مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
البلعوس على درب الأطرش وجنبلاط

في انفجار غادر، استشهد الشيخ وحيد البلعوس ورفاقه في السويداء جنوب سوريا، وليس غريبا اتهام بشار الأسد وحلفاؤه وشبيحته باغتيال الشيخ الثائر، كما استهدفوا سلفا أحرار لبنان وسوريا، خصوصا أن البلعوس قد تعرض لاستهداف سابق وفاشل من فرقة ماهر الأسد.

في السويداء، تزعم الشيخ البلعوس حركة مشايخ الكرامة التي ضمت كوكبة من مشايخ الطائفة الدرزية الكريمة ومن أعيان المنطقة لتصدح بمعارضتها ورفضها لطغيان بشار الأسد وحزب الله وداعش والقاعدة، كان بإمكان الشيخ الفارس أن يركن للدعة، لكنه أراد أن يعبر عن امتداد أصيل لبني معروف، فامتشق صهوة الحق ورفع راية العروبة، وقال لا لبشار الأسد ومن خلفه إيران، كما قال لا للإرهاب السلفي، كان بإمكانه أن يركن إلى إغواءات إيران وإغراءاتها بوطن درزي أو أقلوي، لكنه كرر ما أعلنه سلطان باشا الأطرش، ثم كمال جنبلاط ووليد جنبلاط، في وجه الاستعمار ثم إسرائيل والآن إيران: ليس كل عربي درزي لكن كل درزي عربي، بل إن الموحدين الدروز عرب قبل أن يكونوا دروزا.

حالة وحيد البلعوس في السويداء شكلت مصدر إزعاج جدي لبشار الأسد وشبيحته وحلفه، فالرجل لعب دورا محوريا في مقاطعة أبناء السويداء للتجنيد في جيش الأسد، كما قام بدور مؤثر في التواصل والتوسط بين فصائل المعارضة السورية من جهة، وأهل السويداء من جهة أخرى، وقد استشهد البلعوس وهو يسير باتجاه المصالحة التاريخية بين درعا والسويداء لتوحيد الجهود والصفوف ضد إيران وبشار وداعش، وهذه المصالحة، لو تمت، فإنها ستشكل تحصينا نهائيا للجنوب السوري أمام تهديدات الشبيحة والإرهابيين والحرس الثوري، كما أنها ستؤسس مناعة وطنية ضد الطائفية والعنصرية والتطرف لصالح المواطنة، وكلنا ثقة وأمل بأن لا ينسى أنصار البلعوس حلم زعيمهم وقائدهم.

إن العقلية الفذة التي خسرتها سوريا برحيل البلعوس تعبر عنها بوضوح مقولته “نحن لسنا مؤيدين ولسنا معارضين، إنما نحن وطنيون نغار على وطننا وطائفتنا”، ويضيف الشيخ الجليل “الدروز معروفون بموقفهم الوطني، نحن حريصون على وحدة سوريا ونرفض التقسيم والتعدي على كرامة الناس من كل الطوائف، سنحارب الفساد وندافع على الأرض والعرض ضد كل المعتدين”، ثم يتحدث عن بشار الأسد “النظام لا يقيم أي اعتبار لنا، وفوق ذلك غدر بنا وأطلق علينا النار من الظهر، بشار يصفنا بالإرهابيين بينما يصف رجاله الفاسدين بالوطنيين، وكرامة الجبل أهم من بشار الأسد نفسه”. ويشرح حال منطقته الغاضبة “أقام النظام حواجز في مناطقنا بحجة حماية المواطنين، لكن تلك الحواجز أهانت النساء وأطلقت النار على العزّل وسرقت المحروقات والأغذية، والرئيس الذي يعجز عن حماية المواطنين يجب أن يرحل، والرئيس الذي يريد بيع وطنه يجب أن يرحل، لا نريد إسرائيل ولا نريد وطنا درزيا ولا نريد رئيسا يختلق المعارك المزيّفة ويمتهن تهريب الدخان والمخدرات ويقوّي داعش بشراء المازوت منها بمئات الملايين، هو له إيران، أما نحن فسوريا أمّنا وسنعيش فوق أرضها بكرامة أو ندفن تحت أرضنا بكرامة، ومستعدون للذهاب إلى دمشق لإسقاط بشار الأسد، مع السلامة ما بدنا ياه”.

أبو فهد، الشيخ وحيد البلعوس، امتهن الزراعة والبناء رغم مكانته الدينية من أجل الرزق الحلال، أخطاؤه، كما يقول، أوصلته إلى الله فقد تعلم منها أن لا شيء ينفع إلا التقرب إلى الله. ويصف الثورة السورية بالطبيعية نتيجة عقود عانى فيها المواطنون بسبب الفساد وتسلط الأجهزة الأمنية وإذلالها للناس، وحين رفض النظام مطالبة الناس بالإصلاح والتجديد والتغيير كان لا بد من الثورة، وللأسف هناك من عمل على أن تكون سوريا مكسّر عصا للدول الكبرى ولتصفية الحسابات المذهبية التي يقدر عمرها بأكثر من ألف سنة، وفوق ذلك كله نُسيت فلسطين وضاعت مطالب السوريين المحقة في دهاليز الملفات الدولية، وحتى لا يساهم في إضاعة الحق أكد، مرارا، على رفضه لاستهداف مؤسسات الدولة التي هي ملك للشعب، كما أكد دائما رفضه لكل أشكال التطرف والإرهاب، وعن علاقة الدروز بغيرهم يقول “نحن نحرّم التعدي منا ونحرّم التعدي علينا، وقد عاش المسلمون الدروز مع غيرهم من الأديان والمذاهب لمئات السنين بلا تفرقة، وتقاسمنا الحياة والمخاطر والأرض، وانضوينا جميعا مع بقية الطوائف تحت راية زعيم الثورة العربية سلطان باشا الأطرش الذي رفع شعار “الدين لله والوطن للجميع″، ونبّه البلعوس إلى أنه لم يتعاط مع أحد في الخارج وأن سنده الوحيد هو الله ثم الشعب، والدليل الناصع على ذلك معركة الكرامة (داما) التي أذل من خلالها نظام الأسد على حد وصفه.

انضم وحيد البلعوس إلى نجوم بني معروف، سلطان باشا الأطرش وكمال جنبلاط، في خدمة الحق والمعالي والكرامة، ولعل استشهاده يعلن هزيمة فادحة للنظام بانتفاضة السويداء نصرة للثورة وإسقاط الأسد فتنبلج سوريا التي حلمنا بها جميعا كوطن مستقر ومزدهر وعادل وحر، وإن غاب بلعوس فالسويداء والدروز في جعبتهم ألف بلعوس، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، إنا لله وإنا إليه راجعون.

اقرأ المزيد
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
لاجئون ومهاجرون.. ومع حق العودة

ندفع باباً مفتوحاً، حين نتحدث عن صعود أحداث اللاجئين، ومعظمهم من السوريين، إلى مرتبة القصة الأولى عالمياً، فلا شك أن كل ما يتعلق بهم صار الشغل الشاغل للهموم السياسية والإعلامية، أوروبياً وعربياً، وإلى حد ما عالمياً. وارتبط الصعود بتكرار حوادث الغرق المأساوية لمن ركب منهم زوارق التهريب، بقصد دخول أوروبا، أو لمن مات داخل شاحنة التهريب في النمسا، ما أدى إلى انفجار التعاطف الإنساني عند جماهير المتظاهرين في أكثر من بلد أوروبي، وخروجهم في مظاهراتٍ ترحب بقدوم اللاجئين. كما انعكس في قرارات حكومات غربية، تميزت في مقدمتها ألمانيا والنمسا، وفيها قدمت تسهيلات جديدة لدخول اللاجئين واستيعابهم. وبلغت قمة ذلك التعاطف أوجها، بعد نشر صورة الطفل السوري الغريق (عيلان) والتي تحولت إلى رمز عالمي لمأساة اللاجئين، ارتفع التعاطف معه إلى مرتبة اليقظة الأخلاقية الجديدة، والتي دفعت موجات رفيعة من التضامن مع أوضاع اللاجئين، تمثلت في مبادرات فردية غزيرة، وتعبيرات تظاهرية ممتدة إلى جانب تضامنات عديدة من مؤسسات المجتمع المدني الأوروبي والكنيسة الكاثوليكية وغيرها، ثم برزت في إلغاء الحكومة الألمانية الشرط الأساسي (بصمة دبلن) أمام دخول اللاجئين، وتخصيص ستة مليارات يورو لاستيعابهم، الأمر الذي تبعته قرارات أوروبية أخرى، ترحب باستيعاب مزيد منهم، وإن لم ترق إلى المستوى الألماني، لأسباب اقتصادية واجتماعية متوفرة.

هكذا، يبدو أن المجتمع الدولي، والأوروبي الغربي تحديداً، استيقظ أخيراً، وهو يحاول القيام بواجبه تجاه قضية اللاجئين، والذين صار قسم منهم مهاجرين، راغبين في حياة ومستقبل أفضل لهم ولأولادهم، بعد أن عانوا الأمرّين في بلادهم الفاشلة، إلى جانب القسم الأعظم من اللاجئين الذين خرجوا من بلادهم، وخصوصاً منها سورية، هاربين من الموت والعنف اللامحدود، فضلاً عن الإهانة والذل، وكل أشكال الحيونة المبتكرة لمليشيات الأنظمة. صحيح أن هذه اليقظة، وخصوصاً على مستوى الحكومات، تستجيب مستقبلاً لحاجات اقتصادية واجتماعية، لا تخفى على الملاحظين، ومنها تباطؤ النمو الديمغرافي والحاجة إلى اليد العاملة في البلدان المعنية، وأنها تخضع مجدداً لاعتبارات تمييزية، مثل اشتراط رئيسي بلديتين فرنسيتين قبول اللاجئين من الديانة المسيحية فقط. لكنها، في الواقع، وفي هذه اللحظة، تأتي استجابة لضغط أخلاقي، قام به الرأي العام والمجتمع المدني الأوروبي قبل كل شيء.
"علينا ألا نغفل عن مأساة السوريين في الداخل الذين صارت حياتهم جحيماً مستمراً، تحت رحمة شبيحة النظام وغلاء تكاليف البقاء على قيد الحياة"

وإذا كان من الطبيعي أن نتساءل عن أسباب تأخر هذه اليقظة الأخلاقية وانتظارها الطويل، بعد آلاف الغرقى والموتى والمهانين والمتسولين، حيث تستمر المأساة السورية منذ أكثر من أربع سنوات، وحيث قتل النظام أكثر من 300 ألف سوري، ويعتقل ما يماثلهم أو أكثر، كما دمّر حوالى نصف عمران سورية، وأرجعها إلى ما خلف حياة القرون الوسطى، بمشاركة أو توزيع أدوار مكشوف مع صنوه الجديد الداعشي، وبدعم حثيث وعلني من حليفيه، الإيراني والروسي، وتحت سمع العالم وبصره، إذا كان من حقنا أن نتساءل، فيمكن لنا أن نلاحظ أن هذه اليقظة لم تتحرك، إلا بعد أن اخترق اللاجئون حدود أوروبا وبموجات جماعية، وأن إعلام النظام وحلفائه نجح سابقاً في إيقاظ فوبيا الإسلام، ودمجها بفوبيا الإرهاب الجديدة التي ساهم بعض ثوارنا ومعارضينا بردود أفعالهم العفوية والغريزية في تعزيزها. كما لنا أن نعترف بتأثير الصورة البسيطة، لكن الحاسمة، للطفل السوري الغريق عيلان، إلى جانب صورة موتى شاحنة التهريب، في مقابل الفشل المريع لإعلام الثورة والمعارضة في التكرار النمطي والجزئي والغرق في المبالغات السوقية في أحيان كثيرة.
وفي هذا المجال، يمكن القول: حسناً، تحاول أوروبا أن تقوم بواجبها تجاه اللاجئين. لكن، علينا ألا ننسى أن هذا الواجب مازال محدوداً تجاه الملايين الأخرى التي تعيش في المخيمات، أو ما أشبه بالمخيمات في كل البلدان حول سورية، وأن حياة هذه الملايين تدهورت في جميع مستوياتها الإنسانية، خصوصاً في فقدان تعليم أطفالها أو انحدار ما هو متحقق منه، ما يثير أسئلة خطيرة حول مستقبلهم وتطلعاتهم، وما يمكن أن يجعل منهم وقوداً لردود أفعال، لا يستبعد أن تكون الجريمة والإرهاب شر مستفيدين منها. لكن ذلك كله لا يجوز أن يدفعنا إلى نسيان التساؤل الأكثر أهمية، والذي يبدو أن العالم، وأوروبا في مقدمته، يتناسيانه، وهو أن قضايا اللاجئين، أو المهاجرين، إنما هي مجرد نتائج ينبغي معالجة أسبابها، أولاً وأخيراً.
حسناً، إذن، هناك يقظة تجاه قضايا اللاجئين، والسوريين منهم خصوصاً، ويعبر العالم بذلك عن عجزه تجاه حل المشكلة السورية، أو هو يعبّر عن ملله منها، وينصرف إلى معالجة المشكلات الراهنة على حدوده، وهي أمور إنسانية لا يجوز تأخيرمعالجتها، على طريقة أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً.
لكن، من الضروري أن لا يدفعنا ذلك إلى إغفال أن النظام السوري، وحلفاءه ووجوهه المتعددة، هم أصل البلاء وسببه المستمر، فهم الذين أنتجوا مشكلة اللاجئين، وسينتجون المزيد منها، طالما تأخر حل المشكلة السورية، وطالما وجد فيها المتدخلون واللاعبون الدوليون استثماراً ومصلحة ما. كما أن علينا ألا نغفل عن مأساة السوريين في الداخل الذين صارت حياتهم جحيماً مستمراً، تحت رحمة شبيحة النظام وغلاء تكاليف البقاء على قيد الحياة، وشظف عيشها في ظل العنف المستشري، والذي أضاف له داعش وأشباهه جحيماً آخر فوق جحيمه.
الغريب إلى درجة النكتة السوداء في هذا المجال، وإلى درجة الوقاحة السافرة، أن مسؤولي النظام وحلفاءه ينتقدون، علناً وبصورة رسمية، الحكومات الغربية على تقييدها دخول اللاجئين، ويطالبونها بمزيد من التسهيلات أمام ذلك، كأنهم متفرجون، ولا علاقة لهم ولا مسؤولية، بينما هم عملياً يرتكبون جريمة التطهير الطائفي، في دفع ملايين الشعب السوري، وهم غالباً من طائفة محددة، إلى اللجوء والهجرة خارج سورية، بينما ينبغي جرّ هؤلاء المسؤولين، ومحاسبتهم على تلك الجريمة أمام محكمة الجنايات الدولية في أقل تقدير.
وقبل ذلك كله، ينبغي التأكيد على أن هؤلاء اللاجئين، أو المهاجرين، هم مواطنون سوريون لهم حق العودة إلى بلدهم، حالما يفتح طريق التغيير، وحالما تنتهي المحنة التي أجبرتهم على اختيار ذلك الطريق.

اقرأ المزيد
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
شرق أوسط بلا عرب؟

 نحن شعوب الخِيَم وقوارب الموت، لمَنْ نترك الشرق الأوسط «الجديد»؟ هل يعرف الجواب باراك أوباما المنشغل بحفلات البيت الأبيض، بعد اطمئنانه إلى كسر معارضة «المشاغبين» في الكونغرس الاتفاق النووي مع إيران؟ هل يدرك الجواب فلاديمير بوتين النائم على حرير الانتقام من عقوبات الغرب، الشامت بالأوروبيين القلقين من طوفان اللاجئين السوريين؟

شرق أوسط بلا عرب؟ هل يكون نهاية للحرب العالمية التي يخوضها الروس والإيرانيون والأتراك والأميركيون و«الأطلسيون» و«داعش» وأبناء «القاعدة»... كل على طريقته وبوسائله؟

بعد ربع مليون قتيل في سورية، يصرّ الكرملين على إعادة تأهيل آلة الحرب الوحشية في يد نظام ما زال مقتنعاً بإنقاذ نفسه، ولو بيعت سورية للروس والإيرانيين. هم يكفلون الترويج لبقائه وتعويمه شريكاً في الحل... رغم كل المجازر. مع ذلك، يوهمنا الإيرانيون بأنهم لا يريدون إلا السلام، وهو لوقف القتل يفرض- في معزوفة علنية- شراكة وطيدة مع القاتل، ما دامت الأولوية وقف بطش «داعش» وفظائعه. مَنْ يقرأ تصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني ونصائحه للأوروبيين، لا يستخلص سوى السخرية من كل التضحيات التي قدّمها الشعب السوري ثمناً لحريته. في الظاهر، يرأف به، فيما يجدد شرايين القاتل.

للقاتل وجهان معروفان، وأي ترف يريده السوريون الآن في البحث عن الديموقراطية؟ ألم يتعلّموا درس البراميل؟ الأولوية الآن لوقف القتل، يقول روحاني ويتجاهل ان إيران وليست جزر القمر هي التي زوّدت النظام السوري كل ما يلزم ليواصل حرب الدمار الشامل. وإذ يشير إلى انفتاح على التعاون مع الأوروبيين لإيجاد حلٍّ منتهزاً ضغط طوفان اللاجئين على القارة «العجوز»، يكمل المرشد علي خامنئي ان لا تفاوض مع الأميركي في الملفات الإقليمية.

شرق أوسط بلا عرب؟... من ليبيا إلى سورية والعراق، مشرّدون ونازحون ولاجئون، أدركوا أن المتناحرين على السلطة والمتصارعين على النفوذ، لا يطيقون رؤية الخِيَم. فيها احتمالات البطش كثيرة. في الشرق الأوسط «الجديد» كتل بشرية لن تبقى في مناطقها وأقاليمها، لذلك لا تتوقف رحلات المشرّدين عبر البحر المتوسط.

حلم السوري والليبي والعراقي التائه بين الحدود الضائعة وبحور مهرّبي البشر، هو الخروج من جحيم الوطن ... في حرب عالمية- عربية كل شيء فيها مباح. مِنْ صورها البائسة ان يجعل أوباما الأولوية لقتال «داعش»، فيما يترك السوريين لمصيرهم وغارات البراميل المتفجّرة. ولكن، ما العلاقة بين قتل بالذبح والتفجير، وآخر بالإبادة؟

ومن قذارة الحرب أن يضع بوتين قواته في حال تأهب متحدّياً الحلف الأطلسي بجسر جوي مصغّر، لإنقاذ النظام السوري بقاعدة عسكرية في اللاذقية. ولكن، هل من الديبلوماسية أن يستغل الكرملين انشغال الرئيس الأميركي برحلاته واحتفالاته، ليفتح الأجواء السورية لطائراته؟ لعله لا يدرك ما وراء انزعاج واشنطن، وأنها فقط تخشى «مواجهة» مع الروس الذين يصرّون على أولوية مكافحة الإرهاب، كما يكافحه النظام في دمشق.

كلهم يقاتلون «داعش»، لكن غالبية الضحايا مدنيون، ضحايا للتنظيم والنظام ولحلفائه. المفارقة أن يجد بعض الساسة في طوفان اللاجئين واستمراره المرجّح، ما يقرّب «داعش» من الانتصار. صحيح ان تفريغ الأرض في الشرق الأوسط «الجديد»، سيتيح للتنظيم قدرة أكبر على ابتلاعها، لكن الصحيح أيضاً أن الاتحاد الأوروبي لم يجد في بداية الحرب على الشعب السوري، سبيلاً للحل سوى ممالأة الأميركي ومواجهة النظام بالبيانات والأسى... والانتظار.

واضح أن إدارة أوباما ليست في وارد خوض مواجهة عسكرية مع موسكو بسبب تعزيز ترسانة النظام السوري وإنقاذه، بالتالي لا رادع لروسيا في استكمال انتزاعها ورقة «تسوية» ما في سورية، بعد تعديلها ميزان القوى على الأرض. وإلى أن تعدل الوقائع، تفريغ المدن والقرى مستمر، ومعه الطوفان العراقي- السوري- الليبي- الـ...

شعوب بلا دول ولا خِيَم؟ إنه جحيم الشرق الأوسط.

اقرأ المزيد
١٠ سبتمبر ٢٠١٥
إيران وإسرائيل والأسد و «داعش» تشقّ دروب اللاجئين

تُرك السوريون لمصيرهم، يمارس نظام بشار الاسد ضدّهم كل ضروب الإبادة والإجرام والتدمير، فهذا حاكمٌ يقتلع شعبه اقتلاعاً على مرأى من العالم. وقبلهم تُرك العراقيون لمصيرهم، فرّوا أولاً من بطش نظام صدّام حسين، وهُجّروا أيضاً بفعل الاحتلال الاميركي والحرب الأهلية التي اشتعلت في ظلّه ثم بفعل الارهاب «القاعدي» فـ «الداعشي». كذلك الليبيون متروكون الآن لمصيرهم، فمَن لم يدفعه نظام معمر القذافي الى الهجرة تولّت الميليشيات طرده باسم «الثورة». وقبل هؤلاء جميعاً تُرك الفلسطينيون يتشتتون في كل أصقاع الأرض بعدما اصطفت دول «العالم الحرّ المتقدم» لمباركة الاحتلال الاسرائيلي والجرائم التي ارتكبها لاقتلاع السكان من بلداتهم وبيوتهم. ومع هؤلاء جميعاً كانت «حروب الآخرين» في لبنان اضطرّت كثيرين من أهله لركوب البحر الى قبرص ومنها الى كل مكان. وكاد اليمنيون ينجون من هذه المحنة، رغم سوءات نظام علي عبدالله صالح، إلا أن الحوثي، عدوّهم الداخلي الآخر، شاء للبلاد مصيراً ايرانياً بات صنواً للخراب المتعمّد.

تعدّدت الأسباب والمنفى القسري واحد، فإذا الطغاة يتناسلون ويتشابهون، من الاسرائيلي الى الايراني، ومن الصدّامي الى الاسدي والقذافي والحوثي/ «الصالحي». ووراء هؤلاء وقف الاميركي دائماً أكان يقود من أمام مثل جورج دبليو بوش وأسلافه أو من خلف كباراك اوباما، ووقف أيضاً الروسي أكان الاتحاد السوفياتي أو روسيا فلاديمير بوتين. ولم تكن قيادة الطغاة لتعني ولا مرّة حلَّ الصراعات والأزمات بل ادارتها لاستغلالها. هذا النهج الاستبدادي مستمر بلا أي تغيير على مستوى الدولتين الكبريين، متصارعتين أو متوافقتين، سرّاً أو علناً. فلا اوباما يستطيع الادعاء بأنه «رجل سلام» لأنه لم يحرّك جيوشه مفضلاً حروباً بالوكالة أقلّ كلفةً، ولا بوتين يستطيع أن يخادع بأنه يريد «اصلاح» النظام العالمي، فإصلاحه هذا بات مُختزلاً بالتمسّك بالأسد ونظامه لتقسيم سورية، وبافتعال حرب أهلية لتقسيم اوكرانيا. وعلى مرّ العقود تناوبت الدولتان على تعطيل القانون الدولي، فجعلا من الأمم المتحدة مجرّد كيان مشلول وعاجز.

لا مبالغة في القول أنه كان هناك دائماً بحث عن «شريعة غابٍ» ما مستدامة في الشرق الأوسط. فما يسمّى المجتمع الدولي لم يبالِ يوماً بـ «حماية المدنيين» الفلسطينيين، لا بموجب المعاهدات الملزمة لسلطات الاحتلال الاسرائيلي، ولا بأي قانون أو قرار لمجلس الأمن أو أي عُرف انساني. كانت تلك رسالة واضحة الى اسرائيل بأن أحداً لن يحاسبها، وكذلك الى الأنظمة المستبدّة التي شعرت بأنها محصّنة فتحوّلت مع الوقت الى عدو وسلطة احتلال داخليين. بل ان هذه الممارسة الدولية اللامسؤولة والمتهوّرة أقرب الى وصفة مدروسة لاستنهاض التطرّف والارهاب. لذلك حين أزف اسقاط تلك الأنظمة، بتدخل القوى الخارجية اياها كما في العراق وليبيا أو من دونها كما في سورية واليمن، ارتسمت اشكالية «الاستبداد - الارهاب» أمام الداخل والخارج معاً، لكن الخارج بدا أكثر تأهّلاً لتوظيفها والاستفادة منها.

فأميركا/ أوباما التي انسحبت من العراق مفتخرةً بأنها أقامت فيه «ديموقراطية» سرعان ما تبيّن أنها واقعياً سلّمت البلد الى ايران التي أعادت انتاج الاستبداد الذي اجتذب الارهاب الذي أعاد اميركا الى العراق لتجد ايران في انتظارها لتكون «شريكة» في محاربة الإرهاب الذي ساهمت مباشرة في انتاج نسخته «الداعشية» من خريجي «القاعدة» ومعتقلي السجون السورية والعراقية. أما روسيا/ بوتين فكانت طوال الوقت منسجمة مع الخط الايراني، لأن «الاستبداد - الارهاب» بالنسبة اليها ليس «جدلية» فلسفية بل معادلة تعني مضاعفة حاجة الأنظمة الى السلاح. ففي سورية، مثلاً، وجدت موسكو أن تلك المعادلة استشكلت أخيراً الى حدّ بات يتطلّب أن تستثمر فيها مباشرةً ولا تكتفي بتلبية حاجات النظام وتحصيل الفواتير من حليفه الايراني، لذلك كان شروعها في اقامة بنية تحتية لقاعدة عسكرية ثانية بمثابة تكذيب رسمي وفعلي لما ردّدته مراراً بأنها «غير متمسكة بالأسد»، وتكذيب أيضاً لما روّجته عن خلافها مع طهران التي ترفض الاعتراف بـ «بيان جنيف 1». الواقع أن روسيا وايران تفعّلان تحالفهما في سورية لتفرضا شراكتهما ونظام الأسد في «الحرب على داعش»، كونها أصبحت مدخلاً الزامياً الى «حلّ» الأزمة السورية.

ثمة مدخل إلزامي آخر انفتح أخيراً الى ذلك «الحلّ» عبر المهاجرين المتدفّقين على اوروبا. فبعدما تعهّدت الحكومات الاوروبية جميعاً لناخبيها بسياسات صارمة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، ها هي ترضخ لضرورة استيعاب الهجرية القسرية من سورية والعراق. هنا أيضاً لعب ثنائي «الاستبداد - الارهاب» دوراً محورياً أشار اليه وزير الخزانة البريطاني بقوله إن المشكلة تكمن في «نظام الاسد الشرير وارهابيي داعش» ولا بدّ أن تُواجَه «في المنبع». لكن هذا التشخيص للمشكلة كان معروفاً قبل نحو عام على ظهور «داعش» كحليف ضمني للنظام، تحديداً منذ هدّد الاسد للمرة الأولى في لقائه مع أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي آنذاك «بإشعال المنطقة خلال ست ساعات» (تموز/ يوليو 2011). كان هذا ردّه على كل العواصم الغربية التي دعته وقتئذ الى «اعلان اصلاحات جدّية وقيادة تنفيذها» (!) احتواءً للانتفاضة الشعبية التي كانت لا تزال في طورها السلمي. بعد أسابيع قليلة بدأ مسلسل الإخفاق الدولي في مجلس الأمن، ولا يزال مستمرّاً.

كان الفشل الدولي الأول في استجابة استغاثة المتظاهرين المطالبة بـ «حماية المدنيين»، فلا «القانون الانساني الدولي» المعني بأبسط حقوق الانسان ولا قرار «الاتحاد من أجل السلام» كانا كافيين لاقناع روسيا والصين بالامتناع عن استخدام «الفيتو» لوقف جرائم يومية موثّقة. وأدّى اليأس من توفير تلك «الحماية» الى المرحلة التالية، أي عسكرة الصراع، كما سعى اليها النظام معتقداً بإمكان حسمها سريعاً لمصلحته، وبدأت مجازره المتنقّلة بين المناطق تدفع بالمهجّرين الى الداخل والنازحين الى الخارج. أما الفشل الدولي الأكثر خطورة فارتكبه الاميركيون عندما أغرقوا المعارضة وداعميها في متاهة جدالات عقيمة حول المعتدلين الممكن تسليحهم والمتطرفين غير المرغوب فيهم، وحول الخشية من التنظيمات الارهابية وإمكان وقوع الأسلحة في أيديها. ولم تبدّل واشنطن ذرائعيتها العدمية رغم تراجع أحوال المعارضة ميدانياً، بل حتى بعدما أدّت الهزائم الى وقوع المحظور بانتشار «داعش» وتوسّعه.

ليس معروفاً في أي رواية كانت واشنطن تكذب، أفي تحذيرها المسبق من ظهور الارهاب أم في حربها عليه، أم في كليهما؟ تذهب «نظريات المؤامرة» الى أن اميركا تعتبر «داعش» من تداعيات حربيها على الارهاب والعراق ومن النتائج التي توقّعتها من ادارتها للأزمة السورية. اذاً، فلا عزاء لأوروبا المربكة حالياً في ادارتها لـ «غزو» المهاجرين، وقد لمست أخيراً مردود التقصير في مواجهة نظام الاسد وحلفائه. واذا كانت حكومات اوروبا غلّبت أخلاقياتها الانسانية على اعتباراتها السياسية الداخلية إلا أن ترحيبها البطيء والمتأخّر باللاجئين يعيد الى الأذهان ممارسات مشابهة سابقة تجاه شعوب اخرى، اذ يرى كثيرون في فتح أبواب نذيراً بأن نهاية أزمة سورية ليست في الأجل المنظور.

في أي حال، ثمة حكومات اخرى لم ترَ ضرورةً للتمتع بفضيلة الصمت طالما أن الأخلاقيات تعوزها: اذ لم تتردد طهران، كأي طرف مراقب ومحايد، في حثّ الاوروبيين على القيام بـ «الواجب الانساني» ازاء المهاجرين. فيما تنكّر بوتين نفسه بزيّ «الشبّيحة» ليقول أن هؤلاء لم يهربوا من سورية بسبب نظام الاسد. أما الجدل الاسرائيلي فكان نموذجاً انحطاطياً بامتياز، سواء من جانب زعيم المعارضة اسحق هيرتزوغ الذي دعا الى استقبال لاجئين سوريين متجاهلاً أن ثمة لاجئين فلسطينيين استولت دولته على أرضهم وحقوقهم بل ان فلسطينيين فرّوا من مخيمات سورية وترفض دولته لجوءهم الى مناطق السلطة الفلسطينية، أو من جانب رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو ووزرائه الذين هرعوا الى رفض دعوة هيرتزوغ كما لو أن اللاجئين يتزاحمون على المعابر الحدودية.

اقرأ المزيد
٩ سبتمبر ٢٠١٥
السويداء مع الأسد أو ضمن دولة درزية

اغتيال الشيخ وحيد البلعوس دعسة زائدة أقدمت عليها أجهزة أمن النظام السوري ولها تداعيات كبيرة على علاقته بالمكون الدرزي المتركز جنوب البلاد، لكنها لا تصل إلى الدرجة التي قد تحدث قطيعة نهائية في علاقة الطرفين، والمقدّر أن تنتهي الأزمة بينهما بصياغة عقد جديد للعلاقة يمنح الدروز بعض التسهيلات وهامشاً أكبر في إدارة أنفسهم.

على عكس ما يتصور الكثير من المتحمسين الذين راهنوا على انضمام السويداء للتمرد على حكم الأسد، فإن تفحص الواقع في شكل عقلاني يثبت أن القضية أعقد من ذلك بكثير وأنها تخضع لاعتبارات كثيرة يندمج فيها الحل السوري النهائي وتشابكات الأزمة السورية الإقليمية والدولية بإضافة إلى تعقيدات الخريطة السورية المذهبية والسياسية.

على الأرض تبدو السويداء مرتبطة بدرجة كبيرة بنظام الأسد لدرجة يستحيل الانفكاك عنه، حتى أن السويداء نفسها لا تستطيع فعل هذا الأمر في الظروف الراهنة وحاجتها للنظام تبدو أكبر من حاجة الأخير لها رغم أنها تؤمن له وظائف إستراتيجية مهمة لحماية خاصرة دمشق من الجنوب ووظائف دعائية تنطوي قي إطار مزاعمه بحماية الأقليات ووحدتها ضد ما يسميه «الإرهاب التكفيري».

في تفاصيل تلك العلاقة المعقّدة، يتكشّف أن كل المنظومة القتالية التي تأسست في السويداء، والمقدّرة بحوالى عشرة آلاف مقاتل، تأسّست بغرض محاربة الطرف الأخر وجرى دمجها ضمن فعالية وجهود منظومة الأسد، وتأسست عقيدتها القتالية على مبدأ حماية السويداء من الجماعات المعارضة» التكفيرية»، وهي تشكيلات أشرف النظام على تدريبها وتسليحها وبناء هيكليتها، وبالتالي فإن أمر الانفصام عنه أشبه بالمستحيل، بل إن الضغط في هذا الاتجاه من شأنه إحداث انقسام داخل المكون الدرزي قد يفضي إلى حرب أهلية داخلية، وذلك لوجود تيارات ترى في التصادم مع النظام تناقضاً ثانوياّ لا يصل إلى حد التناقض الجوهري مع الكثير من تشكيلات المعارضة الإسلامية.

من جهة ثانية، تبدو السويداء أكثر محافظات سورية ارتباطاً بالنظام الذي يؤمن لها كل الخدمات ويوظف شريحة كبيرة من أبنائها داخل أطر الدولة ويؤمن تالياً أسباب معيشتهم، فالمحافظة لا تحتوي على مشاريع استثمارية مهمة ولا تملك أراضي زراعية كافية لتحقيق شيء من الاكتفاء الغذائي الذاتي، حتى أن مصادر مياه شربها تأتي من درعا، ولا يوجد بدائل جاهزة لتأمين هذه الحاجات في هذه المرحلة.

اللأهم من كل ذلك سلهمت السنوات الماضية برفع مستوى التعقيد في العلاقات بين السويداء وجيرانها في محافظتي درعا والقنيطرة وحتى الريف الدمشقي، صحيح أن الأمور بقيت مضبوطة بدرجة كبيرة، لكن من دون وجود قنوات تواصل بين الطرفين إضافة إلى انعدام المشتركات بينهما، وهذا الأمر يصعّب بدرجة كبيرة حصول نقلة نوعية في علاقات السويداء، من علاقة مع النظام، حتى ولو كانت حذرة ومتوترة في الفترة الأخيرة لكنها تمتلك أطر وقنوات تواصل ومصالح متبادلة، إلى علاقة مع طرف عملت سنوات خمس على زيادة الريبة والشك بل والقناعة أنه يشكل خطراً وجودياً على المجتمع الدرزي.

تشكّل هذه الاعتبارات أساس حسابات الدروز في الخيارات التي سيتبنونها لحل أزمتهم مع النظام، ونظراً لقلة البدائل المتاحة سيرجحون البقاء على شكل معين من العلاقة مع النظام حتى نضوج بدائل أخرى، وأهم هذه البدائل تأكدهم من ذهاب سورية نهائياً الى التقسيم حينذاك قد يذهب الدروز إلى خيار الدولة الدرزية تحت مظلة إقليمية ودولية، وبخاصة أن بعض الترتيبات لهذه الدولة قد بدأت تتمظهر على شكل علم الحدود الخمسة وبنية قتالية يتم التجهيز لها لحماية هذا الخيار، مع العلم أن ذلك أيضاً لن يتحقق من دون توافق إقليمي شامل ذلك أن هذه الدولة سيكون لها تأثيرات إقليمية نظراً لتوزع الدروز على كامل منطقة بلاد الشام وسكنهم في مناطق متجاورة ومتواصلة بين سورية ولبنان وفلسطين.

لا يستطيع دروز سورية الثورة على نظام الأسد كما يشتهي وليد جنبلاط وكما يرغب معارضو نظام الأسد السوريون، هذا الأمر فات أوانه ولم يعد ممكناً تحقّقه، الوقائع على الأرض تبدو طاردة بقوة لمثل هذا الاحتمال، الدروز اليوم أمامهم خيار واحد إجباري التنسيق مع نظام الأسد تحت غطاء البقاء تحت ولاية الدولة السورية، إلى حين نضوج بدائل أخرى لم يأت وقتها بعد، على الأقل في هذه المرحلة.

اقرأ المزيد
٩ سبتمبر ٢٠١٥
أمّا وقد وصلوا إلى أوروبا

هجرة السوريين إلى أوروبا بأعداد غير مسبوقة تشغل الأوساط السياسية والاجتماعية في القارة العجوز، لكنها بالنسبة إلى الوطن الأم نوع من الاستفتاء انتهى إلى رفض الجهتين الحاكمتين، «نظام» الأسد و «لا نظام» الجماعات الإسلامية المتطرفة، وفي مقدمها «داعش» و «النصرة».

نقول «الوطن الأم» تذكيراً بأن كلمة «سورية» ممنوعة في الخطابين المتصارعين، البعثي والإسلامي، الأول يستخدم كلمة «القطر» لئلا تكون سورية وطناً منفصلاً عما تسميه الأدبيات البعثية (والقومية بالتالي) الوطن العربي، فـ «القطر» يشكل إطاراً جغرافياً موقتاً بانتظار أن يجد ديمومته في الإطار العربي الواسع. والخطاب الإسلامي السياسي يرفض مبدئياً فكرة الوطن ويعتبرها انتقاصاً من الانتماء إلى دار الإسلام، معتبراً «الأخوّة الإسلامية» حقيقة تاريخية وروحية تتعارض تماماً مع «المواطنة».

كأن سورية التي نرى حطامها ودم أبنائها المسفوك، لم توجد أبداً في نظر حكامها ومعارضيهم، وكأنها توجد للمرة الأولى في نعت المهاجرين بأنهم «سوريون». هناك ما يشبه المفارقة حين يجد المهاجرون السوريون اعترافاً بهويتهم في لحظة تهيؤهم للانتماء إلى أوطان أوروبية سيحملون جزءاً من هوياتها.

أما وقد وصل المهاجرون السوريون إلى أوروبا فسيُدركون أنها ليست جنّة الأرض، وأن مجتمعاتها التي أنشأت النهضة الحديثة وصدّرتها للعالم، تشكو من أزمات اقتصادية وارتفاع في معدّل البطالة. وأوروبا في الأصل قارة طاردة للسكان، وإن حدث ذلك أثناء الاكتشافات والمدّ الاستعماري، حين شكل أوروبيون الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، واستوطنوا في أنحاء كثيرة من العالم، كما في جنوب أفريقيا وبعض جزر الباسيفيك.

ولا تعتمد دول أوروبا إجمالاً التعددية الثقافية التي نجدها في الولايات المتحدة وكندا، فلكل دولة ثقافتها العميقة، وثمة فارق ثقافي واجتماعي بين اليونانيين والألمان والفرنسيين والإنكليز والإسبانيين وغيرهم من شعوب أوروبا التي تعتمد، لأسباب اقتصادية وسياسية، عملة موحدة وتلتقي في اتحاد له برلمانه وقراره السياسي، لكنها تفترق في شؤون أخرى كثيرة.

ويجب أن يعني كثيراً للسوريين المهاجرين قول المستشارة الألمانية انغيلا مركل إن تدفّقهم بأعداد كثيرة «سيغيّر ألمانيا، وهذا سيشغلنا في السنوات المقبلة وسيغيّر بلادنا، ونريد أن يكون هذا التغيير إيجابياً، ونعتقد أن بوسعنا تحقيق ذلك». كلام مركل الصريح عن المهاجرين الجدد الذين سيحميهم القانون، يؤدي إلى طرح قضايا لم تستطع الجاليات العربية والإسلامية التي سبقتهم حلّها بصورة واضحة. ويمكن اختصار هذه القضايا في اثنتين، الأولى مدى الاندماج في مجتمعات فصلت الدين عن الدولة منذ عصر النهضة، فهي تتقبل حرية الإيمان المتصل بأخلاق عابرة للثقافات، لكنها لا تتقبل تقديساً لنماذج من الحكم الشمولي ومحاولة فرضها على أوروبا، سواء بالانسحاب من حركة المجتمع أو بالهجوم على مؤسسات وأفراد يمارسون حرية في إطار القانون.

والقضية الثانية هي عجز المهاجرين عن تكوين رجال دين من الجالية يستطيعون تكوين خطاب إسلامي أمين لأصول الدين ومدرك لطبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه، فما زال معظم رجال الدين الإسلامي في أوروبا يأتون من البلاد العربية والإسلامية، ويتسبب خطابهم ومرجعيته الحرفية في بلاد المنشأ، في شرخ الجالية إلى قسمين، الأول ينصرف إلى الاندماج بلا حدود والثاني يتفادى المجتمع أو يعاديه وربما يكفّره في بعض الحالات.

وفضلاً عن اليمين المتطرف القليل النفوذ حالياً في أوروبا، سيسمع المهاجرون أصواتاً شرقية وغربية لن تدعهم وشأنهم في تجربة عيشهم الجديدة، فهي تنغّص حياتهم وتُربك سلوكهم عن سابق تصور وتصميم، ومن الأصوات مثلاً لا حصراً، كلام الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان عن تعرّض مسيحية أوروبا للخطر بسبب المهاجرين، وكلام رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو عن أن أوروبا عادت قلعة مسيحية، وقد نسي الرئيسان أو تناسيا موقف بابا الفاتيكان الإيجابي من استقبال المهاجرين الهاربين من عنف أعمى يعطّل حياة البشر.

اقرأ المزيد
٩ سبتمبر ٢٠١٥
التدخل الروسي في سوريا

منذ أكثر من عامين كنا نعلم عن دور النشاط العسكري الروسي في منع انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، تحت اسم وخبراء ومستشارين وشحنات أسلحة لم تنقطع. التدخل الروسي حينها تزامن مع شبه غزو إيراني لسوريا لا سابقة له، حيث تولى جنرالاتها وقوات من حرسها الثوري معظم المهام القتالية على الأرض، مع جيش من ميليشيات مستوردة من حزب الله اللبناني، وأخرى أفغانية وعراقية. إرسال القوات الإيرانية كان للتعويض عن هروب أكثر من نصف جيش الأسد، وفقدان الثقة في النصف المتبقي، الذي لم يعد يزود إلا بالقليل من الذخيرة والوقود حتى لا يهرب بأسلحته. الروس كانوا في الخطوط الخلفية والإيرانيون في الخطوط الأمامية.

إذن ما الجديد؟

التقارير الأميركية الأخيرة أظهرت نشاطًا روسيًا جديدًا وكبيرًا، حيث أرسلت موسكو تطلب كميات كبيرة من أذونات المرور لقواتها الجوية لعبور الأجواء إلى سوريا، بما يوحي بجسر جوي ضخم. أيضًا، تم رصد جلب وحدات إسكانية كبيرة تستخدم للعسكريين الروس جرى شحنها لمناطق مثل اللاذقية، وخدمات لنحو ثلاثة آلاف عسكري روسي وقاعدة جوية.

والسؤال الأهم: لماذا؟

الروس يحاولون التقليل من خطورة نياتهم، بأنهم ليسوا بصدد غزو سوريا، وما يحدث استمرار لاتفاقية الدفاع الموقعة مع نظام الأسد في إطار التدريب والاستشارات ومبيعات السلاح. لكن الرقم والنشاط أكبر بكثير مما تدعيه موسكو، مما يجعل أفعالها أكبر من أقوالها!

قد ترى روسيا في الوضع الجديد فرصة ثمينة. فالحشد الدولي، والأميركي تحديدًا، لمقاتلة تنظيم داعش يفتح لها فرصة ستستغلها لتغيير الوضع القائم بشن حرب واسعة تقضي على المعارضة السورية الوطنية المعتدلة، وتصبح فيه القوات الإيرانية والروسية تسيطر بشكل تام على الوضع، والأسد أصلاً لم يعد سوى مجرد ورقة توت لأن إيران هي من تحكم سوريا اليوم. وموسكو تريد تحقيق ما فشلت في تحقيقه بترتيب حل سياسي، ومفاوضات هدفها دائمًا كان فرض عودة الأسد حاكمًا، نفس الهدف الإيراني الذي فشل خلال عامين من الحروب ضد كوكتيل من المعارضة المسلحة، وضد الجماعات الإرهابية التي تقاتل الجميع! ونظرًا لأن الحشد الدولي الذي بناه الأميركيون لا يهدف إلا إلى ملاحقة التنظيمات الإرهابية، فإن الروس والإيرانيين يريدون تصفية المعارضة الوطنية. والاستيلاء على سوريا المهمة جدًا لحكم العراق. وبالتالي، نحن على وشك الدخول في فصل جديد وخطير من الحرب السورية. ومحاولات واشنطن لإحراج موسكو بالكشف عن معلومات التدخل الروسي وطلبها من دول مثل اليونان عدم الإذن لطائرات النقل العسكرية الروسية بالمرور عبر أجوائها لن يوقف الروس والإيرانيين عن استغلال الحرب على «داعش» لصالح أهدافهم بالاستيلاء على سوريا.

لماذا يكون خطيرًا وسوريا فعليا اليوم بركة دماء ضخمة وساحة اقتتال لنحو مائتي ألف شخص من جنسيات مختلفة، يحاربون على الجانبين، مع نظام الأسد، ومع «داعش» و«النصرة» وغيرهما.

دخول روسيا كقوة محاربة في سوريا سيؤلب العالم العربي والإسلامي، ويعيد ذكرى أفغانستان. ستكون مثل السكر للذباب. سيدفع تدخلها بالمزيد من الآلاف من الشباب للانخراط في تنظيمات متطرفة إرهابية دفاعًا عن إخوانهم السوريين. ولن يعود حينها لدول، مثل الولايات المتحدة، حجة لإقناع العالم بمحاربة الجماعات المتطرفة. ولن يكون ممكنا طمأنة مخاوف دول الشرق الأوسط من الحلف الإيراني الروسي الذي يريد السيطرة التامة على العراق وسوريا ويهدد أمنها ومصالحها.

لقد استغل الإيرانيون رغبة الجانب الأميركي الجامحة طوال السنتين الماضيتين في مفاوضات البرنامج النووي بالتمدد في المنطقة وتوسيع الفوضى والحروب. حتى لا تفسد المفاوضات حرصت الإدارة في واشنطن على عدم مواجهة طهران، أو حتى انتقادها، وهي ترسل قوات لأول مرة خارج حدودها للقتال في هذين البلدين! ولو أن الصراع في سوريا بقي سوريًا سوريًا، لكانت الأمور قد حسمت منذ فترة طويلة، إما بتراجع نظام الأسد عن عناده والقبول بالحل السياسي، كما تصوره اتفاق جنيف الأول، أو بانهيار ما تبقى من النظام العليل الذي يمثل أقلية صغيرة من السوريين، وتشكيل نظام سياسي جامع لمكونات سوريا.

إنما بدخول القوات الروسية في الحرب السورية ستدخل المنطقة فصلا أوسع من الصراع.

اقرأ المزيد
٩ سبتمبر ٢٠١٥
سورية... موسم دراسي متردٍ جديد

للمرة الخامسة، يأتي العام الدراسي، بعد هبوب عواصف التغيير التي خلعت أركان دول ومجتمعات في منطقتنا، فما الذي تغير على صعيد الأنظمة التربوية والتعليمية بعد فاتورة الدم، وتعطّل الحياة في بعض دول الربيع العربي، وفي سورية نموذجاً؟

كان النظام التربوي في سورية، في العقود الماضية، جزءاً من نظام سلطوي خاص، اشتغل على أن يكون النظام التعليمي ركناً أساسياً من أركانه، يعدّ ويخرّج كوادر تخدم النظام القائم، وتعمل على تحقيق أهدافه، وتمكين سلطته وتسلّطه. تجلّى هذا النظام التربوي في أدوات إنتاج المعرفة ومؤسساتها مجتمعة، انطلاقاً من المراحل التعليمية الأولى، وصولاً إلى التعليم العالي، وذلك في المناهج التعليمية والتربوية، وفي طرق التعليم، وفي الإدارة التربوية والإشراف التربوي، بل حتى كانت العملية التعليمية ضمن الفصل الدراسي تجري، وفق النهج التربوي الشامل، إذ كانت علاقة الطلاب بعضهم ببعض، والعلاقة بينهم وبين مدرسيهم تقوم على السلطوية، كذلك علاقة المعلم مع الإدارة والتوجيه، هذا بالإضافة إلى شكل آخر من التسلط السافر، وهو السطوة التي تمارسها الأجهزة الأمنية، وفروع الحزب القائد وشُعبه، على سير العملية التربوية، حتى إنه توجد مكاتب فرعية للتربية في فروع الحزب، تتبع المكتب الرئيسي في القيادة القطرية. هذا الإشراف يمارس دوره القيادي في نظم العملية التربوية، وفي تعيين المديرين والموجهين والمدرسين ومديري التربية، وفي إعداد المناهج والكتاب المدرسي، وعلينا ألاّ ننسى الدور القيادي القمعي الذي كانت تمارسه روابط اتحاد شبيبة الثورة في المدارس، واتحاد الطلبة في الجامعات، حتى إن اتحاد شبيبة الثورة دخل بازار سوق المعرفة "الوطني"، واستحدث لنفسه مفاضلة خاصة للقبول الجامعي، يستفيد بموجبها الرفيق الشبيبي بعلامات إضافية، تخوّله الحصول على مقعد دراسي في فرعٍ، لم يكن مقبولاً فيه بمعدّل نجاحه، يرتفع هذا العطاء الاستثنائي، فيما لو كان هذا الشبيبي قد "قفز" في المظلة، فحقق بطولة خارقة، هي بمثابة طاقة كامنة، سوف تستثمر في مواجهة العدو الصهيوني ومقارعته.
ضمن تلك الشروط الناظمة للتعليم، كان التسلط، مفهوماً ونظاماً، يعيد إنتاج نفسه، وعليه، كان المتضرر هو الفرد والمجتمع. فالعملية التربوية والتعليمية تحتاج مناخاً من الحرية، واتكاء على الديمقراطية، وإلاّ فقدت فاعليتها الإنتاجية. يقول طه حسين في إحدى مقابلاته الصحافية: "المواطن الممتاز هو محصلة للتعليم والديمقراطية معاً، الديمقراطية شرط للتعليم وتوأم له، فالتعليم بلا ديمقراطية محوٌ للأمية لا أكثر، ومنهج ينتج تلميذاً ممتثلاً، لا يحسن الإرسال، ولا الاستقبال، كما لو كان موضوعاً للمعلم، لا ذاتاً تعرف الرفض والاختيار، إن لم يحسن الصمت والخضوع، عوضاً عن الحوار والشعور والكرامة".
هذا النموذج السلبي للتلميذ هو الغالب في المجتمع، وهو الذي كبر وأعطى المواطن المقموع المغيّب عن ذاته، والمسلوب القدرة على المبادرة أو الإبداع، وهو مسؤول، بدرجةٍ ما، عن فشل حركات التمرد وشللها وعجزها عن بلوغ أهدافها في التغيير، وأنتج، أيضاً، مجتمعاً مكوناً من مجموعة من الأفراد، متماثلين في نظم التفكير وأساليب الأداء، ومن تابع ويتابع الأفراد الضالعين بالقضايا العامة، منذ بدء الحراك الشعبي في سورية، يرى الموالين، كما المعارضين، لديهم الأسلوب الخطابي نفسه، ونهج التفكير نفسه، مع استثناءات قليلة طبعاً.
"الصورة القاتمة للتعليم في سورية قبل الأزمة تستفحل أكثر في ظل الواقع الرهيب الحالي"

يعود الموسم الدراسي، مرة أخرى، في ظروف بالغة السوء والتردّي، خصوصاً في المناطق المصنفة آمنة، بينما الواقع يظهر أن لا مكان بقي آمناً في سورية، فالكثافة البشرية الموجودة في هذه المدن والمناطق تفوق القدرة الاستيعابية للمدارس، كما أن الأبنية المدرسية هي، في الأساس، نموذج للترهل والفساد الإداري والحكومي، على الرغم من التنظيمات الهيكلية المتعددة والمتشعبة، ومن القوانين والتشريعات واللوائح التنظيمية، إلاّ أن واقع المدارس مزرٍ، فأعمال الصيانة والإصلاح مشلولة، والبنية التحتية والمرافق الملحقة بالمدارس مهلهلة، لا تليق بزرائب الحيوانات. لم يكن هذا الوضع مسؤولية الدولة بشكل مباشر فقط، بل بشكل غير مباشر، نتيجة للشكل التسلطي الذي كانت تقوم عليه العملية التربوية، والنهج القمعي والإقصائي، إقصاء التلميذ عن مجاله وعدم إشراكه في العملية. لذلك، كانت هناك نزعة انتقامية لدى التلاميذ، ولدى المواطنين عموماً، تجاه كل ما يمت إلى الحكومة أو النظام بصلة، ربما المظاهر الشائعة في المدارس والمؤسسات التعليمية من تكسير مقاعد أو خلع لمبات الإنارة أو تكسير صنابير المياه أو التعدي على المخابر، فيما لو وجدت، وتكسير الأبواب وغيرها من ممارسات الشغب، ليست أكثر من علامات احتجاج وتمرد، وصراخ بلغة أخرى، في وجه كل أشكال المظالم التي يعاني منها التلاميذ، أدركوها أم شعروا بها فقط.
كانت هذه الصورة القاتمة للتعليم في سورية قبل الأزمة، وهي تستفحل أكثر في ظل الواقع الرهيب الحالي. لكن هذا الواقع الذي تنتجه الأزمات تقدم له حلولها أيضاً، حلول تعيد إنتاج الواقع بشكل آخر، فمثلما يتحمل الشعب مفرزات الأزمة، ويقدم تجار الحرب البدائل، فإن الاستثمار في التعليم بات أحد الملامح الجديدة، والتي تنمو بسرعة ضوئية في الوقت الحالي. باتت المدارس الخاصة تتكاثر مثل الفطر في سورية، ابتداء من مرحلة رياض الأطفال، وحتى المراحل التعليمية العليا، تنافس فيها أصحاب الأموال، ومعظمهم من الأثرياء الجدد أو ممن استفادوا من غياب الرقابة والقانون، فحصّلوا رؤوس أموال على هامش الأزمة، وتقدموا بطلبات تراخيص، لإنشاء هذه المدارس، مستفيدين من الفساد المستشري، فصار في كل حي ما يفوق حاجته من رياض الأطفال، وصارت المعاهد والمدارس الخاصة تحلّ محل المدارس الحكومية، وبقي النظام التعليمي نفسه، وأسس التقدم للامتحانات في الشهادات، والقبول في الجامعات هو نفسه، مثلما بقيت النواظم والضوابط نفسها. وفي المحصلة، ما زالت المؤسسات التعليمية عاجزة عن إنتاج المعرفة، بل وبعيدة عن هذا الهدف، وكل التغيير الذي حصل هو تكريس التمييز، وترسيخ التباين الطبقي على أساس الفارق الوحيد بين المدارس الخاصة والمدارس العامة، وهو الناحية الفندقية والخدمية، بينما بقيت النظم التربوية انعكاساً للواقع السياسي القائم.

اقرأ المزيد
٨ سبتمبر ٢٠١٥
هجرة السوريين ثمرة إجرام النظام والتطرف

تدور الأحاديث والتحليلات والأخبار في موضوع موجة الهجرة السورية على حوافها بدل أن تدور حول سياقها الطبيعي. فالأخبار تنقل ما حدث هنا وهناك، وتغرق في الكلام عن المآسي، التي تخلفها موجة الهجرة من موت للسوريين في البحر المتوسط، وما يعانونه قبلها في الوصول إلى محطات الهجرة غير الشرعية في تركيا وليبيا وغيرهما، وفي وقوعهم أسرى عصابات الاتجار بالبشر والمهربين، وكيف يسلبون الراغبين في الهجرة أموالاً، تعبوا كثيرًا حتى جمعوها، فباع البعض كل ما يملك بأبخس الأسعار، واستدان آخر من الأهل والأصدقاء، وجمع بعضهم القرش فوق آخر، ليوفر مبالغ، يمكن أن تذهب سدى، وقد تذهب روحه معها. وإذا قيض له أن يصل إلى البر الأوروبي، فإن المعاناة تتواصل في فصول، تمتد من قوانين البلد العصية على الخرق إلى ممارسات رجال البوليس وعصابات قطاع الطرق وصولاً للنزعات العنصرية، التي أطلقها معارضو موجات الهجرة في الدول الأوروبية، وكله على أمل أن يجد المهاجر بلدًا، يوفر له فرصة إقامة بالحد الأدنى من حقوق الإنسان.
ويظهر جانب آخر على حواف موجة الهجرة، يمثله المواقف من الهجرة وخاصة الدول المنقسمة ما بين مؤيد ومعارض بشروط معينة، وتراوح المواقف بما فيها موقف السوريين بين الإشادة والاستنكار، والتي غالبًا ما تذهب فيها الأقوال إلى تفاصيل صغيرة، وربما إلى مفاصل تاريخية وثقافية وسياسية، يتم استعارتها للدلالة على صحة هذا الموقف أو ذاك، والاصطفاف في ظله تأييدًا أو شجبا.
وسط كم هائل من الأخبار والتحليلات والمواقف، يضيع الأساس الذي قامت عليه موجة الهجرة، التي لا يمكن أن نراها خارج ما جرى ويجري في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات ونصف، بدأها نظام الأسد بإطلاق النار على المتظاهرين واعتقالهم، ثم دفع سياسته للهجوم على الحواضن الاجتماعية للمتظاهرين والمحتجين، قبل أن يلجأ إلى اجتياحها وتدميرها، وتهجير من تبقى حيًا من أهلها على نحو ما حصل في بانياس الساحل والقصير وعشرات المدن والقرى في أنحاء مختلفة من البلاد، فهيا الفرصة لنزوح السوريين وتشردهم، ثم جاءت المجازر وموجات الاعتقال الواسعة، لتدفع موجات النزوح الأولى نحو الدول المحيطة وسط تشجيع النظام فاتحًا حدوده بلا ضوابط لمغادرة السوريين، بل إنه شجع عملية النزوح للخارج، وخاصة للشباب والناشطين والمعارضين السياسيين بصورة عملية، وكثيرًا ما كان المعتقلون في الفروع الأمنية، يتلقون توجيهات بالمغادرة عند إطلاق سراحهم، بأنهم إذا عادوا إلى الاعتقال ثانية، فلن يخرجوا أحياء.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر العالم كله، دون أن يحرك ساكنًا، مما شجع نظام الأسد على الاستمرار في سياسة تطفيش السوريين وإخراجهم من بلدهم. فأمعن في تلك السياسة وشددها عبر خلق مزيد من صعوبات الحياة والبقاء سواء في المناطق التي يسيطر عليها أو التي خارج سيطرته. ففي الأولى طبق سياسات أمنية شديدة القسوة ضد الأغلبية من السكان، وخاصة حيال الشباب عبر الاعتقالات وعمليات القتل العشوائي، وتكريس عمليات الإذلال اليومية، بالتزامن مع الغلاء وفقدان المواد الأساسية، وتزايد الفقر والبطالة، وتوقف الأعمال وتراجع الخدمات الأساسية وصعوبة الحصول عليها.
أما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فقد أخذت سياسته شكلاً آخر عبر حصار كثير من المناطق على نحو ما حصل في أحياء جنوب وشمال دمشق وفي الغوطة والقلمون، التي ما زالت مدنها وقراها محاصرة منذ نحو ثلاثة أعوام، منع فيها دخول الأغذية والأدوية والمواد الأساسية، ومنع الدخول إليها والخروج منها، وكانت كغيرها من المناطق الخارجة عن سيطرته، أهدافا يومية للبراميل التي تلقيها طائرات النظام، والصواريخ التي تطلقها المدفعية والدبابات، فيما مناطق التماس صارت مجالاً لرمايات القناصين.
وطبقًا للمعطيات الدولية، فقد كانت مناطق سورية مختلفة هدفًا للأسلحة الكيماوية لأكثر من خمس وعشرين مرة، كانت الأفظع فيها عملية ضرب غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي في صيف العام 2013. التي تسببت وحدها بمقتل نحو ألف وخمسمائة، وإصابة نحو ثلاثة آلاف من الأشخاص.
وقد عزز ظهور وممارسات جماعات التطرف والإرهاب «داعش» وأخواته نهج النظام في القتل والتدمير، ودفع السوريين لمغادرة بلدهم، لأن تلك الجماعات، سارت في تشددها وإرهابها على ذات الخط من سياسات نظام الأسد في اضطهاد السكان ومصادرة وتدمير ممتلكاتهم، وخلق مزيد من صعوبات الحياة والبقاء أمامهم في مناطقهم، ودفعهم للمغادرة إلى دول الجوار.
لقد قوبلت تطورات سوريا الكارثية بكثير من الصمت وعدم المبالاة من المجتمع الدولي بالتزامن مع تدخلات إقليمية ودولية، عززت الصراع المسلح في سوريا، وعجزت عن إيجاد حل سياسي لقضية ممتدة منذ أكثر من أربعة أعوام ونصف، دون أن يتبين لها نهاية، وكلها عوامل في انفجار موجة الهجرة الراهنة، وكل ما يقال بعده مجرد كلام على الهامش.

اقرأ المزيد
٨ سبتمبر ٢٠١٥
مآسي السوريين و الصمت الخليجي

 في الوقت الذي هزت فيه صورة الطفل السوري الغريق مشاعر الملايين من كافة أنحاء العالم على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم وشاهدنا المظاهرات في الدول الأوربية التي تطالب باستيعاب اللاجئين ومعاملتهم معاملة إنسانية تليق بكرامة الإنسان، ومع استيعاب بعض الدول الأوروبية لمئات الآلاف من اللاجئين واستيعاب تركيا لحوالي مليوني لاجئ سوري.

 ومع استمرار كوارث الموت الجماعي التي يتعرض لها اللاجئين السوريين ومع كل الحملات الإعلامية المطالبة بوضع حد لمعاناة اللاجئين.

مع كل ذلك ما يزال الموقف الخليجي الرسمي غارقا في الصمت والسلبية واللامبالاة وكأن شيئا لم يكن.

ندرك جميعا جسامة التحديات التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي، ولكن جميع هذه التحديات لا تبرر التغاضي المعيب عن مأساة اللاجئين السوريين التي  تضع الجميع أمام مسؤوليات دينية وإنسانية وقومية لا يمكنهم حيالها السكوت والاستمرار في الموقف السلبي وسياسة اللامبالاة.

ولا تتفق هذه اللامبالاة مع حرص دول الخليج على الحضور السياسي المؤثر والفاعل الذي يستوجب التفاعل الجاد مع المآسي الإنسانية الحساسة الناجمة عن التدخل الإيراني الطائفي لمساندة نظام ديكتاتوري فاسد.

في مقدور دول الخليج أن تتحرك وتعمل إلى إيجاد ملاذات آمنة للهاربين من بطش النظام السوري وجحيم الحرب، في مقدور الخليج الإعلان عن مبادرة خليجية لحل مشكلة اللاجئين وستجد هذه المبادرة تفاعلا كبيرا من الشعوب العربية والإسلامية والمجتمع الدولي.

وفي مقدور الخليج إذا كان لا يرغب في تقديم مبادرات -مع ضرورة ذلك- تأييد المبادرات الإقليمية والدولية ومنها المبادرة التركية التي طرحت مشروع إنشاء منطقة آمنة للاجئين شمال سوريا.

لا يوجد أي مبرر لعدم مساندة هذه المبادرة أو الإعلان عن مشروع مبادرة خليجية عملية وسريعة لمعالجة مأساة النازحين المستمرة، ولا سميا أن المتابع لمأساة النازحين يتأكد له أن ما يحدث هو جريمة تطهير طائفي للسورين السنة يتبناها المشروع الصفوي الإيراني ولا تقل خطورة عن جرائم المليشيات الطائفية في اليمن المدعومة من النظام الإيراني.

إن غياب أي مبادرة خليجية لمعالجة مشكلة النازحيين السوريين سيضع الكثير من علامات الاستفهام حول الموقف الخليجي من هذه الكارثة، وسيصب كل ذلك في خدمة أجندة المشروع الإيراني، وقد يصبح الكثير من هؤلاء اللاجئين فرائس سهلة لجماعات العنف وتستخدمهم المخابرات الإيرانية وغيرها لتهديد أمن واستقرار المنطقة.

اقرأ المزيد
٨ سبتمبر ٢٠١٥
قمة واشنطن تطوي إعلان بوتين ومسودة دي ميستورا؟

مبادرة الرئيس فلاديمير بوتين تستدعي سيلاً من الأسئلة. حظها ليس أفضل من حظ مسودة الخطة التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. قوى المعارضة في «الائتلاف الوطني» طرحت أكثر من أربعين سؤالاً على المبعوث شكلت مع التحفظ نوعاً من الرفض الديبلوماسي للمسودة. سيد الكرملين أعلن أن الرئيس بشار الأسد مستعد لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولاقتسام السلطة مع «معارضة بناءة». وهو يعلم بالتأكيد أن الانتخابات العادية يفترض أن تُجرى في الربيع، بعد أشهر. فهل يقصد تقريبها؟ ومن يقصد بالمعارضة البناءة؟ كيف تُجرى انتخابات نظيفة وحوالى عشرة ملايين سوري يهيمون في بلادهم بعدما أخلوا مدنهم وقراهم هرباً من الحرب؟ كيف تُجرى انتخابات بتمثيل حقيقي وحوالى خمسة ملايين سوري باتوا لاجئين في دول الجوار، ويطرق مئات الآلاف منهم أبواب أوروبا بحراً وبراً؟ ومن يقصد بالمعارضة «البناءة» التي ستجلس في صفوف الحكومة «البناءة» التي انعقدت قبل أيام لتناقش «ملف الهجرة» وأسبابها، ودانت «التعامل المخزي» لبعض الدول الأوروبية مع المهاجرين؟!

يعرف الرئيس بوتين بالتأكيد أن الرئيس الأسد لن يسلم السلطة، ولن يشرك فيها أحداً. رفض حتى «المبادرة الإيرانية». ونقل إليه ديبلوماسيوه حتماً ما أبلغهم به وزير الخارجية وليد المعلم في زيارته موسكو أخيراً. رئيسه لن يسلم السلطة، لا عسكرياً ولا سياسياً. أبلغهم خوفه هو السنّي الدمشقي من «اليوم التالي»، فأين منه موقف العلوي؟! أسئلة كثيرة يستدعيها تصريح سيد الكرملين. ولا حاجة إلى أجوبة. صحيح أن المبادرة إلى انتخابات نيابية مبكرة روجت لها موسكو منذ أكثر من شهرين. لكن ما استدعى إطلاقها علناً قبل يومين مستجدات سياسية وتداعيات أزمة اللاجئين ومآل الأزمة السورية برمتها. استهلك الروس لافتة رفعوها منذ بيان جنيف في حزيران (يونيو) 2012. رددوا بلا ملل ولا يزالون يرددون إلى اليوم أن التسوية ومستقبل الرئيس الأسد يقررهما السوريون أنفسهم بلا تدخل وبلا شروط مسبقة. لكنهم تناسوا أن بيان جنيف الذي يريد الجميع اعتماده مرجعية للتسوية أقره وزراء خارجية الخمس الكبار من دون أي حضور ودور للسوريين، أصحاب الشأن والمعنيين الأساسيين!

ما أعلنه الرئيس بوتين لن يصرف في أوساط المعارضة ولا في أوساط جميع المعنيين بالأزمة. ما أراده هو الإيحاء بأن بلاده تسعى فعلاً إلى دفع النظام السوري إلى تقديم تنازلات لا تمس النظام والحكم، بل تحفظ رأسه وتحميه. تماماً كما ضيعت مسودة دي مستورا بند هيئة الحكم وصلاحياتها الكاملة في المرحلة الانتقالية في جملة من البنود واللجان. كأن المطلوب في هذه المرحلة تقطيع الوقت. فالمبعوث الدولي يدرك جيداً أن خطته لن ترى النور. ولا أحد ينتظر أن يقدم «إنجازاً» عندما يعود إلى مجلس الأمن منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ما لم يكن هناك توافق بين الكبار المختلفين على مستقبل الرئيس الأسد ومصيره ودوره. وهو يعرف حتماً أن بيان جنيف الذي أعده سلفه الأمين العام السابق كوفي أنان كان ترجمة لتوافق دولي ابن لحظته، خصوصاً بين أميركا وروسيا، ما لبث أن سقط في حمأة التفسيرات المختلفة لمضمونه.

الواقع أن الكرملين بدأ يشعر بأن الساحة التي أخليت له طويلاً من أجل إنجاز اختراق لم تعد تتيح له حرية الحركة كما في السابق. ثمة تطورات ضاغطة. لا بد إذاً من مناورة جديدة تواكب تحرك دي ميستورا وتستبق ما قد تحمله الأيام المقبلة قريباً. أراد الإيحاء بأن النظام في دمشق مستعد لتسوية سياسية تواكب الإعداد لتحالف واسع لمحاربة «داعش». لم تعد هذه الحرب أولوية وحدها. بات المساران، الحرب والتسوية، متوازيين. يحاول الرئيس الروسي أن يطرق بجديده السوري أبواب أوروبا والولايات المتحدة أولاً وأخيراً. يريد المقايضة بين أوكرانيا وسورية: قدموا تنازلات هناك أقدم مثيلها هنا. ويأتي جديده أيضاً في إطار إعادة النظر في مواقفه ومواقعه ومصالحه وشبكة علاقاته في الشرق الأوسط وغيره، في ضوء تداعيات الاتفاق النووي. توقيت إعلان هذا الجديد كان لافتاً. واكب محادثات القمة الأميركية - السعودية. ربما أراد زجه في برنامج المحادثات بين الرئيس الأميركي باراك أوباما والملك سلمان بن عبدالعزيز. تقلقه سلفاً نتائج هذه القمة، خصوصاً توافق الزعيمين على التأكيد أن لا دور للرئيس الأسد في مستقبل سورية. وهو ما كرره وزير الخارجية عادل الجبير أمس بعدما كان أبلغ موسكو به علناً في حضرة نظيره الروسي سيرغي لافروف قبل أسابيع.

تدرك موسكو أن الوقت داهم. فإدارة الرئيس باراك أوباما تسعى لإرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، عبر تجديد علاقاتها مع إيران وإقامة نوع من التوازن في النظام الإقليمي. ومثل هذا النهج لا يمكن تطبيقه فيما طهران توغل في خرق المنطقة ومجتمعاتها، من العراق وسورية إلى فلسطين واليمن وشرق شبه الجزيرة العربية. ولا شك في أن هذه الإدارة عليها بعد قمة واشنطن ترجمة حرصها أقله على هذا التوازن. والاختبار الأول هو الأزمة السورية. والثابت المعلن حتى الآن أن الجمهورية الإسلامية ليست في وارد المساومة في القضايا الإقليمية. المرشد علي خامنئي اتهم الولايات المتحدة بأنها «تسعى إلى القضاء على المقاومة والهيمنة على سورية، وتتوقع أن تدخل إيران في هذا الإطار». وشدد على أن «هذا الأمر لن يحدث أبداً».

موقف المرشد لا يساعد واشنطن على تصحيح مسار علاقاتها بشركائها الخليجيين. الكرة في ملعب إدارة الرئيس أوباما بعدما تحررت من عبء الجمهوريين وتهديداتهم بإسقاط الاتفاق النووي. لم تعد أسيرة المرحلة الماضية. يبقى أن تبدي لأصدقائها التاريخيين في المنطقة أنها لم ولن تنجرف وراء مشاريع إيران ومخططاتها في المنطقة. علماً أنها لا يمكن أن تسلم باليد المطلقة لإيران في دمشق وهي تعمل على تقليص نفوذها في بغداد. كانت طوال السنوات الثلاث الماضية حريصة حرصاً مبالغاً فيه على عدم إزعاج طهران في أي مسألة لئلا تجازف بدفعها إلى وقف المفاوضات النووية. أما اليوم فلا عذر لها. رفضت دعوات تركيا المتكررة إلى إقامة منطقة آمنة شمال سورية، بل طلبت دفع مشروع المنطقة غرباً بعيداً من مناطق الكرد. لا تريد إضعافهم. ولا تريد المجازفة بسقوط مفاجئ للنظام السوري من دون جاهزية بدائل فاعلة وقادرة. مثلما لا ترغب أيضاً في إطلاق يد أنقرة وتعزيز نفوذها في سورية. ولا تزال عند هذا الموقف.

تعي موسكو معنى هذا التبدل. وتخشى أن تعدل واشنطن موقفها مجاراةً للعرب القلقين من هيمنة إيران، وتأكيداً لحرصها على علاقاتها التاريخية والتزاماتها معهم. وتعي أن أزمة سورية على رأس اهتمامات الإدارة بعد تمرير الاتفاق النووي مع إيران في الكونغرس. وإذا كان الضغط العربي على واشنطن ليس كافياً، فإن الضغط الأوروبي سيكون أكبر. لذلك، واكب إعلان الرئيس بوتين أيضاً التخبط الأوروبي في معالجة أزمة اللاجئين والمخاوف التي تثيرها. فجيش الفارين من أتون الحروب والويلات في سورية وغيرها لا يصل عملياً إلى حدود روسيا أو الولايات المتحدة. لكن صور المآسي والويلات التي يقاسيها هؤلاء، غرقاً في البحر أو اختناقاً في شاحنات التبريد، ولدت موجة من التعاطف في الشارع الأوروبي الذي بدأ الضغط على حكوماته. ولا مفر أمام هذه الحكومات سوى تحويل هذا الضغط نحو واشنطن، الشريكة الكبرى، لتعديل موقفها والانخراط فعلياً في البحث عن حلول سريعة. الدوائر المعنية في القارة العجوز تعلم جيداً أن المعالجة المجدية لمواجهة هذه الموجة الواسعة من المهاجرين فاقمها إحساس السوريين بأن لا أمل لهم بالبقاء في بلادهم، وهم يعيشون عذابات استعصاء الحسم في الميدان العسكري واليأس من إمكان التوافق في الساحة السياسية، محلياً ودولياً.

إلى كل هذه العوامل المستجدة الضاغطة، تشعر موسكو بأنها باتت هي نفسها تحت الضغط. التأثير الواسع الذي كانت تملكه على النظام في دمشق يفلت من بين أصابعها لمصلحة إيران التي يساهم تدخلها في تفكيك ما بقي من مؤسسات الدولة، بل يجد النظام مصلحته في مجاراة تيارها المتشدد الذي لا يلتفت إلى انهيار الدولة والمؤسسة العسكرية. هناك إذاً مصلحة ملحة لبوتين في تحريك المسار السياسي في سورية، والاحتفاظ بأرجحية بلاده في رسم مآلات التسوية. وهو ما يستدعي ليس مغازلة الولايات المتحدة وأوروبا واستدراجهما إلى مقايضات معقدة، بقدر ما يتطلب منه مبادرة «بناءة» قبل البحث عن «معارضة بناءة»! وهناك مصلحة ملحة مماثلة للولايات المتحدة في ترجمة حرصها على إقامة توازن في علاقاتها بالشرق الأوسط. وترجمة حرصها على منع إيران من الهيمنة على المنطقة، وتهديد جيرانها، ووقف تدخلها، والحؤول دون تفردها برسم خريطة النظام الإقليمي الجديد وتفتيت بلاد الشام. لم يعد التردد يجدي. وسورية هي المحك والامتحان بعد تحرر أوباما من الملف النووي وتهديدات خصومه الجمهوريين... بانتظار أن تطيح نتائج قمة واشنطن وزحف اللاجئين إلى أوروبا زحف إيران ومعه مناورات موسكو ومسودة ديستورا؟

اقرأ المزيد
٨ سبتمبر ٢٠١٥
العرب وروسيا.. الاستثمار المضيّع

في النصف الثاني من عام 2015، زار، ويزور، روسيا سبعة زعماء ومسؤولو دول عربية، في محاولة لتوسيع مروحة العلاقات العربية مع القوى الدولية، وتنويع خياراتها، ما تزامن مع تأكيدات موسكو، أنه لا تغيير في موقفها تجاه قضايا العرب، وخصوصاً قضيتهم الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة، أي الصراع مع إيران التي تهدد، علناً، النظام الإقليمي العربي، واستقرار المجتمعات العربية برمتها، سواء بشكل مباشر أو من خلال أذرعها في المنطقة، بل وصل الأمر بروسيا، فيما يبدو تحدياً للرغبة العربية، إلى الانخراط المباشر في الحرب السورية إلى جانب خصم غالبية البلدان التي ذهب وسيذهب قادتها إلى موسكو.
يحصل ذلك في وقت ترجّح فيه معظم التقديرات العربية أن موسكو لن تغيّر موقفها من إيران ونظام الأسد، الذراع الأخطر لها، ما لم تكن هناك ضغوط حقيقية، تمارسها الأطراف العربية على موسكو، إن بشكل مباشر عبر تخفيض مستويات التواصل والإهمال السياسي للدور الروسي، وكذا بتخفيض التعامل التجاري، خصوصاً وأن العرب هم الطرف الخاسر فيه، أو بالضغط الميداني. حسناً، إذن، ما وظيفة هذه التقديرات، وما أهميتها إذا لم تترجم الى سياسات فعلية، وما دام العرب قد وصلت إليهم هذه الخلاصة، فلماذا يفعلون عكسها؟. ثم ما معنى أنه، على الرغم من كل هذا الزخم العربي باتجاه الكرملين، ما زالت الدبلوماسية الروسية تصر على مواقفها المعادية للمصالح العربية، والمفارقة، أن بعض الأطراف العربية التي ذهبت إلى موسكو قد تزحزحت مواقفها، وخصوصاً تجاه الوضع السوري.
يحلينا هذا الأمر إلى محاولة فهم الموقف الروسي، سواء لكيفية رؤيته لهذا التحرك العربي، أو لجهة مرتكزات بناء هذا الموقف، ذلك أنه من المفترض، نظرياً، وإذا اقتنعنا بالمبررات التي تسوقها الدبلوماسية العربية بهذا الخصوص، أن يصنع التحرك العربي تغييراً ما، وانعاطفة في الموقف الروسي لصالح القضايا العربية، لكن ذلك على أرض الواقع لم يحصل، لماذا؟
تدرك روسيا أن العرب بصدد إجراء تحوّل جوهري في إدارة علاقاتهم الدولية. لذا يلجأون إليها، لحاجتهم إلى تحقيق توازنٍ، يفيدهم عملانياً في حماية أمنهم واستقرارهم الذي بات رهين المساومات بين القوى الدولية والمراكز الإقليمية، وهذا الأمر بالفعل هو نتاج تقديرات عربية لاختلال التوزانات الحاصلة، والمقدر حصولها في المنطقة، ومحاولة بناء شبكة علاقات دولية أوسع، تخفف عنهم التداعيات، هي رؤية استراتيجية يمكن وضعها في خانة الاستجابة الطبيعية والعقلانية لهذه المتغيرات، ويتم تصريفها عبر تكتيك تعميق قنوات التواصل مع مراكز دولية فاعلة، وفق منطق تبادلية المصالح.
"تستخدم روسيا في استكمال سياستها العربية طريقة الاستنزاف بالأمل، والتي تقضي بإبقاء العرب على قارعة طريق أوهام تغيير موقفها، أما تكتيكها فيقوم على سياسة الباب المداور"

لكن المشكلة أن روسيا لا تنظر للأمر من هذه الزاوية، أو لا تراه كما يقدّره العرب ويرونه، فهي، أولاً، ترى وتسمع العرب الوافدين عليها يتعاطون معها كونهم أنظمة ودولاً مختلفة، لكل واحد منهم احتياجات ومطالب مختلفة عن الآخر، إن لم تكن متناقضة. وثانياً، تعرف روسيا أن العرب لن يشكلوا قوة ضاغطة ضدها، مهما رفعت سقف عدائها لهم، فالمصري والجزائري معها في كل الحالات، ومواقف قسم كبير من بقية العرب متأرجحة وغير متماسكة. وثالثاً، تدرك أن العرب يصلونها منكسرين، أميركا تخلت عنهم وإيران تحاصرهم وتركيا تستعلي عليهم وإسرائيل تستهتر بهم.
من جهة ثانية، ما يعتقده العرب براعة استراتيجية في التقاط التغيرات الدولية، وإجراء التحولات في الوقت المناسب لا تراه، أيضاً، روسيا كذلك، بل تتعامل مع الأمر بوصفه حالة خضوع، حصلت نتيجة عملية وجهد استراتيجي طويل، قامت به مع حليفتها إيران، وكانت نتيجته تحطيم بنية شبكة الأمان الإقليمي العربي واختراقه، وهي تنظر إلى نفسها على أنها شريك في هذا الانتصار، وإن كانت تدمجه في إطار انتصارها الاستراتيجي على القوى الكبرى المقابلة لها، على المستوى العالمي. الأكثر من ذلك أنها تعتقد أن هذا الانتصار لن يتجوهر، ويأتي بكامل حصاده إلا بمزيد من الضغط على البيئة الأمنية العربية، هذا على الأقل هو الفهم الروسي للواقعية السياسية، كما تجري ترجمتها تجاه العرب.
وثمّة ما هو أبعد من ذلك، وأكثر التصاقاً بواقع روسيا الجيواستراتيجي، حيث تنظر موسكو للوضع العربي بوصفه فرصة استراتيجية، لتحقيق نقلة في تراتبية موقعها الدولي، من خلال فعالية أدوارها في المنطقة العربية، إذ هامش الحركة متاح إلى أبعد الحدود، بعد أن اكتشفت أن تحركها في جوارها الأوروبي، أوكرانيا وجورجيا، تحت مجهر الغرب. وبالتالي، فإن من شأن أي خطوة زائدة زيادة تعقيد وضعها في الفضاء الدولي عامة.
تستخدم روسيا في استكمال سياستها العربية طريقة الاستنزاف بالأمل، والتي تقضي بإبقاء العرب على قارعة طريق أوهام تغيير موقفها، أما تكتيكها فيقوم على سياسة الباب المداور، لجهة عدم رفض سماع أحلام العرب وأمنياتهم، ولا شك أن الروس ينتشون بإنجازاتهم الدبلوماسية، تلك التي تمنح دبلوماسيتهم فرصة الظهور بمظهر السياسة الناجحة، والتي تحقق فرصاً عظيمة لروسيا، ثم إنهم لا يخسرون شيئاً في مغامرتهم هذه التي تبدو أنها بمثابة منحة مأجورة، يحصلون في مقابلها على الصفقات والتمويل، ويحصل دبلوماسيوها على شهادات الثناء والإعجاب العالمي.
لسان حال الروس يقول، في هذه اللحظة، سمعنا أن العرب لا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون، وها نحن تجاوزنا، في مغامرتنا معهم، الكتابي إلى الشفاهي، ونصرخ بأعلى الصوت "بشار الأسد شرعي وسنكون معه دائماً وأبداً".

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع
فريق العمل
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى