عادة الأمور فيما يتعلق بسوريا ، إلى نقطة البداية ،و الدوران و المراوحة من جديد ، و تستمر "المتاجرة" بها و لعبة شد الحبل بين الأطراف الدولية ، وكل طرف يغرد على ليلاه المريضة في كل رقع الأرض إلا في سوريا .
حفل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورته الـ70 ، بخطابات متناقضة لقادة الدول الفاعلة و اللاعبة الرئيسية في الملف السوري ، ولم يخرج عن هذه الخطابات أو اللقاءات الجانبية التي سبقتها أوتلك التي أعقبتها ، أي جديد على صعيد رؤية موحدة لـ"الحل" ، فكل طرف مازال متمسكاً برؤيته ، مصالحه الشخصية ، لكنهم اتفقوا على جملة مشتركة "الشعب السوري هو من له الحق في تقرير مصيره" ، ولكن هل كان الشعب أو ممثلاً عنه حاضراً ، ليُسمع صوته .
الرئيس الأمريكي كالعادة كرر عبارات الطاغية و القاتل ، أكد أن لامكان للأسد في مستقبل سوريا ، دون أن يحدد أي وسيلة لتطبيق هذا الهدف ، فيما عاند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجميع ، مقترحاً أن الأسد هو الحل و جيشه هو المفتاح الرئيسي و الأساسي .
وصحيح أن الرئيسين غردا بعيداً عن بعض على منصة الأمم المتحدة ، لكنهما إجتماعا و تبادلا نخب الإتفاق على التعاون الكامل فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب الظاهر و العلني "داعش" ومنعها من التمدد ، فيما أجلا مشكلة الأسد للفترة التي لايبقى فيها أمل في بقاءه أو يكون هناك مستقبل لسوريا بعد ذهابه .
بعيداً عن الحرب الكلامية العلنية بين أمريكا و روسيا ، و العلاقات الحميمية بين الأروقة ، سبح الرئيس الفرنسي بإتجاه معزوفة المنطقة الآمنة ، التي للآن لا إتفاق على طبيعتها و كيفية الإنطلاق بها ، ولا حتى ماتتضمن وممن ستكون آمنة .
في ظل هذه الضوضاء و التشتت ، يبقى الشعب السوري الذي يعامل كلوحة على جدار غرف الإجتماعات ، يلتقون أمامها ، يخرجون و يتركونها على حالها ، دون حتى أن يمسحوا الغبار المتولد عن سجائرهم و نفسهم .
لايمكن في ظل هذه الهجمة التي يتعرض لها الشعب السوري بكافة أطيافه ، الوقوف موقف المتفرج ، والمتابع من بعيد ، الإكتفاء بمجرد نقل الخبر ، أو اعداد تقرير عن حادثة ما .
فالجميع إلا ما ندر بات مشتركاً ، فعلاً أو كلاماً أو تصرفاً أو صمتاً ، في عملية إنهاء أي وجود لـ300 ألف شهيد و مليون مفقود ،أكثر من 12 مليون نازح و لاجئ و مهاجر ، محي ملايين البيوت التي هدمت من الذاكرة ، تحول عروس العرب و المسلمين سوريا إلى ركام .
لايمكن أن نعود من جديد ، صاغرين ، متناسين ، مجبرين ، لوضع رقابنا تحت ذات السكين و ذات الأشخاص ولو حصل بعض التغيير بالأقنعة .
خرجت منذ سنوات أولى المظاهرات ، واستمرت و نبضت معها الحياة في عروق ظن المستبدون أن قد تجمّدت ، إذ هي حيّة ، ملئا بالنشاط .
الثورة هي الحل ، في وجه كل ما يدور في الفلك السياسة الخارجية و العبث في ميادين القتال .
الثورة هي الحل في مواجهة كل ما يتم تطبيقه بخبث و دهاء .
الثورة الحل لوأد أي فكرة تؤدي إلى ضياع البوصلة .
الثورة هي الحل في متابعة المسيرة ، ومتابعة العهد الي قطعه كل إنسان سوري شريف لأب أو أم أو أخ أو إبن أو إبنة أو زوجة ، خال أو عم ، صديق أو رفيق أو جار أو شريك بالوطن .
هي العهد حفاظاً على حياة دماء شهدائنا في عروقنا ، ووعد بالمتابعة لتطمئن أنفسنا و ترتاح من حمل الأمانة .
الثورة هي الحل .. مشروع من أبناء الثورة "شبكة شام" ، و لكل أبناء الثورة و منهم أيضاً ، وهي فكرة مفتوحة الأبواب على مصراعيها للجميع ليكون مشاركاً ، فاعلاً مناصراً ... وليس مجرد متفرج .
بدخول القوات الروسية الكثيف إلى الساحل السوري، دخلت القضية السورية مرحلة جديدة. لم يعد النقاش يدور، كما كان في المرحلة الأولى التي تم الاتفاق فيها على بيان "جنيف 1" حول الطريقة التي ينبغي على الأسد أن يتنحى فيها عن الحكم، ليتيح للسوريين الانتقال إلى نظام سياسي جديد، يلبي تطلعاتهم إلى الحرية التي ثار شبابهم من أجلها، ولا حول استبعاد الحل العسكري، وإعطاء الأسبقية للحل السياسي، كما حصل في المرحلة الثانية التي قادت إلى انعقاد مؤتمر مونترو ومفاوضات جنيف 2، على طريق دفع الأطراف إلى الانخراط في هذا الحل. إنه يدور، الآن، في هذه المرحلة الجديدة حول الطريقة التي ينبغي، أو يمكن فيها إعادة تأهيل الأسد، وفي أية شروط، ولأي فترة، وبأية صلاحيات.
يشكل هذا التحول في الموقف الدولي انقلاباً بمقدار 180 درجة عن نقطة البداية. فقد انطلق الجهد الدبلوماسي منذ عام 2011 من نقطة واضحة، هي إرضاء مطالب الشعب السوري الذي ثار على نظامٍ لا ينكر أحد من المسؤولين الدوليين طبيعته الدموية، وهو ما برهن عليه وأكده، بشكل أكبر، رد النظام وأجهزته على المسيرات السلمية بالسلاح الناري، منذ الأيام الأولى، قبل إدخال الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وتالياً استخدام الأسلحة الكيمياوية. وعلى الرغم من التلفيق الدعائي المنقطع النظير للنظام، وجيوشه الإلكترونية وأجهزة إعلام حلفائه، ودفاع هؤلاء عنه، بكل الوسائل واتهاماتهم للشعب والمعارضة وتشويه سمعتهما. لم تعرف تلك المرحلة سوى الإدانات القاسية للنظام القائم على ضوء ما كانت تنشره، ولا تزال، المنظمات الحقوقية والإنسانية من تقارير ووثائق تثبت تورط النظام وأجهزته في جرائم وصفت، دائماً، بأنها ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، ومنها جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية. وكان من نتيجة ذلك تشكيل تجمع أصدقاء الشعب السوري من أكثر من مائة دولة، والتصويت على مجموعة مهمة من القرارات في مجلس الأمن والجمعية العامة، تؤكد جميعها تجريد الأسد ونظامه من الشرعية، والاعتراف بالمعارضة السورية ممثلة شرعية للشعب السوري.
وقد زاد، في هذه المرحلة، حماس الدول والمنظمة الدولية لفكرة الانتقال السياسي، وصدرت القرارات التي تؤكد حق السوريين في التغيير السياسي، واختيار ممثليهم بحرية، وإعادة بناء نظامهم السياسي على أسس ديمقراطية. وبعد أن تركّزت الجهود الدولية، في البداية، على تأكيد شرعية المطالب الشعبية السورية التي تبنتها غالبية الدول، بدأت الجهود تتركّز، بشكل أكبر، في المرحلة الثانية على إيجاد الوسائل والطريقة المثلى لتحقيق هذا الهدف.
من تطلعات الشعب السوري إلى الحرب على الإرهاب
لم يغيّر استخدام موسكو حق النقض في مجلس الأمن من هذا التوجه العالمي الشامل نحو إدانة النظام ورجالاته، ووضعهم جميعاً على قائمة العقوبات الدولية، ولا من الإجماع على شرعية
الانتقال السياسي في سورية، وضرورة تنحّي الأسد، ورحيل نظامه الدموي. كل ما نجح فيه هو وضع العراقيل أمام وصول الجهود الدولية إلى غايتها، وتحقيق ما كان العالم كله ينتظره من تغيير سياسي، ووقف لعمليات القتل المنظم والمدروس للمدنيين السوريين. وكان النظام وحلفاؤه لا يزالون على خط الدفاع، وتحت الهجوم السياسي والقانوني والأخلاقي والعسكري أيضاً، يكاد أكثرهم لا يتجرأ على الإعلان الصريح عن دعمه له. أما موسكو فلم تكن لتجد ذريعةً للتغطية على تورطها إلى جانب النظام، إلا في رفضها نموذج حرب التدخل العراقية والليبية، أي الخوف من الفوضى، وتأكيد تمسكها بالشرعية القانونية، وهي غير الشرعية السياسية المفقودة، ورفضها مبدأ التدخلات الدولية.
لكن، منذ انهيار محادثات جنيف 2، بتصميم مشترك روسي إيراني، شهد المناخ الدبلوماسي الدولي تحولاً مضطرداً في النظر إلى القضية السورية، بدأ من خلال القبول المتزايد، ولو على مضض، إنما بشكل أكثر إلحاحاً، وبمشاركة بعض دول تجمع أصدقاء الشعب السوري، بتسويق فكرة تقاسم السلطة بين النظام والمعارضة. وبينما كان ممثلو النظام لا يزالون مستمرين برفض الاعتراف بوجود معارضة أصلاً، واعتبار ما حصل من احتجاجات شعبية مؤامرةً دوليةً ضد نظام الحكم الممانع، حاول الروس، بإصرار، فرض تفسيرهم الخاص لقرار مجلس الأمن رقم 21118 الذي أراد أن ينقذ "جنيف 1" بتقديم آلية، كانت مفتقدة، لتطبيقه، هي البدء بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات، تتشكل بالتوافق بين أطراف من النظام والمعارضة، وتمثل نوعاً من انتقال مرحلي أول للسلطة، يضمن تنفيذ بنود اتفاق جنيف العديدة، بما فيها وقف إطلاق النار وتحديد شكل النظام المقبل، وترميم مؤسسات الدولة وإصلاحها، والقيام بأعمال الإغاثة، ثم إعادة الإعمار.
وسرعان ما استخدم الأسد وحلفاؤه التفسير الروسي لشكل الهيئة الانتقالية وصلاحياتها، من أجل تقويض فكرة المفاوضات نفسها، وكسب مزيد من الوقت، على أمل تحقيق الحسم العسكري، وتشتيت المعارضة. وهذا ما ساهمت به، أيضاً، موسكو والقاهرة وطهران، في رفضها جميعاً الاعتراف بتمثيلية "الائتلاف"، وتشويه سمعته، والعمل على تجاوزه، من خلال الدعوة إلى مؤتمرات وتجمعات بديلة، من جهة، والتركيز، من جهة أخرى، على تمدد القوى المتطرفة، وفي مقدمها داعش، بل تشجيعها على التقدم في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، للوصول إلى ما كان الأسد وحلفاؤه يحلمون به دائماً، وهو وضع المجتمع الدولي أمام أحد خيارين لا ثالث لهما، التعامل مع نظام الأسد، مقدمة لإعادة تأهيله، أو القبول بسيطرة داعش وأخواتها.
خلال الأشهر الماضية، أحرزت هذه الاستراتيجية تقدماً كبيراً. فبدأت دول أوروبية كثيرة تتأثر ببعض الحجج والذرائع الروسية، وتظهر خوفاً متنامياً من تمدد الإرهاب على حساب التجاهل المتزايد لحقوق الشعب السوري ومصيره، ولم تعد تنظر إلى الأسد ونظامه من منظور انتهاكاته الخطيرة لحقوق الإنسان، وإنما من منظور ما يمكن أن يقدمه، بصرف النظر عن الجرائم التي ارتكبها بحق شعبه، في الحرب على الإرهاب. وفاقم من هذا التوجه عند بعضهم الفشل الذريع الذي منيت به الخطط الأميركية في هذا المجال، والخوف من الانهيار الوشيك لنظام الأسد، وتمكّن القوى الإسلامية المتطرفة، وغير المتطرفة، من السيطرة على العاصمة السورية.
رئيس أم ذريعة للتدخلات الأجنبية؟
في هذا السياق، يأتي التدخل الروسي العسكري على الأرض، ليستفيد من تخبط الاستراتيجية الغربية في المسألة السورية، ليسترد زمام المبادرة التي فقدها، ويفرض الأمر الواقع الذي لم يكن من الممكن حتى التفكير فيه في بداية الثورة، وتحقيق ما كان النظام يحلم به، منذ اليومالأول الذي قرر فيه استخدام أقصى درجات القوة والعنف، لقلب الوضع على المتظاهرين السلميين، ووأد الثورة في مهدها. ومن خلال مشاركته في تثبيت نظام الأسد، وإعادة فرضه على السوريين، بالقوة، يحلم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بقلب الطاولة على الدول الغربية، واستعادة المبادرة الدولية، أو على الصعيد الدولي، وإجبار الولايات المتحدة وأوروبا على التراجع عن العقوبات التي فرضتها عليه، والتنازل له في أوكرانيا وفي بقاع العالم الأخرى. إنقاذ الأسد، وتثبيت حكمه ونظامه، هو اليوم الورقة الرئيسية، "الجوكر"، الذي يحلم بوتين أن يتخلص، بفضلها، من أزمته، ويفرض روسيا على العالم قوة رئيسية، وقطباً عالمياً لا مجال لتجاوز إرادتها ومصالحها، ولا مهرب من التعامل معها نداً، وعدم القبول بأي إجراءات عقابية ضدها، مهما كانت سياستها، تماماً كما أن أحداً لا يتصور أن تعلن مجموعة من الدول العقوبات ضد الولايات المتحدة.
هذا يعني أن معركة نظام الأسد تحولت إلى معركة روسيا نفسها ضد الغرب، وهذا ما كانت موسكو تخطط له منذ البداية. فهي لم تر في سورية شيئاً آخر، لا شعباً ولا حقوقاً ولا قانوناً ولا نظاماً ولا أسد ولا فأراً. لم تر فيها إلا أنها نافذة فرص للانقضاض على الغرب وإجهاض استراتيجية في الهيمنة والتنطع للقيادة العالمية التي فرضها أو يريد أن يستمر في فرضها على العالم.
وهذا ما حصل من قبل مع إيران الخامنئية التي لم تر، أيضاً، في سورية التي مازالت أقدامها بفعل الثورة، وتفجر الصراع الداخلي، لا نظاماً بعثياً ولا شيعة ولا سنة ولا شعباً ولا حقاً، ولا من باب أولى ممانعة أو مواجهة لإسرائيل. رأت في سورية فرصةً لا تقدّر بثمن للتوسع الإقليمي واستعراض القوة والنفوذ ما كانت تحلم به في أي وقت. فكان خيارها في دعم الأسد، وتثبيت حكمه، ومده بكل وسائل القوة وسيلتها المنزلة من السماء للضغط على الغرب، ونيل ما تريده منه، من فك الحصار ورفع العقوبات وتوقيع الاتفاق النووي، والاعتراف بها قوة إقليمية رئيسية.
لم يأت الروس لشن الحرب على داعش والمنظمات الإرهابية، وإنما لحجز مقاعدهم في أي تسوية محتملة مقبلة، وليست الحرب ضد الإرهاب إلا ذريعة يستخدمونها، كما استخدمها من قبلهم الإيرانيون، وعملوا على تسهيل تمددها، ليدفعوا العراقيين والسوريين، وفي ما وراءهم المجتمع الدولي، إلى التساهل مع مشروعهم للهيمنة الإقليمية، وتبرير وضع يدهم على نظام الأسد، ومن ورائه على القرار السوري وسورية نفسها، بل إلى دفع المجتمع الدولي إلى توسل دعمهم وتعاونهم بعد قطيعة دامت عقوداً.
وهذا ما فعله نظام الأسد نفسه من قبل، عندما أطلق سراح معتقلي المنظمات المتطرفة القاعدية، وغير القاعدية، ليستخدم هذا التطرف بالذات فزّاعة في وجه المجتمع السوري والمجتمع الدولي معاً، ويبتز به الجميع، لتبرير رفض أي تنازلات، وبالتالي، أي مفاوضات، وتثبيت الوكالة الحصرية التي أعطيت لأبيه في حكم سورية والاستفراد بملكيتها.
هكذا، نعيش اليوم ربما أشنع لحظة في تاريخ القضية السورية، حيث أدت المناورات والتناقضات والخيانات وأعمال الغدر، هنا وهناك، إلى أن ينقلب الوضع السياسي والدبلوماسي رأساً على عقب، فيصبح الحفاظ على نظام الأسد وتمكينه، عسكرياً وسياسياً، بذريعة الوقوف في وجه تمدد الإرهاب، الذي أطلق هو نفسه شياطينه، غاية المساعي الدولية من إنهاء النزاع في سورية، وليس إنقاذ الشعب السوري من محنته الدموية، وتلبية تطلعات السوريين، وتطمينهم على مصيرهم وحقوقهم، سواء جاء هذا التمكين بالحسم العسكري، أم بالمفاوضات، لقاء ثمن بخس، هو تشكيل حكومة "وحدة وطنية"، أي تطعيم حكومة الأسد القديمة بمزيد من شخصيات المعارضة الانتهازية والوصولية.
وهكذا، أصبح مصير الشعب السوري قضية إنسانية، تتعلق بإغاثة اللاجئين واستقبالهم، بينما أصبح تأهيل نظام الأسد المنهار البند الأول في أعظم قمة دولية سياسية، تعقد لمناقشة الشؤون العالمية.
لن يكون مصير التدخل الروسي أفضل من مصير التدخل الإيراني الذي سبقه. لكن، إذا قيّض لهذا المشروع الروسي الإيراني السوري أن ينجح، وتتحول جلسة الجمعية العامة إلى جلسة مناقشة في مصير الأسد، وإنقاذ نظامه، بدل الإجماع على دفع ملفه إلى محكمة الجنايات الدولية، كأكبر قاتل في هذا العصر، سيعني ذلك، بصرف النظر عن الأسباب ومسؤوليات المعارضة السورية وأداء الدول الحليفة والصديقة وأخطائها وحيثياتها، أنه لم يعد هناك فارق كبير في الحياة الدولية بين السياسة والجريمة المنظمة، وأن إدارة الدولة والنظام الدولي لم تعد تختلف كثيراً في عصرنا عن إدارة المافيا أعمالها ومصالحها الإجرامية. هذا هو العالم الذي تريد روسيا البوتينية أن تقودنا إليه.
يبدو أن على الشعب السوري أن يتحضر نفسياً ، وصوتياً للهتاف و الصراخ بملئ الحناجر ، و العمل على تجهيز عبارات التمجيد للأب بشار و "الجد "حافظ ،و إنتظار بطل عائلة الأسد الجديد حافظ "الحفيد" ، ليكون ربان سفينة الموت المستمر منذ عقود و لعقود .
تدخل القضية السورية اليوم مرحلة غاية في التعقيد و تكاد الأشد قتامة ، مع الطروحات التي باتت على طاولة السياسة العالمية ، والتي تهدف لإعادة تدوير بشار الأسد ليصلح كرئيس مؤقت ريثما يحين وقت إبنه "حافظ" ليستلم الدفة ، في مشهد يتكرر للمرة الثانية مع نظام الإستبداد و الطائفية ، الذي يعرف بـ"نظام الأسد" أو نظام حكم الأقليات.
يتكرر سيناريو الأب "حافظ" ، مع الإبن "بشار" ، بين 1981 و 2011 ، نفس المجريات بتغيير في الشخصيات و الأسماء و لكن الأمور تسير نحو نفس النهاية .
في الثمانينيات العائدة للقرن الماضي ، استبعد حافظ أخيه واضعاً كل الجرائم عليه ، و بقي حاكماً و حامياً و أميناً لمصالح العالم بأسره إلا مصالح شعبه ، هاهو اليوم إبنه "بشار" يتجه صوب ذات الأمر بأن يضع كل الجرائم باسم أخيه و بعض محيطيه ، يكون هو الرئيس الذي خُدع من قبل من يحيط به ، و يستمر بدور أبيه ، يحضر إبنه "حافظ الحفيد" ليكون قائداً مستقبلياً يتلاقى مع تطلعات جماهيره ، يغسل الدم الذي بعثره أباه في كل قطعة أرض و على إمتداد الوطن .
نظّف الأب "حافظ" قذاراته في الحرب اللبنانية و اعتبر بطل أنقذ بلاده و جارته لبنان من حرب أهلية ، و اليوم يُعمل ذات الأمر مع الإبن "بشار" الذي جاء دور تنقيته من جرائمه ، من خلال مساعدة العالم على التخلص من "داعش" ، يبقى الحال على ماهو عليه ريثما يأتي الحفيد "حافظ" .
قد يكون هناك إفراط في التشاؤم لحد الجنون ، و لكن المجريات التي تدور الأروقة تدل على المسارات التي يقودها الساسة في العالم نحو هذا الإتجاه ، بات الأسد هو المعاني و المتألم من الإرهاب و هو يحمل هم وهموم العالم في إنقاذه من وحش "داعش" ، وكما قال بوتين لنظرائه الغربيين أن "الأسد لا يشكل خطراً إلا على شعبه .. ولا تأثير له على العالم بعكس داعش".
بدأت الأزمة الأفغانية واقعياً عام 1973م،في أعقاب قضاء (الأمير محمد داود)على الملكية، واستيلائه على الحكم، إلا أنه لم يستطع تحقيق الاستقرار والأمن في البلاد، حيث تعاظمت الاضطرابات وزادت حركات التمرد، إلى أن قتل في الانقلاب العسكري في (نيسان) 1978م، وأعلن حزب الشعب الديموقراطي في بيان إذاعي أن السلطة قد أصبحت بأيدي المجلس الثوري للقوات المسلحة ، وباستيلاء الشيوعيين على الحكم، كخطوة أولى، تأكدت التوقعات من أن الخطوة التالية، ستكون الاحتلال الكامل لأفغانستان.
ففي كانون الأول 1978، وقعت موسكو معاهدة صداقة وتعاون ثنائية مع أفغانستان تسمح بالتدخل السوفييتي في حال طلبت أفغانستان ذلك ، وازدادت المساعدات العسكرية السوفييتية وأصبحت حكومة (حفظ الله أمين) معتمدة أكثر فأكثر على العتاد والمستشارين العسكريين السوفييت. ولكن في شهر تشرين الأول عام 1979 فترت العلاقة بين أفغانستان والاتحاد السوفييتي عندما تجاهل (حفظ الله أمين) النصائح السوفييتية بجعل حكومته أكثر استقرارا.
تحرش المقاتلون في المناطق الجبلية بالجيش الأفغاني إلى درجة أن حكومة (حفظ الله أمين)توجهت إلى الإتحاد السوفييتي بطلب لزيادة حجم الدعم. فقرر الاتحاد السوفييتي تقديم هذا الدعم للحفاظ على الحكومة الموالية له في البلاد، ولكن شعرت بأن (حفظ الله أمين) كقائد أفغاني ليس قادرا على القيام بهذا الدور.
في 22 كانون أول أشار مستشارو القوات المسلحة الأفغانية السوفييت على القوات المسلحة الأفغانية بالعمل على صيانة الدبابات وأشكال أخرى من العتاد الحرج والمهم ، وفي تلك الأثناء انقطعت شبكة الاتصالات إلى المناطق خارج كابول، عازلة بذلك العاصمة. وبوضع أمنى متدهور، انضمت أعداد كبيرة من القوات السوفييتية المجوقلة للقوات المتمركزة على الأرض وبدأت بالانتشار في كابول. وفي ذات الوقت نقل ( أمين ) مكاتب الرئاسة إلى (قصر تاجبك) ، معتقدا أن ذلك سيكون أكثر أمنا من المخاطر المحتملة.
في 27 كانون أول عام 1979، قام 700 بينهم 54 عميل( كي جي بي ) من القوات الخاصة مرتدين اللباس الأفغاني الموحد باحتلال الأبنية الحكومية والعسكرية والإذاعية الرئيسية في العاصمة كابول، بما فيها هدفهم الرئيسي (قصر تاجبك الرئاسي)، حيث تخلصوا من (الرئيس حفظ الله أمين) . بدأت تلك العملية الساعة السابعة مساء، عندما قام أفراد القوات الخاصة السوفييتية بتفجير مقسم الاتصالات الرئيسي في كابول شالين بذلك القيادة العسكرية الأفغانية، وفي الساعة السابعة والربع، بدأت المعركة في (قصر تاجبك) واستمرت لمدة 45 دقيقة ، وأعلنت القيادة العسكرية بأنه جرى تحرير أفغانستان من حكم (حفظ الله أمين).
ووفقا للمكتب السياسي السوفييتي، كان السوفييت يطبقون معاهدة الصداقة، التعاون وحسن الجوار لعام 1978 التي وقعها الرئيس السابق ( تاراكي ) ، واعتقد السوفييت بأن إزاحة ( أمين ) ستنهي الصراع الداخلي ضمن حزب الشعب الديمقراطي الأفغاني ويقلص من السخط الأفغاني.
قال السوفييت أن إعدام (حفظ الله أمين) تم على يد اللجنة الثورية المركزية الأفغانية التي اختارت (بتدبير السوفييت) النائب السابق لرئيس الحكومة (بابراك كارمال) بديلا عنه ، ودخلت القوات الأرضية العسكرية أفغانستان من الشمال في 27 كانون أول . وفي الصباح كان الاجتياح السوفييتي لأفغانستان جاري على قدم وساق.
بشكل عام، رفض (بريجينيف) 18 طلب رسمي للمساعدة العسكرية من الحكومة الأفغانية قبل الأمر بالتدخل السوفييتي الفعلي في أفغانستان ، وبشكل قانوني لم تكن العملية احتلالا، وادعى الاتحاد السوفييتي أن التسمية كانت نتيجة للدعاية الأمريكية المضادة للسوفييت.
وتؤكد الوقائع والأحداث في سورية أن روسيا بدأت مستوى جديداً من دعم النظام السوري ، وبناءاً على هذا وكل ما سبق خلال أربع سنوات كسبت روسيا عداوة الشعب السوري، وباتت بالنسبة للملايين شريكاً للسلطة السورية وطرفاً
عدواً، وبغض النظر عن مواقف الدول العربية من روسيا كدولة، إلا أنها دون شك خسرت بسياستها المتحيزة تجاه الأزمة السورية صداقة الشعوب العربية، وفقدت ثقة العرب بها، وهي في طريقها لخسارة أي مستقبل مقبول لها في المنطقة.
وبدخول أول جندي روسي بسلاحه إلى سورية ليقتل سورياً، باتت روسيا خطراً على الشعب السوري، وباتت من وجهة نظر السوريين قوة احتلال أجنبية دخلت إلى سورية لحماية النظام وإطالة عمره ليس إلا، ثم أن هذا المستوى الجديد من الدعم هو دليل على أن نظام الأسد بلغ نقطة الانكسار التي تسبق السقوط المدوّي ، ولم يعد ممكناً إنقاذه سوى بدعم عاجل من القوات الروسية التي انضمّ إليها مئات من جنود ”الباسداران” الإيرانيين في الأيام الأخيرة.
لكن للتاريخ دروس وعبر ، فحينما دخلت القوات السوفياتية إلى كابول في ٢٤ كانون الأول ١٩٧٩ لإنقاذ النظام الذي لم يكن يسيطر سوى على المدن وعلى ٢٠ بالمئة من أفغانستان، كان أول ما قامت به هو إعدام الرئيس الصديق (حفيظ الله أمين ) في ٢٧كانون الأول، واستبداله (بـبابراك كارمل ) الذي أعدمه الروس أنفسهم لاحقا.ً
ما يحدث في دمشق، في هذه الأيام الحاسمة، هو محاولة روسية ـ إيرانية يائسة للحؤول دون سقوط بشار الأسد، أو للحؤول دون إخلاء دمشق والانسحاب إلى منطقة الساحل، إلا إذا كان الروس والإيرانيون قد سلّموا بسقوط العاصمة.
مصير بشّار الأسد لن يكون مختلفاً كثيراً عن مصير (حفيظ الله أمين) ، فمن يكون (بابراك كارمل) السوري؟ حرب أفغانستان أسقطت الإتحاد السوفياتي ( العظيم )، فهل تسقط إمبراطوريتي الشاه خامنئي والقيصر بوتين في الوحول السورية؟
مع العلم أن الهزيمة المنكرة التي مني بها الاتحاد السوفيتي على يد الأفغان ، راسخة في ذاكرة كثير من الروس حتى وقتنا الراهن. وهو ما تجلى بوضوح في تردد موسكو بشأن التورط في أفغانستان مرة أخرى حتى في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، حيث رفضت روسيا وما زالت ترفض أن تضع قدما في أفغانستان مرة أخرى.
وفي المقابل يدرك الروس أن التدخل العسكري خارج حدود روسيا، ولا سيما في المنطقة العربية له تبعات كبيرة جدا، ليس أولها تكرار السقوط في مستنقع أشد شراسة من أفغانستان، ولن يكون آخرها التفريط بحجم كبير من المصالح الاقتصادية المتبادلة مع الدول العربية والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص.
ويدركون أن أي تدخل عسكري روسي مباشر في سورية سيحولهم إلى قوة احتلال أجنبية يتحد على مقاومتها جميع مكونات الشعب السوري، ويدركون جيدا أن إيران التي زجت بكل قواها ابتداء من حزب الله إلى كتائب أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق وبقية الفصائل الشيعية وليس انتهاء بالمرتزقة الكوريين، لم تحل دون تقهقر الأسد وخساراته الميدانية المستمرة ، كما أدرك الروس يقينا ثمن التدخل في أفغانستان حيث خرجوا منها مهزومين منكسي الرؤوس مما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفيتي لاحقا ، فما الذي يمنع أن يتكرر ذلك في سوريا مع الاتحاد الروسي ؟
(فبشار) ليس بأفضل من (حفظ الله أمين) ، و(سوريا) ليست أقل من (أفغانستان) .
عاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو من موسكو، مؤكدا أن «عسكريي إسرائيل وروسيا سينسقون تحركاتهم في ما يخص سوريا».
قبله صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري بقول مشابه عن التنسيق بين عسكريي بلاده والروس، يعني ذلك قبولهما ضمنا دخول الروس الحرب في سوريا، ولكن حيث إن طائراتهم ستقوم بعمليات ضد أهداف «إرهابية» وفق مصطلح النظام الذي يشمل كل الثوار، وليس تنظيم «داعش» وحده، وفي الوقت نفسه تقوم الولايات المتحدة ودول أخرى باستهداف «داعش» في المساحة الجغرافية نفسها، كما أن إسرائيل تقوم بعمليات قصف تحددها وفق مزاجها ومعلوماتها الاستخباراتية، فباتت السماء السورية مزدحمة بالمقاتلات، وهو ما يعني ضرورة وجود «غرفة عمليات»؛ لتبادل المعلومات؛ لمنع حصول اشتباك بالخطأ يؤدي إلى سوء فهم بين دول تعيش كلها على الحافة.
إنها أخبار سيئة للسوريين، ودول المنطقة، إذ تعني إطالة أمد الحرب، ويفترض أنها كذلك للسيد دي ميستورا الذي لا يزال يحاول بناء «عملية سلام» تنهيها، ولكن التدخل الروسي سيمد في عمرها الافتراضي، ربما لسنوات أخرى.
ولكن في ما يخص السياسة، لا تغيير، لا يزال الأمريكيون يتحدثون بضرورة رحيل بشار الأسد، من دون أن يفعلوا شيئا، إنما زادوا طينة التردد بلة بعدما أضافوا جملة لا تعني شيئا، هي القبول به خلال مرحلة انتقالية لم تبدأ بعدُ، بل لم يتفق عليها، ومن ثم لن يستخدموا القوة لإنهاء النزاع، ودفع الأسد إلى مفاوضات مثلما فعل الرئيس الأسبق بل كلينتون، عندما حسم التردد الأوروبي في حرب البوسنة، فقصف الصرب حتى جنحوا للسلم، وذهبوا مع خصمهم البوسنوي إلى دايتون الأمريكية ووقّعوا اتفاقا أنهى الحرب. حل كلينتون كان سياسيا، ولكن بعد قوة لينت مواقف المتصارعين، وهو ما لا يجيده الرئيس باراك أوباما.
إيران طبعا، موجودة دوما في قلب خريطة القضية السورية، فيصرح نائب وزير خارجيتها عبداللهيان الثلاثاء الماضي بأن ليس لبلاده مقاتلون في سوري (طبعا لن يصدقه أحد)، وأنه لا بد من دور للأسد لحل أزمتها.
الرياض موقفها لم يتغير ولا تزال تؤكد عبر وزير خارجيتها عادل الجبير أنه «لا مساومة على موقف المملكة من رحيل بشار الأسد، وأنه تحصيل حاصل كيف يرحل، سلما أم بعد هزيمة عسكرية»، وقد أشار حتى الآن ثلاث مرات إلى إقصاء الرئيس السوري «عسكريا»، وهو ما يكشف أنها لم تكن جملة عارضة عندما استخدمها قبل أسابيع بمؤتمر صحفي مع وزير الخارجية الألماني، إنما موقف سعودي ينم عن استعدادها للمضي بعيدا لتحقيقه.
ولكن السعودية لا تريد بالتأكيد مواجهة مع الروس في السماء السورية، حتى مع استمرار تبني الأتراك والقطريين الموقف نفسه، وقد ذكرتُ هؤلاء الثلاثة فقط؛ لأنهم الوحيدون تقريبا الذين لا يزالون يدعمون المعارضة السورية المسلحة.
إذا، لا جديد، الدول المعنية بالصراع السوري متشبثة بمواقفها، وهو ما يعني أن الأزمة لن تنتهي هذا العام بعدما ساد تفاؤل أعقب انتصارات حققها الثوار في الشمال والجنوب، توافقت مع عاصفة الحزم السعودية في اليمن، وبروز المملكة كمغير لقواعد اللعبة في المنطقة حتى بمعزل عن الولايات المتحدة وإن أيدتها في مبادرتها هذه، ونجاحها في تشكيل تحالف يناصرها في اليمن.
بالتأكيد يمكن القول إن الروس أيضا غيَّروا قواعد اللعبة بنزولهم بـ22 طائرة وآلاف الجنود في الساحل السوري، وهو ما طمأن بشار أنه ليس براحل، على الأقل ليس من الساحل وسوريا المفيدة، كما سماها في خطاب أخير، ويبدو أن الدور الروسي هو في مساعدته لرسم خريطتها حتى تصبح أمرا واقعا.
هكذا مررنا على مواقف وأفعال وتصريحات عواصم ست تقرر مستقبل سوريا، واشنطن، موسكو، الرياض، طهران، أنقرة، الدوحة، ويمكن إضافة العواصم الأوروبية التي لا تزال في حالة صدمة استيعاب سيل المهاجرين المنهمر عليها، الذي يبدو أن لا أمل في إيقافه طالما أن أزمات الشرق الأوسط مستمرة، وهو ما يعني ضرورة أن تنشط لوقف هذه الأزمات المتسببة في سيل المهاجرين، ولكن -كما قلت- لا تزال في حالة صدمة.
غير أننا لم نتحدث عن أصحاب القرار الحقيقيين، الثوار الذين يصنعون الحدث بدمائهم وإصرارهم على الحرية في الداخل السوري، لا أحد يسأل ما إذا كان أبو عبدالله زهران علوش زعيم «جيش الإسلام» الذي يطرق أبواب دمشق الآن، أو أبو يحيى الحموي أمير «أحرار الشام» الذي يسيطر على معظم الشمال ويواجه «داعش» والنظام معا، مستعدين مع غيرهما من الفصائل، قبول صفقة ما يسترسل المحللون السياسيون في شرحها وتوضيبها بين كل تلك العواصم، لو قبل هؤلاء ببشار لانتهت الحرب، ولو رفضوا وأصروا على الحرية فالحرب مستمرة، على رغم كل اجتماعات كيري ولافروف، وجنيف 1 و2 و3.
أواخر تموز (يوليو) الماضي، قدمت السعودية للروس والعالم توصيفا مختصرا للأزمة السورية، عندما قالوا لعلي مملوك رئيس مكتب الأمن القومي السوري خلال لقاء سريع، تم بوساطة روسية «نوقف دعمنا للمعارضة، في المقابل تُخرِجون حزب الله وإيران والميليشيات الشيعية المحسوبة عليها من سوريا، وبذلك يكون الصراع سوريا/ سوريا، أو الحل سوريا/ سوريا، ونحن نبارك ما تتّفقون عليه». كما نقلت «الحياة» توصيفا صحيحا وبسيطا للأزمة هناك، ولكن من الواضح أنه لم يعجب الروس، إذ يعلمون أنه يعني سقوط الأسد ونظامه عندما ينفرد بشعبه الثائر عليه.
السعودية تعلم أن السوريين يرفضون النظام، إنها لا تراه فقط على شاشات التلفزيون، ولا في مؤتمرات اسطنبول، إنها تراه وتسمعه في الداخل السوري، ولعل هذا هو سبب موقفها المتشدد، وحان الوقت لأن يعلم العالم أن السعودية لا تستطيع التخلي عن المعارضة لتذبح؛ لأن ذلك يعني قبولها بسوريا إيرانية تمتد على كامل هلالها الخصيب، ومثل ما رفضت إيران في اليمن سترفضها في سوريا، نقطة على السطر.
استمعوا لأبي عبدالله، وأبي يحيى، وأبي مجاهد وكل أبوات الثورة السورية، فهم أصحاب الكلمة الفصل.
هل تخشى أوروبا من أسلمتها، وقد عبر حدودها مئات آلاف اللاجئين المسلمين؟ قبل أيام، صرّح مصدر رفيع المستوى من بروكسل، رفض الإفصاح عن هويته لوكالة فرانس برس، بتوزيع عاجل لقرابة 170 ألف لاجئ بين دول المنظومة الأوروبية. وتعداد اللاجئين المرتقب عبورهم الحدود الأوروبية كبير للغاية، قد يتجاوز المليون، قادمون من الشرق ويعتنقون الإسلام. لكن، هل توجد مخاوف من أسلمة الغرب؟ لو كان الأمر كذلك، لما دعا البابا فرنسيس إلى فتح أبواب الكنائس الكاثوليكية والمعابد، وتغليب الطابع الإنساني على السياسي، بالتعامل مع أزمة اللجوء. لا توجد مخاوف من أسلمة الغرب، بالقدر الذي يخشى العالم الغربي فيه من انغلاق هذه الفئات في تجمّعات "غيتو" في معظم أنحاء المنظومة الأوروبية، من دون الاستفادة من الفرص المتاحة لديه للتواصل والاندماج، أخذًا بالاعتبار إنّ موجة اللجوء الحالية هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن، يبقى السؤال قائماً بشأن إمكانية نجاح نموذج التعدّد الثقافي في العالم الأوروبي، المبني على العلمانية واحترام حقوق الإنسان؟ وعلى الأرجح، سيطغى هذا النموذج في المجتمع الأوروبي شديد التنوّع والخاضع لقوّة القانون، وليس لقانون القوّة، خصوصاً وأنّ نسبة اللاجئين محدودة مقارنة بتعداد الشعوب الأوروبية التي تعتنق المسيحية، وهناك دولة أوروبية واحدة فقط يرتفع معدّل مسلميها على 10%، من دون أن تشهد صراعًا دموياً، أو قتالاً على خلفية عقائدية، هي بلغاريا، أمّا باقي دول المنظومة الأوروبية، فنسبة مسلميها تقلّ عن ذلك بكثير.
لمواجهة أزمة اللجوء، هناك ضرورة للتفكير في اتجاه سياسيّ واستراتيجيّ مختلف، بعيدًا عن المخاوف المرتبطة بعقيدة اللاجئ، الباحث عن المأوى والهارب من الموت والفناء، في ظلّ القتال المندلع والمحتدم في منطقة الشرق الأوسط، عدا عن المهاجرين الاقتصاديين الهاربين من إفريقيا الفقيرة، وهذه محنة سيتعرّض لها الاتحاد الأوروبي في القريب العاجل، حتّى بعد التغلّب على الأزمة المندلعة في الشرق الأوسط، وفي الذهن فرص العمل والرفاهية والحريات الشخصية في القارة الأوروبية.
وقد ظهرت، أخيراً، أصواتٌ في اليمين الأوروبي تنادي، بصورة عاجلة، بإعادة النظر في
"لا توجد مخاوف من أسلمة الغرب، بالقدر الذي يخشى العالم الغربي فيه من انغلاق المهاجرين في تجمّعات "غيتو" في أوروبا"
توجهات اللاجئين العقائدية، والعمل على تنصيرهم، لكي يستحقوا المساعدات الاجتماعية التي يطمحون بالحصول عليها. تأتي هذه النداءات هنا وهناك، وخصوصاً في الدول التي تشهد حملات انتخابية برلمانية وغيرها، لإرضاء فئات المجتمع العريضة، والحصول على الأصوات، ملقين باللائمة على حالة التسامح التي يبديها بعض القادة الأوروبيين تجاه الوافدين، ومعتبرين أنفسهم والطبقات التي يمثلونها مهدّدين بالانقراض، بسبب طغيان الديانة الإسلامية مقابل المسيحية في البلاد، بعد حين. وصرّح المعنيون علانية بهذه المخاوف، مذكّرين بزيادة عدد المساجد الفائضة عن حاجة الأقليات المسلمة، عدا عن حصصهم الكبيرة من صندوق الضمان الاجتماعي والصحي التي تجبى من صندوق الضرائب الوطني، وضرورة تقديم العناية الصحية والطعوم للأطفال والأدوية ومخصّصات مالية ومأوى ومسكن وما إلى ذلك. والأمر، على ما نذكر طالب اليمين مقابل هذه المقدّرات اعتناق الهاربين من الموت في العالم الإسلامي الديانة المسيحية، والعمل على نموّ المجتمعات الأوروبية، وفق المفاهيم الديمقراطية الأوروبية.
حلّ جذور الأزمة
ارتفعت معدّلات المواطنين البريطانيين الراغبين بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي لقرابة 51%، حسب آخر الاستطلاعات، للحدّ من موجات الهجرة ضمن حدود الشنغن، وازدادت أصوات القوميين الفرنسيين الرافضين استيعاب اللاجئين من أصول شرقية وإسلامية، وهذا يعود عملياً إلى عدم تطبيق الاتحاد الأوروبي الآليات السياسية، ووضع الخطط الاستراتيجية لمواجهة الأزمات، والتعامل معها بصورة آنية، وترك الحبل على غاربه، حتّى إشعار آخر.
تتمثّل المأساة في الممارسات الأوروبية في محاولة حلّ الأزمات التي تواجه الاتحاد بطرق تقنية، وعلى الفور تبدأ العمليات الحسابية التقليدية والمادية، لمعرفة كلفة هذه الأزمة أو تلك، وكيفية توزيع الموازنة بين الدول المعنية، من دون البحث عن حلّ جذري للأزمات المتنامية، ومن دون اعتماد خلفية سياسية حقيقية للتعامل معها. وتتمثل الاستراتيجية المرتقبة بالبحث عن إطار عام لتحديد المخاطر الناتجة عن استيعاب هذه الأفواج الكبيرة، الباحثة عن النجاة في دول الاتحاد، وخصوصاً الغنية منها، مثل ألمانيا والنمسا وبريطانيا والسويد، وطرح إمكانيات وقف الحرب المشتعلة، المنتج الأكبر والأساسيّ لحالة اللجوء والتهجير القسرية في منطقة الشرق الأوسط.
الأمن الأوروبي
الملفت للأنظار بدء دول نادي الشنغن فرض آليات تفتيش على حدودها المشتركة، وبذا تتخطّى أسس معاهدة الشنغن التأسيسية ومبادئها، في وقت نلاحظ فيه أنّ الدول المرشّحة، وتلك التي
"الدول المرشّحة، والتي تخوض محادثات للترشّح للانضمام لأوروبا، تتحمّل مسؤولية كبيرة تجاه اللاجئين، تفوق مسؤولية دول الشنغن"
تخوض محادثات للترشّح للانضمام للمنظومة الأوروبية، تتحمّل مسؤولية كبيرة تجاه اللاجئين، تفوق بكثير مسؤولية دول الشنغن، مثالاً على ذلك تركيا التي تجاوز تعداد اللاجئين السوريين لديها المليونين، عدا عن العراقيين والجنسيات الأخرى، وكذا مقدونيا التي تعاني الأمرّين في مواجهة حالة اللجوء. وهناك أصوات غربية، صدرت وتصدر عن قادة الاتحاد الأوروبي باتت تطالب باتخاذ سياسة جديدة، من أجل توسيع إطار الاتحاد الأوروبي وحدوده لضمان أمنه بصورة جادّة في الجناح الشرقي المتاخم للقارة الآسيوية.
على الاتحاد الأوروبي أن يعيد التفكير جدياً في النظام العالمي الذي يرغب به، في العقود المقبلة وحتّى القرن المقبل، وسط هذه التغيّرات الحيوية ليس بعيدًا عن حدوده، وإعادة النظر في النموذج المطروح في مجلس الأمن والهيئة الأممية التي يبدو بأنّها استنفدت طاقتها الإبداعية لحلّ الأزمات، حسب ما جاء في كتاب "النظام العالمي" لهنري كيسنجر. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن آلية استخدام الفيتو حالت دون اتخاذ قرارات استراتيجية في منتهى الأهمية، كادت أن تقلب المعادلة وتوقف العنجهية الأسدية منذ زمن بعيد. هناك ضرورة لنموذج جديد، تنتهجه المنظومة الأوروبية، ليس فقط من أجل حماية أمنها. ولكن، للمساهمة بجرأة في وضع أسس لحماية الأمن العالمي، وأوروبا ليست بمعزل عن ذلك.
طرح الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، أخيراً، مبادرة للإبقاء على اللاجئين في شمال أفريقيا وصربيا وبلغاريا في مراكز لجوء مؤقّتة، حتّى يتم حسم أمورهم القانونية، وتحديد المستحقّين للحصول على وثائق اللجوء دون غيرهم. لكن، هل يمكن لهذه الدول استيعاب مئات الآلاف في مراكز لجوء مؤقّتة، وهي غير قادرة على العناية والاهتمام بمشكلات مواطنيهم الأصلية. وأمثال ساركوزي كثيرون، يحاولون جاهدين الإبقاء على الأزمة في الجبهة الشرقية للاتحاد الأوروبي، وهذا أمرٌ في غاية الصعوبة، ويفتقر لاستراتيجية ورؤية بعيدة المدى لحلّ أزمة اللجوء. وكذا استيراد آليات الجدار العازل ما بين إسرائيل ومصر، لرفعه على الحدود الهنغارية والبلغارية.
فتح سفارة أوروبية لدى داعش؟
أدت الحرب في يوغسلافيا إلى هجرة قرابة 4 ملايين مواطن. لكن، وبعد انتهاء الحرب هناك، والتوصّل إلى اتفاقيات سلام وحسن جوار، عاد معظمهم إلى بلادهم. هناك قناعة بأنّ أنجع الطرق لوقف حالة اللجوء الهائلة وقف الحرب الدائرة في المنطقة، مع الأخذ بالاعتبار صعوبة عودة الأجيال الجديدة إلى المشرق، بعد أن نمت وترعرت في القارة الأوروبية.
تطرح الصحافِيّة الإيطالية، لوريتا نابوليوني، في كتابها "الدولة الإسلامية"، الذي صدر أخيراً، تساؤلات عديدة، أهمّها بشـأن غياب تصوّر وسياسة أوروبية واضحة لكسب الحرب المعلنة من قوات التحالف ضدّ داعش في سورية والعراق، فهل يعني التراجع عن عملية الحسم العسكري اللجوء إلى الحلول الدبلوماسية، والبحث عن طرق سياسية بديلة للتفاهم مع داعش؟ ما يعني كذلك الاعتراف بهذا التنظيم المخالف للرؤية السياسية الحديثة، وافتتاح سفارة أوروبية لدى داعش. لا تعني نابوليوني، بالطبع، الوصول إلى هذا المآل، لكنّ تساؤلها يدلّ على غياب رؤية سياسية أوروبية حاسمة بشأن أزمة الشرق الأوسط، في وقت بدأت فيه القوات الروسية التدخّل العسكري المباشر لصالح نظام الأسد. وقد أعرب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن قلقه البالغ بشأن وجود مستشارين عسكريين روس في دمشق، في اللقاء الذي جمعه مع زميله الروسي، سيرغي لافروف، وفقًا لما نشر، أخيراً، بشأن وجود قوات روسية في سورية لدعم الأسد، ضمن خطة مكافحة الإرهاب في المنطقة. ومن المتوقّع أن يؤدّي رفع حدّة المواجهة العسكرية، وتصعيد آلياتها، باستخدام أسلحة روسية متفوّقة، من المتوقع أن يؤدّي إلى مزيد من الهجرة القسرية، هربًا من موت محقّق.
وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد نشرت أن موسكو أرسلت خبراء ومستشارين عسكريين إلى سورية، مع معدّات عسكرية وأجهزة رقابة ورادارات وإمكانية مشاركتها ودمجها في العمليات الجوية الموجّهة ضدّ القوات المعارضة لنظام الأسد. ولم تنشر وكالة تاس الروسية للأنباء أيّة معلومات بشأن الردّ الذي تقدّم به لافروف بشأن مخاوف كيري، عدا عن اتفاق الطرفين على مواصلة الاستشارات في الأشهر المقبلة، للتوصّل إلى حلّ سلمي في سورية.
وقد حمّل بوتين أوروبا وزر تبعيتها للولايات المتحدة الأميركية، والالتزام بتعليماتها، والآن
"بوتين حمل أوروبا وزر تبعيتها للولايات المتحدة الأميركية، والآن تدفع أوروبا الثمن، وتواجه أزمة لجوء غير مسبوقة"
تدفع أوروبا الثمن، وتواجه أزمة لجوء غير مسبوقة. ولنا أن نتساءل عن النتائج المترتبة عن التدخّل العسكري الروسي المباشر في سورية، وما سيترتب عليه من رفع موجات الهجرة مجددًا في المرحلة المقبلة؟ وأعرب بوتين عن دهشته لانتقاد وسائل الإعلام الأميركية المعاملة الأوروبية القاسية للاجئين، وأميركا هي التي تسبّبت بحيثيات هذه المأساة، من دون أن تواجه مخاطر موجات اللجوء الكبيرة على حدودها.
وفي السياق الأوروبي، لا يمكن للمنظومة الأوروبية المقامرة بنظامها الأخلاقي الذي تبنته، وأصرّت على الاحتفاظ به، طوال القرون الماضية، على الرغم من رفع شعارات معادية للجوء على الطرق السريعة في هنغاريا، مثلا، تشير إلى سرقة اللاجئين فرص العمل المتاحة للمواطنين الأصليين، وتهديد الديانة المسيحية في البلاد، ونشر "يوتيوب" مقطعًا يظهر فيه رفض اللاجئين الطعام والكساء، ومطالبتهم بأكثر من ذلك، وهذه محاولة لتأليب الشعوب الأوروبية ضدّ اللاجئين. في الوقت نفسه، احتشد مواطنون كثيرون في النمسا احتفاءً باللاجئين، وقدّموا لهم الطعام والمأوى، وكذا في بروكسل وغيرها من العواصم، لكنّ الدنمارك ناشدت السوريين في الصحف اللبنانية بعدم التوجه إلى هناك.
مارين لوبين: عبيد في ألمانيا وليسوا لاجئين:
استغلت زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف، مارين لوبين، أزمة اللجوء، وواجهت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، التي فاجأت الجميع بترحيبها باللاجئين، وصرحت لوبين أنّ ألمانيا تجمع فوق أراضيها عبيدًا وليس لاجئين، حسب وكالة رويترز للأنباء. وتواجه ميركل انتقادات عديدة من مناوئيها في ألمانيا نفسها، حيث ظهرت بحلّة قيادية نادرة، معلنة عن استعداد بلادها استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين، تبلغ قرابة نصف مليون سنوياً. وتجدر الإشارة إلى أنّ النمو الاقتصادي الألماني قادر على استيعاب أيدٍ عاملة كبيرة، وسيجد اللاجئون فرص عمل في معظم مساقات الحياة، وأوروبا عامّة تفتقر للمهن اليدوية والحرفية "اللحام والنجارة والحدادة والتعدين والفندقة"، وتحتاج، بصورة عاجلة، لخبراء في مجال المعلومات وتقنيات التواصل والطبابة، ويمكنها الاستفادة بوضوح من موجة اللجوء في المستقبل المنظور، عدا عن إيجاد حلول معقولة للأزمة الديمغرافية ومواجهة الشيخوخة التي باتت تلقي بظلال ثقيلة في معظم أنحاء القارة الأوروبية.
وقد تمكّن اليمين الأوروبي من الاستفادة، إلى حدّ كبير، من حالة القلق والتوتر في المجتمعات الأوروبية، وتملك لوبين فرصة كبيرة للتأهل للمرحلة النهائية في انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2017، في أجواء مواتية، حيث يرفض غالبية الفرنسيين تخفيف الشروط المفروضة للحصول على حقّ اللجوء في فرنسا، حتّى لللاجئين السوريين الهاربين من آلة الموت في بلادهم، لكنّ الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، فضّل دعم المستشارة الألمانية ميركل، وتقدّما ببيان عام لقادة الدول الأوروبية، للعمل على إيجاد آلية فاعلة لتوزيع اللاجئين بين كل دول المنظومة، والعمل على دمجهم في تلك المجتمعات.
في الانطباع الأول الذي أحدثه دخول روسيا العسكري إلى سورية، تبدو الأمور وكأن هزيمةً ساحقة نزلت بثورتها، بمجرد أن وطأ أول جندي روسي ترابها. هذا الانطباع عزّزه النظام عبر تصريحات مسؤوليه، وخصوصا المشهورين منهم بالتشبيح الكلامي، مثل وليد المعلم الذي اعترف بعكس ما قاله دوماً سيده بشار الأسد، وهو أن النظام سيقلب توازنات القوى لصالحه بفضل التدخل الروسي، بينما كان فشار يؤكد أن النصر لم يعد غير مسألة أيام أو أسابيع، وربما ساعات.
ليس دخول الروس إلى بلادنا أمراً قليل الأهمية والخطورة، لكنه ليس في المقابل حكم إعدام على ثورة شعبنا التي ليست فعلاً عابراً، يمنحه مواطنونا تأييداً محدوداً. وليست "هوجة"، قام بها عصاة خارجون على القانون، أو إرهابيون يناهضون الإنسان وقيمه التي تضفي السمو والنبل على حياته، بل هي انقلاب تاريخي، عميق الجذور إنسانياً وسياسياً، تؤكد مجرياته أنه من أعظم الثورات التاريخية، سواء من حيث اتساعه ومطالبه وصموده، والانتصار الذي ينتظره. ومن يتابع مساره، وما أحاط بها من تحديات ومصاعب، سيدهشه نجاحه في تخطيها جميعها، وسيعجب من صموده في وجه آلة قتل منظمة، تضم مليون مسلح، ينضوون في جيش النظام وأجهزة قمعه، تمسك بهم يد من حديد تمقت شعب سورية، وتديرهم بطرقٍ لا تسمح لأحد منهم بالإفلات مما يرسمه له "قادة" تخلو قلوبهم من الرحمة والتعاطف الإنساني، ينفذ "عبيدهم" في الجيش والأمن أوامرهم، بما في ذلك هدم بيوتهم على رؤوس أطفالهم وذويهم. من المعلوم أن الثورة بدأت في ظل تفوق عنفي ساحق لآلة القمع والقتل التي يسمونها النظام السوري، وها هو كيس الكذب الذي يلقبونه "المعلك" في سورية يعلن سعادته، لأن ميزان القوى سينقلب لصالح نظامه بعد التدخل الروسي، متناسياً أنه يقر اليوم بما سبق له أن أنكره دوماً، وهو أن ميزان القوى كان لصالح الثورة ، وأن الشعب السوري حقق، بمقاومته، انقلاباً استراتيجياً طاول علاقات القوة بينه وبين سلطةٍ، تعتبر نفسها استعماراً داخلياً، تقتصر روابطها مع "شعبها" على إبقائه خاضعاً ومستسلماً، من خلال اضطهاده وقتله، لأنها ترى فيه عدواً لا ينفع معه لين، ولا يجوز أن تكون في قاموس إذلاله كلمة واحدة عن الحرية.
هذا الانقلاب هو اليوم أيضا سمة الوضع السوري الذي أنتجته مقاومة وطنية/ مجتمعية واسعة جداً، ولن يلغيه مئات أو آلاف الجنود الروس الذين سيرتطمون بسلاحٍ، يدفع أغلبية السوريين إلى معركة المصير الوطني، هو روحهم الثورية المجبولة بالحرية التي مكّنتهم من كسر شوكة مئات آلاف القتلة والمرتزقة المحليين والمستجلبين، المزودين بأفتك أنواع السلاح الروسي، وتحقيق انتصاراتٍ أدهشت العالم أربعة أعوام ونصف العام، على الرغم مما كابدوه من آلام، وتعرّضوا له من خسائر، وعانوه من تجاهل دول كبيرة ومؤثرة لهم، ومن تواطئها ضدهم، مع النظام وشركائه الإرهابيين.
أكرر: ليس دخول الروس العسكري إلى بلادنا حدثاً عابراً أو قليل المخاطر. لكنه ليس أيضاً حكماً قطعياً بالفشل، أو بالإعدام على ثورتنا وحريتنا. إنه تحد آخر يُضاف إلى تحدياتٍ من كل صنف ولون، تخطاها شعبنا. ولن يمر وقت طويل، قبل أن تتكيف الثورة مع التحدّي الروسي وتتخطاه.
استهلك النظام كل ما قدم له من جرعات وهم، بدأت إيرانية وتصير اليوم روسية. وفي الحروب والثورات، لا يقترب من يتجرّع الأوهام من النصر، بل يكون مصيره الهزيمة.
أحدثت التسريبات التي خرجت حول الإتفاق الذي توصل إليه جيش الفتح و المفاوض الإيراني ، حول قريتي الفوعة و كفريا وما يقابلها في الزبداني ، حالة من عدم التوازن و الاختلاف بالتعاطي مع نتائجها ، فالبعض رحب و ووجد بوادر "إنتصار" ، والبعض الآخر هاجم واعتبر أنها عبارة عن لعبة او مؤامرة ، فتحولت الهدنة المرتقبة لما يشبه الفتنة في إدلب .
المؤيدون و المهللون للهدنة التي ستكون لستة اشهر مبدئية ، يجدون فيها انتصاراً للثوار ، وتثبت قدرتهم على ارغام ايران الجلوس على طاولة المفاوضات لعدة مرات ، و اخذ تنازلات كالمعتقلين ، و اخراج المصابين ، و زرع الهدوء في منطقة كانت آيلة للسقوط .
في حين يجد المعارضين لها انها تعتبر بداية غير مبشرة كخطوة سياسية لجيش الفتح ، الذي دخل في تفاوض مع ايران التي يعتبرونها العدو الاول و الاساسي للسوريين ، سبب مركزي في مأسآتهم ، و يمضي المنتقدين لبنود الإتفاق ، للحديث و بصوت أعلى و لهجة أشد ، حول المناطق التي اتفق عليها لتكون خارج مهام طيران الأسد ، وإبقاء مناطق أخرى تحت رحمة القصف و الموت اليومي .
خرق الهدنة بالأمس هلل له الكثر و اعتبروه مشيئة إلهية لإنهاء اتفاق يذكر بمشهد "ثوار حمص" قبل عامين ، في حين يمكن تحليله بأنه رفض من النظام لما تم الإتفاق عليه من قبل المفاوض الإيراني ، الذي رد عليه طيران الأسد بقرار من قيادات داخل النظام لها مشكلات مع التحكم الإيراني المطلق بالقرار في كافة مفاصل الحكم في سوريا الأسد .
وفي كل الحالات ، الوصول إلى اتفاق يرضي الجميع هو شيء ضرب الخيال ، و مستحيل الحدوث في الحالة السورية ، لكن مشكلة عدم القبول تكون أشد وطئة و صعوبة ، عندما تواجه رفضاً شعبياً على الأرض ، وماحدث بالأمس من قطع الاستراد في ادلب و مظاهرات في كفرنبل ، وتبادل الإتهامات بين المناطق المشمولة بالحماية ، و المناطق التي بقيت خارجة عن الحماية ، تنبئ بأن تطبيق الهدنة على الأرض قريب من الفتنة أكثر من الحل ولو كان جزئي أو وقتي .
تحولت المساعدات الإنسانية، التي من المفترض أن تصل للمتضررين، إلى سلع تباع في ريف إدلب و بأسعار منخفضة، لتغدو فيما بعد الهدف الأول لكل من يقصد أسواق المواد الغذائية، وتتربع في صدارة قائمة المشتريات.
ليست للبيع
يتوجه النازحون إلى تجار معروفين لبيع مواد الإغاثة التي تصلهم، وغالبا ما تُباع بأسعار زهيدة، تبلغ 30 في المائة فقط من قيمتها الفعلية، وتعمل بعض مجالس القرى على بيع هذه المواد.
ويهاجم الناشط السياسي «مصطفى العريان» من مدينة سلقين شمال إدلب التجار الذين يبيعون المعونات التي تأتي لمساعدة الشعب السوري معبرا عن سخطه من هذا «الفعل الشنيع»، على حد وصفه .
ويضيف «العريان»: لا يمكننا أن نلوم التجار فقط، بل يقع اللوم أيضا على بعض المجالس المحلية التي تقوم ببيع المعونات القادمة للشعب المتضرر، وأن نوجه عتبنا لبعض النازحين والفقراء على بيعهم لمعوناتهم التي حصلوا عليها.
أطراف من المعارضة والنظام يتاجرون بها
تقول «أم فارس» وهي ربة منزل من ريف إدلب المقيمة في تركيا: «في الماضي، كنا نشتري من المؤسسة العسكرية مواد غذائية كان يفترض توزيعها مجانا، رغم ذلك، لم يكن هناك من يموت جوعا على الأقل، أما اليوم فالناس تكاد تموت فيما تُباع مواد إغاثتهم في الأسواق التركية والسورية».
وتابعت «توجهت إلى محل لبيع المواد الغذائية في مدينة أنطاكيا التركية، أمسكت علبة فول وقد كتب عليها (غير مخصصة للبيع – المفوضية العليا للاجئين)، ولدى مواجهة البائع، أنكر معرفته بالأمر، إلا أنني لم أعد أرى مثلها على رفوف محله»، وأضافت: «المعارضة والنظام يبيعان مواد الإغاثة التي يفترض أن تذهب إلى الناس».
العاملون جزء من المشكلة
بشكل غير بعيد عن الانتهاكات التي يرتكبها تجار الأزمة، تحول معظم العاملون من المجال الإغاثي إلى تجارة السلل الغذائية، وقال عامل في مجال الإغاثة في منطقة حارم شمال إدلب «م ع»: «إن معظم الناشطين تحولوا إلى تجار سلل غذائية، من خلال استغلالهم لعدم قدرة المنظمات الإنسانية التي تتعامل معهم عن التقصي عن نزاهتهم في ظل الأوضاع».
ويتابع: إن كثير من العاملين يقومون بتقديم لوائح وبيانات بأسماء وهمية لعائلات محتاجة، ليتاجروا بحصة هذه العائلات المحتاجة، -غير الموجودة أساسا- وبلأخص المجالس المحلية والعاملين بها.
أسعار مخفضة
من جهة أخرى، يلجأ المستفيدون من السلال الغذائية إلى بيع محتوياتها بمفردهم على الأرصفة والبسطات، ليتمكنوا من جني أرباح أكبر بعيدا عن التعامل مع التجار.
وقال ناشط في مجال توزيع المعونات الإنسانية، في ريف إدلب، أبو محمد: «إن معظم الذين يحصلون على المساعدات يعمدون لبيع محتوياتها كل منها على حدة، حيث يبيعون كيلو الرز الطويل بـ40 ليرة، بينما يبلغ سعره الحقيقي 100 ليرة، والقصير بـ80 وسعره 140 ليرة، أما ليتر الزيت النباتي فيباع بـ140 في حين يصل سعره في الأسواق إلى 250 ليرة، وتباع علبة الفول المدمس بـ45 بينما يتجاوز سعرها 80 ليرة».
وأردف أبومحمد: «فتحت هذه الإجراءات، الباب أمام سوق مشترك للمعونات، تتوحد فيه أسعار السلع، شأنه شأن الأسواق العادية».
انتشرت في الأسواق مؤخرا، شبكات ضخمة من التجار تقوم بشطب كلمات «الأونروا، توزع مجانا، غير مخصص للبيع»، من السلع بعد جمعها ممن يرغبون ببيعها، ليتم طرحها في الأسواق بوقت لاحق وأن هذه الإجراءات امتدت لمعظم المحافظات السورية، وحتى في المناطق الساخنة التي تشهد جنونا في أسعار المواد الغذائية.
التاجر لا يرفض
كعاداتهم، يعرف العديد من التجار الاستفادة من الحروب لجمع المال. لا يكترثون للناس الذين قد يموتون جوعا في سورية، يحدث الأمر فعلا وليس مستغربا أن يباع بعض المواد الغذائية المخصصة لمساعدة السوريين في الداخل إلى دول الجوار، أو ترى عِبارات على بعض السلع من قبيل:»غير مخصصة للبيع»، أو «مساعدات لإغاثة الشعب السوري».
وشن «علي السيد» أحد التجار في ريف إدلب، هجوما على أصحاب السلال، حيث قال: «تتوافد إلى دكاني يوميا عشرات العائلات التي حصلت على سلال غذائية لبيعها، وأنا أشتريها لأنهم بكل الأحوال سوف يبيعونها».
ويضيف: «إن النازحين يضطرون لبيع حصصهم من أجل شراء السكر والأدوية، والماء، ووقود التدفئة في الشتاء، لافتا إلى أن المواد الإغاثية التي نشتريها منهم تصل في النهاية للمنظمات التي تعبئها وتوزعها مجددا على النازحين وأن بعض الأهالي الذين لا يستفيدون من الحصص الإغاثية يفضلون شراء تلك المواد بسبب انخفاض ثمنها مقارنة مع أسعار المحلات التجارية».
احتيال
أما «طاهر» الذي يعمل مع «الجمعيات الإغاثية»، فلفت إلى أن «تجار الحروب والأزمات يستثمرون في المواد الإغاثية»، وقال: «كنت في سورية مؤخرا بهدف توزيع بعض المواد الغذائية، ولدى تفريغ الحاوية عُرض علي مبلغ 11 ألف دولار في مقابل ترك الحمولة في مكانها».
وأوضح أن «الجهـات المسؤولة عن مخالفات مماثلة متنوعة، قد تكون تجارا أو منظـمات، تعـمل بالتنسـيق مع رجال أعمال أتراك، وبالطبع، فإن وجود سوريين أمر مهم جـدا لأنه لا يمكن تفريغ الحمولة في الأراضي التركية بأي حال من الأحوال».
وعن سبب رواج تجارة المواد الغذائية بصورة خاصة، لفت «طاهر» إلى أن «الأمر أكثر سهولة، على سبيل المثال، فالأرباح التي تدرها تجارة المواد الطبية تفوق الغذائية بأشواط، لكن يمنع تداول الأدوية السورية في تركيا خارج نطاق المؤسسات الطبية المرخصة للمعارضة».
ساعات و تنطلق إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها العادية التي تحمل الرقم 70 ، وتكاد سوريا هي الملف الأكثر تصريحاً حوله ، والأهم في المداولات العلنية قبيل الإنطلاق ، و سيكون المركزي في أروقتها السرية ، و اللقاءات المعقودة خلف الأبواب الموصدة.
التصريحات و الأحاديث التي تنطلق عن الأطراف الغائرة في الملف و المتحكمة به ، تشي إلى وجود إتفاق شبه نهائي ، حول إنهاء الصراعات العبثية ، بدأ مرحلة الحسم و اقتسام الكعكة ، بين المتخاصمين على سوريا جغرافياً و مصالحياً ، و ليس بشرياً أو إنسانياً حتماً .
و المتنقل بين الوكالات و المتابع لما ينطق به معظم الحاضرين ، والذين سيجتمعون لاحقاً ثنائاً أو جماعياً ، يتأكد من أن الخلاف الحالي هو كيفية التنسيق فيما بين القوى التي حظيت بنصيبها من الكعكة السورية ، أن الخلافات عبارة أمور لوجستية أو تكتيكية بحته ، يصلحها الفنيون ، وليس لاعبي السياسية أو راسمي الخطط ، و الذين (أي الأخيرين) قد دخلوا في مرحلة الإستراحة بعد إنهاء المهمة .
واللقاء الأبرز ،والذي سيكون بيانه وفق المراقيبن هو النهائي بشأن سوريا ، سيجمع الرئيسين الروسي و الأمريكي ، و من المنتظر أن يكون حتى الفنيون قد أنهوا الترتيبات ليكون التوقيع على التنفيذ قد دخل مرحلة الجد الفعلية ، و يقضي الإتفاق أن تتكفل روسيا بحماية ما تبقى من سوريا بيد الأسد بكل قوتها من الثوار ، فيما ستتابع أمريكا حربها على "داعش" بروية و هدوء ، و يستمر الوضع على ماهو عليه حتى وقت غير محدد ، لتكون سوريا هي نموذج جديد و محدث بشكل أسوء من أي شبيه على مراحل التاريخ ، سواء أفغانستان أم الصومال أو ... .
السيناريو المطروح و الذي يسير في مراحل التنفيذ دفع حتى بالمعارضين للحيرة و الدخول في صمت سياسي ، أو الكلام بحديث سياسي عبثي تارةً ، أو التضرع لله و التواكل عليه تارةً أخرى ، و ماغرد به رئيس الائتلاف السوري خالد خوجة اليوم على صفحة على مواقع التواصل الإجتماعي "توتير" يدل على أن الأمور القادمة غير مبشرة ، وأن العجز قد استفحل ، حيث قال ( بحرفية النص ) :" من عوامل تأخر النصر:الإقرار بأن "لا غير لنا إلا الله" دون الاعتصام بحبله ثم الاعتماد على قدرة الأغيار بشروطها "قل هو من عند أنفسكم" #سوريا".
تنطلق الحناجر في شتى أصقاع الأرض صارخة بتلبية الله ، وتتوجه الأنظار إلى الكعبة الشريفة ، في موسم الحج ، الباحثون عن النقاء "الشعائري" كثر ، لكن في سوريا الباحثين عن هذا الأمر اكثر جدية و إصرار ، و بطريقة فعلية.
في عيد الأضحى او موسم الحج ، يحج المسلمون بمختلف طوائفهم و مذاهبهم طمعاً بالعودة كما "ولدته أمه" ، بلا ذنب أو دنس ، ليعود يتابع حياته الدنيوية من جديد ، و لكن في سوريا الناس يتابعون حياتهم بخليط بين دنيا و آخرة تتلاصقان في ذات المكان و الزمان و الإنسان .
السوريون في كل يوم يحجون إلى الله ، أفواجاً ، وفرادا ، عائلات ، ، يلجون السماء برتبة "الشهداء" ، تاركين المظاهر و التظاهر بالإسلام بعيداً ، ممارسين الدين بشكلٍ فعلي و حقيقي ، لا مُرائة فيها و لا تصنع .
نقلب الصور في صباح هذا اليوم ، نجوب معها في مقابر الشهداء لنسمع همهمات الأمهات و شكوى اليتامى ، ألم الأرامل ، لننتقل إلى زيارة بقايا البيوت و الأحياء ، لنرى من يبحث عن بقايا ذكريات هنا و هناك ، يبحث عن شيء يمكن أن يساعده على استعادة مافقده ، فيما نتجول في المخيمات لنرى البؤس و الحزن ، الضحكة المدموعة ، من التشرد و الحرمان ، الحنين.
في هذا العيد و مثلياته العشر الماضية ، لم يكن عيد كان مجرد عادة ، تأتي في ذات التوقيت ، لكن لا أثر لها على تخفيف وجع ..... .