لا يمكن أن يكون العدوان الروسي، والإيراني، على سوريا «حربًا مقدسة»، كما نُسب للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، التي أيدت قرار الرئيس بوتين بالتدخل العسكري، بل هي مغامرة ذات عواقب وخيمة تنبئ بحالة نفاق صارخ!
طوال الأزمة السورية كان العقلاء يحاولون جاهدين أن لا تنحو الأزمة منحى طائفيًا، وضرورة عدم استخدام الفتاوى، والشعارات المتطرفة، ورغم كل ما فعله، ويفعله، بشار الأسد، وخلفه إيران، كانت روسيا، ومعها الغرب، يصرون على أن تكون سوريا دولة علمانية يحافظ فيها على حقوق الأقليات، ورغم كل الجرائم التي ارتكبها الأسد، ومعه إيران، بحق الأغلبية السنية. وقبل يومين فقط قال وزير الخارجية الروسي إنه اتفق مع نظيره الأميركي على ضرورة أن تبقى سوريا علمانية، إلا أن المفاجأة كانت بإعلان الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تأييدها العدوان الروسي بسوريا، والقول إن القتال ضد «الإرهاب»، والذي لا نعلم ما هو التعريف الروسي له، خصوصًا بعد قصف الروس للمعارضة السورية، هو «معركة مقدسة»، وإن التدخل المسلح ضروري، كون «العملية السياسية لن تؤدي إلى أي تحسن ملحوظ في حياة الأبرياء المحتاجين إلى الحماية العسكرية»! وعلى أثر هذا التصريح الذي يظهر تخبط موسكو، سارعت جهات روسية للقول بأن ترجمة تصريح الكنيسة لم تكن دقيقة! وأيًّا كانت الترجمة الدقيقة، فإن تدخل الكنيسة خاطئ مثله مثل التهور الروسي.
لماذا تهور؟ الأسباب واضحة، فعندما تفاخر الصحافة الإيرانية بأنها من أقنع الروس بالتدخل في سوريا، من خلال زيارة قاسم سليماني لموسكو، وهو ما تؤكده صحيفة «الغارديان» البريطانية، التي نقلت عن دبلوماسي مقيم بدمشق قوله إن الإيرانيين أبلغوا الروس أنه «إذا لم تتدخلوا لإنقاذ الأسد الآن فإنه سيسقط، وليس بمقدورنا دعمه»، الآن، وبعد العدوان الروسي، بدأت التقارير تتحدث عن تدفق مقاتلين إيرانيين إلى سوريا، كل ذلك يعني أن الروس قد منحوا قبلة حياة للتطرف، والمتطرفين، وخصوصًا عندما استهدف الروس بضرباتهم المعارضة السورية، وليس «داعش»، ويحاولون إنقاذ الأسد، فهل هناك وصفة دمار، وجنون، أكثر من هذه؟ الروس، وكما قال وزير الدفاع الأميركي: «يصبون الزيت على النار»، كما أنهم «يستعدون السنة»، كما قال أيضا وزير الخارجية الأميركي. ولذا فإن على الروس الآن توقع ما هو أسوأ من «داعش».
خلاصة القول هي أن هذا التهور الروسي، وإن حقق مكاسب آنية، فإنه لن ينقذ الأسد بمقدار ما سيقود المنطقة ككل إلى كارثة لا تقل عما حدث بأفغانستان إبان العدوان السوفياتي، وعلينا ألا نتعجب في حال أولم مقاتلو «داعش» وليمة كبيرة، وبحضور سبايا، لزعيمهم البغدادي، احتفالاً بهذا العبث الروسي – الإيراني الذي قدم للتطرف ككل حافزًا لحرب غير مقدسة سببها جرائم الأسد وإيران، والتهور الروسي!
حصل كل من توقع أو أمل في امتلاك الرئيس الروسي بوتين لمفتاح هزيمة «داعش» أو إحلال السلام في سوريا على جوابهم: لم تستهدف الضربات الجوية الروسية الأولى داخل سوريا مواقع التنظيم الإرهابي مطلقًا.
بدلاً من ذلك، تابع بوتين عن كثب تنفيذ قواعد اللعبة التي وضعها الرئيس السوري بشار الأسد. نادرًا ما شنت قوات الرئيس السوري هجومًا حادًا وحقيقيًا على قوات «داعش» ما لم تُجبر على ذلك إجبارًا. وفي واقع الأمر، ظل الأسد ينظر إلى قوات التنظيم المتطرف باعتبارها من أوثق حلفائه، في محاولة من جانبه لإقناع المجتمع الدولي أن الحرب السورية تتألف من أحد خيارين لا ثالث لهما؛ إما الأسد أو الهمجية الوحشية. وقال بوتين في خطابه أمام الجمعية العامة هذا الأسبوع إن «الأسد يحارب الإرهاب بكل بسالة وشجاعة ووجهًا لوجه».
كلا، فالأسد لا يفعل شيئًا من ذلك أبدًا. لخلق حالة الخيارات الثنائية التي يسعى إليها الأسد، ولإلغاء أي معارضة محتملة من جانب الولايات المتحدة قد تعتبرها أوروبا معارضة مقبولة، وجّه الرئيس السوري قواته لمحاربة قوات المعارضة بدلا من «داعش»، مما يجعل منه حليفًا محتملاً بالنسبة للتنظيم الإرهابي. وعلى النقيض من ذلك، فإن الجماعات التي يحاربها الأسد، والتي وجهت روسيا إليها ضرباتها أول من أمس (الأربعاء)، تعمل وبشكل روتيني على محاربة «داعش».
إن بعضًا من تلك الجماعات هم إرهابيون كذلك. ولكن الجماعات الأخرى ليست إرهابية، بل هي ميليشيات محلية تدافع عن مناطقها ضد عمليات السلب والنهب والقتل من آلة الحرب الرهيبة للأسد.
يُعتبر اقتراح الرئيس بوتين ودعوته العالم للانضمام إلى روسيا والأسد في هزيمة «الإرهابيين» وإعادة إعمار الدولة السورية اقتراحًا معيبًا يشبه في كثير منه خطة الرئيس أوباما، سيئة الحظ، لتدريب وتجهيز جميع ميليشيات المعارضة الجديدة. ولقد انقضى ذلك المجهود المزعوم إثر تراجع عدد المستعدين لمحاربة تنظيم داعش فحسب، ونبذ حربهم مع نظام الأسد.
كيف تحول ذلك الموقف إلى مفاجأة؟ هو أمر يصعب الوقوف عليه أو تصديقه. فلقد استخدمت قوات الأسد الاعتقال، والتعذيب، والأسلحة الكيماوية، والبراميل المتفجرة، في عمليات الأرض المحروقة لاستعادة السيطرة بأي وسيلة.
من غير المعقول أن ترضى الأغلبية السنية في سوريا وبخنوع إعادة فرض حكم نظام الأسد عليهم، أو مجرد اعتباره شريكًا في القتال ضد أي شر أكبر في المستقبل. وإلى الحد الذي يتمكن من خلاله بوتين من سحق كل أوجه المعارضة الأخرى ضد الأسد، فإن الأغلبية السنية السورية سوف تلتحق بالقوة الوحيدة المتبقية والمستعدة لحمايتهم، أي «داعش».
بصرف النظر عن مقدار الوعود التي يمنحها بوتين في محاولة لإضفاء الشرعية من جانب الولايات المتحدة وغيرها من الدول على الحملة الجوية التي يشنها في سوريا، والتي تبدو كمحاولة لتقاسم السلطات، والتعهد بحكومة انتقالية متعددة الأعراق في سوريا بمجرد استعادة النظام هناك، أو حتى الرحيل النهائي للأسد ونظامه، فإن تلك العروض والوعود تتسم بقدر كبير من الخواء حتى تعكس تصرفاته على الأرض أنه تقبل الحقيقة الأساسية لذلك الصراع.
أولا، يتعين على بوتين الإقرار بأن الأسد جزء من المشكلة.
ثانيا، عليه الاعتراف بالتمييز ما بين تنظيم داعش من جانب، والميليشيات المعارضة للنظام من جانب آخر.
وأخيرًا، عليه إدراك أن أي تسوية سياسية سوف تتضمن وضع المناطق السنية تحت السيطرة السنية أو الدولية، وربما مؤقتًا، في ظل وجود الأسد من عدمه في دمشق.
ومن دون تلك الالتزامات من جانب بوتين، فلن يمكنه التعبير عن القوة الكافية لإحلال السلام على الأراضي السورية.
وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعربية أمام أمر واقع بأن لا خيار أمامهم سوى ما اختاره، لكنه قد يكون زج نفسه في زاوية. الرئيس الأميركي باراك أوباما صمم أنه لن ينجرّ الى سورية ولا حلول في جعبته لما آلت إليه الأمور، فإذا كان بوتين يعتقد بأنه يملك الحل، ليتفضل وبالتوفيق إذا نجح تكون واشنطن قادرة على القول إنها ساهمت في الإنجاح، وإذا فشل يكون مستنقع سورية مستنقعه و «أفغانستانه». انخراط وزير الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف في مفاوضات في أربع جولات أثناء تواجدهما في نيويورك هذا الأسبوع يوحي بأن لدى الطرفين قواسم مشتركة ومواقع اختلاف فهما في صدد التنسيق عسكرياً واستخباراتياً لتجنب التصادم بين غارات كل منهما في سورية وهما في اختلاف على موقع بشار الأسد في الترتيبات السياسية، اذ تتمنى واشنطن لو تتخلى موسكو عن الأسد في نهاية المطاف وليس بالضرورة في بدء المرحلة الانتقالية، فيما تود موسكو أن تكف واشنطن عن إضاعة وقتها في هذه المسألة لأن الأسد هو رجل روسيا في سورية ولن تتخلى عنه. وهنا العقدة. واشنطن مُحرَجَة لأن حلفاءها العرب ليسوا جاهزين للموافقة على تفاهمات تقضي بغض النظر عن مصير الأسد والقفز على «عقدة الأسد» وهم يصرّون على إيضاح ووضوح والتزام وضمانات بأن الأسد لن يبقى في السلطة في نهاية المطاف إذا وافقوا على التراجع عن الإصرار بأن عليه الرحيل كنقطة انطلاق. وموسكو تقول لواشنطن إن موقفها هو الأهم وأن حلفاءها لعرب سيخضعون للأمر الواقع ويوافقون على التفاهمات الأميركية - الروسية لأن لا خيار آخر أمامهم سوى ذاك. التصدّع بدأ يشق طريقه الى الصفوف العربية وبدأ بعضهم يقول إن لا خيار أمامه سوى ما فرضته روسيا على الولايات المتحدة ولبّته الإدارة الأميركية. بعضهم الآخر يرفض قطعاً أن يكون طرفاً في صيغة أميركية - روسية تؤدي، عملياً، الى الشراكة مع بشار الأسد في سحق المعارضة السورية العسكرية - وليس سحق «داعش» وأمثاله فقط. ثم هناك من يشتري المقولة الأميركية بإعطاء بوتين فرصة التورط في سورية ليكون موقع قدم انزلاقه الى حرب تشابه حرب أفغانستان التي أسقطت الاتحاد السوفياتي برمته. فالتورط السوفياتي حينذاك عسكرياً في أفغانستان أسفر عن حرب «الجهاديين» ضد «الإلحاد الشيوعي» بتشجيع اميركي وعربي ساهم جذرياً في خلق التنظيمات الأصولية المتطرفة على نسق «القاعدة» و «داعش» وأمثالهما. وأفغنة سورية اليوم لن ترحم أحداً، لكنها ستطاول روسيا التي تزج نفسها في الزاوية السورية اليوم وتنصب نفسها طرفاً مباشراً في حرب أهلية وقائداً للحرب على الأصولية والإرهاب.
جون كيري تأبط نوعاً من المكوكية وهو يأتي ويذهب من وإلى اجتماعات على المسألة السورية. فإلى جانب اجتماعاته واتصالاته الهاتفية مع لافروف اجتمع كيري مرات عدة مع مجموعة وزارية ضمّت كلاً من السعودية والأردن والإمارات وقطر وتركيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا واستمع هناك الى مقاومة عربية وتركية لطروحاته. فلقد شعر عدد من الوزراء أن كيري أتى إليهم بتفاهم ضمني بينه وبين لافروف وإن ما أراده هو «تمرير» ذلك التفاهم على رغم المواقف الأميركية العلنية التصعيدية ضد بشار الأسد على لسان الرئيس أوباما نفسه. وعندما واجه كيري تلك المقاومة، شعر أن عليه أقله التأقلم قليلاً كي لا يبدو أنه يفرض تفاهماً أميركياً - روسياً له نكهة الاتفاق الثنائي لكيري ولافروف على السلاح الكيماوي الذي توّج تراجع أوباما عن «الخط الأحمر» الشهير الذي توعّد به.
التصريحات العلنية، الأميركية والبريطانية، صعّدت تارة وتراجعت تارة وكان فحواها، كما أوضح وزير الخارجية البريطاني هاموند، أن لندن مستعدة لتعديل مفهوم بيان جنيف - 1 وآلية جنيف - 2 لتقبل بالأسد في المرحلة الانتقالية بصورة غير تلك التي سبق وتمسكت بها، هذا مع التصعيد اللفظي بأنه فقد الشرعية وعليه أن يرحل ولا يمكن العودة الى وضع ما قبل الثورة السورية ولا يجوز إعادة تأهيل رجل ساهم في قتل 300 ألف من شعبه وتهجير الملايين.
أقطاب النظام السوري في غاية الارتياح إلى ما آلت إليه المواقف الروسية وإفرازاتها على المواقف الأميركية والبريطانية. وزير الخارجية السوري وليد المعلم قال: «إن تصريحات المسؤولين الأميركيين مثل المروحة ولا يعوّل عليها. فهي صباحاً شيء ومساءً شيء آخر، وهكذا شأن حلفائهم الأوروبيين. إنما لا خيار أمامهم سوى الخيار الروسي إذا كانوا جادين في مكافحة داعش».
واضح أن الأولوية الآن هي للاتفاق الأميركي - الروسي على تشكيل «آلية اتصال» لتفادي أي تصادم في سورية على ضوء الغارات الروسية المتزايدة وغارات «التحالف الدولي» الذي تقوده الولايات المتحدة. هذا ما أعلنه كيري ولافروف معاً في أعقاب اجتماعهما الثالث. روسيا تتمسك بموقفها القائل إنها تقوم بغاراتها في سورية «بناء» على طلب الحكومة «السورية» التي تعتبرها الحكومة الشرعية ذات حق السيادة، وهي تشير إلى الدعوة من الحكومة العراقية لقوات «التحالف» كمثال موازٍ.
سياسياً، توافق كيري ولافروف على أنهما يريدان «سورية ديموقراطية موحّدة وعلمانية» لكنهما اختلفا على «كيفية الوصول الى ذلك». اتفقا على «خطوات محددة تقريباً» وفق قول لافروف «مع دول أخرى، وبمشاركة الأمم المتحدة، لإيجاد الظروف المناسبة لخيارات تستخدم في المستقبل لتعزيز الحل السياسي»، واتفقا أيضاً على التواصل بينهما في الشأن السوري «في شكل دائم». ووفق كيري، تم الاتفاق على «اتخاذ عدد من الخطوات التي تقود إلى تقدم» نحو الحل السياسي وبصورة سريعة نظراً إلى تأثير أزمة اللجوء الى أوروبا وتفاقم أزمة اللاجئين السوريين.
موسكو الآن اتخذت قرار التدخل العسكري المباشر دعماً للنظام في دمشق وبالتنسيق معه عند شن الغارات على مواقع يبدو واضحاً أنها لن تنحصر في استهداف «داعش» حصراً - أقله سهواً، وافتراضاً. التغيير في الإستراتيجية الروسية ليس عابراً أبداً. فموسكو اليوم تتحدث بلغة «الأمن القومي الروسي» وراء تصعيدها العسكري في سورية. يقول الروس «لا نريد ولا نقبل بأن تتحول سورية إلى ليبيا « - وكأن الوضع في سورية أفضل مما هو عليه الآن في ليبيا. يقولون إن لا مناص من الشراكة مع النظام السوري لأنه هو القادر ميدانياً على سحق «داعش» وإن الذي لديه «بديل» عن الأسد، ليتفضل به. يقولون: تعالوا معنا، لأن لا خيار لكم سوانا. فنحن العنوان الرئيس في سورية، وأنتم غير جاهزين للانخراط أساساً، فابصموا.
موسكو تراهن على خضوع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للأمر الواقع الذي تمليه الإستراتيجية الروسية في سورية لأن واشنطن غير راغبة في تولي هذا الملف الصعب ولأن أوروبا تريد إيقاف الهجرة إليها.
واشنطن لا تمانع القيادة الروسية في سورية ضد «داعش» والتنظيمات المشابهة لكنها لا تريد مباركة ضرب المعارضة السورية العسكرية أو المشاركة في إعادة تأهيل الأسد. هي أيضاً لا تريد أن تبدو لأصدقائها العرب أو لتركيا بأنها أكملت «الطبخة» مع موسكو وباتت، كأمر واقع، حليفاً لموسكو ولإيران ولـ «حزب الله» وللنظام في دمشق في الحرب السورية.
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير شرح في حديثه إلى «الحياة» الأطر الرئيسية للمواقف نحو الطروحات المعنية بسورية ومصير بشار الأسد. قال إن لا خلاف على «مبدأ الحفاظ على المؤسسات المدنية والعسكرية في سورية كي لا تعم الفوضى والانهيار، ولكي تستطيع الحكومة السورية أن تحافظ على الأمن وتوفر الخدمات لشعبها ومواطنيها وتواجه التطرف الموجود». إذاً، لا خلاف على تمكين مؤسسات النظام في دمشق. قال أيضاً إن هناك اتفاقاً عاماً على أن «لا دور لبشار الأسد في مستقبل سورية» وإن «الحل لا يعتمد على روسيا»، التي تعارض وترفض الموافقة على ذلك الاتفاق العام بأن لا دور لبشار الأسد في مستقبل سورية. الخلاف إذاً مستمر في شأن مصير دور الأسد ما بعد المرحلة الانتقالية، وليس فقط أثناءها.
الجبير يقول إن البحث جار الآن في ما إذا كان الرئيس السوري «سيترك الحكم في بداية المرحلة الانتقالية أو يبقى في سورية من دون أي صلاحيات أو امتيازات». يقول إن السعودية مصرة على أن «نعرف النهاية» المتعلقة بالعملية السياسية وأن «مبادئ جنيف ليس لها معنى إن لم يكن هناك قبول بتنحي بشار الأسد من السلطة في سورية».
الرد الروسي واضح تماماً وخلاصته: رفض الدعوة إلى تنحي الأسد. قراءة بيان جنيف خاطئة إن كانت تنص على إبعاد الأسد. لا تخلّ لموسكو عن بشار الأسد، لا في البداية ولا في النهاية لأية عملية سياسية. باختصار، موسكو تقول: لا للتعهد المسبق حول مصير الأسد. ولا للشرط المسبق برحيل الأسد. تقول إن العملية السياسية والانتخابات هي التي تملي المصير. تقول ذلك وهي تدخل الحرب السورية مباشرة دعماً لبقاء الأسد تحت عنوان مواجهة «داعش» في الوقت الذي تنتقي مَن تعتبره معارضة سورية «صحيّة» بديلة من «الائتلاف» والمعارضة العسكرية.
جون كيري حذّر كلاً من روسيا وإيران من مغبة التمسك بالأسد وربط مصير سورية برجل واحد اسمه الأسد. قال إن «على روسيا وإيران الكف عن العناد وعن ربط المصير برجل واحد». قال إن على موسكو أن تفهم عواقب دعمها فرض حكم الأقلية العلوية في بحر «65 مليون سني بين بغداد والحدود التركية يرفضون قطعاً القبول بالأسد كقائد شرعي لهم».
قال أيضاً إن على روسيا أن تخاف وأن تخاف كثيراً من الاستفراد بالحرب على «داعش» ذلك لأن «روسيا ستصبح هي الهدف» وستصبح أيضاً «معاً مع الأسد المغناطيس الذي يشدّ الجهاديين ضدها».
خلاصة الموقف الأميركي نحو الطرح الروسي هو أن القرار في يدكم - فإما تستفيقون إلى أخطار التمسك برجل والتضحية ببلاد، أو إنكم ستستيقظون يوماً وأنتم في الزاوية التي رسمتموها لأنفسكم في حرب أهلية وفي حرب مباشرة مع الجهاديين في سورية لها نكهة تجربتكم الأفغانية.
دائماً ما تكون السياسة لعبة قذرة شعارها النفاق في العمل والإخلاص في الكذب لأن الصدق في هذه اللعبة بمثابة اعلان للفشل الضمني الذي ينتظر الصادق الأمين المحب للخير لكل الكائنات الحية على وجه الأرض.
فبعد نفي الحكومة الروسية وكبار سياسييها وإعلامييها في منتصف الشهر الماضي عن نيتها التدخل المباشر في سوريا عسكرياً، ورفضها للاتهامات الموجهة لها بقيامها بتزويد قوات الرئيس السوري بشار الأسد ببعض الأسلحة النوعية، وتفنيدها للأخبار المتداولة عن بداية حشد بعض القوات الخاصة ومستشارين عسكريين وأسلحة وطائرات في مناطق مختلفة من محافظتي اللاذقية وطرطوس، سرعان ما بان كذبهم وكذب بيادقهم عندما أقروا بتدخلهم الفعلي في سوريا من أجل إنقاذها من الجهاديين الذين أصبحوا يشكلون خطراً على العالم بأسره.
وبعد أن تم الاتفاق والإجماع في الجمعية العامة للأمم المتحدة بين العرب والعجم بمختلف ألوانهم على ضرورة التصدي للدولة الاسلامية، وإجبارها على ترك مواقعها في المدن التي تسيطر عليها في كل من العراق وسوريا، بدأ التدخل الروسي يوم الثلاثاء 30 سبتمبر فعلياً بقصف جوي استهدف مناطق متفرقة تسيطر عليها المعارضة السورية، سقط من جرائه قتلى وجرحى وهدمت منازل على أصحابها بدعوى أنها مستودعات أسلحة يستخدمها مسلحو تنظيم الدولة، في حين أن الصور الواردة من هذه المناطق والتقارير الإعلامية العربية والأجنبية وتأكيدات المعارضة السورية تكاد تجمع على أن هذه المناطق لم تكن خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية؛ ما فتح الباب أمام المراقبين للتساؤل عن هذه الخطوة الروسية هل هي مناورة لتبرير قصف كل الفصائل المسلحة على الأراضي السورية التي تقاتل النظام بدعوى أنهم من مسلحي تنظيم الدولة؟ أم أنه خطأ استخباري في تحديد الأهداف؟ وهو ما يضع الروس في مأزق كبير خاصة بعد تأكيداتهم وتطميناتهم للعالم وللنظام السوري أن لهم بنك أهداف محدداً وخاصاً بتنظيم الدولة الإسلامية.
من المرجح أن الروس يتخبطون منذ أول وهلة فلن يغير قصفهم أي شيء على الأرض؛ فقد أجمع الخبراء والمتابعون للشأن السوري أن الضربات الجوية التي يقوم بها التحالف الدولي بدون أي دعم وتدخل بري لن يغير أي شيء على الأرض، خاصة وأن أكثر من سنة من القصف المتواصل وآلاف الطلعات الجوية والأطنان من المتفجرات والصواريخ لم تغير أي شيء على الأرض، بل واصل التنظيم تمدده وحافظ على أغلب المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا، وقام باستنزاف التحالف الستيني الذي خسر مليارات الدولارات في حين لم تتجاوز خسائره بضع ملايين من الدولارات ومئات المقاتلين وبعض البنية التحتية.
لا شك أن الروس لن يكونوا أفضل من أقرانهم في التحالف؛ فالأسلحة الروسية لم تكن في يوم من الأيام أفضل من نظيرتها الأمريكية التي عجزت عن رصد أرتال الدولة الإسلامية التي تتنقل بحرية في صحاري الأنبار وصلاح الدين، مستغلين وسائل تمويه بدائية وفعالة في نفس الوقت. ولا نشك أبداً أن طائرات السلاح الجوي الروسي أكثر تطوراً وأنجع من الf35 وf22و f16 الأمريكية التي سبحت كثيراً في المجال الجوي السوري والعراقي وعادت في أكثر المرات بخفي حنين.
كما أن الأسلحة الروسية لم يخض بها أي جيش في العالم العربي حرباً إلا وخسرها، ولا داعي لاستعراض سلسلة الهزائم العربية والدولية التي كانت هذه الأسلحة سبباً في التنكيل بجيوشهم، لكن يكفي مثالا على ذلك أن الجيش السوري أحد هذه الجيوش.
إن الحرب الكبرى ستشتعل في الشرق الأوسط، ونحن متأكدون أن "الدولة الإسلامية" وإن كانت تضررت بسبب القصف المتواصل على المناطق التي تسيطر عليها، إلا أنها تمكنت من الصمود لسنة كاملة بفضل مواردها المالية والبشرية الكبيرة التي مكنتها من تعويض المقاتلين والخسائر المادية في أسرع وقت، والخبر اليقين الذي لا جدال فيه أن التدخل الروسي ما هو إلا محاولة لذر الرماد في العيون، وتحد للأمريكان أكثر منه إنقاذاً للأسد فلا بشار يهمها ولا الجيش الحر يخوفها، بل إن الأمريكان هم أعداؤها الذين كانوا سبباً في انحلال امبراطوريتها، وإن "الدولة الإسلامية" لا تمثل خطراً كبيراً عليها في سوريا بل أكثر منه في القوقاز والشيشان وأفغانستان؛ لأن الانتصار في سوريا وتواصل تدفق المقاتلين والأموال على التنظيم فيها وفي العراق سيكون بالضرورة انتعاشاً للجماعات الموالية لها في تلك المناطق، دون أن ننسى إمكانية عودة بعض المقاتلين إلى روسيا لقيامهم بعمليات تستهدف المناطق الحيوية فيها، ما يمكن أن يكرر كوارث أكبر من تلك التي حصلت في مسرح موسكو في 23 من أكتوبر 2002.
فالى أين يتجه العالم اليوم؟ وهل الحرب الباردة سابقاً أصبحت ساخنة؟ أم أن البرودة ستتواصل إلى حين القضاء على "الدولة الإسلامية"؟
لم يعد الحديث، الآن، مجرد تكهنات أو تسريبات أو تلميحات. بات حقيقة ملموسة، لن يكون ما بعدها مماثلا ما قبلها. ليس على الصعيد السوري فحسب، بل على مستوى توازنات القوى الدولية. لم يعد التدخل العسكري الروسي في سورية مجرد فرضيات، فها هي الطائرات الروسية تصول وتجول في الأجواء السورية، وتقصف ما طاب لها من الأهداف أمام أنظار الولايات المتحدة وتحالفها الدولي الذي أطبق عامه الأول في محاربة داعش، من دون أن يحقق أي نتيجة، لا في العراق ولا سورية.
استغل الروس بالتأكيد هذه الرمزية في هذا التوقيت، للدخول على خط الحرب العالمية السورية، وليلعبوا دوراً طال انتظاره بالنسبة لهم، تحت مسمى "محاربة داعش". وهو عنوان عريض جديد ومطاط، ومفتوح على احتمالات نسبية، وتأويلات لا تعد ولا تحصى، خصوصاً بالنسبة إلى موسكو التي تتبنى، بشكل كامل، رواية النظام السوري وحلفائه. ومن هنا، تكون من السذاجة الإشارة الأميركية والفرنسية، وغيرهما من الإشارات إلى أن الغارات الروسية لم تستهدف مواقع تنظيم الدولة الإسلامية، بل ضربت أهدافاً للمعارضة السورية والجيش الحر. من قال إن الروس يفرّقون بين هذا وذاك، طالما أنهم يسيرون وفق التعريف السوري الرسمي لـ "داعش". فبحسبه، كل معارض للنظام يطالب بالتغيير هو من "الإرهابيين" الذين يستحقون القتل والسحق. كان هذا الكلام قبل ظهور داعش بكثير، وحتى قبل بروز قطعة سلاح في يد أي معارض سوري. كل من يعارض إرهابي ويستحق القتل؛ كانت هذه التعليمة السورية للأنصار الإعلاميين وغيرهم من الحلفاء، ولا تزال قائمة، وبالنسبة إلى الروس هذا هو المنهج الحق الذي يجب السير عليه، أي قتل كل من هو معارض للنظام، كان من داعش أو غيرها، لا فرق، فهذه هي رؤية النظام السوري التي يطبقها الروس بحذافيرها.
ثم من كان يتوقع دقةً من الروس في غاراتهم على الأراضي السورية، ومن قال إن الروس حريصون على أرواح الأبرياء السوريين أو المقاتلين المعارضين غير المنتمين إلى داعش. هم على أراضيهم لا يقيمون وزناً لهذه المعايير، فما بالك في الأراضي الخارجية. لنتذكّر، على سبيل المثال لا الحصر، حادثتي مسرح موسكو في 2002 ومدرسة بيسلان في 2004. في الأولى، وأثناء التعاطي مع أزمة احتجاز مسلحين شيشان رهائن، أطلقت الشرطة الروسية غازاً ساماً في المسرح للانتهاء من القضية بعد مفاوضات عقيمة، فقتلت القوات الروسية 39 من المهاجمين، وما لا يقل عن 129 من الرهائن، معظمهم بفعل المادة السامة. وفي الثانية، أيضاً بعد ثلاثة أيام من المفاوضات مع مسلحين اقتحموا مدرسة في مدينة بيسلان الروسية واحتجزوا أكثر من 1100 شخصٍ. اقتحمت القوات الروسية المدرسة، مستخدمة الدبابات والأسلحة الثقيلة، وانتهت العملية بمقتل 396 رهينة على الأقلّ، من بينهم 186 طفلاً.
هذا هو المنطق الروسي في التعاطي مع الأزمات، وهو شبيه، إلى درجة كبيرة، بما يقوم به النظام السوري منذ أربع سنوات. وإذا كان هذا أسلوب موسكو في الداخل، وفي زمن "الانكفاء إلى الداخل" الذي كان قائماً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وقيام نظام القطب العالمي الأوحد، فكيف من الممكن أن تكون عليه الأمور، بعدما وجدت موسكو الفرصة سانحة، ليس لاستعادة مرحلة الحرب الباردة والقطبين فحسب، بل ولعب دور القطب الأوحد، بعدما أخذت السياسة الأميركية في عهد باراك أوباما بالانسحاب تدريجياً من الصراعات والنزاعات الخارجية؟ هي فرصة موسكو التي لا تعوّض لإثبات أن في مقدورها ملء الفراغ الأميركي، والنجاح حيث فشل الآخرون، سواء في محاربة داعش أو في إنهاء الأزمة السورية التي تثير قلق الدول الغربية التي باتت تبحث عن حل بأي ثمن، وليكن على الطريقة الروسية.
عناق الدب الروسي كان مكلفاً داخلياً في مراحل الصعود الجديد للدولة الاتحادية، وسيكون مكلفاً جداً في زمن التمدد الإمبراطوري الساعي إلى البروز قطباً عالمياً وحيداً، لا حل من دونه.
في سياق تنفيذ التوجهات الروسية الفعلية في سورية، قام الطيران الروسي، قبل ظهر الأربعاء، الثلاثين من سبتمبر/أيلول الماضي، بأولى عملياته الجوية، مستهدفا خمس مناطق حول حمص. العملية الجوية أودت بحياة 36 مدنياً من المحاصرين منذ نحو عامين. ويأتي سقوط هؤلاء الضحايا متسقاً مع خط بياني مستقر للاستهداف المنهجي والمنظم للمدنيين السوريين، منذ شرع النظام في شن حربه على شعبه. وبما أن هناك تلاقياً في الرؤى والسياسات بين موسكو ودمشق، لم يكن غريباً أن يلتزم الطيران الروسي بأمر العمليات الثابت والدائم باستهداف المدنيين باعتبارهم "حاضنة للإرهاب". وعلى النحو نفسه، جرى ويجري، وبأسلحة روسية، تدمير المدن التي توفر "بيئة للإرهاب". وتم قذف عشرة ملايين سوري خارج الحدود، مع مطاردتهم بالمقاتلات والشتائم، لأنهم "دواعش يؤيدون الإرهاب". وحدث، خلال 54 شهراً من هذه الحرب، أن قضى نحو عشرين ألف طفل سوري (بعضهم تحت التعذيب)، لأن هؤلاء مرشحون لأن يصبحوا، في مستقبل الأيام، "ارهابيين". والقضاء على الإرهاب، في منظور النظام، يستلزم فعل كل شيء، بما في ذلك العمل على إبادة أغلبية الشعب واستئصالها. والقيادة الروسية، كما ثبت من شواهد عديدة، معجبة بهذا التحليل، وما يرافقه من أداء عسكري ضد كل مظاهر الحياة والطبيعة والعمران في سورية (خارج مناطق "سورية المفيدة").
تبين للقيادة الروسية، وقبلها القيادة الإيرانية، أن الاستغناء عن غالبية الشعب السوري أمر حيوي من أجل تثبيت تحالف بلديهما في وجه الغرب. ويجري استخدام عبارة الحرب على داعش والتكفيريين كلمة سر معلنة، لخوض حرب ضارية، بمختلف أنواع الأسلحة، وبلا توقف، ضد المدنيين والمرافق المدنية، بما فيها دور العبادة والمستشفيات والمدارس والأسواق الشعبية. أما داعش نفسها فكنز استراتيجي، يجري استثماره والحفاظ على وجوده، من أجل استكمال "الحرب المقدسة" على السوريين، بأغلبيتهم المسلمة، وبما يتعدّى هذه الأغلبية من الطوائف والأقليات الأخرى التي تعترض على هذه الحرب، وتنشد الحرية والكرامة والسلام لشعبها. وجدت القيادة الإيرانية مبكراً، في المنظور الطائفي المذهبي، مدخلاً صالحاً، لخوض هذه الحرب والتعبئة "الثورية" من أجلها. أما داعش فمتروكة في مركزها، وقد تركها النظام أكثر من عام في الرقة، كي تثبت أقدامها. الميليشيات الإيرانية، ومنها ميليشيا حزب الله وأبي الفضل العباس وغيرها، تقاتل المعارضة المعتدلة وبيئة "الإرهاب"، والمقصود السوريين السنة في أماكن إقامتهم، حتى لو كان بينهم من ينتمون إلى طوائف أو أقليات أخرى.
الخطابات المتناسلة للقيادة الروسية حول الحملة على داعش والإرهاب، لا يُراد منها محاربة
"تبين للقيادة الروسية، وقبلها الإيرانية، أن الاستغناء عن غالبية الشعب السوري أمر حيوي من أجل تثبيت تحالف بلديهما في وجه الغرب"
هذا التنظيم الإرهابي، كما يدل الواقع وتوضح الوقائع، إلا هدفاً متأخراً ومفترضاً، أما الهدف الأول والأكبر فهو فك عزلة النظام ومكافأته على الحرب التي يشنها على شعبه، بإقامة تحالف دولي واسع، يشارك فيه هذا النظام، كما لا تكتم القيادة الروسية ذلك، وهي التي كانت قد رفضت قيام تحالف دولي إقليمي ضد داعش، وترفض، حتى الآن، الانضمام إليه، ذلك أنها، في واقع الحال، معنية بأمر آخر، بالغنيمة الذهبية التي حازتها بتوسيع وجودها العسكري وتثبيته على الأرض السورية، ومن دون قيد أو شرط عليه. وخلال ذلك، تخوض حرب النظام العسكرية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية ضد حقوق السوريين في الحياة والحرية والعدالة والكرامة، باعتبار هذه الأهداف تنتمي إلى عالم الإرهاب.
جرّب السوريون، على مدى الأعوام الأربعة الماضية، الأسلحة الروسية من طائرات ميغ وسوخوي وصواريخ غراد وسام. وبهذه الأسلحة، تم تدمير حماة وحلب وحمص ودير الزور ودرعا ريف دمشق، وها هم الروس بأنفسهم قد أتوا بأسلحة أكثر تطوراً، لتقويض ما تبقى من مظاهر الحياة والعمران، وللفتك بمن تبقى من السوريين، جنباً إلى جنب مع قوات النظام. وتجري تسمية هذه الحرب بأنها حرب على الإرهاب، وهي شبيهة بالحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر، وبحروب المستوطنين الأوربيين في أميركا وأستراليا وكندا ونيوزلندا على السكان الأصليين في القرن السابع عشر، وبالحرب الصهيونية البريطانية على شعب فلسطين.
تضيف الاستهانة المطلقة بأرواح مئات آلاف البشر في هذه الحرب على السوريين العنصرية إلى البربرية، فقد استقر، في أذهان القائمين على هذه الحرب، أن وجود الشعب السوري، بأغلبيته الغالبة، غير مفيد، ومن الحيوي الاستغناء عنه، والتخلص منه، وتسمية هذه الحرب بأنها حرب على الإرهاب. وبما أن لدى البشرية حساسية شديدة ضد الإرهاب، وبما أن الإرهاب يلتصق بالمسلمين السنة دون غيرهم، وبما أن السوريين، في غالبيتهم، مسلمون سنة، فسوف تكون هذه الحرب، من الناحية الدعائية، سهلة، ويجب أن تجمع روسيا وإيران والغرب معا، بما يفيد في النتيجة باعتراف غربي بمناطق النفوذ الإيرانية والروسية في الشرق الأوسط. وهكذا، تتم هزيمة أميركا والغرب بإزاحة عقبة الشعب السوري الذي يزعج النظام في بلده. ويتاح لإيران خوض حربها المقدسة التي طالما منّت النفس بها، الحرب ضد أكثرية المسلمين (مليار مسلم فقط) مرموزاً لهم بالسنّة في سورية واليمن، الذين تساندهم المملكة العربية السعودية وقوى سنيّة أخرى. مع السعي، في الأثناء، إلى اجتذاب قوى سنيّة، وإقامة علاقات معها، مثل حركة حماس، أو القاهرة، على الرغم من التباعد بينهما، من أجل التغطية والتمويه، ونفي العامل الطائفي المذهبي (الحاضر بقوة وسطوع) عن هذه الحرب "المقدسة". وقد لوحظ أن طهران انفردت بين دول العالم، ورحبت ترحيباً حاراً، الأربعاء الماضي، بالغارات الجوية الروسية التي قتلت عشرات المدنيين.
في هذه الأثناء لا تمانع القيادتان، الروسية والإيرانية، في الحديث عن أن الشعب السوري هو من يقرر مصير الحكم في بلاده. إبادة الشعب واقتلاعه وتشريده، ثم الاحتكام اللفظي إليه! استخدام هذه العبارة مفيد، لأنه يتماشى مع مفهوم كوني عالمي، فلماذا لا تُستخدم؟ البشر كثيراً ما يتوقفون عند الألفاظ والعبارات والتصريحات والأقوال، بأكثر من تركيزهم على الوقائع والممارسات والمجريات. وبهذا، من المفيد والحيوي خداعهم بمثل هذه العبارة، وبغير أن تتوقف الحرب المقدسة على ملايين المدنيين السوريين. وهذا ما دأبت عليه طهران وموسكو.
سوف يذكر التاريخ، ابتداء من مقبل السنوات القريبة، أن القيادة الروسية خاضت حرب إبادة وتطهير ضد شعب عربي عريق، وأنها ألحقت إساءة بالغة جداً، وضرراً جسيماً بالعلاقات الروسية العربية، وانتهجت نهجاً استعمارياً ضد شعب بريء ومضطهد، في زمن طوى فيه العالم الحقبة الاستعمارية، واعتبرها من الشرور الأخلاقية الواجبة التصفية.
توقفت سورية عن أن تكون بلداً كامل السيادة، منذ تولت إيران شؤون الأمن الداخلي للبلد في بداية الثورة السورية عام 2011، غير أن الأمر، في ذلك الوقت، لم يكن ظاهراً للعيان، وبقيت التدخلات الإيرانية تتم بعيداً، وفي سرية تامة، لأنها كانت ترتكز على عمليات أمنية استشارية، وخصوصاً تصدير خبرات الأجهزة الإيرانية في مجال القمع التي اكتسبتها، بصورة خاصة، من مواجهة ثورة 2009 الخضراء. وتسرّبت في ذلك الوقت معلومات، على نطاق ضيق، عن إنشاء إيران غرف عمليات أمنية في المدن السورية الكبرى، مثل دمشق وحمص ودرعا، هدفها رصد المتظاهرين على الأرض وتصويرهم، ثم تقديم المشورة للأجهزة السورية لمطارداتهم. وهكذا تم القضاء على الصف الأول من قيادات التنسيقيات السلمية، واعتقال الصفين الثاني والثالث، وشملت المساعدات الإيرانية، في تلك الفترة، أدوات التجسس على الهواتف وشبكات الإنترنت، وكثيراً ما جرى اعتقال ناشطين من مقاهي إنترنت في أحياء بعيدة عن مراكز المدن، بفضل تكنولوجية الرصد الإيراني، الصينية المنشأ.
وحين اتسع نطاق الثورة، صارت التدخلات تأخذ الطابع المباشر، من خلال إرسال الخبراء العسكريين والأسلحة والمليشيات، ووصل الأمر إلى الحراسات المكلفة بأمن الرئيس السوري شخصياً. ويقول العارفون، إن الدائرة الأمنية المكلفة بأمن بشار الأسد إيرانية مائة في المائة. وامتدت التدخلات الإيرانية إلى الشأن الاقتصادي، من خلال الديون والمساعدات، حتى صار مطلعون يتحدثون عن شراء إيران ضواحي في بعض المدن السورية، مثل دمشق وحمص، مقابل ديون على النظام، وهذا ما يفسر الإصرار الإيراني على نقل سكان كفريا والفوعة الشيعة إلى الزبداني، ونقل سكان الزبداني السنة إلى ريف إدلب، وهذه المقايضة ذات بعد طائفي مباشر، ضمن مخطط إيراني، يمتد من الساحل السوري حتى جنوب لبنان.
لم تكن روسيا بعيدة عن هذه المقايضات، فهي طرف في جانبيها السياسي والأمني، فدعمها النظام السوري لم يتوقف طوال السنوات الأربع الماضية، وبات النظام يدين لموسكو بمليارات الدولارات، ويعلم الروس أن تحصيل هذه الديون ليس مطروحاً في الوقت الراهن، وأنهم سيحصلون مقابلها على قواعد عسكرية وحضور أمني، لكن الأمر تطور، في الآونة الأخيرة، إلى حد أن الروس صاروا يلوحون بالورقة السورية في مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة وتركيا والسعودية. وللأطراف الثلاثة، أيضاً، كلمتها المسموعة جداً في الشأن السوري، بفضل حلفائها من الفصائل المسلحة على الأرض. وتبدت المقايضات الروسية الأميركية خلال أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في كلمتي الرئيسين الأميركي، باراك أوباما، والروسي، فلاديمير بوتين، فكلاهما ضرب على الوتر الحساس، وهو عقدة الأسد التي باتت أثمن ورقة مساومة بالنسبة للروس، وهما اختلفا عليها، في اليوم الأول، ثم عادا إلى تخفيض سقف المساومات، في اليوم الثاني، وتبيّن أن الروس لا يريدون بيع هذه الورقة الآن، لأنهم لم يحصلوا على السعر المناسب بعد، وليست ورقة بشار الوحيدة التي يملكها الروس، بل إن الكثير من أوراق التفليسة السورية صارت في يدهم، وهم كتجار بازار سيستثمرون الوضع السوري سنوات طويلة، مستفيدين من وجود الأسد وداعش، وكان أطرف ما تسرب عن لقاء أوباما بوتين، أن الرئيس الأميركي طلب من نظيره الروسي وقف قصف المدنيين بالبراميل "مقابل شيء ما" تحصل عليه روسيا.
واقع الحال يقول، إن سورية تحولت إلى ورقة مساومة، بكل ما فيها، وهي مفتوحة لكل من هو قادر على البيع والشراء. وحتى لو انتهت الحرب قريباً، فإن السنوات الأربع الماضية أفرزت حالة من التمزق التي ستظل تتغذى من ميراث حروب الداخل والخارج. ولكي تعود سورية بلداً مستقلاً ذا سيادة، فإنها بحاجة إلى أكثر من حرب تحرير.
لو أحصينا المناشدات الموجّهة لقادة الفصائل بالتوحد من هيئات ومنظمات وعلماء وناشطين وثوار لما وسعتْها كتب ومجلدات، فكم خُصص لها من اعتصامات ومظاهرات وأسماء جُمَع ! وكم تفنن الأدباء والشعراء والرسامون في بيان فوائد الوحدة وخطر الفرقة !
كل ذلك دون جدوى حتى الآن، لدرجةٍ جعلت البعض ينهال بالسباب والشتم على قادة الفصائل، بل لقد ذهب البعض الآخر لتخوينهم، فيما التمس آخرون لهم العذر، وظل آخرون يندبونهم للوحدة بأساليب المناشدة والترغيب دون أن يقطعوا الأمل من الاستجابة لمناشداتهم يوماً ما.
لكن السؤال الذي يطرحه الجميع: لماذا؟ نعم لماذا لم تتم الاستجابة لنداءات الوحدة؟ هل لأمر خارج عن إمكانات القادة؟ هل هي سياسة الداعمين؟ هل هي رغبة الدول؟ هل هي الإملاءات والأجندات؟ هل هي الأيديولوجية الخاصة ببعض الفصائل؟ هل هي حُبُّ القيادة والزعامة عند القادة؟
لن أبالغ إن قلت إن السبب الأهم في فرقة الفصائل، هو سياسة الداعمين، فالكل يعلم حاجة الفصائل للتمويل، لدفع رواتب عناصرها وشراء السلاح وتأمين ذخيرة للسلاح الثقيل والخفيف، ودفع نفقات المقرات وتنقل العناصر والقادة، وإطعام المرابطين وكفالة الجرحى والشهداء، وغير ذلك من المستحقات المالية التي لا يمكن أبداً لفصيلٍ أي يؤمنها لوحده.
بل لابد من توافر داعم أو أكثر لكل فصيل، والذي قد يكون جمعية أو هيئة أو دولة وفي بعض الأحيان يمكن أن يكون الداعم مجموعة من أصحاب رؤوس الأموال.
والملاحظ أنه وخلال الفترة الماضية لم تلتقِ مصالح الداعمين وإرادتهم لدفع الفصائل نحو اتحاد شامل، بل على العكس كثيراً ما كانت سياساتهم تتجه لفرط عقد الأجسام المشكلة من توافق فصائل عدة، كالجبهة الإسلامية، والجبهة الشامية، وغيرها.
ولعل في تجربة مبادرة "واعتصموا" التي لم تلقَ أي دعم مالي لمجلس قيادة الثورة الذي انبثق عنها، خير دليل على قطيعة الداعمين لكل مشروع يصنع بإياد وطنية داخلية متجاهلاً رغبة الداعمين وموافقتهم ومشورتهم.
مما يعني أن الداعمين للآن لم يرضوا بقيام جسم عسكري ثوري ينسلخ عن المسميات التي ارتبط كل منها بداعم معين، ولم يرضوا أن ينصبَّ دعمهم جميعاً لجسم موحد يجمع الفصائل، وبالتالي فإن دعوة الفصائل للوحدة في هذه الحالة تشبه دعوتها لحلّ نفسها من خلال التخلي عن دعمها الذي تتلقاه والذي لا يتيح لها حرية القرار بالوحدة مع فصيل آخر دون موافقة الداعم، وفي ذات الوقت لا يوجد فصيل واحد يمتلك من الدعم ما يجعله يستقطب كل الفصائل الأخرى ويتكفل بهم.
فما هو الحل إذاً؟ وكيف يمكن للفصائل أن تتحد في ظل هذه الظروف الصعبة؟
الحل - برأيي – ممكنٌ عبر خيارين:
الأول: الاعتماد على التمويل الذاتي للفصائل، بحيث تستغني عن أي دعم خارجي يتلاعب بمصيرها ويتحكم بقرارها، وعند ذلك فإن الضغوط الشعبية مع الحاجة العملية ستجبر الجميع على الوحدة، وخلط الموارد في صندوق دعم موحد، وللأسف فقد فرّطت الفصائل بأهم مورد ذاتي ألا وهو "النفط" حيث انتبه له تنظيم الدولة واستولى على آباره شرق البلاد وحرم منه الفصائل، فيما لم تنجح محاولات الفصائل لخلق موارد استثمارية محلية سوى في تأمين جزء بسيط لا يكاد يفي بالحد الأدنى لمتطلبات كتيبة أو لواء صغير ناهيك عن تأمين احتياجات فصيل أو تشكيل كبير.
وعليه فلا بد من استعادة موارد التمويل الذاتي من التنظيم، ويتم ذلك باجتماع الفصائل من محافظات الشمال والساحل لاستعادة موارد البترول والاعتماد عليها للتمويل الذاتي.
الثاني: هو دفع الدول الداعمة للاتفاق على دعم جسم موحد، ويكون ذلك إما ببادرة من هذه الدول مجتمعة، أو ببادرة من الفصائل مجتمعة، ولعل المتتبع للدول الداعمة للفصائل لا يجد صعوبة في ملاحظة أهم ثلاث دول وهي (قطر -السعودية - تركيا) وهي كافية لإنجاح مشروع الوحدة، ان اتفقت على دعم جسم موحد يشمل أهم الفصائل على الساحة السورية، والأفضل أن يأتي ذلك بمبادرة منها لما بين الفصائل ما صنع الحداد، وهذا يتأتى من إدراك هذه الدول أن من مصلحتها توحيد الفصائل لتعجيل النصر وتحقيق الحسم ومساعدة السوريين لبناء سورية موحدة متعاونة مع أشقائها، دون أن تكون مزرعة لأية دولة، مع احتفاظها بالودّ والمعروف لكل من أسدى أليها معونة، كما أن هذا القرار يحتاج إلى جرأة وصلابة أمام الرقابة الأمريكية الرافضة لإنهاء الصراع الآن، مالم ترَ بديلاً مناسباً للأسد.
وإن تأخرت الدول في هذه الخطوة فما على الفصائل إلا الاجتماع واتخاذ قرار بالوحدة ووضع الدول تحت الأمر الواقع عبر الإصرار على جسم واحد لا يمكن مخاطبة الثورة إلا من خلاله الأمر الذي سيجبر الداعمين وبعد مدة من صبر الفصائل على التعامل مع هذا الجسم ودعمه.
..
ولسائل أن يقول: أين أذاً تأثير الأيدولوجيات الخاصة ببعض الفصائل، الجواب أن نسبة الفصائل المتأثرة بالأيديولوجية قليلة وهي في انحسار لصالح الخط الثوري العام الذي يستوعب الثائرين السوريين في ثورة شعب.
كما أن تمسك القادة بالسلطة لا يصمد أمام تحدي فقدان الدعم، خاصة في ظل تذمر الشعب من فُرقتهم، ورغبة البعض منهم بإلقاء الحمل عن عاتقه.
...
لذا فخلاصة القول: إن المخاطبين بإنجاح مشروع الوحدة هم الداعمون بالدرجة الأولى دولاً كانوا أو هيئات أو أفراداً، مع توافر الإرادة عند قادة الفصائل، وعلى الجميع أن يتقي الله، ويتحلى بالمسؤولية الكاملة أمام الدماء التي سالت، فيقدم مصلحة إنقاذ سورية ولم شمل الفصائل على أي مصلحة خاصة.
تمثل الغارات الجوية، التي شنها الطيران الحربي الروسي داخل أراضي سورية، تحولاً نوعياً خطيراً في الأوضاع الاستراتيجية في المنطقة العربية، وسيكون له ما بعده في موازين القوى والصراع في المنطقة. تقول روسيا إن ضرباتها التي وجهتها، أول من أمس، كانت ضد "تنظيم الدولة"، وهو ما نفته تقارير إخبارية عديدة، مشيرة إلى أن الغارات الروسية استهدفت مواقع لفصائل المعارضة السورية، وأوقعت مدنيين كثيرين، وهو ما أطلق حملة تنديدات دولية ضد موسكو.
دخول روسيا على خط الحرب في سورية هو بمثابة البداية لتحول الصراع هناك إلى حرب دولية غير مباشرة، لا يعرف أحد أين ومتى ستتوقف، فالتحرك الروسي جاء بعد أن منح "الكرملين"، بالإجماع، الرئيس فلاديمير بوتين، تأييداً لشن ضربات داخل سورية، حسبما ذكرت وكالة الأنباء الروسية "إنترفاكس". الأكثر من ذلك أن الضربات الروسية جاءت بعد أسابيع قليلة من أنباء تم تداولها حول إرسال روسيا جنوداً وأسلحة وقطعاً عسكرية إلى سورية، وهو ما نفته موسكو، لكنه أصبح حقيقة. والمعروف أن روسيا تمتلك أكبر قاعدة عسكرية خارج أراضيها في ميناء طرطوس، والتي تعتبر المنفذ الوحيد لها على المياه الدافئة فى البحر المتوسط والمحيط الأطلنطي.
يعكس التدخل العسكري الروسي فى سورية مخاوف موسكو من إمكانية سقوط نظام بشار الأسد، وسعيها إلى حمايته بكل الطرق، حتى ولو كان الثمن التورط فى حرب خارجية، كما هي الحال الآن. ولن تتوقف موسكو عن تحقيق هذا الهدف، لأسباب استراتيجية واقتصادية وسياسية كثيرة. وبدلاً من أن الحرب في سورية كانت تتم بالوكالة طوال العامين الأخيرين، فإننا الآن إزاء حرب صريحة بين القوى الدولية والإقليمية في المنطقة، تجري على الأراضي السورية. وإذا كانت الولايات المتحدة تقود تحالفاً دوليا ضد "داعش"، فإنه من المفارقة أن تنفرد روسيا بالعمل خارج هذا التحالف، على الرغم من ادعائها بمحاربة الدواعش.
بكلمات أخرى، من يحارب الآن فى سورية ليس نظام الأسد، وإنما بالأساس نظام بوتين الذي يحاول، بكل الطرق، أن تكون له اليد العليا في صراعه مع الغرب، كما الحال في أوكرانيا ودول البلقان. ويرى بوتين أن إسقاط الإسد هو بمثابة إسقاط له ولهيبة بلاده. لذا، فهو على استعداد لتعزيز وجوده العسكري في سورية، من أجل ضمان البقاء هناك بأي ثمن وتحت أية لافتة. الطريف، هنا، أن النظام السوري لم ينزعج، أو يرفض التدخل العسكري الروسي، بل كان الداعي إليه. وذلك على عكس ما فعل مع الضربات التي وجهها التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد "داعش" قبل حوالي عام. وإذا ما وضعنا الضربات الروسية ضمن السياق الدولي الأوسع، يمكننا القول إن بشار الأسد هو من يحارب نيابة عن بوتين، وليس العكس، فالأخير يدير معركة "كسر عظم" مع الغرب، في ملفات أخرى ملتهبة، مثل ملف أوكرانيا والعلاقة مع حلف الناتو...إلخ. ويحاول استخدام كل أدواته، من أجل مناورة الغرب والضغط عليه من أجل تحقيق مصالحه الإقليمية والدولية.
المدهش أن الدول العربية لم تعلق، حتى الآن، على التدخل العسكري الروسي في سورية، سلباً أو إيجابا. ويبدو أن هذا التدخل قد أصاب الجميع بالمفاجأة، ليس فقط لقوته وجرأته، وإنما أيضاً لأنه يتحدى كل المحاولات والمبادرات التي طُرحت قبل فترة، وكانت تهدف للتخلص من بشار الأسد أساساً لحل سياسي هناك. وبينما يشن الطيران الروسي ضرباته ضد الشعب السوري، فإن هناك من يسعى إلى إنقاذ بشار الأسد بحجة الحرب على الإرهاب. وهنا، يجتمع هؤلاء مع الروس والإسرائيليين تحت المظلة نفسها، التي يستخدمونها جميعاً، لا لشيء سوى لاستباحة الشعوب العربية وإسكاتها.
عملياً وواقعياً، هناك حلف يحارب في سورية الآن، يضم روسيا وإيران وإسرائيل والصين وحزب الله وبشار الأسد، حتى وإن كان المعلن أن الغارات الجوية على المدنيين ومراكز المعارضة السورية حصرياً للقوات الروسية، وأن الوجود البري الداعم لبشار الأسد يقتصر على الإيرانيين وميليشيا حزب الله.
لا تكون المشاركة في الحرب بإرسال القوات، أو العتاد فقط، وليس بتقديم الدعم المعلوماتي، وحده، تتحقق المشاركة، إذ يكفي أن يعبر طرف عن تفهمه لتحرك طرف آخر عسكرياً في منطقة ما، ملاصقة له، أو أن يعلن الطرف المتورط بالحرب أنه أحاط الثاني علماً قبل التحرك، وحصل على موافقته.
وهذا ما يتحقق في الموضوع السوري، إذ أعلن الروس أنهم أخطروا الصهاينة، وأحاطوهم علماً بالضربات الموجهة إلى الأهداف المحددة في سورية، والتي ليس من بينها مواقع تخص تنظيم الدولة، بل، وليس في الأمر مساحة، ولو صغيرة للخطأ أو للمصادفة، كل الأهداف التي ضربت تخص قوى المعارضة المشاركة، منذ اليوم الأول، في الثورة على نظام بشار الأسد.
عند التدقيق في الصور والخرائط الخاصة بالتحالفات، لا يمكن الفصل بين التصعيد الإيراني، على جبهة الابتزاز، ضد السعودية، استثماراً لعواقب حادث التدافع في منى، عن بداية الضربات الروسية ضد جماعات المعارضة السنية المعتدلة، إذ يبدو المساران متوازيين، متناغمين، بدقة شديدة، كأولى ثمار الحلف الرباعي الذي أنشأته موسكو، ويجمعها بكل من دمشق وبغداد وطهران.
الاستثمار الإيراني، الرخيص، فيما يسمى "الدماء الطاهرة"، وفقا لتعبير آيات الله، وجنرالاتهم، وصل إلى حد التهديد بتحرك عسكري ضد السعودية، رداً على حادث منى، الأمر الذي ينتقل بالفعل الدبلوماسي الإيراني إلى مرحلة العري الطائفي الكامل، من ناحية، ويرمي إلى إغراق السعودية في أزمة موسم الحج، بما يعزلها كلياً عن الموضوع السوري.
إذن، تتحول سورية، هنا، إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، إذ يحضر الموضوع اليمني، إيرانيا، كما يحضر الموضوع الأفغاني قديماَ والليبي حديثا، روسياً، فيتأسس تحالف المنتقمين، مستدعياً "داعش" لافتة أنيقة، والحرب على الإرهاب، مدخلاً واسعاً للقتال، بينما الأهداف الحقيقة هي الربيع العربي، والطائفة والمذهب.
في المقابل، تقف كل من واشنطن وتل أبيب مرتاحتين تماماً لما يجري، على طريقة دعهم يصفون بعضهم في حرب الجميع ضد الجميع، بل إن إسرائيل لا تخفي تفضيلها خيار الإبقاء على بشار الأسد، هزيلاً ذليلاً، يعيش في كنف الروس، ولا يرفض تذوق اللحم الإسرائيلي، ويكف عن التغني الكذوب بأحاديث الممانعة، وحواديت الصمود والتصدي للعدو الصهيوني الامبريالي، إلى آخر هذه القائمة من الشعارات الحريفة.
وما ينطبق على النظام السوري، فيما يخص عدم الممانعة لإشراك إسرائيل في الحرب، ولو بسلاح الصمت الراضي، ينسحب على حزب الله الذي يتحول، هنا، من جماعة مقاومة للاحتلال إلى ميليشيا طائفية، تقاتل من أجل المذهب والمرجعية، وبالتالي، سيكون شيئاً أقرب إلى الكاريكاتور، لو بقي أصحاب حناجر القومية والمقاومة يواصلون هذا الهراء عن النظام الذي يرعب إسرائيل، وأسد المقاومة الذي يزأر، فتهتز جدران الكنيست.
إن الموقف باختصار كالآتي:
*موسكو وطهران تحاربان، جواً وبحراً، من أجل بقاء رجلهما بشار الأسد.
* روسيا نسقت مع إسرائيل، وأطلعتها على الموقف قبل الحرب.
* إسرائيل سعيدة بالحرب على "الإرهاب".
* طهران وتوابعها، مشاركون مادياً في تحقيق ما يحقق سعادة إسرائيل
* النتيجة: روسيا وإيران وإسرائيل وبشار وحسن نصر الله يد واحدة.
يبقى، هنا، أن تسأل عن موقف عبد الفتاح السيسي مما يدور، وأظن أنه يمكن قراءة ذلك في ضوء تصريحاته الأخيرة في نيويورك بشأن الدعوة إلى توسيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، لتضم الدول العربية، وأيضاً حديثه عن استحالة فطام النظام المصري عن حليب الإدارة الأميركية، باختلاف مذاقاته، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، كما يمكنك الرجوع إلى تحولات الموقف الرسمي وتبدلاته من عاصفة الحزم ضد الميليشيات الحوثية في اليمن، وهو الموقف الذي يستند على مغازلة كل الأطراف، فيغمز لطهران بعين، ويضع الأخرى على "الأرز"، فالمبدأ هنا هو: من يدعم انقلابي أقول له يا عمي.
وهكذا يحسبها أيضا بشار: من يحفظ لي سلطتي هو سيدي.
رغم الضجة الإعلامية التي أعقبت تصريحات مسؤولين غربيين عن إمكانية إشراك بشار الأسد في حكومة انتقالية والاحتفاء، منقطع النظير، الذي أولته وسائل إعلامية لمثل هذا التغير بالموقف الدولي من الأسد، وبطبيعة الحال فقد كان النظام وحلفاؤه أكثر المستبشرين خيرا بهذه النتيجة التي وصلوا إليها بعد قرابة خمس سنوات من القتل والتدمير والتشريد، إلا أن التفصيل الأهم، والذي يبدو أنهم غفلوا عنه أو تجاهلوه عن قصد، هو أن الأسد تحول من محور أساسي في قضيتهم، وخطا أحمر كانت رسمته القيادة الإيرانية مرارا وتكرارا، إلى جزء من الحل تتم مناقشته واقتراح الطرق المثالية لإنجازه.
ولعل الوجود الروسي الذي بات علنيا وغير مستتر على الأرض السورية لا يمثل، بأي حال من الأحوال، قتالا بالنيابة عن الأسد، وإن كان في ظاهره يبدو حفاظا عليه، إلا أنه هو الآخر مرتبط بمعطيات على الأرض لا يريد الروس الانجراف فيها، ولا التورط أكثر في تفاؤلهم بإمكانية إعادة تعويم الأسد وإن من الباب الواسع المفتوح على مصراعيه عالميا، أي باب محاربة الإرهاب وتنظيم داعش على وجه الخصوص، الذي يشكل بدوره الشغل الشاغل لإدارة باراك أوباما الفاشلة في اجتراح حلول مناسبة للمنطقة، والمحرجة أمام نجاح إزالة الحوثيين من اليمن، وهذا الأمر بالذات يجري بطريقة مدروسة ومنظمة، وقد بدأت ثماره تجنى عسكريا أولا وسياسيا ثانيا، في الوقت الذي عجز فيه التحالف الدولي عن تحقيق أي إصابة مباشرة، أو حتى التمكن من تدريب مقاتلين على الأرض لوقف تمدد تنظيم داعش.
وما دام الأسد قد أبدى بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال قبوله بالوصاية الروسية عليه أن يكون جزءا من الحل، لذلك فإن عليه أن يمتثل بالضرورة لما ستؤول إليه الأوضاع ولما يمكن الاتفاق عليه، سرا أو علانية، بين المتباحثين إن على هامش الجمعية العامة أو في أروقة دبلوماسية أخرى. وهو بطبيعة الحال لن يكون قادرا على الرفض ما دام بات تحت الوصاية، ولا يمكن أن يصدر أي قرار بعيدا عن أوصيائه الشرعيين، وباعتراف أممي، تمثل في تخصيص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساحة لا يستهان بها من خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة للحديث في الشأن السوري، وتحديدا للدفاع عن بشار الأسد.
لكن بوتين بالمقابل يدرك أن الأسد لا يمتلك أي وسائل تدعم بقائه دون إسناد مباشر من قبل حلفائه، وما الحديث عن قدرة الجيش السوري سوى سياق عابر يدرك الجميع عدم واقعيته، فالجيش الذي تعرض لعشرات الهزائم المتلاحقة في مختلف المعارك التي خاضها، وآخرها معركة الزبداني، لا يمكن بأي حال التعويل عليه لمقاتلة تنظيم داعش الذي تفوق في مرات سابقة على قوات الأسد، وجعلها تندحر أمامه.
وإذا كانت روسيا مقتنعة حقا بضرورة الوصول إلى حل سياسي في سوريا، فإنها بالمقابل تدرك أن هذا الحل لا يمكن فرضه مع الإصرار على بقاء الأسد في السلطة، في ظل وجود ثورة شعبية ضده، تريد موسكو تجاهلها والإيهام بأنها غير موجودة، لكنها تعلم تماما أن هذا الكلام ليس صحيحا، وأن ثمة الملايين من السوريين الذين لن يقبلوا بقاءه، وأن قوى إقليمية كبرى لن تقبل بمثل هذا الاقتراح، وموسكو بطبيعة الحال حريصة على خطب ود تلك القوى في ضوء أزماتها الاقتصادية التي لن يخرجها منها وقوفها إلى جانب الأسد وهي لن تقدم شيئا دون مقابل.
إذن لا بد من صيغة مناسبة تجعل من الأسد جزءا من صفقة لاحقة قد يتم التحضير لها، وبالنتيجة حثّه على الانسحاب بهدوء ومغادرة السلطة، طالما أن الأمر ممكن قبل أن تتطور الأمور أكثر ويصير لزاما على روسيا التورط أكثر، وهذا ما يراجع الكرملين نفسه بشأنه مئات المرات قبل أن يقدم عليه، وهو يضع نصب عينيه ما حدث غير بعيد في أفغانستان.
سوريا المدمرة التي تقطر دماً لم تعد مكاناً ملائماً لا للأوهام التي أشاعها خطاب فلاديمير بوتين في الامم المتحدة ولا للمعجزات التي سبق لوليد المعلم ان تحدث عنها عندما زار موسكو قبل أشهر، على الأقل لأننا امام أزمة دامية مستعرة منذ خمسة اعوام تقريباً تحطمت فيها حسابات ورهانات كثيرة.
بوتين على الخطى التي اعلنها أوباما منذ البداية فهو لن يقاتل على الارض، صحيح انه أرسل ألفي عسكري الى طرطوس واللاذقية وفق تقارير واشنطن، لكن هؤلاء يسهرون على المقاتلات وشبكات الصواريخ المضادة للطائرات، لكأن "داعش" يملك سلاحاً جوياً!
وهو ايضاً على خطى أوباما المعيبة والخبيثة في تعاميه عن المذابح وتردده في دعم المعارضة، ما وضع السوريين أمام خيار قاتل "إما الديكتاتورية وإما الإرهاب"، عندما يتحدث عن أمرين فيهما الكثير من الخبث والعيب، اولاً عندما يعلن ان ليس في سوريا معارضة بل هناك نظام الاسد والإرهاب الذي يقاتله، بما يعني انه يضع السوريين مباشرة أمام الخيار بين ديكتاتورية النظام وإرهاب "داعش"، وثانياً عندما يعتبر ان الاسد وحده يختزل في شخصه الدولة والشعب السوري!
والدليل ان العالم يدعو منذ ثلاثة أعوام الى حل سياسي على قاعدة تشكيل حكومة انتقالية تستبعد الاسد وتحافظ على ما تبقى من هياكل الدولة، بما يساعد على تزخيم الحرب ضد "داعش"، وليس سراً ان كيري سبق له ان كاشف لافروف بضرورة إيجاد مخرج آمن للأسد، لكن إصرار بوتين على بقائه يحبط الحل السياسي منذ بداية الازمة!
عندما عقد مؤتمر "جنيف -1" في حزيران 2012 كان عدد القتلى لا يتجاوز 50 الفاً، والآن هناك ما يقارب الـ 250 الفاً، وكان عدد اللاجئين لا يزيد على خمسمئة الف وهناك الآن اكثر من 11 مليوناً أي نصف الشعب السوري الذي يدأب بوتين على القول إنه وحده يقرر مصير الاسد، في حين ان الاسد وحده هو الذي يقرر المصير البائس للشعب السوري.
بوتين لن ينزل الى الارض لأنه لا يريد افغانستان سورية، ويعرف ان عديد جيش الاسد كان أكثر من نصف مليون ويقاتل بدعم من موسكو وبمشاركة ميدانية من ايران وأذرعها العسكرية، وكانت النتيجة ان الاسد اعترف بأنه يعاني نقصاً في عديد جيشه ويبرر انسحاباته الى المناطق العلوية، فهل يظن بوتين انه بشحن المزيد من الاسلحة يمكن ان يحسم المعركة؟
وإذا كان يعتبر ان المعركة تحتاج الى تحالف دولي لمواجهة الإرهابيين الذين يشبهون النازية فعلاً، ويعرف جيداً ان عقدة واحدة تعرقل قيام هذا التحالف هي تمسكه بالاسد، فهل نصدق انه يريد حلاً ام أنه يحشد في طرطوس لحماية الدولة العلوية ... مجرد سؤال!