تقف روسيا على الحافة بين التزامها مقولة الكرملين الدائمة بوجوب التزام القانون الدولي وتشريع أي تدخل عسكري أممي في أزمات العالم، لا سيما في سورية، عبر مجلس الأمن، أو الانتقال الى اعتماد سياسة أحادية تستغني عن الغطاء القانوني الدولي، تحت شعار محاربة الإرهاب والقضاء على "داعش"، مع ما يعنيه ذلك من تصاعد في الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب.
فسعي موسكو الى حماية نظام الرئيس بشار الأسد وحماية مكتسبات نفوذها في الشرق الأوسط انطلاقاً من دورها هذا في سورية، من طريق زيادة تواجدها العسكري كما حصل في الأسابيع الماضية، يشكل رسالة أولى بإمكان تخلي موسكو عن مبدأ الغطاء الدولي تمهيداً للدخول في صراع مكشوف، لا سيما مع الولايات المتحدة الأميركية على الصعيد العالمي ككل. وإذا صح أن روسيا تتجه الى هذا المنحى فمعنى ذلك أن الرئيس فلاديمير بوتين حزم أمره للدخول في حرب باردة جديدة شاملة في مواجهة واشنطن وأنه سيتدخل حيث يستطيع ضد النفوذ الأميركي في القارات كافة.
قد يكون من المبكر الوصول الى هذا الاستنتاج، قبل أن يحدد بوتين نفسه استراتيجيته في خطابه بعد أيام في الأمم المتحدة، وقبل أن يتضح ما إذا كان نظيره الأميركي باراك أوباما سيلتقيه في نيويورك، لمعرفة نياته من وراء تصعيد وجوده العسكري في بلاد الشام.
صحيح أن بوتين، بموازاة تمسك الديبلوماسية الروسية بالغطاء الدولي لأي تدخل عسكري في الخارج، مارس سياسة التدخل العسكري المباشر من دون إذن او تشريع دولي مرتين، في جورجيا عام 2008 ومن ثم في أوكرانيا عام 2014، ما تسبب بعقوبات اقتصادية غربية تنهك اقتصاد روسيا وتتسبب بعزلتها، لكن هذين التدخلين بقيا في الميدان الحيوي الروسي شرق أوروبا، وفي دولتين تقعان على حدود بلاد القيصر. أما الانخراط المكشوف في سورية فله بُعد آخر لأنه ينزلق بروسيا إذا ازداد تورطها مع إطالة الحرب السورية الى استنزاف طويل الأمد قد يصبح شبيهاً بتجربتها في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، ما أدى الى هزيمتها التي ساعدت مع عوامل أخرى في تفكك الاتحاد السوفياتي.
وبقدر النقاش الحاصل في واشنطن في جدوى لقاء أوباما مع القيصر إزاء الهجوم الذي يقوم به وسط معلومات عن أن الرئيس الأميركي يفضل الانخراط الديبلوماسي مع بوتين، هناك نقاش في روسيا حول جدوى الدخول في مواجهة كاملة مع الغرب لأن ظروف الحرب الباردة ولّت ولأن الاستقطاب العالمي تبدّل جذرياً لغير مصلحة موسكو، بدءاً من أوروبا، و حول عقيدة بوتين بالتدخل العسكري حيث تتوافر الإمكانات لحماية المصالح الروسية وإيصال الأمور الى حافة الهاوية على طريق استعادة الدور القطبي في السياسة الدولية.
يبقي بوتين على خيط رفيع مع الغرب وواشنطن بحجة أن دول الغرب تعطي الأولوية لمحاربة "داعش" في سورية وأن طائرات التحالف التي تقصف مواقع التنظيم بدأت بذلك بعد أن أرسلت تطمينات بأنها لا تهاجم مواقع جيش الأسد وأنها دربت عناصر معارضة معتدلة (265 عنصراً) شرط حصر نشاطته بمحاربة "داعش" وأن التمسك بشرعية الأسد بالنسبة إليه شبيه باعتراف الولايات المتحدة بشرعية الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو على رغم التشكيك في نسبة الاقتراع خلال الانتخابات نتيجة الأزمة وانفصال القرم.
وإذا كانت حجة بوتين من وراء تعزيز وجوده العسكري في سورية هي الشراكة مع الغرب في محاربة "داعش" كهدف يلتقي مع دوله عليه، فإن هذه الحجة تفترض رغبة الدب الروسي في التوصل الى تسوية مع الولايات المتحدة على سبل إدارة الأزمة السورية، والحل فيها، استناداً الى البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن في 18 آب (أغسطس) الماضي استناداً الى خطة ستيفان دي ميستورا التي تنطلق من صيغة جنيف 2012، بقيام هيئة انتقالية تنتقل إليها كامل الصلاحيات. وإذا كانت هذه الصيغة هي الطرف الأخير من الخيط فإنها النقطة التي يمكن للخيط أن ينقطع عندها، والتي تختصر الكثير من عوامل الصراع الدائر بين الدولتين العظميين. وإذا كانتا تتفقان على أن بداية الحل السياسي في سورية ليست مشروطة بذهاب الأسد وأن نهايته ليست مرهونة ببقائه، فإن المسافة التي تفصل هذه عن تلك هي المشكلة، لأنها تبقي الحل معلقاً على تبادل للضغوط تحت غطاء اتفاق مزعوم حول سورية، هو في الحقيقة اتفاق على نقل الأزمة الى مستوى جديد من الصراع، يناسب بوتين أكثر مما يناسب الغرب، من دون الوصول الى نهاية الحرب.
تفيض وسائل الإعلام بمصطلح أصلي مع تبعية لازمة و ضرورية وأساسية ، ينتشران في كل نقطة على الشبكة العنكبوتية أو المرئية أم المسموعة ، "أزمة اللاجئين" و الإرتباط مع جنسية بعينها "السورية " .
أرقام مبعثرة ، صوراً تنثر في كل مكان و تنقلها رياح المغردين و الناشرين و العارضين ، و تشحذ فيها همم الإنسانيين ، وتجمع لأجلها الملايين ، تعقد لحلها القمم و المؤتمرات ، و تخرج التوصيات ، تُعدل القوانين ، وتزال العراقيل .
و في نفس الوقت ، تنتفض دول تبحث عن مكان لها في ساحة القرار و السيادة ، وأخرى تضرب طوقاً حول نفسها كأنها تصنع أمجاد التاريخ .
و لكن هل كل المهاجرين إلى أوربا و الواصلين هم لاجئين !؟
وهل كل اللاجئين أو المهاجرين سوريين !؟
الصور تشي بشيء غير الحقيقة ، المصطلحات المستخدمة ، التركيز على القضية ، جعل منها أمراً غير مستساغ ، ولا يعني لي أي نظرية من إفراغ سوريا أو خطف عقولها أو ... أو ... ، لكن الأهم هو خطف إسم سوريا من جديد ، و إدخاله في مزاد جديد ، تغيير البوصلة و الوجهة التي خرج من أجلها السوريين و قدموا مئات الآلاف من الشهداء و المغيبين ، و ملايين المشردين.
الذي يهم أن من بين أولئك المهاجرين ، مئات الآلاف من العراقيين و الأفغان و المصريين و الليبيين ، و كل ما يمكنه الوصول إلى الشواطئ الأوربية .
ولعل النقطة التي بحاجة لدراسة مستفيضة ، هل كل سوري وصل أو يصل إلى أوربا هو لاجئ من الظلم بالفعل ، أم أنه "شبّح" حتى ملّ ، و الآن جاء دور التنعم بحياة هانئة .
الذي يتجول في المدن التركية و الأردنية و اللبنانية و مناطق الشريط الحدودية و المناطق المحررة و المخيمات المبعثرة في كل حدب و صوب ، يجد ملايين اللاجئين الحقيقين ، و يجد المعاناة الحقيقة ، والألم الفعلي ، و العجز الكامل عن كل شيء ، ففي كل هذه الأمكنة ، لا يوجد من يملك بضع دولارات للطعام ، لا يجد قبعة تقيه حر الشمس ، ولا "سترة" تستره في الشتاء .
عذراً .. ليس كل واصل إلى أوربا بـ"لاجئ" أو "سوري" ..
يشهد الاتحاد الأوروبي موجة من المهاجرين غير الشرعيين، تعتبر الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وتقدّر أعدادهم بمئات الآلاف في العام الجاري، وصاحبتها عشرات من المآسي الإنسانية الفظيعة، والتي قرعت بشاعتها وهولها وجدان الضمير البشري في العالم كله، احتل اللاجئون السوريون عناوينها العريضة، عبر قوارب الموت، حيث يقدمون، في رحلتهم الأخيرة، كل ما يملكون من المال، وأرواحهم أحياناً، قرباناً للوصول إلى "الحلم الأوروبي" كما يصفونه، بعدما انقطعت بهم سبل الحياة في بلادهم وبلاد اللجوء الأول، حاملين فيها القليل من المتاع، والكثير من الأمل بحياة أفضل في دول أوروبا الغنية، لينضموا بذلك إلى قوافل المهاجرين من أنحاء أخرى من العالم، والتي يبدو أن الإحصاءات الرسمية والتقديرات حول أعدادهم تشهد تفاوتاً كبيراً حتى الآن، حيث أفاد تقرير إحصائي للمرصد الأورومتوسطي، أخيراً، بأن حوالي 380 ألف مهاجر وصلوا إلى الأراضي الأوروبية هذا العام، ومن المتوقع أن تصل أعدادهم إلى نصف مليون مهاجر مع نهايته، بينهم 126 ألف لاجئ سوري. بينما قفزت توقعات الحكومة الألمانية الرسمية حول أعداد المهاجرين المتوقعة إلى البلاد العام الجاري من 400 ألف إلى 800 ألف مهاجر غير شرعي في ألمانيا وحدها.
أسباب الهجرة وأنواعها:
تعتبر الحروب والصراعات الجارية في بلدان عديدة في الشرق الأوسط، والاضطرابات الأمنية والحروب الأهلية في بلدان شمال أفريقيا وغربها، فضلاً عن أفغانستان، من أهم أسباب الهجرة الحالية، وهؤلاء يعتبرون لاجئين فرّوا من ويلات الحرب والاضطهاد في بلادهم الأصلية، ويمكن أن تنضم إليهم قوافل جديدة قادمة من شرق أوكرانيا، في حال تصاعدت حدة المعارك هناك. ومن جانب آخر، هنالك مهاجرون لأسباب اقتصادية، جُلّهم من الشباب، قادمون من بلاد غرب البلقان، مثل صربيا وألبانيا والبوسنة والهرسك، وجميعهم يتوسلون الوصول إلى الأمان والرفاه الأوروبي الغربي.
أوروبا وكابوس الهجرة والتفكك:
منذ بداية ظهور أزمة الهجرة الحالية، سادت حالة من الارتباك والتردد بين دول عديدة في أوروبا حول الطريقة المُثلى للتعامل مع الأعداد المتدفقة بالآلاف شهرياً من المهاجرين، والتي تزايدت معها حدة الاعتداءات والمعاملة القاسية التي تلقّاها هؤلاء في بلدان الممر (مقدونيا ـ هنغاريا ـ بلغاريا ـ اليونان)، فضلاً عن إعلان مقدونيا حالة الطوارئ في البلاد، ونشر قواتها العسكرية، من أجل التصدي لقوافل المهاجرين، وبناء المجر (هنغاريا) جداراً من الأسلاك الشائكة لمنع المهاجرين من التقدم عبر البلاد. أثار ذلك كله ردود فعل قوية من بعض القادة الأوروبيين، حيث اعتبرتها فرنسا "تصرفات مخزية"، كما أن رفض دول عديدة استقبالهم،
“ كشفت هذه الأزمة عن عمق الاختلال السياسي والاقتصادي بين دول شرق الاتحاد الأوروبي وغربه “
والقبول بمبدأ المحاصصة وتوزيعهم على دول الاتحاد، اعتبرته المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، يُهدد "بانقطاع الرابط بين أوروبا والحقوق المدنية العالمية المرتبطة تماماً بتاريخها، والمبدأ المؤسس للاتحاد الأوروبي"، كما كشفت هذه الأزمة عن عمق الاختلال السياسي والاقتصادي بين دول شرق الاتحاد الأوروبي وغربه، من حيث بروز تناقضات حادة في طريقة التعامل مع الأزمة، وصعوبة التوصل إلى صيغة عمل مشتركة. ومن جانب آخر، اختفت ملامح الأزمة اليونانية واحتمالات خروجها من الاتحاد الأوروبي تحت الغطاء الكثيف لأزمة المهاجرين الحالية، بيد أنها، وللسبب نفسه، سوف تعود إلى الظهور، محمّلة بعبئها الاقتصادي الجديد، في حال فُرض عليها استقبال اللاجئين على أراضيها، وفق خطة المحاصصة المطروحة حالياً، كما أنه من المرجح عودة قوية للأصوات المطالبة بالخروج من "الاتحاد" في فرنسا وبريطانيا، بسبب الكساد الاقتصادي في كلا البلدين، وميل ميزان المكاسب الاقتصادية فيه، إلى بلدان بعينها مثل ألمانيا، والتي ارتفعت، في وقت سابق، مع صعود أحزاب يمينية رافضة للوحدة في تلك البلدان.
وفي الآونة الأخيرة، تزايد حضور الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة على الأرض، وبالتالي،
“ رئيس الوزراء الهنغاري: في حال لم يتم اتخاذ إجراءات حازمة لإيقاف تدفقهم "سنجد أنفسنا فجأة أقلية في قارتنا “
العامل الاقتصادي ليس السبب الوحيد الذي قد يدفع باتجاه "تفكك الاتحاد"، فأزمة الهجرة الحالية من المتوقع أن يعطيها زخماً أوسع، في حال فشلت دول الاتحاد في معالجتها بطريقة ناجحة، خصوصاً بعد تنامي المخاوف "العنصرية" على هوية البلاد وديموغرافيتها، ولعل أبرزها كانت تصريحات رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان (4 سبتمبر/ أيلول 2015)، متوقعاً تدفق ملايين المهاجرين في العام المقبل، قائلاً: في حال لم يتم اتخاذ إجراءات حازمة لإيقاف تدفقهم "سنجد أنفسنا فجأة أقلية في قارتنا". كما أعلنت دول أخرى، منها سلوفاكيا، في أواسط أغسطس/ آب الماضي، عن استقبالها بطريقة "انتقائية" للمهاجرين المسيحيين فقط "بسبب الفوارق الثقافية" مع المسلمين، بحسب تعبير الرئيس السلوفاكي ميلوس زيمن. كما أن هذه الدول وغيرها ترفض الالتزام بخطة "التوزيع العادل" للاجئين في دول أوروبا، وكل هذا يؤكد غياب موقف موحّد وآلية عمل متفق عليها ومشتركة بين مختلف دول الاتحاد حول الأزمة الحالية، والتي قد تدفع نحو مزيد من التصدع في بُنية الاتحاد والعلاقة البينية بين مختلف مكوناته.
البحث عن حلول:
أدى ثقل الأزمة وأصداؤها المدوية في جميع أنحاء أوروبا إلى البحث عن حل يستطيع المواءمة بين حاجات أوروبا للمهاجرين في سوق العمل من ناحية، والتقليل من مخاطر استمرار التصدع الداخلي والمخاوف المتنامية من تدفق المهاجرين لدى بعض دول الاتحاد، من ناحية ثانية، وقد توجهت الأنظار نحو معالجتها عبر تعزيز التعاون الأمني المشترك مع "دول الجوار الأوروبي"، كما يجري الحديث عن تشكيل قوة أوروبية مشتركة لكشف شبكات تهريب اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا وتفكيكها، ومتابعة المرحلة الثانية من حملتها في البحر المتوسط، وتطبيق إجراءات مشددة لمراقبة الشواطئ وتفتيش السفن، فضلاً عن إقامة مراكز
“ تتجه ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد للاجئين في أوروبا نحو الحد من تدفق المهاجرين القادمين من غرب البلقان بطريقة غير شرعية “
إيواء بتمويل من المفوضية الأوروبية في بلدان أوروبا الأمامية (إيطاليا واليونان)، لاستقبال اللاجئين في المرحلة الأولى، وإنشاء نظام لفرزهم وتوزيعهم منها إلى بلدان الداخل الأوروبي، ومعالجة "العيوب" في قوانين الهجرة المعمول بها حالياً، كما تتجه ألمانيا التي استقبلت أكبر عدد للاجئين في أوروبا نحو الحد من تدفق المهاجرين القادمين من غرب البلقان بطريقة غير شرعية، وإعادتهم إلى بلادهم باعتبارهم ليسوا لاجئين بفعل الحرب والاضطهاد. ولم تقتصر أطروحات التصدي ومعالجة الأزمة الأوروبية في إطار الداخل والحدود، بل امتدت إلى بلدان "المنبع"، فقد شملت اقتراحات تقديم الدعم الاقتصادي وتعزيز برامج التنمية في تلك البلدان، فضلاً عن اعتماد الاتحاد الأوروبي على نفوذه في غرب البلقان من الدول الأعضاء في "الاتحاد"، أو التي تسعى إلى الحصول على العضوية فيه، والضغط عليها لوضع برامج اقتصادية تحد من هجرة مواطنيها.
الخطة النمساوية:
جاء التطور الأبرز في سياق الحلول المقترحة في الخطة التي قدمها وزير الخارجية النمساوي، سباستيان كورتس، لمعالجة قضية اللاجئين (23 أغسطس/ آب)، وتشمل خمس نقاط أساسية، أهمها محاربة تنظيم داعش و(ضرورة أن يعمل الاتحاد الأوروبي على إنشاء مناطق حماية آمنة وعازلة في مناطق النزاع في الشرق الأوسط وأفريقيا). والنقطة الأخيرة قد تمثل انعطافة حقيقية في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فهي، من جهة، تُنعش الآمال التركية والائتلاف السوري المعارض في إقامة "منطقة عازلة " في شمال سورية، و تُبشّر بموافقة حلف الناتو، أخيراً، على المطلب التركي بعد رفض طويل. ومن جهة ثانية، قد يُمهّد ذلك لدور أوروبي كبير ومؤثر في الملف السوري خصوصاً، والذي احتكرته سياسة التعنت الروسي والانكفاءة الأميركية سنوات مريرة من عمر الانتفاضة السورية، ويبدو أن أصداء الخطة النمساوية وصلت إلى بريطانيا، حيث قال رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، إن بلاده سوف تتعامل مع قضية اللاجئين "بما يمليه قلبها وعقلها في تقديم المساعدة لهم، والعمل لإيجاد حل على المدى الطويل للأزمة في سورية". كما أن الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، والذي يدعم إقامة منطقة عازلة في شمال سورية، قد أعلن، في 7 سبتمبر/ أيلول الجاري، عن مشاركة بلاده في عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، واعتبر أن الحل السياسي في سورية يمر عبر حكومة انتقالية، لا وجود للأسد فيها.
قد تمثل هذه المواقف من القادة الأوربيين مؤشراً قوياً على توجه الأنظار نحو التعاطي بشكل أكبر في ملفات الشرق الأوسط، باعتباره مصدراً رئيسياً لأزمة المهاجرين التي تعصف بهم، وتفاقم من أزماتهم الداخلية ضمن جدران الاتحاد، بيد أن الطريق ما يزال طويلاً أمامها حتى تتبلور سياسة عامة للاتحاد، وليست مواقف منفردة من بعض الدول الأعضاء، الأمر الذي يُكسبها قوة دفع كبيرة وتأثير فعال في مجرى الأحداث في تلك الملفات، فحتى الآن لم يتم التوصل إلى خطة عمل موحدة للتعامل مع أزمة اللاجئين داخلياً والاتفاق على نظام التوزيع العادل، حيث اقتصرت الموافقة عليه من بعض الدول من أصل 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، ولعل القمة الأوروبية المرتقبة، في سبتمبر الجاري، سوف تحمل معها مزيداً من القرارات التي تكشف بطريقة أكثر وضوحاً، مدى عمق هذه التحولات المحتملة وجديتها في السياسة الخارجية الأوروبية.
شكلت أزمة اللاجئين الذين تدفقوا على أوروبا، في الأسابيع القليلة الماضية، اختباراً حقيقياً لمنظومة القيم الحداثية التي تحكم القارة العجوز، منذ بدء عصر التنوير في القرن السابع عشر. كما أنها كشفت، في الوقت نفسه، أن بعض البلدان الأوروبية لا تزال تعيش بثقافة القرون الوسطى المظلمة، فما تفعله دولة مثل المجر مع المهاجرين، والذي سيظل نقطة سوداء وعاراً في السجّل التاريخي لهذه الدولة، يتجاوز مجرد الخوف من تدفق المهاجرين، وما يحمله من تبعات أمنية واقتصادية، وإنما يصل الأمر إلى حد الكراهية والرفض المبدئي للآخر. وقد رأينا ذلك في طريقة تعاطي السلطات المجرية مع اللاجئين، والتي تراوحت بين الرفض والاستهجان إلى سحل آلاف من اللاجئين والمهاجرين واعتقالهم. ناهيك عن التصريحات العنصرية الواضحة لرئيس وزراء المجر، والتي تراوحت بين احتقار المهاجرين وامتهانهم إلى التحريض الديني ضدهم، وذلك حين قال إنهم يهددون "مسيحية أوروبا"، وكأن أوروبا لا تزال تعيش فى عصر الحروب الصليبية! أما الأكثر أسفاً وأسى، فقد كان موقف الشعب المجري الذي تعامل مع أزمة اللاجئين والمهاجرين بطريقة متعجرفة ومتطرفة. وموقف "امرأة الكاميرا" المجرية التي أعاقت بقدمها سورياً كان يحمل طفله، ويجري مذعوراً من الشرطة المجرية، نموذج مصغّر لهذه الطريقة.
في الوقت نفسه، إذا قارنا موقف المجر، حكومة وشعباً، مع أزمة اللاجئين والمهاجرين بمواقف حكومات وشعوب دول أخرى، مثل ألمانيا والنمسا، لوجدنا أنفسنا أمام صورتين مغايرتين لأوروبا. إحداهما صورة همجية وقروسطية وأخرى متقدمة وإنسانية. فما فعله ألمان ونمساويون كثيرون من ضغط ومظاهرات ومطالبات بضرورة استيعاب اللاجئين كان بمثابة تعويض، ولو جزئي، لهؤلاء المهاجرين، عما لاقوه من معاناة وصعوبات في أثناء رحلة الخطر والمجهول التي عايشوها، حتى وصلوا إلى أوروبا. وقد اضطرتبلدان أخرى، مثل بريطانيا وأستراليا وفرنسا، تحت ضغط أحزابها وشعوبها، أن توافق على استقبال آلاف المهاجرين، وأن تمنحهم اللجوء السياسي. ولولا هذا الضغط، لربما رأينا استجابة شبيهة لتلك التي اتبعتها المجر.
كشفت أزمة اللاجئين أيضاً أن الأزمة في سورية باتت تشكل تهديداً حقيقياً للغرب ولمجتمعاته، وذلك بعدما فشلت البلدان الغربية، وخصوصاً الأوروبية، في وضع حد للمجازر والجرائم التي يباشرها نظام بشار الأسد ضد السوريين. ولعل هذا ما دفع النمسا، وهي المعروفة تاريخياً بحيادها وعدم تحزبها في سياساتها الخارجية، إلى حث المجتمع الدولي على ضرورة وقف الحرب فى سورية. وقد بات من المسلّم به أنه كلما استمرت هذه الأزمة استمر تدفق المهاجرين واللاجئين السوريين على أوروبا، وهو ما لن تتحمله مجتمعاتها كثيراً، فقد بدأت بالفعل المعارضات اليمينية فى الضغط من أجل وقف استقبال اللاجئين والمهاجرين في بلدانٍ، مثل ألمانيا.
ولعل المفارقة أن بعض البلدان الغربية لا تزال تصم آذانها عن هذه الحقيقة، فعلى سبيل المثال، دعا وزير الخارجية الإسباني، خوسيه جارسيا، إلى التفاوض مع بشار الأسد. وكأن شيئاً لم يتغير، وكأن جارسيا لا يرى حجم الأزمة التي نجمت عن بقاء الأسد فى السلطة! في الوقت نفسه، لا يوجد ضغط أوروبي جاد على روسيا، من أجل تعديل موقفها من الأسد. بل العكس، لم تتحرك هذه البلدان، بعد الأخبار المتواترة حول الدعم العسكري الروسي لنظام الأسد، فضلاً عما كشفت عنه الصحافة الغربية، أخيراً، بشأن بناء روسيا قاعدة عسكرية وإرسال جنود روس لدعم قوات الأسد. بكلمات أخرى، لم تتحرك أوروبا لوقف الدعم الروسي المتواصل للنظام السوري، على الرغم من إدراكها عواقب ذلك ونتائجه.
ومع استمرار تدفق المهاجرين إلى الشواطئ والحدود الأوروبية، سيظل الصراع بين القيم والمصالح أمراً مؤثراً في رسم المشهد الأوروبي للعقود المقبل
لم تعد تقارير تعزيز روسيا وجودها العسكري في سورية، وتحديداً في مدينة اللاذقية، معقل نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مجرد تكهنات، أو اتهامات مصدرها الاستخبارات الأميركية. فروسيا نفسها لا تتحرّج، اليوم، من تأكيد دعمها العسكري نظام الأسد في حربه على شعبه. بل قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، من دون أي مداراة أو مواراة: "كانت هناك إمدادات عسكرية، وهي مستمرة وستتواصل، ويرافقها حتماً اختصاصيون روس، يساعدون في تركيب العتاد وتدريب السوريين على كيفية استخدام هذه الأسلحة".
واستناداً إلى المعلومات الاستخبارية الأميركية، نشرت روسيا، في مطار اللاذقية العسكري، إلى اليوم، أربع طائرات هليكوبتر، وسبع دبابات روسية من نوع تي-90، فضلاً عن قطع مدفعية. كما تشير المعلومات إلى نشر 200 جندي من مشاة البحرية الروسية في المطار، بالإضافة إلى إقامة وحدات إسكان مؤقتة، ومحطة متنقلة للمراقبة الجوية ومكونات لمنظومة للدفاع الجوي. وحسب التقديرات الاستخبارية الأميركية، يعمل الروس على إقامة مركز عمليات جوية في سورية، وهم يجرون، في سبيل ذلك، تحسينات على المطار ومدرجاته، لكي يكون بمقدوره استيعاب طائرات أكبر حجماً في المستقبل. ويقول المسؤولون الأميركيون إن روسيا ترسل نحو طائرتي شحن عسكريتين يومياً إلى مطار اللاذقية.
تتوافق التحركات الروسية السابقة مع تأكيدات من مصادر عسكرية وسياسية في المعارضة السورية، من أن جنوداً روساً يقاتلون مع قوات النظام على الأرض، وأن التدخل الروسي المتصاعد في سورية يأتي في سياق حماية "الدولة العلوية" التي قد تنشأ على الساحل السوري، في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وذلك في حال فقدان النظام سيطرته على ما تبقى في يديه من الداخل السوري، وتحديداً العاصمة دمشق. وطبعاً، في إنشاء "مَحْمِيَّةٍ" على الساحل السوري ضماناً لبقاء القاعدة البحرية العسكرية للروس في طرطوس، وهي آخر قاعدة عسكرية متبقية لروسيا في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط.
ما سبق بعض ما تقدمه روسيا لحليفها الأسد، فماذا عن موقف الولايات المتحدة التي تصر، إلى اليوم، على أن الأسد فقد شرعيته، وعليه التخلي عن الحكم؟ الإجابة ليست سارة أبداً للشعب السوري وللمعارضة.
بالإضافة لإعلان إدارة الرئيس بارك أوباما، قلقها من التحركات الروسية، وطلبها توضيحات من موسكو، فإن أوباما اعتبر أن مضاعفة التدخل العسكري في سورية مؤشر على قلق الأسد ولجوئه للمستشارين الروس لمساعدته. وأضاف أن إدارته ستتواصل مع روسيا لتبلغها أن دعمها الأسد "محكوم عليه بالفشل". ولم تكد تمضي أيام على تصريحات أوباما تلك، حتى كان البيت الأبيض يعدّل من لهجته، ويناشد الروس التواصل "بطريقة بنّاءة مع الائتلاف الذي يضم
"إدارة أوباما شريك أساسي، إلى جانب روسيا وإيران ونظام الأسد، في تدمير سورية وسفك دماء مئات الآلاف من أبنائها"
60 بلداً، وتقوده الولايات المتحدة، ويركز على إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية وتدميره في نهاية المطاف". ويوم الأربعاء الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أن الإدارة تبحث كيفية الرد على اقتراح روسي بإجراء محادثات عسكرية بشأن سورية، بما في ذلك ضمان أن لا يقع صدام بين الطائرات الحربية الأميركية والروسية في الأجواء السورية.
تردد موقف إدارة أوباما في سورية وضبابيته ليسا وليد اللحظة. بل يمكن القول إن إدارة أوباما شريك أساسي، إلى جانب روسيا وإيران ونظام الأسد، في تدمير سورية وسفك دماء مئات الآلاف من أبنائها، وتشريد الملايين من شعبها، وتحويلهم إلى نازحين ولاجئين وطالبي لجوء على أعتاب دول المنطقة والدول الأوروبية والغربية الأخرى، دع عنك الضحايا الذين تبتلعهم البحار.
فإدارة أوباما هي من تضع، إلى اليوم، "فيتو" على تسليح المعارضة السورية بأسلحة ثقيلة ومتقدمة، بما في ذلك الصواريخ المحمولة على الكتف، للتصدي للطيران الحربي للنظام، بذريعة الخوف من "وقوعها بالأيدي الخطأ". وفي أتون الفوضى التي سمحت إدارة أوباما باستمرارها سنوات في سورية، تمددت "داعش"، فكان أن أعلن أوباما الحرب عليها، وأمر بتدريب آلاف من "المعارضة السورية المعتدلة"، لا للتصدي لنظام الأسد، بل للتصدي لـ"داعش". واليوم، وبعد عام من إعلان أوباما "استراتيجيته" لمحاربة "داعش"، نكتشف أن وزارة دفاعه لم تدرب سوى بضع عشرات من المقاتلين السوريين، في حين أن الخطة كانت تقضي بتدريب خمسة آلاف، على الأقل، في هذه المدة! أيضاً، إدارة أوباما هي من تعارض، إلى اليوم، إنشاء منطقة حظر للطيران، داخل سورية، لحماية النازحين من فظاعات البراميل المتفجرة التي يمطرهم بها طيران النظام، وبالتالي، لم يعد أمامهم من خيار إلا الاندفاع إلى خارج الحدود. المفارقة، هنا، أن الغرب، وتحديداً أوروبا، لم يتفاعل مع مأساة الملايين من اللاجئين السوريين، إلا عندما بدأ آلاف منهم يطرقون أبوابه عبر رحلات الموت في البحار، وها هم بعض الأوروبيين، اليوم، كألمانيا والنمسا وإسبانيا وبريطانيا، لا يرون بداً عن التفاوض مع الروس، والقبول ببقاء الأسد في السلطة ضمن "مرحلة انتقالية".
هذه حصيلة سياسات إدارة أوباما، "جعجعة" كثيرة حول فقدان الأسد الشرعية منذ عام2011، وضرورة تخليه عن الحكم، لأن بقاءه "مزعزع للاستقرار وغير إيجابي"، في حين أنها لا تقوم بشيء لتحقيق ذلك واقعاً، بما في ذلك التنحي من طريق آخرين من حلفاء أميركا ممّن يريدون تهيئة الظروف لإخراج الأسد، وإراحة سورية منه. في المقابل، تستميت روسيا وإيران في دعم نظام الأسد على حساب سورية التي تحوّلت أطلالاً من الخراب، ومقبرة جماعية لأبنائها. فما يهم روسيا وإيران هو بقاء "مَحْمِيَّةٍ" تابعة لهم، سواء في كل سورية، أم في بعضها، وهم "يطحنون" سورية كلها وشعبها، في سبيل ذلك.
قد تكون حسابات إدارة أوباما قائمة على أن سورية ساحة استنزاف لكل خصومها وخصوم إسرائيل، عرباً وأتراكاً وإيرانيين وروساً، غير أن تلك "الخِفِّة الاستراتيجية"، حتى في منظور كثير من أعمدة إدارتيه، عادت بالوبال على الاستقرار العالمي كله. فها هي "داعش" تهدد الغرب بالويل والثبور من هناك. وها هم اللاجئون السوريون يُعَرّون "إنسانية" الغرب. وها هي سورية أضحت ساحة صراع إقليمي ودولي بالوكالة، وقد تكون شرارة صدام عسكري بين الولايات المتحدة وروسيا. دع عنك أنها، اليوم، ثقب أسود، قد يمتص المنطقة كلها إلى أتون الفوضى، بما في ذلك إسرائيل.
لم يصدر اي رد فعل عن اي من الدول العربية ولا سيما منها المجاورة لسوريا على تعزيز روسيا وجودها في مناطق الساحل السوري وزيادة الدعم لقوات النظام. فهل يمكن ان تكون هذه الدول على بينة من الخطة الروسية في هذا الاطار خصوصاً ان موسكو شهدت زيارات عدة لمسؤولين عرب بارزين في الأسابيع الاخيرة عقب التوقيع على الاتفاق مع طهران على ملفها النووي وبحثت مع كل منهم في سبل تفعيل الحل لأزمة سوريا من دون ان تنجح في تليين مواقفهم من الرئيس السوري ومصيره؟
قد يقال ان الدول العربية نادراً ما عبّرت علناً وبصراحة عن مواقفها من مسائل حساسة ومهمة على غرار استيائها الكبير من المفاوضات السرية التي اجرتها الولايات المتحدة مع ايران حول ملفها النووي من دون اطلاع حلفائها ، وحصرت هذه المواقف عبر القنوات الديبلوماسية. وينسحب الأمر نفسه على الموقف من الخطوة التي أقدمت عليها روسيا بتعزيز وجودها العسكري في مدن الساحل السوري التي يسيطر عليها النظام جنباً الى جنب مع اعلان روسيا ان التنسيق مع بشار الاسد وحده يساعد على تدمير تنظيم الدولة الاسلامية. الا ان ما تم توافره من معلومات من سياسيين التقوا قادة عرب خلال الفترة الأخيرة يفيد بان الدول العربية المؤثرة قد لا تكون منزعجة من تعزيز روسيا تدخلها في سوريا، وهي لا تبدي حرصاً على مماشاة المواقف الاميركية المعلنة التي حذرت روسيا من تدخلها او رفعت الصوت من تداعيات هذه المسألة. لا بل ان هذه الدول لم تخف ارتياحاً مضمراً الى تعزيز روسيا حضورها انطلاقاً من ان واشنطن وخلال ما يزيد عن اربع سنوات من المناشدات العربية من اجل التدخل لوقف النزف السوري، خيبت آمال جميع حلفائها في هذا الاطار وهي لا تنوي وفق لما بات يعرف بعقيدة الرئيس الاميركي باراك اوباما في ما تبقى من ولايته التدخل من اجل المساعدة في انهاء الحرب السورية. وبقطع النظر عما اذا كان تعزيز الوجود الروسي العسكري سيساهم في ذلك اي ايجاد حل للازمة في سوريا او لا في هذه المرحلة على رغم ترجيح الاحتمال الثاني، فان واشنطن لا يمكنها التخلي عن المنطقة وخصوصا عن سوريا بعد ليبيا والتذمر في الوقت نفسه من ان يشغل آخرون الفراغ الذي كان ينبغي ان تشغله كقوة عالمية لها مصالحها الحيوية في المنطقة.
منطق ايران خلال العامين الماضيين تمحور حول هذا المنطق انطلاقاً من ان انسحاب اميركا من المنطقة دفع بايران الى محاولة احتلال ساحات وشغل حيز من هذا الفراغ. هكذا فعلت في العراق حين انسحبت قواتها تاركة لإيران الحرية بان تضع يدها على العراق ما تسبب بما حصل لجهة انطلاق تنظيم الدولة الاسلامية وسيطرته على مدن عراقية. وليس خافياً من ان كل التطمينات التي قدمتها واشنطن عن عدم ترك ايران متفلتة في المنطقة بعد توقيع الاتفاق النووي لا تشكل ضمانات للدول العربية التي تخشى خصوصاً بعد اقرار الكونغرس الاميركي الاتفاق النووي مع ايران وفي فترة انطلاق الانتخابات الرئاسية الاميركية تراخياً اكبر في ما خص نقاط الازمات في المنطقة . الا انه سيكون مثيراً معرفة رد الفعل الذي يمكن ان تبديه الادارة الاميركية والخطوات التي يمكن ان تتخذها ازاء الخطوات الروسية الاخيرة خصوصاً ان الرئيس اوباما سيكون معرضاً لانتقادات شديدة لتركه منطقة الشرق الاوسط لدول كبيرة اخرى ولروسيا بعد ايران من اجل ان تملأ الفراغ الذي تركه الانسحاب الاميركي منها نتيجة السياسة التي انتهجها ما سيترك تداعيات بالغة على المصالح الاميركية التاريخية في المنطقة. كما سيكون مثيراً معرفة كيف ستوظف روسيا قدراتها في سوريا وفي اي اتجاه ضد المعارضة تحت عنوان مواجهة الارهاب او ضد مواقع تنظيم داعش وهل سينقذ ذلك الاسد او نظامه؟
في الزيارات التي قام بها المسؤول الامني لدى النظام السوري علي المملوك لكل من جدة في تموز الماضي كما لمصر قبل اسابيع قليلة، سمع كلاماً واضحاً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مماثلاً للكلام الذي سمعه من ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والذي يفيد بانه من غير الممكن وقف دعم المعارضة في سوريا من دول المنطقة ما لم يتخذ الرئيس السوري اجراءات تحسم وجود ايران و"حزب الله" في الاراضي السورية، اذ ان استمرارهما الى جانبه يعني استمرار المعارضة التي يدرك الاسد عدم قدرته على إزالتها بتجاهل وجودها او وسمها بالطابع الارهابي، وطلبه من الدول العربية وقف دعمها انما يعود لمعرفته بان الحرب ستكون طويلة وستستنزفه كلياً مع عجزه عن الطلب الى ايران والحزب الانسحاب من سوريا. ولذلك فان تعزيز روسيا وجودها يأخذ من طريق ايران في الدرجة الاولى بحيث يدخل عناصر جديدة على المعادلة المتحكمة بوضع الرئيس السوري ونظامه كما من طريق الولايات المتحدة في الدرجة الثانية وبدرجات اقل من سائر الدول الاقليمية المعنية بحسب المعنيين انفسهم، هذا اذا تم التسليم جدلاً بان افق الحلول ممكنة في المدى المنظور، وهذا ليس اكيداً. اذ يجزم السياسيون المعنيون انه على رغم انه يتم العمل على انعقاد جنيف من اجل ايجاد حل للأزمة السورية، فان هذا متوقع على المدى الطويل وليس قريبا على الاطلاق.
سؤال بريء. لو لم تحتل «ماما» ميركل، عناوين الصحف وتحتكر محبة النازحين السوريين، هل كان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون يتحمل أعباء السفر الى لبنان، ومن ثمَّ الى مخيم الزعتري في الأردن لسماع بعض «القصص المؤلمة مباشرة من النازحين السوريين»؟ بالتأكيد مستحيل، لأن عمر المخيمات أربع سنوات، ولم يكلف كاميرون نفسه أعباء مثل هذه الزيارة. طبعاً ليست الغيرة وحدها وراء هذا الاندفاع من المسؤول البريطاني البارد. أكثر ما أثار كاميرون وباقي المسؤولين الأوروبيين الخوف من «اجتياح» سوري من النازحين. رغم ذلك هذه الجولة مهمة، لأن كاميرون شاهد بعينيه معنى أن يتحمل لبنان نازحين يزيد عددهم على ربع سكانه، أي كما لو نزح الى بريطانيا العظمى حوالى 14 مليون نسمة دفعة واحدة. طبعاً لن يحدث مثل هذا «التسونامي» ولا في أبشع الكوابيس، لأن بريطانيا «الانسانية« وغيرها من الدول الأوروبية تعرف كيف تتعامل بالنار مع مثل هذه الحالة الانسانية.
بعيداً عن المكاسب الاعلامية الداخلية للزيارة البريطانية وما سيتبعها من زيارات أوروبية، فإن موجات النازحين الى ألمانيا وغيرها أيقظت الأوروبيين على الحالة السورية وضرورة العمل على حلّها حتى لا تدخل مفاعيلها كل بيت من بيوتهم عاجلاً أم عاجلاً. لا شك ان أوروبا وفي مقدمها فرنسا، تريد الحل اليوم قبل الغد. لكن مشكلتها أن «العين بصيرة واليد قصيرة». مهما رغبت وأرادت وشاركت الدول الأوروبية وفي مقدمها فرنسا في التصدي لـ»داعش» وللأسد، فإنها لن تنجح في الحالتين. المشكلة في غياب القرار الأميركي. أو في أفضل الحالات رغبة واشنطن في استمرار هذا النزف الذي يستنزف جميع من هو في «المغطس» السوري، في الوقت الذي تتابع المراقبة وحساب الخسائر لدى الجميع.
الرئيس باراك أوباما، وضع هذه الاستراتيجية التي تقوم على معادلة «حارب من كيس غيرك» أي صفر خسائر مالية وبشرية. يبدو أن لكل استراتيجية نهاية. العالم كله وليس واشنطن أمام ساعة الحقيقة. استمرار الحرب في سوريا، سيؤدي الى دخول الحرب الى كل الدول. «داعش» خطر مفتوح على العالم وليس خطراً سورياً أو عربياً فقط. منسوب هذا الخطر سيستمر في الصعود بالاهمال والتساؤل عن أيهما قبل الرئيس بشار الأسد و»داعش». الإثنان يغذيان بعضها البعض. بقاء أحدهما يدعم بقاء الآخر.
ربما تكون صورة الشهيد الطفل ايلان الكردي قد أثارت الرأي العام العالمي، علماً أن آلاف الشهداء من الأطفال وصورهم خصوصاً الذين قتلوا بالسلاح الكيماوي، لم تثر العالم. لذلك يمكن التقدير أن هذا «الشحن الانساني»، ليس عفويا. تماماً مثل استيقاظ الولايات المتحدة الأميركية على مشهد وجود ست دبابات روسية تحمي مطاراً كان سورياً وأصبح روسياً. المشاركة الروسية في الحرب في سوريا ليست طارئة. بدأت مع بداية الحرب عندما شارك الخبراء الروس في «الحرب الإلكترونية» وقضوا على شباب «التنسيقيات» وهم بالمئات.
حالياً نزل «القيصر» بوتين في «المغطس» السوري. لماذا؟. الأرجح لأنه لا يمكن حالياً وضع اجابات حقيقية وواقعية عن كل الأسئلة التي طرحها هذا الانزلاق «البوتيني»، ان موسكو تعرف بأن باب المفاوضات حول الحل في سوريا قد فتح. وان القوي على طاولة المفاوضات هو أولاً القوي على الأرض ميدانياً.
الاختبار الكبير لموسكو حصل في أوكرانيا. لقد نجح بوتين في الامساك بقرار الحل، نتيجة لتطور وجوده العسكري في شرقي أوكرانيا. لذلك لا يمكن لموسكو ترك الأسد وخصوصاً إيران تقرير حصتها في الحل. موسكو تريد أن تكون الشريك الكبير في التفاوض وفي الحل وبالتالي في اقرار حصتها كاملة في سوريا حتى وان لم تعد سوريا التي يعرفها السوريون والعالم والعرب.
هذه بداية. أما الختام فإنه كما اعتاد العالم ليس اليوم وغداً. لا يوجد أحد من القوى المشاركة في الحرب في سوريا مستعد للتوقيع مع رئيس أميركي يستعد للخروج من البيت الأبيض. مهمة أوباما حتى 2017، متابعة بناء أعمدة الحل. الرئيس الأميركي المنتخب هو الذي يوقع ويأخذ الصورة وفي خلفيتها عدة مئات الآلاف من الضحايا السوريين وعدة ملايين من النازحين الذين مهما عاد منهم الى سوريا فإن التكوين السكاني والاجتماعي والثقافي لسوريا لن يكون كما كان. سوريا ستقوم من تحت الرماد، لكن بالتأكيد ستكون سوريا مشوهة مهما برع المتفاوضون في إعادة تركيبها.
فجأة استيقظت الدول الأوروبية على اللجوء السوري الذي بدأ منذ ان شن بشار الأسد حربه على شعبه ودفعت براميله الى اللجوء الى الخارج والتشرد. لبنان تحمل اكثر من مليون لاجئ. وهو عبء كبير لبلد يعاني من انقسام سياسي عميق ومن اوضاع اجتماعية واقتصادية مزرية. والأردن وتركيا تحملا ايضاً عبئاً كبيراً.
لكن كل ذلك بفعل حرب ارادها الأسد وكان بالإمكان تجنبها والتجاوب الحقيقي مع مطالب الشعب بالحرية والإصلاح. بيد ان عائلة الأسد لا تعرف معنى الحرية. فكلما تحدث سوري او لبناني عن الحرية اما اعتقلته وعذبته او اغتالته او قصفته بالبراميل القاتلة. والآن وأوروبا تتنازع حول توزيع ١٥٠ الف لاجئ سوري في دولها، يتنافس الأوروبيون لزيارة اللاجئـــين في الدول التي تستضيفهم لإطلاق الوعود بمساعدتهم ودعمهم في وقت يتدفق اللاجــئون ويـــخاطرون بحياتهم متجهين الى الغرب الذي لا يمكنه استيعابهم بهذه الكثرة.
وأصبح اللجوء السوري الى فرنسا وبريطانيا وألمانيا فجأة الموضوع الأساسي في الإعلام الغربي مع مشهد الولد ايلان الكردي السوري الملقى على الشاطئ التركي. لكن لماذا لم يتحرك هذا الرأي العام نفسه عندما قتلت قوات بشار الأسد في ٢٠١١ الطفل حمزة الخطيب في درعا عندما بدات الأحداث. فسلطات الأسد اعتقلته وقتلته قبل انتشار صوره على الشبكات الاجتماعية. ان مشهد ايلان الكردي مؤلم ومريع وغير مقبول.
لكن ينبغي التساؤل كم ايلان وقع قبله وكم حمزة بعده بسبب بشار الأسد. واللجوء بدأ منذ اربع سنوات عندما اندلعت الأحداث وتفاقمت عندما قتل الطفل حمزة الخطيب. وقال ذلك بوضوح امس رئيس الحكومة الفرنسي مانويل فالز ان داعش اتى على يد الأسد الذي اراد قتل المعارضة المعتدلة. فمسألة اللجوء اليوم تطرح نفسها في اوروبا بقوة في اوساط الرأي العام وأدت الى تأييده ضرب «داعش» الذي لن يحل مشكلة اللجوء ما دام بشار الأسد وجماعته على رأس الحكم.
جاء السيد كامرون لزيارة خاطفة مشكورة يعلن فيها عن المزيد من الدعم الى اللاجئين. ان زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ستتبع ولكنها ستكون مختلفة لأنه يريدها مفيدة للبنان وللاجئين فيبحث عن ظروف تمكنه من جعلها مفيدة على الصعيد السياسي اللبناني رغم ان رأيه العام غير مهتم الا بمسألة اللاجئين لأن الجميع ملّ من لبنان وانقساماته السياسية المستمرة. وهولاند يقول الآن انه اصبح من الضروري ان يتم ضرب «داعش» في سورية وغالبية الرأي العام تؤيد هذه الضربة ما سيشجعه على القيام بها.
ولكن ضرب «داعش» على عكس ما يعتقده بعضهم، سيزيد مأساة اللجوء لأن المدنيين الباقين سيحاولون الهروب من ضربات الائتلاف ضد «داعش» مهما كانت محددة ودقيقة لمراكزها. فدائماً في هذه الحروب يأخذ العدو المدنيين رهينة وحشيتهم. الحل ليس في ضرب داعش بل انهاء نظام الأسد. ولكن الغرب عاجز. وبعضهم في فرنسا في طليعتهم زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبن تقول انه ينبغي الاختيار والتحدث مع الأسد. وبعض النواب ايضاً من اليمين واليسار يقول الشيء نفسه. ولكنهم يغضون النظر عن ان كل المشكلة ظهرت وتراكمت من وحشية الأسد قبل «داعش».
لذا ينبغي الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعلى النظام الإيراني من اجل الحل دون الأسد قبل تفكيك سورية. ووحدها الإدارة الأميركية وربما ألمانيا بإمكانهما القيام بذلك. وحدها باريس الآن ورئيسها هولاند وفالز يؤكدان ضرورة حل من دون الأسد.
مهم جدا، تفسير كامل الظواهر الجديدة في المشهد السوري، فالأزمة السورية بدأت بالفعل بالانحسار وفق الطريقة الإسرائيلية للحل، ومهم أيضا أن نفهم أن قضية استقبال اللاجئين السوريين في أوروبا هي جزء من الرؤية الإسرائيلية للحل، وهي رؤية تقوم على قاعدة – تحريك جغرافي على الأرض- تتم بموجبه عمليات ترحيل للطوائف والأعراق والأقليات، وتجميعها باتجاهات مختلفة، وتهجير أكبر قدر ممكن من العرب السنة، أو وضعهم ضمن مربعات طائفية لكي يكونوا تحت السيطرة، والانطلاق نحو إعادة تركيب كل من سوريا ولبنان والأردن ومصر على أساس طائفي وعرقي محض، ما يجعل إسرائيل دولة الأقلية الوحيدة، هي دولة قائمة في وسط مجموعة من الأقليات العرقية والدينية وغيرها.
تساهم بالطبع في هذا الجزء إيران، التي تعي تماما تفاصيل المشهد السوري، لذلك هي تقوم بالمساعدة في جلب قبائل أفغانية وباكستانية لسوريا وتتم أيضا من خلال عمليات التغيير الديموغرافي، والتي بدأت عمليا تتضح علنا، من خلال التفاوض الإيراني على خطوات عمليات تبادل قرية الفوعة بسكان الزبداني، وهو ما كانت صورته أوضح من خلال طرد مئات العائلات من أحياء بساتين المزة من قلب دمشق، تمهيدا لمشاريع توطين على شاكلة المستوطنات التي أنشأها الأسد الأب في محيط المدن السورية فيما كانت تسمى مساكن الضباط وغيرها، وهي عمليا نسخة عن المستوطنات الإسرائيلية، التي كانت تقوم إسرائيل ببنائها لسلب الفلسطينيين أرضهم ببطء، كما حدث عندما قام النظام سابقا بمصادرة 10 ألاف دونم، من أراضي المعظمية في الغوطة الغربية، لقصد إقامة مستوطنات للقادمين الجدد من الساحل السوري.
الشعب السوري يعيش مسألة ترحيل من أرضه منذ أربعين عاما، وهي تماما المعادلة التي بدأ إكمال فصولها في موجة الترحيل الأخيرة صوب أوربا. ولهذا لا تريد أمريكا إقامة أي منطقة آمنة لحماية السوريين، في الشمال، وأما الخطة الحقيقية فهي فرض منطقة أمنة في الجولان، وهذه المنطقة تريدها إسرائيل، التي تريد ترحيل الدروز من السويداء على القاعدة ذاتها، التي تريد تحريك الطوائف، وهدف إسرائيل القادم هو فرض منطقة على شاكلة جنوب لبنان في أيام سعد حداد وانطوان لحد، لذلك بدأت في السويداء خطوة التخلص من القادة الذين يريدون بقاء المدينة بعيدة عن الصراعات، ولهذا تمت تصفية المناضلين من أمثال الشيخ البلعوس.
في هذه المعادلة أيضا هناك الشعب الفلسطيني الذي غادر مخيمات عديدة في سوريا، ولن يسمح النظام بعودته إليها، فخيارات الفلسطينيين هي بالرحيل عن سوريا، أو تصفيتهم، وبما أن الخطة التصفوية لم تصبح علنا بعد على طريقة البوسنة والهرسك، فالنظام معني ببقاء رموز ومكاتب فلسطينية في دمشق، لكن هذا الوجود مؤقت، وعندما يأتي الفصل الأخير من المشهد السوري، سيكون الوجود الفلسطيني في دمشق، شبيه بظروف البوسنة لحظة بدء المجازر، أي تحت النار المباشر.
وأما في عموم مدن الشمال، فكثيرون لا يعلمون طبيعة الإصرار على تدميرها، وبالذات مدينة حلب، فهذه المدينة الرائعة وقفت مطلع الثمانينيات لكي تفك الحصار الاقتصادي عن سوريا، وكان يومها حافظ الأسد لا يجرؤ على المساس بحلب، فقامت هذه المدينة بصناعة كل ما يلزم للسوريين، بما فيها أغلب قطع السيارات الحديثة، ولأن الأسد الأب كان يعيش آخر أيام حماة، لذلك سكت عليهم، ثم أطلق عليهم برامجه المعاكسة، وفرض جيشا من ضباط المخابرات ليكونوا شركاء رأس المال في حلب، وتم ضرب القطاع الاقتصادي هناك من خلال تخريب الجودة، وانهى الأسد هذه الظاهرة بإغراق حلب في صناعات ثانوية لا قيمة اقتصادية لها، وهكذا انتهت حلب، من مدينة تنافس فرنسا وإنجلترا في الصناعات النسيجية، إلى مدينة تبحث عن مشترين لبضاعتها على الأرصفة.
الطريقة الإسرائيلية للحل هي تدمير سوريا وتشتيت شعبها، وإنهاء الشتات الفلسطيني في سوريا ولبنان، لذلك علينا أن ندرك من الآن، ماذا يريدون صباح اليوم التالي.
تفشل روسيا بعد تخليها عن النظام السوفييتي في تشكيل دولة معاصرة، تتبنى نمطاً اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً متحضراً. وعلى الرغم من الرتوش الديمقراطية، والشكل الخارجي الذي يعتمد على الشعارات الغربية نفسها، فإن السياسة الروسية ما تزال ذات أسلوب "باطني"، على نمط المذاهب التي تنشأ على تخوم الديانات الكبرى، فتتمسح بشعاراتها وسلوكياتها وعقائدها، وتمارس طقساً سرياً خاصاً بأهدافٍ ومرامٍ مغايرة، وقد تكون مناقضة. المظهر الأول والأساسي لدجل السياسة الروسية هو فشل نظامها، على مدى خمسة عشر عاماً من محاولات تركيز معظم السلطات بيد فلاديمير بوتين، في إنتاج رئيس جديد للبلاد. فباستثناء ستالين وبريجينيف من بين رؤساء الاتحاد السوفييتي؛ لم نجد رئيساً روسياً تفوق على بوتين، من حيث عدد السنين التي أمضاها في السلطة. والمظهر الآخر حالة النوستالجيا العميقة لكل ما كان يمت للاتحاد السوفييتي السابق بصلة، مثل علاقات روسيا بالشرق الأوسط التي تحولت إلى نوع من الكآبة المفرطة، خصوصاً عند مراقبة موقع سورية الجغرافي الذي يكاد ينزلق، بالقدم الروسية، إلى مهاوٍ خطيرة.
تشمِّر روسيا عن ساعديها وساقيها بطريقة تُظهر على الجسد الروسي الملامح السوفييتية الواضحة، والهدف اليوم مساعدة النظام في "مواجهة الإرهاب". يقصد الروس بالإرهاب تنظيم الدولة والنصرة والفصائل المتشددة التي أثخنت كبد النظام، واستنزفته أو كادت؛ وروسيا الآن تنقل عتاداً ثقيلاً وخفيفاً، ومن أوزان متعددة، إلى السواحل السورية، ولا تخفي أنها بدأت نقل قوات برية، قوامها جنود وضباط وخبراء، تحت شعار مكافحة الإرهاب نفسه الذي يُثمل رؤوس الدول الغربية، وفي مقدمتها أميركا، فمحتواه السيميولوجي متعدد، ويمكن أن يتم تأويله على مذهب فقهاء "ردي ميد" بطريقة مريحة، إذ يكتفي مَنْ لا يريد أن يوافق علناً بالقلق بشكل بونكيموني، فيؤدي واجبه الدبلوماسي والإعلامي، ولا يعترض على الطريقة الروسية ذات الجوهر السوفييتي، لأن الوضع لا يعنيه، ولا يرى من مأساة اللاجئين غير "الزق" الذي وضعته المصورة المجرية لأحدهم في أثناء هربه من شرطة بلادها.
سورية التي تتعامل معها روسيا الآن، وتعتمدها جغرافياً بوصفها كياناً راهناً ومفيداً، هي الشريط الساحلي ودمشق، أو ما تبقى منها، مع رابط أسفلتي باتجاهين يربط هذه الجغرافيا. في هذه البقعة، يتم إنزال المعدات العسكرية و"الإنسانية" الروسية. وعلى هذه البقعة، سيتم بناء استراتيجية مكافحة الإرهاب، بإنشاء خطوط دفاعية متعددة، وقوية صعبة الاختراق، وستكون الاستماتة في الدفاع عنها بإبقاء ما هو خارجها خارجاً، والاعتماد بشكل كبير على الممر المائي للبحر المتوسط، لتلقي الدعم بكل أنواعه وامتلاك الأجواء بشكل مطلق، حتى مسافات كافية تغطي احتياجات سورية "الجديدة" دفاعياً، مع حرمان الطرف المقابل من أي ميزة جوية، دفاعية كانت أو هجومية. جوهر هذا التحرك هو الحفاظ على الأسد، بموروثه وثقافته المنسوجة على قياس الروس، من دون نسيان إيران "الجديدة"، المتحررة من قيود النووي، والموسومة ببراءة ذمة، حصلت عليها من أميركا، تخولها لعب دور مساعد ومساند لما تقوم به روسيا؛ وبالنغمة السوفييتية القديمة نفسها.
سورية "المجدية" هي الجغرافيا التي تقع تحت يد النظام حالياً، وهي ما تريد روسيا الحفاظ عليه، بقيادة أسدية تقليدية، تحت شعار مكافحة الإرهاب، الملاذ الدافئ للسياسة الروسية الذي اعتمدته منذ بداية الثورة السورية لسهولة تسويقه عبر مندوب علاقات خارجية بليد، كوزير الخارجية الروسي الذي لم يجد غضاضة في استخدام الفيتو مرتين، قبل أن يوجد على أرض سورية "الطبيعية" إرهابي واحد.
تعترف روسيا بالتدخل الصريح، ولا تستبعد تدخلاً أوسع، ولا علاقة لحجمه بعمق الشريط الذي تجاهد للحفاظ عليه، فهي تريده بما يكفي لمنع الداخل السوري من الشواطئ، وتعتقد وتسوق وتعمل على إقامة شاطئ وعاصمة خاليين من تنظيمات إرهابية بالمقياس الغربي، والحفاظ على الإرهاب المتمثل بالقيادة الحالية، لأن هذا الجزء هو سورية المجدية بالنسبة لروسيا، أما ما بقي منها، فلتحرقه طائرات التحالف