مهددة بوجودها، وأصبحت هناك ملامح حلول مطروحة، بعدما طرأ واستجدّ هذا العامل الروسي الخطير، تشير كلها، إنْ لم تتوحّد «المعارضة» عسكريًا وسياسيًا وتفرض نفسها وإرادة شعبها على الأحداث، إلى أن هناك انتكاسة قادمة لا محالة، أقلّها أن تثبِّت روسيا وبالقوة وبالحديد والنار بشار الأسد إلى ما بعد انتخابات رئاسية جديدة قادمة.
إنَّ هناك من يقول، إن عدد فصائل المعارضة، المعتدلة بالطبع، قد وصل إلى أربعين فصيلاً، وهذا غير «داعش» و«النصرة»، وبعض التنظيمات «المايكروسكوبية» الصغيرة غير المتداولة أسماؤها في وسائل الإعلام. وحقيقة، إن هذا التشرذم إن هو استمر، فإنه سيكون على حساب دماء مئات الآلاف من «الشهداء» والجرحى والمعتقلين والمفقودين، وعلى حساب ملايين المُهجّرين واللاجئين الذين لم يدفعهم إلى مرارة ما يكابدونه إلَّا الأمرّ منه، والذين قد تصل أعدادهم إلى أضعاف أضعاف هذه الأعداد الفلكية الحالية المرعبة.
إنه لا يجوز أن تستمر هذه الوضعية المربكة على الإطلاق؛ فالدول الداعمة، العربية وغير العربية، تريد جهة واحدة تتعاطى معها، وكذلك فإن المواجهة المتصاعدة مع جيوش نظامية يوفّر لها الروس الحماية الكافية من الجو لا يمكن أن تكون فاعلة ومجدية في ظل هذا التشرذم الذي أغرى، وسيغري أكثر أطرافًا وجهات خارجية كثيرة على المزيد من التدخل والمزيد من التلاعب في الشؤون الداخلية السورية.
الآن، تغيّرت المعادلات فتغيّرت طبيعة المواجهة، وتغيّرت أساليب وطبيعة الاشتباك، ولذلك فإن النتائج ستكون بالتأكيد كارثية إنْ لم تسارع المعارضة، المعتدلة بالطبع، إلى إعادة ترتيب صفوفها وإلى الاتفاق على برنامج الحد الأدنى، عسكريًا وسياسيًا، وإلى أن تصبح هناك قيادة واحدة يكون القرار الأول والأخير قرارها على الصعيد العسكري وعلى الصعيد السياسي وتخاطب شعبها، الشعب السوري، والعرب والعالم بلغة واحدة وكل هذا على أساس برنامج الحد الأدنى الوطني الذي يشكّل النقطة التي تلتقي عندها كل التنظيمات والفصائل ويوافق عليها ويدعمها الجميع.
لقد أصبح هناك الآن «حلف بغداد الجديد» الذي يضم - بالإضافة إلى روسيا، الدولة الكبرى أو العظمى - إيران التي غدت تحتل دولتين عربيتين احتلالاً مباشرًا، والذي يضم أيضًا النظامين العراقي والسوري وإلى جانب هؤلاء كلهم حزب الله اللبناني الذي كان أول المنخرطين في المعركة إلى جانب نظام بشار الأسد الذي خُصص له محورٌ رئيسي في الهجوم الذي تقرر شنَّهُ وتنفيذه ضد الجيش الحر وفصائل المعارضة بمشاركة باقي ما تبقّى من قوات هذا النظام وقوات الحرس الثوري الإيراني، وأيضًا القوات الخاصة والقوات الجوية الروسية. وهذا يتطلب، مرة أخرى، أنْ تتخلّص المعارضة الوطنية السورية، ومن ضمنها الجيش الحر بالتأكيد من حالة التشرذم هذه المربكة؛ إذ إنه غير جائز بعد هذا الاصطفاف الأخير الجديد على جبهة الخصْم أو العدو أنْ يبقى «الثوار» يتوزعون على نحو أربعين تشكيلاً كل تشكيل له قواته وقيادته وله تحالفاته الخاصة ويقاتل في المعركة منفردًا ومن دون أي تنسيق مع الآخرين، وإنْ على أساس الحد الأدنى.
وهنا، وحتى لا يُفهم هذا الموقف ولا تفهم هذه الدعوة على أنهما تحامل مقصود هدفه الإدانة وتثبيط العزائم، لا سمح الله، فإنه لا بد من التأكيد، مثنى وثلاث ورباع، على أنَّ الذنب ليس ذنب الشعب السوري على هذا الصعيد، وفي هذا المجال، كما أنه ليس ذنب هذه الفصائل التي افتقرت إلى «العمود الفقري» منذ اللحظة الأولى وافتقرت إلى التنظيم الأم على غرار ما شكّلته حركة فتح ولا تزال تشكّله بالنسبة للمقاومة الفلسطينية.. إن الذنب هو ذنب القوى والأحزاب التي تناوبت على الحكم في سوريا منذ منتصف خمسينات القرن الماضي وحتى الآن، وإن الذنب هو ذنب تلك التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) التي أرست دعائم صيغة استبدادية متخلفة كان يجب ألا تكون، وخاصة أن أصحابها قد اعتبروها الأنموذج الذي يجب أن يتّبع في الوحدة العربية الكبرى المنشودة.. في ذلك القرن، القرن العشرين، وفي القرون المقبلة. في عام 1954 أجريت انتخابات نيابية (برلمانية) في سوريا، بعد سلسلة الانقلابات العسكرية التي كانت في معظمها دموية، والتي كان بدأها الجنرال حسني الزعيم في عام 1949، وقد أجرى هذه الانتخابات أديب الشيشكلي الذي كان بدوره قد جاء إلى الحكم بانقلاب عسكري، وحقيقة في ضوء نتائجها بالإمكان القول إنها كانت نزيهة ونظيفة حصل خلالها حزب الشعب على ثلاثين مقعدًا من أصل 140 مقعدًا من مقاعد البرلمان في حين حصل حزب البعث على 22 مقعدًا، و«الإخوان المسلمون» على أربعة مقاعد، وحزب التعاون على مقعدين، والحزب السوري القومي على مقعدين، وحركة التحرر العربي على مقعدين، والحزب الشيوعي على مقعد واحد، والمستقلون على ستين مقعدًا.
ويقينًا، إن تلك البداية كانت واعدة، وإنه كان بالإمكان أن يكون مسار سوريا السياسي غير هذا المسار المؤلم لو لم يقطع العسكريون، الطامعون في الحكم والمتلهفون إليه، الطريق على تلك البداية، والذين هروبًا من مخاوفهم وإمعانًا في مناوراتهم أخذوا هذا البلد القومي فعلاً، الذي لا يزال شعبه قوميًا رغم ما عانى من مصائب وذاق من ويلات، إلى تلك التجربة الفاشلة مع مصر أي تجربة «الجمهورية العربية المتحدة» التي انتهت نهاية مأساوية كما هو معروف.
والمشكلة أن الرئيس جمال عبد الناصر، رحمه الله، الذي أبدى ترددًا جديًّا قبل الإقدام على تلك الخطوة، التي ثبت أنها كانت متسرعة ولم تحسب حساباتها بصورة جيدة، قد اشترط على الضباط البعثيين والقوميين الذين جاءوه حاملين لواء «الوحدة الفورية» ضرورة إلغاء كل الأحزاب السورية القائمة، بما في ذلك حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان هو صاحب هذه الفكرة الوحدوية مع مصر وأكثر المتحمسين لها، ومنْع قيام أي تنظيم حزبي في دولة الوحدة باستثناء «الاتحاد القومي» الذي تم حلُّه بعد «الانفصال» ليحل محله الاتحاد الاشتراكي العربي في عام 1962.
والأخطر بالنسبة لما اشترطه عبد الناصر للاستجابة لضغط الضباط البعثيين (السوريين) والقبول بوحدة الثاني والعشرين من فبراير (شباط) عام 1958 أن مَنْع الأحزاب السياسية في سوريا والإبقاء على الحزب القائد الواحد قد استمر مع تسلُّم حزب البعث للسلطة في سوريا بانقلاب على حكم الانفصال في الثامن من مارس (آذار) عام 1963، وهو أي هذا المَنْع قد بقي مستمرًا منذ ذلك الحين، وحتى الآن، مرورًا بانقلاب الثالث والعشرين من فبراير عام 1966، وانقلاب حافظ الأسد في عام 1970.
لقد دمَّرت هذه المسيرة البائسة الحياة السياسية في سوريا. ولهذا، عندما اضطر الشعب السوري إلى الثورة على الاستبداد في عام 2011، فإنه لم يجد أي إطار حزبي بالإمكان البناء عليه ووجد نفسه أمام كل هذه التنظيمات والتشكيلات المتعددة والكثيرة.. لقد كان بالإمكان التعايش مع وجود نحو أربعين تنظيمًا في الساحة الوطنية السورية والقبول به قبل أن تتطور الأوضاع وتدخل روسيا الحرب بكل ثقلها، أما وقد تغيّرت الأمور والأوضاع على هذا النحو فإنه لا بد من لملمة الصفوف، وإنه لا بد من إنهاء هذا التشرذم والإسراع في الاتفاق على إطار جبهوي بقيادة عسكرية وسياسية موحدة.
هل قرر باراك أوباما إغراق فلاديمير بوتين في المستنقع الدموي السوري؟
السؤال ضروري بعدما ألقت أميركا جواً خمسين طناً من الذخائر الى مقاتلين من المعارضة، وهي دفعة أولى قال "البنتاغون" إنها تشكّل توجهاً جديداً عند الإدارة الأميركية، وهدفها التركيز على تزويد مجموعات منتقاة الأسلحة ومنها أسلحة نوعية، وتأمين دعم جوي لها لتكون قادرة على شن هجمات منسقة على "داعش"!
والسؤال ضروري ايضاً بعد قيام تحالف جديد اسمه "قوات سوريا الديموقراطية" يضم ثماني تنظيمات مقاتلة بينها "وحدات حماية الشعب الكردية" التي طردت "داعش" من كوباني، وهذه المجموعات تقاتل على جبهتين، جبهة ضد النظام وجبهة ضد "داعش"، وتصف التدخل العسكري الروسي بأنه عدوان على الشعب السوري.
صحيح ان القوات الأميركية وضعت العملية في إطار تعزيز قوات المعارضة ودعمها لطرد "داعش" من الرقة وكل الأراضي السورية، وصحيح ان هذه المجموعات تقاتل على الحدود الشمالية مع تركيا بعيداً من مواقع أخرى للمعارضة التي تقاتل على تخوم المناطق العلوية، لكن العملية ليست سباقاً أميركياً - روسياً على قصف "داعش"، بل ربما تحوّلت بداية حرب بالوكالة بين بوتين وأوباما.
عام ١٩٧٩ انزلقت موسكو الى الحرب الأفغانية التي استمرت عشرة أعوام في ظروف مشابهة، وليس خافياً على بوتين الآن وهو يقتحم المسرح السوري وسط معارضة دولية واسعة، ان ليس هناك من يؤيد هذا التدخل سوى بشار الأسد، وان حلفاءه الإيرانيين منزعجون ضمناً من اقتحام الدب الروسي سوريا حديقتهم الخلفية، وان كانوا يقاتلون مع الأسد على الأرض!
لكنه عندما يضع عمليات القصف التي ينفذها على روزنامة العمليات الميدانية التي يقررها النظام ويقول إن انتهاء عملياته الجوية مرتبط بانتهاء عمليات الجيش السوري على الأرض، فإنه يدخل الحرب علناً ضد المعارضة التي يبدو ان أوباما قرر الآن تزويدها أنياباً، وهو ما سيؤجج المواجهات ويزيد التورط الروسي، خصوصاً ان الأسلحة الاميركية التي تلقى في الشمال سرعان ما ستقاتل على تخوم حمص وحلب ودمشق.
يوم الأحد بالغ بوتين في السخرية من أوباما بقوله: لقد خططوا لتدريب ١٢ ألفاً ضمن برنامج الجيش الحر، وانخفض العدد الى ستة آلاف، وفي النهاية دربوا ٦٠ شخصاً لم يقاتل منهم سوى اربعة أو خمسة، لكنهم أنفقوا على ذلك ٥٠٠ مليون دولار، وكان من الأفضل لو أعطونا هذه الملايين لكنا استعملناها أحسن في مكافحة الإرهاب.
وقبل ان يصل كلام بوتين الى واشنطن كانت محطة "cnn" تذيع خبر إلقاء الأسلحة الى المعارضين في الشمال، لكن السؤال الأكثر إلحاحاً يتصل بما اذا كانت واشنطن ستصل الى حد تسليم المعارضين سلاحاً مضاداً للطائرات رفضت تسليمه اليهم دائماً على رغم المذابح التي ارتكبها القصف الجوي والبراميل المتفجرة !
حلب مدينة الصمود في الشمالي السوري وقلب الثورة النابض، حلب أم الشهداء عبد القادر الصالح ويوسف الجادر أبو فرات وأبو خالد عزيزة وآلاف الشهداء الأحرار الذين قدموا أرواحهم رخيصة لتحرير مدينتهم وريفها الصامد من براثن الإحتلال الأسدي والإيراني قبل أن تتكالب عليها كل قوى الشر من كل الجهات.
ففي الوقت الذي يحاول النظام السيطرة على الأحياء المحررة في مدينة حلب ويضيق الخناق على المدينة من قصف يومي بشتى أنواع الأسلحة من طائرات وراجمات ، يخرج من يدعي وقوفه مع الثوار في حي الشيخ مقصود ليشغل المرابطين على جبهات القتال ويسيطر على الحي وطريق الكاستيلو المنفذ البري الوحيد لمدينة حلب باتجاه الريف ويخلق توتراً كبيراً في المدينة اضطر بعض الفصائل لتوجيه قوتها باتجاه الحي ومحاصرته منعاً لدخول عناصر من شبيحة النظام عبر الحي الى المناطق المحررة بعد عدة معلومات وصلت عن تورط حزب الي كي كي المسيطر على الحي بإدخال عناصر من الشبيحة لخلخلة الأمن في الأحياء المحررة بالإتفاق مع ضباط من نظام الأسد في حلب.
ولم يكمل الثوار تجهيزاتكم لإستعادة الحي وسط المعارك المستمرة في ريف حلب الشمالي مع تنظيم الدولة الخنجر المسموم في خاصرة حلب الشمالية والشرقية تاركاً جبهاته مع النظام تنعم بالأمن زاحفاً بقواته ومفخخاته باتجاه بلدات ريف حلب الشمالي وتحت غطاء جوي للطيران الروسي الذي مهد أمامه بقصف مقرات الثوار وساندته المدفعية الثقيلة لقوات الأسد فكان ما كان من تراجع للفصائل التي سقط العديد من عناصرها بين شهيد وأسير بعد وصول عناصر التنظيم الغادر لمدرسة الشهيد يوسف الجادر في المسلمية وبسط سيطرته عليها ثم رد الجميل لقوات الأسد بتسليمها المنطقة الحرة وسجن الأحداث ومحيط جبل عنتر لتفتح جبهات جديدة مع قوات الأسد وتنظيم الدولة في ان واحد.
كل هذه التطورات وفصائل حلب تشهد إنقسام وراء إنقسام فبعد أن كانت الجبهة الشامية من أكبر الفصائل العاملة في حلب يضاف اليها جبهة النصرة وحركة أحرار الشام الإسلامية وفصائل اخرى شهدت الجبهة الشامية في الآونة الأخيرة إنقسامات كبيرة كان أولها خروج كتائب ثوار الشام تلاها حركة نور الدين زنكي وجيش المجاهدين وتجمع فاستقم كما أمرت وعدد من الفصائل الأخرى التي عادت لمسمياتها قبل إندماجها في الجبهة وتنوعت الخلافات وكثر الشقاق والتفرقة في الوقت الذي كانت فيه حلب بأمس الحاجة لتوحيد الكلمة والجهود لمواجهة كل الحاقدين على حلب وكل من يريد أن يطفىء نور الثورة وشعلتها في الشمال السوري.
واليوم وبعد كل هذه الإنقسامات والهزائم مع استمرار عمليات التقدم لتنظيم الدولة الرامي للسيطرة على كامل الريف الشمالي وقطع كل الطرق المؤدية للحدود التركية بين حلب والشمال إلا من بلدات ترك مهمة الوصول إليها لقوات الأسد في نبل والزهراء كانت محاصرة ولا طريق لها إلا من جبهة باشكوي واليوم عزز لها الطرق وساند قوات الأسد في فتح طرق جديدة وجبهات جديدة قد تفك الحصار عنهم في أقرب وقت ،وبعد النداءات المتسارعة لكل قادة الفصائل لتوحيد جهودها أو الإستقالة وترك مناصبهم باتت حلب اليوم في أمس الحاجة لرجل كعبد القادر صالح أو يوسف الجادر أبو فرات يخرج من بين ألاف الأبطال ويرفع الراية عالية ليعيد لحلب وشعبها العزة والكرامة المسلوبة والمهددة بمفخخات التنظيم وطائرات الروس.
فالنداء الأوحد اليوم لكل التشكيلات أن تترك خلافاتها جانباً وتعمل على توحيد الجهود بعيداً عن مصالحها وتبعياتها ولتكن مصلحة الشعب المشرد والثورة المهددة بالسقوط هي العليا فشعارات الإعلام لاتكفي وبات لزاماً إنقاذ حلب من السقوط الذي ستعم عواقبه كل مناطق سوريا من شمالها لجنوبها ومن غربها لشرقها.
إن ما تمر به الساحة الشامية من أحداث وتطورات وتحالفات لكل قوى الشر في وجه الشعب الثائر في سوريا قد تعدت مجرد الوقوف في وجه ثورة شعبية تطالب بإسقاط حاكم جائر لتغدو حرباً حقيقية لإزالة الوجود السني في بلاد الشام.
وتقود هذه الحرب قوى الشرق الاستعمارية وعلى رأسها إيران وروسيا واللتين جندتا لذلك عشرات الميليشيات الشيعية من العراق ولبنان وأفغانستان وإيران وأخضعتها لتدريبات كبيرة في معسكراتها قبل أن ترسلها لتكون سنداً ورأس حربة في مساندة جيش الأسد والطائفة الشيعية لحرب أهل السنة وإنهاء وجودهم وتفكيك مكوناتهم وتهجيرهم من أرضهم وانتهاك حرماتهم وقتل أبنائهم .
واليوم وبعد خمس سنوات من الثورة السورية وتكالب كل القوى كان أخرها دخول الروس بشكل علني على خط المواجهة ومساندتها لقوات الأسد بقصف المناطق المحررة والمعارك الدائرة على عدة جبهات يقابلها تصدي بطولي لكتائب المجاهدين من كل الأشكال والكتائب اجتمعوا في خندق واحد لصد العدوان وطائرات الروس من فوقهم أسراب من مروحيات وطائرات حربية حديثة وعلى الأرض راجمات وصواريخ تطلق من مسافات بعيدة تحمل بعشرات الأطنان من القنابل والمتفجرات ودبابات الأسد ومجنزراته تتقدم بكثافة ولا تأبه لكل ما يتدمر منها، فهدفها التقدم وكسر الطوق الدفاعي الذي أوجدته فصائل الثورة من فصائل إعتاد البعض أن يسميها إسلامية وفصائل الجيش الحر مع الأخذ بعين الاعتبار أن رجالات هذه الفصائل ليسوا من كوكب المريخ ولا من عهد الصحابة بل هم من أبناء هذا الشعب وهذه البلدات التي تقصف وتقتل ومن كل المحافظات جمعتهم كلمة واحدة " الله أكبر " وشتّتهم التسميات بين فصيل وأخر لتتلاشى هذه التسميات وسط غبار المعارك، ويساند الأخ أخاه ويداوي جراحه ويدافع عنه إن ألمت به مكربة ويحمي ظهره إن غفت عيناه ليأخذ قسطاً من الراحة وينسى أعباء الحرب وأوجاع فراق الأصحاب .
ووسط كل هذه التضحيات وبعد ألاف الشهداء ممن ارتقوا على درب النضال والجهاد والكفاح لصد تقدم قوى الشر والذود عن دين الله في الأرض يأتي من باع ضميره بحفنة من دولارات ضئيلة قدمتها له دول الغرب المدعية نصرة الشعب السوري، وهي لو أرادت ذلك لأنهت معاناته منذ سنوات ولما وقفت تترقب كل هذه المجازر بحق الأطفال والنساء لا بل إنها هي من قوت لها في سوريا مجموعات وفصائل لخدمة مشاريعها وخلخلة صفوف الثوار فينتقد هذا ويهاجم ذاك من الفصائل والقيادات ويفضح الأخطاء الصغيرة عبر وسائل الإعلام ليظهر هذا الفصيل أو ذاك في موضع العدو للشعب والثورة لغايات منها شخصية ومنها سياسية تقف ورائها دول ومؤسسات مشى ورائها دونما أدنى تفكير لحجم الضرر الذي قد يسببه في ما نشر أو روج وكان الأولى به أن يعالج هذه الأخطاء بطرق سليمة بعيدة عن الإعلام والتشهير والتطبيل بل وتعقيد الأحداث وزرع الخلاف والشقاق بين المجاهدين على الأرض ولو ترك الأمر لهم لحل في مكانه وزمانه وضمن الأصول المتعارف عليها دون أن يفضح للعلن ويشوه مسيرة شعب ثائر صامد في وجه أعتى حملات استعمارية، كان الأولى بهم أن يساندوا هذا الشعب لا أن يهربوا خارج الحدود ويعملوا على نخر عظم الثورة ودس السم والفتنة بين المجاهدين ولو كان لهم أخطاء فكل بني أدم يخطئ وليس المجاهدين بملائكة أو أنباء معصومين عن الخطأ.
وفي ظل الأحداث المتسارعة اليوم والمعارك الدائرة على طول خط المواجهة مع قوات النظام من ريف حماة شرقاً حتى سهل الغاب والجب الأحمر وريف اللاذقية غرباً، وفي ظل الانتصارات المتتالية لفصائل الثورة وتدمير عشرات الدبابات وقتل المئات من عناصر الأسد وضباطه بات لزاماً على كل ثائر أن يواجه حملات التشويه والطعن بالمجاهدين من الخلف عبر مواقع التواصل الاجتماعي من قبل أشخاص منهم معلوم ومنهم من تخفى وراء أسماء وهمية ينهش في لحم المجاهدين ويثبط هممهم، يضخم الصغائر ويصغر العظائم متناسياً كل هذه التضحيات والبطولات على مر كل هذه الأعوام ليلاحق أخطاء فردية ومشادات كلامية يجعل منها حدثاً عظيماً وانتهاكاً للثورة تاركاً ورائه كل الانتهاكات التي اجتمعت على ممارستها كل القوى المعادية لإرادة الشعب الثائر في سوريا من تحالفات قوى الشرق وتنظيم الدولة والغرب المتخاذل والعرب النائمين عن قضيتهم التاركين لصون صلاتهم وقرأنهم وهو يحرق أمام أعينهم في كل بلاد المسلمين.
زين العمر
أطلق الجيش الروسي صواريخ «كروز» من بحر قزوين إلى سورية من دون أي إنذار مسبق لحلف شمال الأطلسي. ومن المفترض أن خط سير الصواريخ الروسية كان من بوارج حربية في بحر قزوين مروراً عبر إيران والعراق ووصولاً إلى سورية. وقال مسؤول أميركي لـ «سي أن أن» أن أربعة صورايخ منها سقط في إيران من طريق الخطأ.
إذا أراد المرء أن يرتّب عناصر هذا الخبر وفق الأهمية، فإن العنصر الأول فيه هو عدم إنذار حلف شمال الأطلسي مسبقاً بالخطوة، ذاك أن خط سير الصواريخ يحفّ بمناطق عمل الحلف في العراق وفي سورية، ناهيك بأنه يستهدف مناطق محاذية لقواعد الـ «ناتو» في تركيا. إذاً ثمة قرار روسي بالمواجهة، أو باستطلاع الجاهزية الأطلسية في ظل الإنكفاءة الأوبامية. وهو استطلاع بالنار هذه المرة، ويأتي بعد خطوة ميدانية روسية في أوكرانيا كشف فيها الأطلسي تردّده وتقديمه الحصار الاقتصادي على نجدة حليفه الأوكراني ميدانياً.
يُرتّب هذا الحدث الهائل احتمالات كبرى، منها أن تصطدم الصورايخ بخطوط طيران تعتمدها مقاتلات التحالف الدولي العاملة في سورية والعراق، ومنها أخطاء في الأهداف كأن يُكمل الصاروخ سيره نحو تركيا أو إسرائيل، وهو احتمال يصبح واقعياً إذا ما تأكد خبر سقوط صواريخ في إيران.
لا يبدو أن عدم إنذار الناتو خطأ تقنياً. من المرجح أن يكون جزءاً من أهداف الحملة الروسية. وعند هذا الاحتمال المرجّح نصبح أمام حقيقة أن ما قدم الروس من أجله إلى سورية، ليس مغامرة كبرى وحسب، وإنما قرار بإحداث تغيير في المعادلات الدولية يتعدّى سورية. وإذا كان صاحب هذه الإرادة ضعيف القدرة على القيام بها، فإن احتمالات المواجهة تصبح أكبر.
نعم روسيا ليست في وضع يتيح لها أن تستعيد الموقع الدولي للاتحاد السوفياتي، وفي الوقت نفسه يحثّ رئيسها فلاديمير بوتين الخطى نحو استعادة الموقع. وفي هذا الوقت لا يمكن للـ «ناتو» أن يجري حساباته تبعاً لطموحات بوتين، إنما تبعاً لتقييمه الفعلي والواقعي لحجم موسكو، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
إذا اعتمد المرء هذا المقياس في التوقّع فسيخرج منه بحقيقة أن المنطقة تستعدّ لمواجهة كبرى بين حلف شمال الأطلسي وبين روسيا. قبول الأطلسي بخط سير الصواريخ الروسية، وباحتمالات الأخطاء، وبعمل المقاتلات الروسية في مجالاته الجوية في سورية والعراق، وباقتراب المهمة الروسية في سورية من قواعده في تركيا، يعني قبوله بالعودة إلى قواعد لعبة الحرب الباردة التي انتصر فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ومن المرجّح أن هذا القبول لا يقوى عليه الأطلسي بكل مكوّناته. فالمزاج الإنكفائي للرئيس الأميركي باراك أوباما لا يعني قدرة الأخير على الموافقة على أن تخسر أميركا إنجازها الأكبر في القرن العشرين، والمتمثل بانتصارها في الحرب الباردة.
ثم إن بوتين تجاوز قواعد عمل الحرب الباردة عبر إطلاقه الصواريخ من بحر قزوين إلى سورية، وعبر خطّه طريقاً لمقاتلاته على حدود خطوط عمل مقاتلات التحالف في سورية وفي المجال الجوّي التركي. فقواعد العمل تلك اقتضت إرسال صواريخ إلى كوبا في أزمة خليج الخنازير، وليس إطلاقها، ولم تخرق المقاتلات السوفياتية يوماً الأجواء الباكستانية في مرحلة المواجهات في أفغانستان.
اذاً لعاقل أن يعتقد بأن المواجهة قادمة لا محالة. وما يُعزّز هذا الاعتقاد هو أن موسكو تتصرّف مع دخولها سورية بصفته افتتاحاً لزمن ما قبل سوفياتي. إنه زمن إمبراطوري كانت فيه منافِسة رابحة في الشرق. وهو «حرب مقدسة» وفق الكنيسة الروسية. وهي، أي موسكو، استعاضت عن آلة الترويج الإيديولوجية السوفياتية بآلة ترويج قومية ودينية نجح فيها بوتين بإقناع الروس الذين يعيشون تحت وطأة حصار اقتصادي خانق بأن جيشهم سيعيد بعث أمجادهم.
أمام هذه المؤشرات عن الطموحات «الإمبراطورية»، لا يمكن للروس أن يبقوا في الجوّ. المهمة تقتضي «نصراً» برّياً. فالغارات الجويّة ستخسر «بريقها» الانتصاري بعد أسابيع قليلة، وجيش بشار الأسد لا يقوى على الإنجاز، والأميركيون بدأوا يتحدثون عن توقعاتهم بخسائر بشرية روسية وشيكة.
أمام الأطلسي خياران، إما المواجهة المباشرة، أو الانضواء في «حرب مقدسة» في مواجهة «حرب مقدسة». في أفغانستان جرّب الحلف الخيارين. خاض «حرباً مقدسة» أيام الجهاد الأفغاني، ما زال يحصد النتائج الكارثية لانتصاره فيها عبر ما ولّدته من خبرات «جهادية» قاتلة، وخاض حرباً مباشرة في العام 2001 أدت إلى احتلاله أفغانستان وفشله في اجتثاث طالبان.
لكن أن يضع المرء حسابات الحروب ونتائجها على طاولة البحث في ظل حدث هائل من نوع العودة إلى قواعد الحرب الباردة، فإن الخيبات «الصغرى» تصبح خياراً لا بد منه. المواجهة المباشرة مع الروس لا تبدو واقعية، والقول إن العودة إلى خيار «الحرب المقدسة» بصيغتها الأفغانية لن تحصد غير الخيبات، فيه تغاضٍ عن حقيقة أن هزيمة السوفيات هناك كانت مدخلاً لهزيمتهم الكبرى لاحقاً. وصحيح أن واشنطن حصدت «القاعدة» ولاحقاً «داعش» وبينهما «11 أيلول» في سياق هذه «الحرب المقدسة»، لكنها أيضاً حصدت انتصار القرن المتمثل بانهيار الاتحاد السوفياتي.
شقّ صاروخ الكروز الروسي طريقه بين كل هذه الحسابات، والأرجح أن بوتين في مسارعته إلى طمأنة إسرائيل، عبر إرسال نائب رئيس أركانه إلى تل أبيب، إنما فعل ذلك لنقل المشهد إلى سوية مختلفة عن السويّة الأفغانية، فالحروب المقدّسة على تخوم إسرائيل ستبعث رعباً هناك، وهو يعرف ما تمثله إسرائيل في الوعي الغربي. لكن الرئيس الروسي لا يستطيع تجنّب حرب مقدسة على حدود إسرائيل، والذهاب إليها على حدود تركيا.
ستجد واشنطن نفسها هذه المرة أمام خطوة لا بد منها، وهي الاستثمار بجماعات سوريّة تتولى مهمة إفشال المهمّة الروسيّة هناك. الأرجح أنها ستحاول تفادي «الأخطاء الأفغانية»، لكنها ستكتشف أنه لا يمكن ارتداء قفازات في «الحروب المقدّسة».
تركيا ستكون مستعدة اليوم للمهمة التي تولّتها باكستان في تلك الحقبة، وهي أصلاً باشرتها قبل الدخول الروسي إلى سورية، وبدأت ملامح سلاح جديد تظهر في أيدي مقاتلي «جيش الفتح».
ومثلما لن نشهد، نحن أهل المنطقة، أكثر من جهنم على أيدي قيصر الكرملن، فإن جنّة «جيش الفتح» لن تكون أكثر من «إمارة الرقة».
هذه ليست مجرد مبارزة بين فلاديمير بوتين وأبو بكر البغدادي. ليست مجرد معركة لضمان موقع روسيا في سورية. ليست مجرد محاولة للاحتفاظ بوجود عسكري على شاطئ المتوسط. ليست مجرد عملية تتعلق بحسابات النفط والغاز والأنابيب والممرات. إنها أكبر. إنها أخطر
هل ترانا نبالغ إذا قلنا إن التدخل العسكري الروسي في سورية بذيوله الإقليمية والدولية أخطر من هجمات 11 أيلول (سبتمبر). وإن إطلالة بوتين الجديدة عبر الصواريخ التي أطلقتها البوارج الروسية من بحر قزوين لا تقل خطورة عن إطلالة البغدادي من الموصل. وإن ما ألحقته صواريخ البوارج بصورة أميركا في المنطقة والعالم لا يقل عما ألحقته طائرات بن لادن بالبرجين. ففي الهجومين كانت هيبة أميركا هي الهدف الأول حتى ولو تغطى الهجوم الروسي بلافتات أخرى.
من المبكر المسارعة إلى عقد المقارنات بين قرار جورج بوش الذهاب إلى الحرب رداً على جرح نيويورك وقرار بوتين الذهاب إلى الحرب دفاعاً عن مصالح بلاده وصورتها وسعيه إلى تعزيز موقعها. لم نصل بعد إلى تلك المرحلة. وأغلب الظن أن بوتين لا يريد تكرار خطأ بريجنيف في أفغانستان وخطأ بوش في العراق. لكن التجارب تقول إن أرض المعركة قد تفاجئ أبرع الجنرالات وما دبجوه على الخرائط في غرف العمليات.
حين أعلن البغدادي «دولة الخلافة» لم يتوقع أن تنهمر عليه باقات الورود والتهاني وأن يتسابق السفراء لتقديم أوراق اعتمادهم. كان يعرف أن دولته انتحارية. وأن إعلانها على أجزاء من خريطتين يشكل أوسع عملية انتحارية في التاريخ المعاصر. يرجح أن البغدادي حلم بما تعذر على أسامة تحقيقه وهو استدراج الآلة العسكرية الأميركية إلى مكان يتعذر فيه الانتصار واستنزافها ثم إرغامها على المغادرة مثخنة كما حل بـ «الجيش الأحمر» السوفياتي.
اعتبر بوتين المحنة السورية فرصة كبرى لاستنزاف هيبة أميركا. شهر سيف الفيتو في مجلس الأمن. لن يسمح بتكرار ما يعتبره «الخديعة الليبية». أصيب الرئيس الأميركي المتردد بهاجس الابتعاد عن النار السورية. حين يطالب رئيس القوة العظمى الوحيدة رئيساً أن يرحل ولا يملك إرادة إرغامه وحين يضع «خطاً أحمر» ويتجاوزه المستهدف، يخسر صاحب الإنذار سريعاً معركة الهيبة والصورة. خدعه القيصر في محطة مفصلية. حين اكتفى أوباما بنزع السلاح الكيماوي من يد النظام السوري من دون اشتراط أن يتضمن الحل إطلاق مرحلة انتقالية سلّم عملياً ببقاء النظام. وحين يوافق أوباما على معاملة إيران وكأنها دولة كبرى في مفاوضات الاتفاق النووي، لماذا لا تتقدم روسيا للثأر من الإذلال الأميركي الطويل لموقعها وأسلحتها.
بدا الرئيس الأميركي المتردد مربكاً لحلفائه وحليفاً لأعدائه. قرأ بوتين المشهدين الدولي والإقليمي وسدد ضربته. لا يريد أوباما إنهاء إقامته في البيت الأبيض مستقبلاً جثث الجنود العائدة من الشرق الأوسط. أربع سنوات من الحرب في سورية أظهرت حدود الدور الإيراني وطابعه غير الحاسم. تركيا انزلقت إلى حرب على أراضيها والإرهاب نقل النار إلى الدار. وسلوك تركيا أقل بكثير من تهديدات سلطانها. السعودية منشغلة بحربها في اليمن وروسيا بادرتها بسلوك إيجابي في مجلس الأمن. أما أوروبا فمرتبكة بأمواج اللاجئين المرشحة للازدياد. سدد بوتين ضربته.
المسألة أكبر من إنهاء البغدادي ودولته. وأكبر من تحديد مصير الرئيس بشار الأسد ونظامه. وأكبر من تحويل الهلال الإيراني هلالاً روسياً - إيرانياً. إنها عملية انقلاب واسع على التوازنات التي قامت على ركام الامبراطورية السوفياتية. إنها عملية ثأر من أميركا التي انتزعت لقب القوة العظمى الوحيدة من دون أن تطلق رصاصة. وثأر من حلف الأطلسي الذي حرك بيادقه في اتجاه حدود الاتحاد الروسي. ثأر من سياسة التأديب والعقوبات والثورات الملونة والمجتمع المدني.
ليست مجرد معركة في سورية. وليست مجرد معركة على سورية. إنها معركة تسديد حسابات تؤثر نتائجها على ميزان القوى الدولي وملامح الشرق الأوسط ودوله وخرائطه وأقلياته. يستطيع بوتين تعديل ميزان القوى على الأرض لمصلحة النظام. الحسم الكامل متعذر وباهظ. يقدم سريعاً تصوراً لحل شبه مقنع أو يغرق تدخله في «سوريستان». لم يترك لخصومه خيارات كثيرة. سيتدفق السلاح والمقاتلون. وسيتردد صدى المعارك لدى مسلمي الاتحاد الروسي وجواره. سورية فرصة الثأر قد تتحول سريعاً سورية المستنقع التي تهدد باستنزاف القيصر وبلاده.
الشرق الأوسط في أحلك أيامه. دول خائفة. وخرائط قلقة. أكثرية متوجسة. وأقليات مذعورة. دوله الرئيسية تتعرض لاستنزاف غير مسبوق يعني سلامتها ودورها واستقرارها. تحارب خارج حدودها أو داخلها.
وسط بحيرات الدم أطل القيصر وسدد ضربته. بين المغامر والمقامر خيط رفيع. يفرض سريعاً حلاً شبه معقول في سورية أو يغرق مع البغدادي في «سوريستان».
تهدر المقاتلات الروسية في سماء سورية، شمالاً وغرباً، وتخترق الحدود مع تركيا، لترمي قنابلها على ما تقول القيادة الروسية إنها مواقع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فيما تؤكد تركيا والولايات المتحدة أن عشر الغارات فقط من أصل نحو مائة استهدفت فعلاً مواقع التنظيم الإرهابي. لماذا أرسل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مقاتلاته إلى سورية، وهل سيتبعها بمغامرة إرسال قوات برية؟
يؤكد بشار الأسد جازماً أن الروس أتوا لمساندته بناء على طلبه، وقد أصبحت سلطته على حافة الانهيار، وبات يسيطر فقط على 20% من الأراضي السورية، على الرغم من البطولات المتخيلة التي يتحدث عنها حزب الله الذي يعد نفسه باستعادة زمام المبادرة والتحضير لهجوم بري بغطاء جوي روسي على الخط الساحلي من دمشق، باتجاه حمص واللاذقية (وفي الطريق معركة الزبداني المعلقة منذ أشهر). أما إيران عرّابة بشار التي تعتبر جنرالها الفاشل في العراق وفي سورية، قاسم سليماني، صاحب الفضل في إقناع بوتين بالتدخل. فهي تفاخر بأنها أعادت التوازن إلى الجبهة، وعوّضت عن عدم قدرتها على التدخل المباشر والمكشوف لأسباب واعتبارات عديدة ومختلفة، جيوسياسية ولوجيستية ومذهبية وغيرها. ناهيك عمن يعتبر أنه نجح في استدراج "الدب الروسي" إلى المنطقة ليعينه على حل مشكلاته، ويريده أن يتدخل أيضا في العراق، من أجل إيجاد توازن استراتيجي مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ولكن، هل يعرف بوتين نفسه فعلاً ماذا جاء يفعل، وماذا سيواجه، وما هو الثمن المحتمل الذي يمكن أن يدفعه، وهو الوارث للإمبراطورية السوفييتية المنهارة؟
لا شك، أولاً، أن رؤية "الحصان" الذي راهنت عليه روسيا منذ بداية شرارة الثورة السورية، لكي تتمكن من لعب أوراقها والحفاظ على دور لها في المنطقة (أنظر ما حصل لها في ليبيا)، ينهار على الرغم من الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته له. فالأسد ليس سوى "حجر" في لعبة الشطرنج ضمن الصراع على رقعة النفوذ بين الدول الكبرى، وكذلك بالنسبة لإيران الساعية إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، وتثبيت موطئ قدم لها في المنطقة العربية، وعلى ساحل المتوسط عبر البوابة السورية. وثانياً، تعاني روسيا، ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، من خطر نمو التطرف الأصولي وتوسعه من حولها، تحديداً في الشيشان، وفي محاكاته المسلمين لديها.
وثالثاً، بوتين هو فعلا وريث الإمبراطورية السوفييتية التي جاء إلى السلطة من رحمها، والذي ما زال يشده الحنين إلى ذلك الزمن، وإلى عظمة السلطة القوية والتوسعية؛ وهو الذي نشأ وترعرع في حضن جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي.جي.بي). وهذا النزوع تجسده الأزمة الأوكرانية مثالاً حياً، يجمعه، بطبيعة الحال، مع نموذج الأسد، سلطة قمعية وعقلية هيمنة ووصاية تجاه لبنان وفلسطين والمحيط. ولا بد من القول هنا إن واشنطن والحلف الأطلسي لم يوفرا منذ العام 2000 أي ضغط على موسكو، ولا أي محاولة لمحاصرتها في دول المحيط، منها جمهوريات كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. ما دفع بوتين إلى العودة إلى أجواء الحرب الباردة، طمعاً بإحياء أمجاد غابرة.
"بوتين وريث الإمبراطورية السوفييتية التي جاء إلى السلطة من رحمها، والذي ما زال يشده الحنين إلى ذلك الزمن، وإلى عظمة السلطة القوية والتوسعية؛ وهو الذي نشأ وترعرع في حضن جهاز الاستخبارات السوفييتية"
كما أن اللافت هو عملية ترويجٍ "قيصر جديد"، رافقت التدخل الروسي المفاجئ، وانطلقت قبل أن تحط المقاتلات على الأرض السورية، في حملة تعبئة وتجييش في روسيا. وقد وصل التمجيد بشخصية بوتين الفذة وشجاعته "بطلاً قومياً" في الدفاع عن مصالح روسيا العظمى، إلى درجة وضع في التداول هاتف خليوي أطلق عليه تسمية "بوتين إيفون"، وثبّت في خلفيته رأس مذهب للرئيس الروسي. وها هي الكنيسة الأرثوذكسية تهب لنجدة سيد الكرملين، بإعلانها الوقوف إلى جانب التدخل بما هو "حق مقدس للدفاع عن الأقليات المسيحية في الشرق"، في خطوة استفزازية لمشاعر المسلمين السنة. إلا أن الوقائع التي رافقت الحملة العسكرية تظهر أن الإرباك هو سيد الموقف، على الرغم من البيانات والتصريحات اليومية التي تعدد عشرات الغارات التي تصيب أهدافها (غير الواضحة!) والبطولات التي تحققها، تماماً كما تعلن الولايات المتحدة ودول التحالف الغربي عن غاراتها، هي الأخرى، ضد تنظيم داعش. غارات كانت موسكو وطهران بالأمس تعتبرانها غير فعالة، ولن تقضي على الإرهابيين. ولماذا تركيز القصف إذاً على إدلب وحمص اللتين يسيطر عليهما "الجيش السوري الحر"، أو المعارضة المعتدلة كما يحلو لبعضهم تسميتها؟
يقول مسؤول روسي إن "الهدف من التدخل منع الإرهابيين من دخول دمشق والاستيلاء على السلطة، والدفع باتجاه قيام حوار بين الأسد والمعارضة غير المسلحة". أي المعارضة التي اخترعها النظام السوري، وتجلس معه في الحكومة، ويدور بعضها في فلك موسكو؟ ثم تستدرك القيادة في اليوم الثاني، معلنة استعداد موسكو للحوار مع "الجيش السوري الحر" المسلح، ولتؤكد أنه لا خلاف مع واشنطن حول عملية الانتقال السياسي للسلطة، وأنها على تنسيق مع الولايات المتحدة، وحتى مع تركيا التي تستفزها، في الوقت عينه، بخروق لمجالها الجوي. وفي المقابل، تطمئن إسرائيل بأن حرية الطيران ستبقى متاحة لها فوق الأجواء السورية (وهذا ما فعلته تل أبيب بعد يومين على التدخل)، وأن القنيطرة لن تكون مسرحاً لحزب الله المحتفي بالحملة الروسية. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد أكد لبوتين أن "لا مشكلة لنا مع الأسد"، بعد أن اطلع بدون شك على ما كرره الأخير أن "المعركة الآن هي مع الإرهاب، وليست مع إسرائيل".
فهل يسعى سيد الكرملين إلى فرض حل سياسي بالقوة عبر التدخل العسكري؟ انطلاقاً من موقف روسيا والنهج الذي سلكته في تعاطيها مع الثورة السورية، منذ اندلاعها في 15 مارس/آذار 2011، ووقوفها إلى جانب النظام، ثم دعوتها إلى تغليب حل سياسي، لا يستثني مسبقاً دوراً للأسد فيه، يصبح من المنطقي افتراض أن موسكو قررت التدخل العسكري لتعويم "ورقة الأسد" المنهارة، لتتمكن عبرها من فرض هذا الحل، وإجبار بشار على قبوله. ويجدر، في هذا السياق، لفت الانتباه الى ما صرح به الأسد نفسه لقناة الخبر الإيرانية، قبل أيام، وعبّر فيه عن استعداده للتنحي "إذا كان هذا سيساهم في حل سياسي بين السوريين".
فهل سيستعمل بوتين الأشهر الأربعة التي أعطاها لنفسه من أجل فرض تسوية سياسيةٍ، تم التفاهم عليها مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وعلى أساسها حصل على الضوء الأخضر للتدخل؟ أم فضلت واشنطن اتخاذ موقف المتفرج، وتركته يتورّط في مغامرة عسكرية سوف تغرقه في الأوحال السورية، مثلما غرق الاتحاد السوفييتي السابق في أوحال أفغانستان.