اللاجئون السوريون هم، في الواقع، مهجّرون. لقد هُجّروا من مناطق سكناهم، بفعل فاعل، اتّبع سياسة العقوبات الجماعية والقصف والقتل بالجملة، أو هاجروا قسراً من أحياء مأهولة، تحوّلت إلى جبهات قتال، بعد أن تطورت الثورة السورية إلى نوع من الاحتراب الأهلي، نتيجة سياسة العنف المنهجي التي اتبعها النظام بدون سقف، أو خط أحمر يفرضه ما يسمى المجتمع الدولي. وهو أمر نادر الوقوع منذ الحرب العالمية الثانية. وزاد دخول جماعات مسلحة غير ملتزمة بأهداف الثورة السورية، بعد أكثر من عام ونصف من نشوبها، في هجرة أعداد كبيرة أيضاً من السوريين، بسبب قصف النظام المناطق التي حررتها/ احتلتها، أو بسبب ممارسات بعض منها. ويبدو من مراقبة نهج النظام، وسياسة الأرض المحروقة التي يتبعها، أنه يقوم بسياسة تهجير منهجية، للتخلص من أكبر عدد ممكن من السوريين، ولا سيما أنه اعتمد، أخيراً، معايير جديدة في تحديد الانتماء، فالسوري هو من يدعم النظام، حتى لو جاء من باكستان؛ أما من يعارض النظام فليس سورياً.
استمرت مأساة ملايين اللاجئين والمهجّرين السوريين، طوال أربعة أعوام داخل سورية نفسها، وفي تركيا ولبنان والأردن. وهي الدول والمجتمعات التي تحملت العبء الأكبر حتى الآن. والناس عموماً تلجأ من القصف والحرب، وتهرب من القتل والاعتقال إلى المناطق المتاخمة، أو الدول المجاورة، بانتظار استقرار الأوضاع، لكي تعود إلى ديارها.
ما يميز موجة اللاجئين الأخيرة إلى أوروبا هو سأم آلاف اللاجئين السوريين من الانتظار، كلاجئين في الدول الحدودية (مع الفارق بين ظروفهم فيها). راحوا يبحثون عن حلول دائمة لعائلاتهم، ولا سيما أبنائهم، وهو أمر مفهوم بعد انتظار سنوات. إنه ما يميز هذه الهجرة، وهو أيضاً أخطر ما فيها. ليس الحديث، هنا، عن هرب من القصف أو الموت. إنها هجرة من لجأوا من القصف إلى دول أخرى. وهم، الآن، بعد اللجوء، يهاجرون إلى دولٍ يمكن فيها الحديث عن استقرار طويل الأمد. ولا يستغربن أحد إذا قلت إن بعض السوريين غادر حتى دول الخليج التي أتاها لاجئاً/ مهجَّراً، بحثاً عن حياة واستقرار، وربما حتى جنسية جديدة للأبناء، حين سنحت له الفرصة في دول تستوعب مهاجراً يبحث عن مستقر. وأنا أصدق الأب الذي يقول إنه يلجأ إلى أوروبا من أجل أبنائه، فهذه المسؤولية هي التي "تكسر الظهر"، بعربية أهل الشام.
"الجريمة تقع في سورية وليس في أوروبا. ويجب حل المشكلة في سورية. ولا يجوز أن يعمى نقد المقصر في التضامن عن الجريمة الجارية في سورية"
المميز الثاني أن غالبية هؤلاء ليسوا من المعدمين تماماً، بل من أبناء الطبقات الوسطى ممن خسروا كل شيء، وبقي لديهم بالكاد ما يسدّ لوازم التعرض لابتزاز المهربين، أو لديهم أقارب في الخارج. ويمكن القول إن سورية، في هذه الهجرة، تخسر جزءاً كبيراً من طبقتها الوسطى ومهنييها. من يقيم في تركيا ولبنان والأردن، وحتى دول الخليج العربية سوف يعود إلى سورية، عاجلاً أم آجلاً، أما المهاجرون إلى ألمانيا، فشأنهم مختلف. قد يعود يوماً كبار السن من المهجّرين، أما الأبناء الذين سيدخلون مدرسة ألمانية هذا العام، فهدف اللجوء هذا هو البحث لهم عن مستقبل آخر، بعيداً عن هذه المنطقة، إنه هجرة بالنسبة لهم.
هذا هو الموضوع الأساس، وليس عنصرية القيادة الهنغارية وغيرها من دول شرق أوروبا التي تحتاج إلى معالجة خاصة، ولا حتى موقف القيادتين، الألمانية والنمساوية، الناضج والسويّ والمقدَّر فعلاً. ولكن، لدى الإعلام العربي موهبة خاصة في الابتعاد عن جوهر القضية في أثناء عرض الدراما الإنسانية، وهي دراما حقيقية:
1- الجريمة تقع في سورية وليس في أوروبا. ويجب حل المشكلة في سورية. ولا يجوز أن يعمى نقد المقصر في التضامن عن الجريمة الجارية في سورية.
2- يجب وقف سياسة الترانسفير التي يقوم بها النظام، ويضاف إليه حالياً تنظيم الدولة.
3- ثمة أعداد كبيرة من السوريين ممن يئسوا من الحل، وراحوا يبحثون عن مستقبل للأبناء، بعيداً عن "مكان وقوع الجريمة"، على أنواعها.
4- بموازاة دعم الشعب السوري في صموده، والبحث عن حل للأزمة السورية، لا بد من تهيئة ظروف مناسبة للمهجَّرين السوريين في الدول العربية، بما فيها العيش والعمل وتعليم الأبناء بكرامة. فمصير هؤلاء أن يعودوا إلى سورية. ولكن، لا يجوز أن يعيش الإنسان في ظروف لاجئ في "خيمة" (مجازاً، فقد تكون الخيمة من إسمنت) سنوات.
5- بموازاة إدانة موقف هنغاريا وغيرها ممن يقطعون طريق الناس، يجب أن تبذل الدول العربية، وقوى المعارضة السورية والمنظمات الأهلية السورية والعربية، جهداً لإقناع السوريين بعدم الهجرة. وهذا لا يتم بالوعظ، بل بتهيئة الظروف المناسبة للسوري الذي أعيته النكبات وأتعبه الكلام.
صحيح أن الثورة لم تصلح كل عيوبنا، إلا أنها أظهرت أجمل ما لدينا”، كتبتُ هذا الشعار الرومنسي في السنة الأولى من الثورة السورية، واتخذه البعض أيقونة، ولم يكن أحدنا يدري إلى أين نحن ذاهبون، ولم نتوقع حينها أن المنحنى البياني المتصاعد لأخلاقنا سيتوقف عند ذروته يوما، وأنه سيترنح بعدها ويميل نحو الأسفل، ثم يهوي سريعا كانهيار مدننا المصنوعة من الملح.
أمضيتُ عاما كاملا قبل اندلاع الثورات في اعتزال الناس والتأمل، وشرعت في تدوين رواية وكتاب، فتضخّما ليسوّدا مئات الصفحات، وما زالا في الطور الجنيني. رواية تحكي ضياع الشباب في عالم زائف، وكتاب يبحث حرفيا في “جنون العالم”. وعندما انقدحت شرارة الثورات طويتُ الصحف وكسرت الأقلام، وعقدت الأمل على هتاف الشارع ورصاصة البندقية.
أظهرت المأساة أجمل ما لدينا بالفعل، وكشفت زيف فقهاء السلطان وخواء “الدعاة الجدد” ونفاق مثقفي القومجية. كُسرت الأصنام وسقطت المرجعيات الكاذبة وأعيد ترتيب الأولويات، وتضخم فينا نحن الشباب جنون العظمة. ثم ماذا؟
بلغت الدماء الركب، واختلط السلاح، ولفظت السجون حثالة المجتمع إلى الشوارع، وفُتحت حدود البلاد أمام شذاذ الآفاق، واغتيل بعض قادة الجهاد المخلصين، وسقط مرتادو الفنادق بالبزات السوداء، وكشّر “المجتمع الدولي” عن أنيابه، وتخاذل الأشقاء العرب، ورخصت الذمم في سوق الحاجة، وغاب الراعي فنشبت الذئاب أنيابها في ظهور الرعية.
ظهرت داعش في المسافات الفاصلة بين طرفي الصراع، وأطاحت بكل الشعارات في تطبيق استعراضي لأكثر أفلام الرعب وحشية. فانهار منحنى الأخلاق نحو الهاوية، وأظهرت الثورة أخيرا أسوأ ما لدينا!
إسقاط هيبة الدين
كان ثمة أمل في الدعاة وطلبة العلم، وكانت ثمة جهود قاصرة للترقيع وسد الثغرات. لكن انهيار صورة فقهاء السلطان أخذ معه كل شيء، والمنظومة العلمية لدى سلك المشيخة ـ الذي لم يكن النظام ليسمح لغيره بالبقاء ـ لم تجد في جعبتها الكثير لتقدمه، وتلطُّخ لحى الخوارج بالدماء والجهل قلب الطاولة على العلم الشرعي كله، بل على الدين نفسه في أذهان جيل كان قد أضاع البوصلة أصلا في ظل تربية العسكر العلماني وحُكم الأقليات، قبل أن تجرفه ريح العولمة.
كان العلماء والدعاة على مر التاريخ نخبة الأمة وملاذها، فصاروا اليوم ـ ونحن في قلب المحنة ـ رمزا للخيانة. كان سمْتهم رمزا للانصراف عما في أيدي الناس، فأصبح اليوم ـ شاءوا أم أبوا ـ شعارا للإقبال على الدنيا، وهناك من يغذي هذه الصورة النمطية كل يوم.
ودخل أنصاف المشايخ على الخط، وقد كان بعضهم في مطلع الثورات مترددا متخوفا على مصالحه، ثم وجد في الثورات طريقا أسرع للشهرة والمناصب. وبدأ سباق البحث عن لقب “شيخ الثورة” و”شرعيّ” اللواء أو الجبهة، وصار معيار المشيخة في إعلان طالب العلم موقفه من الثورة “المبجلة” أو من الجهاد، وبالتبرؤ من مشايخه الصامتين، حتى إن كانوا في آخر أيام شيخوختهم وكان موقفهم السياسي لن يغير من عزيمة الثوار ولا من ظلم الطاغية.
أما معيار المفاضلة في التأهل لمناصب القضاء الشرعي بالمحاكم الثورية فهو مدة المحكومية في سجون النظام ما قبل الثورة، وثمة أفضلية لمن تخرّج من سجن صيدنايا العتيد، فهو في عُرف “أخوّة المنهج” من أعظم “جامعات” العلم الشرعي!
وبطبيعة الحال، دخل مثقفو الحداثة أيضا على الخط، وأخرجوا ما في جعبتهم من الحقد على “المؤسسة الدينية” كما فعل أسيادهم إبان الثورة الفرنسية في “رجال الدين”. وبعد أن كان الطعن في “مؤسسة” فقهاء السلطان؛ اتسع ليشمل طبقة العلماء المتسلسلة منذ أكثر من ألف عام، فباتت في أدبياتهم حلقةً متصلة من “المتآمرين” على الوحي للانحطاط بالأمة إلى ما صارت إليه. وبعد أن كان تجديد الدين على رأس كل قرن هو تخليصه من الشوائب المستوردة؛ بات في قرن الثورة نقضا للتراث كله واستيرادا جاهزا للبديل من مصانع ما بعد الحداثة.
وهكذا انصرفت الأبصار عن اليهود والماسون والاستعمار والرأسمالية والشيوعية والقومجية، وصارت المؤامرة في قلب كتب تراثنا، وفي ما تركه الكبار من ذخائر التفسير والفقه وعلم الحديث واللغة. لم يعد العدو موضوعا بل أصبح فكرة، ثم أصبح ذاتاً تُجلد وتُداس بتلذذ “مازوشي” مريض، وأصبح الشاب المنفتح مفتوحا خاويا كأعجاز نخل منقعر، وغاية نشوته في التشفي من ذاته التي أعياها الفشل.
بلغ هوان الشاب على نفسه ألا يرى لنفسه قيمة في عين العالم، والعالم عنده هو الغرب ولا أحد سواه. حتى لم تعد هناك مؤامرة تُحاك ولا عدو يكترث في منظور مدرسة الانفتاح. أوَليس “العيب كله فينا”؟ فمنذا الذي يهتم لأمرنا ليتآمر علينا؟
أصبح معيار الحق والباطل في مدرسة “أصول الفقه الفيسبوكية” هو موقع إقامة العالم أو طالب العلم، فإن كان يقيم تحت وابل الرصاص فكل ما يقوله “حق يُسمع” ولو كان مجرد دعيّ أميّ، أما إن كان جالسا في غرفة مكيفة آمنة فكل ما يقوله “هراء”، حتى لو فتح الله له فأبدع من العلم ما يبز فتاوى أبي حنيفة والشافعي وابن تيمية.
أصبح قيام العالم وطالب العلم بحده الأدنى من واجبه الشرعي “تنظيرا”، وسواء كان تبليغه حكمَ الله للناس اجتهادا صائبا أم خاطئا فالأمر في عُرف الثائرين سيان، فإما أن يوافق الحكم الشرعي هواهم فيُقبل؛ أو يُبصق على لحية صاحبه مهما بلغ طولها وبياضها، وما أسهل الإتيان بالرد والنقض من سوق التجديد المنفتح.
أصبح العلم الشرعي بكل عظمته في ميزان الجيل ورقةً صفراء تُقتطع من كتب تراث “الانحطاط”، وأصبح التراث المحفوظ منذ أكثر من ألف عام كلأً مباحاً. فصار لكل طالب في كلية تقنية الحق في أن يختار ويرجح ويقابل ويعارض، وأن يقول “رأيي هو كذا” وهو لا يجيد كتابته بلغة سليمة. ولم يعد الأمر في أن يستفتي الفتى قلبه في الاختيار بين فتاوى أهل الذكر، بل في أن يُعمل هواه في ما لم يقله أحد سواه، وأن يضرب بالعلم حائطا اسمه “لا يحق لمن لا يجاهد أن يفتي”، وهو قد جمع إلى قعوده عن الجهاد جهلا مركبا.
يقول الشيخ سلمان العودة في مذكراته، إن أحد زملاء الصبا من طلبة العلم جادل شيخه الدكتور محمد عبد الوهاب البحيري في حلقة علم قائلا “عندي أن الأمر كذا”، فقال له الشيخ “يا ابني إنت ما لكش عند!”.
يقولون هذا عندنا غير جائزٍ، ومن أنتم حتى يكون لكم عندُ؟
أما الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو فصرّح مؤخرا بأن مواقع التواصل الاجتماعي “تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل؛ إنه غزو البلهاء”. ولعل إيكو، الذي يعد ثاني مشاهير العالم تأثيرا في تويتر، والذي كتب سابقا رواية “بندول فوكو” وسخر فيها من كل من يتهم الحركات السرية بالمؤامرة، لعله يعلم أن مواقع التواصل كلها في يد اليهود!
وسواء علم إيكو أم لم يعلم، فما قاله عن الحمقى في بارات الغرب لا يختلف كثيرا عن الحمقى في مجالسنا، فالذين كان الشيخ يسكتهم فورا في مجالس العلم ـ عندما كان الشيخ العودة صبيا ـ أصبحت لديهم الآن في هواتفهم الذكية منابر، وخلفهم قطيع يصفق ويرفع شعارات الإسقاط لكل من لا يروق لهم.
ظن الجيل أن التغريد سلاحٌ يغير العالم، وأنهم أسقطوا به طاغيتين في تونس ومصر بثلاثة أسابيع، وأنهم سيُسقطون به أيضا “تراث الانحطاط” في غمضة عين. ومع أن خيوط المؤامرة تكشفت في الثورات المضادة فمازال الاعتراف بالخديعة صعبا، وما دام التغريد هو “السلاح” الوحيد الذي كان ولا يزال متاحا فسيبقى هو الملاذ الوحيد، وطالما ظل المشايخ هم الطرف الأضعف فلتتجه إليهم إذن فوهات الأسلحة الزائفة.
اتسع الخرق على الراقع، وسقطت هيبة الحق في بئر العدمية، وحُمّلت مسئولية الفشل الجماعي على أولئك “الدراويش”، وقُدم المنطق قربانا على مذبح الفوضى.
أصبحت الفضيلة رذيلة، بل أصبح الهروب أم الفضائل، وبات الغريق في قوارب اللجوء إلى بلاد الفرنجة “سيد الشهداء”، وأقطاب المؤامرة الحاكمون باسم الديمقراطية في “الفردوس” الأوروبي هم “خلفاء” الله في أرضه.
أليس طبيعيا إذن أن تسأل إحداهن صديقاتها: ألم تخلعن الحجاب بعد؟ وأن يعلن أحدهم بين أصحابه أنه وجد ضالته في “الإلحاد”، وأن يُلام “المشايخ” مجددا: لماذا لا تنقذون هؤلاء؟ وأن يصبح الانشغال بالكشف عن أصابع اليهود في كل ثورات العصر الحديث مؤشرا على “خرف” الباحث الرصين.
أين هو الحل؟
في كل مرة تقريبا أصف فيها هذه الأمراض المزمنة يتكرر التعليق الاستنكاري على الفور: “حسنا لقد فهمنا، أين هو الحل؟” ولا يمكن فهم هذا السياق الاحتجاجي إلا من وجهة نظر “أصول الفقه الفيسبوكية”، والتي تنص على أن كل من لا يملك الحل لا يحق له طرح المشكلة، وعليه أن يجلس بجانب الفاشلين ويلتزم الصمت.
حسنا، قل لي بالله عليك، ما الذي يمنعك من الانسلاخ عن تلك الجماهير والتوقف لحظة للتأمل، ومن أن تغلق التلفاز والفيسبوك وتويتر وتعتزل المقاهي وجلسات الجدل ليلة واحدة فقط، ثم تفكر بعقلك المجرد عن الهوى؟ وأن تستحضر الاقتراح القرآني للمشركين في إتاحة الفرصة لعقولهم بالنظر مرة واحدة بعيدا عن تأثير المحيط: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}.
ولتسأل نفسك حينئذ: هل هناك مانع عقلي وفيزيائي وتاريخي من التصديق بحبكة العدو لكل هذه اللعبة؟
ألا يمكننا استعادة رشدنا الذاتي ما دام الوحي الإلهي مطبوعا في مصاحف ومكتوبا بلغتنا؟ ألا نستطيع التفكير مجددا في الواقع دون السقوط المزمن في المغالطات المنطقية؟ هل نحن مضطرون للاستماع إلى الجدل المشحون بكل الأمراض النفسية على مواقع التواصل؟
حتى إن كان المحيط عاجزا ومُحبِطا، فالحساب في الآخرة سيكون فرديا، وسيركز على نوايانا وأفعالنا وليس على النتائج الخارجة عن إرادتنا. فهل أخلصنا النية؟ وهل قام كل منا بدوره الفردي البسيط؛ حتى وهو يعلم أن الجماهير تتجه نحو الهاوية؟ وهل حاولنا إصلاح أنفسنا وتذكير الدائرة الضيقة التي حولنا بواجبها الفردي لإبراء الذمة؛ حتى ونحن نسقط معها في الهاوية؟
وإن لم نفعل، فهل اعتزلنا الجماهير المندفعة نحو الهاوية على الأقل؟ وهل حفظنا ألسنتنا وأقلامنا عن مشاركتهم في السقوط ولو بالكلام؟
هناك أبطال مخلصون “يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم”، ومعهم صالحون مرابطون لا يتركون بيوتهم وأرضهم للمحتل الإيراني/الإسرائيلي، وبينهم دعاة صادقون يحتكمون إلى الشرع ولو خالف هوى الجماهير الفاقدة للوعي.
النصر يكون للأمة كلها، فلا يتحقق ما لم تستحق أغلبيتها تلك الجائزة. فإن لم تجد أمتك أهلا لذلك فعليك بخاصة نفسك، وليس ذلك بالانسحاب والقنوط، بل بإصلاح نفسك التي تُحاسب عليها، وبإصلاح ما أمكن حتى لو تيقنت بأن جهدك لن يغير في الأمة شيئا. فمن كانت في يده فسيلة وقامت عليه القيامة فليغرسها، حتى لو علم أنها لن تثمر في هذه الدنيا، فإنها ستثمر حتما في صحيفته، وقد يُحاسب إن لم يفعل.
من لم يستطع أن يبني أمته بهذه الثورات فليحرص على ألا يجعلها معولا للهدم، ومن لم تُظهر هذه الثورات أجمل ما لديه، فليعمل على ألا تمسخه إلى كائن غريزي بدائي متوحش، وذلك أضعف الإيمان.
أعطني حلا عمليا!
تغيير النفس هو حل عملي وليس نظريا بالطبع، ولكن إن كنت ترى في نفسك قدرة أكبر على التغيير فاقرأ أولا كتب منير العكش عن الأساطير التوراتية التي أسست وما زالت تحرك القوة العظمى في العالم (الولايات المتحدة)، ثم كتاب “من أجل صهيون” لفؤاد شعبان. وهما أكاديميان علمانيان عمِلا في أمريكا نفسها، وليسا من أمثالي “المهووسين” بنظرية المؤامرة وعودة المهدي في آخر الزمان!
وعندما تكتشف أن الغرب يتحرك بدوافع أيديولوجية تسعى لاستئصالنا بنبوءات توراتية حتمية، وأن الصراعات التقليدية التي لا يرى الإعلام سواها على الساحة الجيوسياسية هي إجراءات مرحلية؛ أعد التفكير فيما نفعله وفيما يراد منا وما ننتظره ممن يملك القرار السياسي والقوة العسكرية ووسائل التأثير.
أعترف لك بأن بعض زملائي الباحثين في هذا المجال اعتزلوا يائسين محيطهم الذي وصفته لك أعلاه واكتفوا بتأليف كتاب يطرحونه كل عام للأجيال القادمة.
وسأكشف لك عن سر المفكر الراحل مالك بن نبي الذي احتفى به جيلنا الحداثي المنفتح بصفته منظّرا للقابلية للاستعمار وجلد الذات، حيث نشر أوصياء تراثه مؤخرا كتابه “المسألة اليهودية” الذي أوصى عند تأليفه عام 1952م بأن ينشر بعد موته، وكأنه أراد أن يقول لجيلنا إن اللعبة أكبر مما نتوقع وإن الحل يكمن في إصلاح أنفسنا أولا، ثم اكتشاف هول المؤامرة، غير أننا لم نصلح أنفسنا بعد ولا نريد أن نصدّق ما وصل إليه العدو من خبث.
أبو حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني اشتغلا على تأسيس جيل جديد يعيد إحياء الأمة المنهارة، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي بعد نحو قرن ليقطف ثمار تلك التربية ويحرر القدس.
حاولتُ في بعض الأحيان أن أوصل الرسالة إلى صناع القرار بيننا، ولعلك تعرف النتيجة. يمكنك أن تحاول أيضا، وأن تعمل على تأسيس الجيل المرتقب حسب استطاعتك.
أما عن الحل المرحلي، فلا أعلم إن كانت قدراتنا البحثية القاصرة قادرة على إيجاد خيار أفضل من الاستمرار على ما هو عليه الحال في جبهات القتال ضد إيران وإسرائيل، فنحن لا نملك مراكز بحثية ولا أنشطة استخباراتية، وجُهدنا يقتصر حتى الآن على “التنظير” من داخل الغرف المكيفة الآمنة، كما هو حال كاتب هذا المقال.
وإن لم تستطع إيصال الرسالة إلى صناع القرار، ولا المساهمة في تأسيس جيل النصر، ولا إعداد تقرير استراتيجي ـ استخباراتي يستشرف المستقبل، ويكشف كواليس الغرب وطهران، ويحدد ما يجب فعله لكتائب الثوار في سوريا والعراق وليبيا وغزة، وللمتظاهرين على أنقاض ميدان رابعة؛ فأرجو على الأقل ألا تترك مكانك للعدو وتهاجر إلى أوروبا، وذلك أضعف الإيمان. والله أعلم.
تدور منذ فترة اجتماعات توصف بـ"الماراثونية" في الغوطة الشرقية لضم الفصيلين الأكبر في هيكلية واحدة ، تحت مسمى "جيش الغوطة" ، الذي سيكون التجربة التوحد الخاصة بالغوطة ، على أن يكون الإعلان قريباً جداً.
جيش الإسلام و فيلق الرحمن ، قطعا أشواطاً كبيرة في التوحد و تشكيل جيش تنتظره الغوطة منذ سنوات ، والذي يأتي كخطوة متقدمة بعد نجاح القيادة العسكرية الموحدة و القضاء الموحد .
مصادر من احد الفصيلين أكدت أن امر تشكيل "جيش الغوطة" نهائي ، وأن الإجتماعات تركز حالياً على الآلية أو الأسلوب الذي سيظهر عليه من جهة ، وكيفية طبيعة التوحد هل على شكل اندماج أو ذوبان الفصيلين في الجيش أم التوحد في غرفة عمليات .
ويعتبر جيش الإسلام هو الفصيل الأكبر في الغوطة الشرقية و يملك ما يقارب 17 ألف مقاتل ، فيما يعتبر فيلق الرحمن من أنشط الفصائل و أشدها حنكة و يتحمل مسؤولية أهم نقطة و أقربها إلى دمشق ألا وهو جوبر.
وإلى هذه اللحظة لا يوجد سوى جيش الإسلام و الفيلق سيشاركان في هذا الجيش ، فيما لم ترد أنباء عن وجود مفاوضات مع فصائل أخرى ، وإن القرار بأن يكون باب المشاركة في "جيش الغوطة" مفتوحاً للجميع .
انطفأت أنوار بيروت وملأتها القمامة، وجف رافدا العراق دجلة والفرات، بينما فاض بردى دمشق بالدم ..
هكذا حولت أنظمة هذه البلاد الثلاث، التي كانت تعد منارات الشرق والعرب الحضارية، إلى برك ظلام ودم، فثار الشعب السوري بعد عقود، بينما كان آخر شعبين يتوقع أحد أن يثورا على نظام الحكم في بلديهما، هما الشعبان اللبناني والعراقي..
ليس مرد ذلك إلى أي سبب آخر، سوى تركيبة النظام السياسي في هذين البلدين، والقائم على حكم الزعامات، والمحاصصة الطائفية والمرجعيات الدينية، رغم أنهما نظامان ديمقراطيان من حيث الشكل.
لم تتمكن الزعامات السياسية في كل من العراق ولبنان من تقاسم كعكة البلدين وحسب، بل واستطاعت، بدعمٍ أو بتمثيلٍ للمرجعيات الدينية، السيطرة على مجموع الشعبين من خلال اللعب على تناقضات تركيبتهما المذهبية والأثنية، ومعها تحول الشعب إلى مجرد أتباع ومجاميع ملحقة، كل طائفة وكل أثنية بزعامتها ومرجعيتها.
وبعد السيطرة على هذه التقسيمات ما قبل الوطنية، تفشى الفساد في البلدين إلى درجة مذهلة، نتيجة غياب المساءلة والمحاسبة، بحيث يتحول أي مساس بأي زعامة أو مرجعية، إلى مساس بالطائفة أو الأثنية التي تمثلها، وينتج عن ذلك بكل بساطة، احتقان اجتماعي، يتكرر أن يسيل بسببه الدم .. دم الشعب نفسه، الذي تمتصه النخب، ثم يُسفك دفاعاً عنها !
في العراق، الذي يعتبر من أغنى الدول في العالم، والذي تبلغ ميزانيته السنوية أكثر من مئة وعشرين مليار دولاراً، يعيش الشعب منذ أعوام بلا ماء ولا كهرباء ولا خدمات ولا فرص عمل، بينما تذهب خيرات البلد وأمواله إلى جيوب قادته، الذين يعاد انتخابهم في كل مرة بإملاء من المرجعيات.
وفي لبنان، الذي يتغنى أهله بأنه بلد الديمقراطية وواحتها العربية، يمدد المجلس النيابي لنفسه، وتُعطل الحكومة بسبب مصالح القادة، ويخلو موقع الرئاسة ممن يشغله لسنوات، بينما يغرق البلد الذي يفيض أبناؤه في تفاخرهم على العرب بحضارته ورقيه في الزبالة بكل معنى الكلمة !
في العراق، الذي هتف المتظاهرون في ساحاته (لا سنية ولا شيعية) و (بغداد حرة حرة .. إيران تطلع برا) وطالبوا بمحاسبة شاملة ووضع حد للفساد، هرع الجميع لاسترضاء الجماهير الغاضبة، ومن ثم تمكنوا من تعطيل هذا الحراك والالتفاف عليه .. أو هكذا بدى.
في لبنان أيضاً سيحصل الأمر نفسه.. سيحاول الساسة احتواء الغضب الشعبي بمسكنات، قد تنجح لبرهة، لكن في النهاية لن يتمكن أحد من رأب الصدع الذي أحدثه صوت الغضب في بنية النظام، الذي لم يعد مقبولاً، وخاصة لجيل الشباب الذي مل هذه التقسيمات المكبلة للتحرر وبناء دولة وطنية حقيقية.
لكن ما علاقة كل ذلك بسوريا وثورتها، وهل علينا نحن الغرقى في بحر الدم حتى آذاننا، أن ننشغل بما يجري من مظاهرات في لبنان والعراق ؟!
يجب الاعتراف أن المشهد بدى لنا مشوشاً عندما انطلقت الاحتجاجات الشعبية في الحارة الشرقية، فانكمش السوريون عن ابداء أي رأي حيال هذا الحراك، بينما كان على الثورة أن تكون سعيدة بانتفاضة الشعب العراقي ضد هذ النظام البائس، الذي سلم كل مقاليده للإيراني، مقابل الاستمرار في نهب وتجهيل الشعب، إلى حد إفلاسه، واستنزاف دم ابنائه داخل الحدود وخارجها.
فمن لم يهاجر من شباب العراق، كان عليه أن يموت بالتفجيرات أو الحروب الطائفية التي يشعلها ويعتاش عليها أركان النظام ومرجعياته، ومن لم يمت في هذه الحروب، يمكن تصديره إلى سوريا مثلاً، للمساهمة في الدفاع عن التاريخ، أو استعجال المستقبل الهرمجدوني كخلاص..!
هكذا أشغل القادة والزعماء والمراجع العراقيون طاقات الشعب وشبابه، وبالطريقة ذاتها حكم وسيطر وتغول زعماء لبنان ومرجعياته التقليدية، وكانت سوريا هي آخر ضحايا هذا الحلف الباطني، الذي يمثل أطرافه الخصومة في العلن.
إن أول ضربة وجهت للثورة في سورية، كانت بنجاح القيادات اللبنانية أولاً، ومن ثم العراقية، في نقل جزء كبير من حروبهم إلى سوريا للهرب من المشاكل والاستحقاقات الداخلية، واشغال الشعبين، بل واشراك قطاعاً غير قليل منهما، في تغذية الحرب لدينا، بعد أن نجحوا في تمرير مشاكل البلدين -الطائفية منها خاصة- إلينا، بحيث أصبحت الثورة تقاتل عن الجميع في محيطها، ويقاتلها كل من في هذا المحيط، من أجل الدفع بها نحو انتاج الأشباح التي يخوفون بها (رعاياهم)، وتشغلهم عن فسادهم وجرائمهم.
نعم، لا نملك كسوريين أن نفعل أي شيء بصدد ما يجري في لبنان اليوم، كما لم نملك ما نفعله حيال ما جرى ويستمر في العراق، لكن نمتلك الأمل بالتغيير في هذين البلدين لصالح شعبيهما، وما هو بصالح الشعب في أي مكان، سيكون حتماً بصالحنا.
تتجدد اليوم الذكرى السنوية لثاني أكبر هجوم بالأسلحة الكيميائية في العصر الحديث، حيث ثبت لدينا ولدى منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش، أن النظام السوري هو الذي شن الهجوم على غوطتي دمشق قبل سنتين، والذي أسفر -بحسب وثائق الشبكة السورية لحقوق الإنسان- عن مقتل 1127 شخصا، بينهم 201 سيدة و107 أطفال، مما يجعلها أكبر مجزرة في سوريا من ناحية عدد الضحايا.
وفي ظل هذه المجزرة تحديدا يتكرر السؤال: لماذا لم تتم حتى الآن محاسبة المجرمين في سوريا؟ ويجدر بنا القول من الناحية القانونية إن هذه المجزرة تحمل جريمتين: الأولى هي أنها ترقى لجريمة ضد الإنسانية، لأن القتل يمارسه النظام منذ عام 2011 بشكل منهجي وواسع النطاق، وذلك بحسب المادة السابعة من قانون روما الأساسي.
والجريمة الثانية هي أنها ترقى لجريمة حرب، لكون السلاح المستخدم محرما دوليا حتى ضمن الحروب، وذلك بحسب المادة الثامنة من قانون روما الأساسي.
مسار الجنائية الدولية
ومن غير المعقول في ظل النظام السوري أن تتم محاكمة المجرمين في القضاء المحلي غير المستقل، والذي يتبع فعليا سلطة أجهزة الأمن، فلا يوجد حاليا سوى خيار المحكمة الجنائية الدولية.
وهنا تبرز العقبة الأساسية، كون النظام السوري غير مصادق على ميثاق هذه المحكمة، وبالتالي فلا تعد مخولة لإصدار أي حكم قضائي بحقه، إلا إذا طلب مجلس الأمن ذلك من المحكمة، هنا تصبح المحكمة الجنائية الدولية مختصة.
لكن مجلس الأمن منذ مارس/آذار 2011 وحتى الآن، وبسبب استخدام حق النقض (فيتو) من جانب روسيا والصين أربع مرات، يمنع بشكل صارخ إحقاق العدالة، على الرغم من أن مشاريع القرارات التي قدمت نصت على محاسبة جميع الأطراف المتورطة وليس فقط النظام السوري، لكن روسيا والصين رفضتا ذلك بشكل قطعي.
وهذا يرسل رسالة للنظام السوري، أولا أن يبقى مرتاحا عندما تقلق الأمم المتحدة، وأن يضحك من الخطوط الحمراء، بل أن يهين ويسخر من قرارات مجلس الأمن نفسه.
مسؤولية مجلس الأمن
بكل تأكيد هناك خيارات أخرى غير المحكمة الجنائية الدولية، لكنها تعود بنا مجددا إلى مجلس الأمن الذي يتحكم في مصير شعوب وبلدان العالم بشكل غير عادل وغير مسؤول.
على سبيل المثال، بإمكان مجلس الأمن إصدار قرار تشكيل محكمة خاصة على غرار محكمتي يوغسلافيا عام 1993، ورواندا عام 1994، لأن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين، وهو ما يُمارس يوميا بحق الشعب السوري.
وهذه المحاكم الدولية الخاصة يكون كل قضاتها من دول غير الدولة التي ارتكبت فيها الجرائم الدولية، وتكون مرجعيتها القانون الإنساني الدولي.
هناك خيارات خارج مجلس الأمن مثل اللجوء إلى "الاتحاد من أجل السلم"، وذلك وفقاً للقرار المؤرخ في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1950 بشأن الاتحاد من أجل السلم، ويمكن للجمعية العامة أن تنظر في الأمر بهدف رفع توصيات إلى الأعضاء لاتخاذ تدابير جماعية لصون السلم والأمن الدوليين أو استعادتهما، لكنه لم يطبق فعليا إلا ثلاث مرات، وهو بحاجة إلى جدية عدد كبير من الدول وتشكيل تحالف من أجل إنجاح ذلك.
أخيرا هناك الاختصاص العالمي للمحاكم الوطنية، حيث يوجد عدد من السوريين يحملون جنسيات متعددة، من الممكن اللجوء لمحاكم بعض الدول التي تأخذ بالولاية العالمية لقضائها مثل سويسرا وإسبانيا وغيرهما، ولكن معظم هذه الدول أصبحت قوانينها تشترط وجود المتهمين في أراضيها لإمكانية رفع الدعوى.
الفصل السابع
يبقى في هذا المجال الإشارة إلى أن هناك ثلاثة قرارات صدرت في استخدام النظام السوري الغازات السامة، اثنان منها يهددان باستخدام الفصل السابع في حال حصول أي انتهاك، الأول قرار مجلس الأمن رقم 2118 الصادر في 27 سبتمبر/أيلول 2013، في الفقرة 21 منه ينص بشكل واضح على أنه:
"في حالة عدم الامتثال لهذا القرار، بما يشمل نقل الأسلحة الكيميائية دون إذن، أو استخدام أي أحد الأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية، أن تفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة". كما قرر أن "استخدام الأسلحة الكيميائية أينما كان يشكل تهديدا للسلام والأمن الدوليين".
والثاني هو القرار 2209 الصادر في السادس من مارس/آذار 2015. ونحن نؤكد أن النظام السوري قام بخرق القرارين، فقد سجلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما لا يقل عن 125 خرقا للقرار 2118، من بينها 56 خرقا للقرار 2209، دون أي إدانة جدية على الأقل، نحن لم نصل بعد إلى مستوى محاسبة المجرمين.
أما القرار الأخير 2235 فقد طلب من لجنة نزع الأسلحة الكيميائية تحديد المجرمين، وكأن مجلس الأمن لا يعلم من هم!
بين الفينة و الأخرى يقفز على واجهة المشهد السوري حدث ما ليحول الأنظار ، و يشكل جذباً مغناطيسياً يهدف إلى تضيع البوصلة الأساسية للثورة السورية ، و حتى مصطلح الثورة بحد ذاته يتعرض لتغيير واجهته من أزمة إلى صراع فحرب أهلية ..... .
مع غرق الطفل السوري "إيلان" و قبله "شاحنة الموت" و قليلاً إلى الوراء "سفينة الموت" ، يتجدد تغيير الإطاربأن الأزمة السورية الحالية ، هي لاجئ و يبحث عن الآمان ، هي مضهد يلاحق السلام ، معتد عليه ينشد العدل ، و هنا تبدأ الإجتماعات و المؤتمرات ، و إن صح التعبير المؤامرات ، بأن كل مافي سوريا عبارة عن جزء من الشعب أراد تغيير المكان و يجب أن نسعى لتلبية أمره .
وقبلها "داعش" وهي حالة مستمرة بالطبع بين مد و جذر على حسب التطور الميداني و اللعبة السياسية بالمكوك الدولي ، و التي تحولت بفضل جهابذتها إلى المرتع الذي يفرغ الجميع قاذوراته بداخله و يخرج كمن أخطئ خطأ يحتاج لتوبة ليطهر منه .
القضية ليست قضية لاجئ أو مهاجر أو داعش ، و لكن القضية قضية شعب لايزال بعد خمس سنوات على نفس الرتم القتلي اليومي ، من قبل ذات الشخص و الهيكلية ، و ذات الأذرع و لو تلونت و إنتمت للطرف المعارض له .
اليوم لاجئ ، و بالماضي و حالة مستمرة داعش ، و بالغد سيكون لنا شيء جديد ، لتتواصل عملية تضيع البوصلة ، وتغيير الإتجاه ، فالعالم يبدو أنه إتفق على إفناء و تشريد الشعب و يبقى قاتل الشعب عابثاً ...
في ظن روسيا واعتقاد الأمم المتحدة أن الحراك الديبلوماسي المتقطع الذي ترعيانه والاجتماعات والمشاورات التي تنظمانها في هذه العاصمة أو تلك، مع أطراف في المعارضة السورية، ومع ممثلين هامشيين لنظام الأسد، يمكن أن تؤدي جميعها إلى تسوية للحرب الأهلية في البلد المدمر، تشبه النهايات السعيدة للأفلام الهندية أو المسلسلات التركية.
لكن الوسطاء الدوليين المعنيين بسورية، وفي مقدمهم دي ميستورا الذي وضع صيغة «أكاديمية» للتسوية كما يراها، يحاولون تجاهل ما يعرفونه تماماً من أن الأسد ورجاله لن يدخلوا في أي حل لا يضمن استمرار حكمهم وبقاء نفوذهم ومصالحهم، ليس فقط لأنهم لا يزالون قادرين على القتل والمراوغة ومقاومة الضغوط، بل لأنهم لا يرون، بسبب تركيبتهم الطائفية والأيديولوجية، أن هناك حلولاً وسطى للأزمة. فهم إما ينتصرون بالكامل وينضم العالم كله إلى صفهم مصفقاً تحت شعار «محاربة الإرهاب»، وإما سيظلون يقاتلون حتى النهاية، طالما يجدون من يقدم لهم الدعم السياسي والعسكري، ومن بين هؤلاء روسيا نفسها التي تنتحل دور الوسيط.
وأمام هذا الواقع، يعمد هؤلاء الوسطاء إلى التحايل وتفخيخ اقتراحاتهم بتضمينها فقرات غامضة تحتمل أكثر من تفسير واجتهاد، إن لناحية مغزاها السياسي أو مداها الزمني أو لجهة إمكان تطبيقها العملي. ولنأخذ مثلاً الفقرة في خطة دي ميستورا التي تقول انه تسبق المرحلة الانتقالية مرحلة تمهيدية تتمتع خلالها الهيئة الحاكمة الانتقالية بسلطات تنفيذية محددة (المقصود محدودة) تمتد لفترة زمنية لا يحددها النص، أي تترك لاتفاق الأطراف المعنيين.
يعني هذا الاقتراح أن الفترة الانتقالية التي نص عليها بيان «جنيف 1» تناسلت وأنجبت فترة جديدة مائعة، وقد تنجب غيرها بحسب الظروف والأوضاع الميدانية والسياسية، وأن ما ذكره البيان عن منح الهيئة الانتقالية صلاحيات كاملة لم يعد وارداً في فترة أولى ليس معروفاً متى تنتهي. وهو ما يدعو إلى التذكير بتجربة نظام الأسد اللبنانية في تطبيق اتفاق الطائف الذي نص على انسحاب الجيش السوري وتسليم الأمن إلى السلطات اللبنانية بعد سنتين كحد أقصى من تاريخ توقيعه، وكيف أنه ماطل 16 عاماً في التنفيذ بحجج مختلفة اختلقها، ورعا الانقسامات اللبنانية وشجعها حتى يبقى ممسكاً بعنق البلد وقراره، ولم يخرج من لبنان إلا بعد ارتكابه جريمة مروعة اضطرت دولاً كبرى إلى إنذاره بالخروج، فكيف وهو اليوم في أرضه و «منتخباً رسمياً» وتعترف أطراف عديدة بـ «شرعيته»، من بينها الأمم المتحدة؟
ولنا أن نتساءل ما ستكون عليه المرحلة التمهيدية الانتقالية إذا ظل الأسد ممسكاً خلالها بالأجهزة الأمنية والعسكرية؟ وماذا سيحصل لقوات المعارضة إذا كان «داعش» الذي ينسق مع النظام ويخوض معاركه بالوكالة عنه، سيواصل هجماته على مواقعها، فهل يستطيع أحد عندها ضمان أن قوات النظام لن تهاجمها أيضاً تحت غطاء منع «داعش» من التقدم؟
وفي فقرة أخرى، يقول دي ميستورا إنه في حال إخلال الأطراف بتنفيذ بنود التسوية، سيجري مشاورات مع دول مجموعة الاتصال ويرفع توصياته إلى مجلس الأمن. لكن هل يمتلك هذا المجلس قراراً موحداً يستطيع فرضه على دمشق، ما دامت موسكو تتمتع فيه بحق النقض وتعتقد أن الأسد هو «الرئيس الشرعي» لسورية الذي لا يجوز استبداله أو اشتراط رحيله لبدء أي تسوية، بل تروّج معلومات حالياً عن زيادة انخراطها العسكري إلى جانبه؟
الموفد الدولي ليس ساذجاً بالتأكيد، بل يتعامل مع الوقائع الدولية التي تشي بأن الأميركيين أنفسهم ليسوا راغبين في إسقاط الأسد، حالياً على الأقل، وأنهم يمنحون أولوية مطلقة للحرب على «داعش»، لكنه يصبح ساذجاً عندما يسقط من اعتباره تاريخ بشار الأسد الدموي الذي يؤكد أنه لا يمكن أن يتنازل طوعاً ولو عن صلاحية بروتوكولية واحدة.
حوّل الطفل السوري الرضيع الذي وجدت جثته ملقية على أحد شواطئ تركيا ، العالم إلى عبارة عن "حفاضة" بحاجة لرمي بعيداً تلافياً لألم رائحتها .
ملئ المشهد الأرجاء جميعاً ، ملئت معه الصفحات و مواقع التواصل الإجتماعي بعبارات الألم و النحيب و البكاء ، و شتم كل شيء حي على هذه الأرض من حكام و بشر ، بكل الألوان و الأطياف ، ووصل الأمر إلى البحر و القارب و أهل الطفل الذين رافقوه في الموت غرقاً ، مرواً بكل الأنظمة و الهيكليات و التنظيمات المحلية و الإقليمية و العربية و الإسلامية و العالمية .
الجميع إنتحب و ذرف الدموع و دعا إلى وقف هذا الموت الأرخص من المجاني ، وطالب الكثر بفتح الأبواب الموصدة و تسهيل عملية الإنتقال إلى النقاط الآمنة .
اشترك القاسي و الداني ، بهذا الجهد الإنتقادي ، المطالباتي ، الشتائمي ، و الذي لايتجاوز حد الكلام ، بضع الحروف التي لم تكتب حتى بحبر ، لتكون عبارة عن نفخات هواء ستضيع بعد يوم أو يومين ، كما ضاعت تلك الكلمات على مدى خمس سنوات ، ضاع غريم أكثر 300 ألف شهيد سوري .
صورة الطفل السوري الملقاة كجثة هامدة ، هي صورة لشعب بأكمله ، لأمة بأكملها ، و للإنسانية جمعاء ، ليتك أيها الطفل كنت إبن لأحد الجهابذة الإلكترونيين ، أو أحد القياصرة الأقلويين ، أو تكون حتى معبداً أثرياً يلحقك المسبار الفضائي و يلتقط صورك لحظة بلحظة ، ليتك يا بحر داعشاً.
صورة الطفل عرتنا جميعاً ، كبشر قبل أن نكون مسلمين ، أنهت كياناتنا و حصرت قدراتنا داخل مستطيلات موزعة بألوان المواقع ، غداً سننساك ، ننتظر قصة جديدة لنجلدها ، علنا ننسى أن نجلد ذواتنا .
كنت أمني النفس أن يكون مكان أحد الأسرى "الشيعة" لدى جبهة النصرة ، والذين تم تبديلهم اليوم مع معتقلين لدى النظام ، هو أحد الأشخاص الذين يتم اعتقالهن في المناطق المحررة ، و الذين ينتمون إلى ذات الدين و إلى ذات الثورة ، وإلى ذات الشعب الذي انتفض و ثار .
أثق بأن المهاجمين ، سنهالون علي شتماً و قدحاً ، لأنني إقتربت من عرين "جبهة النصرة" ، و لكن هناك حق يجب أن يقال ، الجميع يسعى نحو الأقلية بكل فئاتها ، ورضاها هو المبتغى و عدم المساس بها غاية الطموح .
لم نكد ننسى لقاء الطيار الذي تباها بأنه قصف و دمر و أسقط براميل ، على مدن و قرى سوريا ، و على "السنة" تحديداً ، ووقع أسيراً لينعم بحياة الرغد و الراحة و يظهر عليه الرخاء ، إلى حد الكِبر و العنجهية .
اليوم أظهرت لقطات و لقاءات حال الأسرى الجدد لدى جبهة النصرة ، الذين عبروا صراحة و جهارة و علناً ، أنهم عُميلوا بشكل إنساني و راقٍ ، وحظيوا بحسن المعاملة طوال أعوام ثلاث ، و أكدوا أن الأذية لم تلحق بهم و لم يساء لهم .
لكن ماذا عن حال المعتقلين من السنة و سكان الأرض و أهل البلد ، و شعب الثورة ، دافع ضرائبها من ماله و عرضه و دمه ، فهل يحظى بهكذا معاملة .
يخطئ من يظن ان التأليه قد يلحق بأي كان لمجرد تحقيق النصر هنا أوهناك، مالم يكن العدل موجود و موفور للذين ضحوا ، أسرف الجميع بدمائهم .
ماذا لوكان أحد هؤلاء الأسرى ناشطاً أو رافضاً لتصرف أو مخالفاً لفكر هذا الفصيل أم ذلك ، ماذا لو كان خارج بيعتهم أو رافض لأفعالهم ، فحتماً العذاب المميت سيكون موجود ، وتنفيذ العقوبات ، وحتى القتل بمجرد فتوة شرعية سريعة ، تكفي لأن يكون تحت التراب ، فهنا الخلاف خلاف منهج و ليس خلاف عقيدة ، ومن يختلف معهم بالمنهج كُثر .
وحتماً ليس نقداً لحسن المعاملة التي تعتبر نقطة لصالح الإسلام و الثوار ، و لكن عندما يكون الإسلام رحيماً على الجميع باستثناء المسلمين نكون أمام ....
تتقاطع التحركات السياسية التي تقودها روسيا بشأن الحل في سوريا ، في نقطة بارزة ألا وهي أن الأسد و جيشه كذلك و أركان من نظامه أيضاً سيبقون جاثمين في مناصبهم ، ومؤسساتهم ، و سيكون التغيير القادم عبارة عن تنكيه النظام بـ"معارضة خلبية" ، هو ملخص الحل الروسي الذي يتوافق مع الرؤية الدولية .
صباح اليوم أطل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ليعلنها على الملئ أن بشار الأسد هو "الرئيس الشرعي" و أن جيشه هو القوة "الوحيدة القادرة" على مقارعة داعش ، سبقه المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بويتن بالقول أن الأخير قد ركز في لقاءاته مع زعماء الأردن و مصر و الإمارات على الشأن السوري ، وكرر عرضه لمبادرته الفذة المتعلقة بحلف "المعجزة" بين تركيا و ايران و السعودية و الاسد ، لمواجهة الإرهاب.
وطابقت الرؤية الروسية للحل ، خطة المبعوث الأممي لسوريا استيفان دي مستورا ، الذي لخص خطته بـ " تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة و تشكيل مجلس عسكري مشترك من النظام والمعارضة واتفاق الطرفين على قائمة من 120 مسؤولاً لن يستلموا أي منصب رسمي خلال المرحلة الانتقالية ، إضافة إلى إلغاء بعض الأجهزة الأمنية وصولاً إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية برعاية الأمم المتحدة" ، وطبعاً ليس هناك أي ذكر لبشار الأسد الذي يفيد ضمناً إلى أن الأسد لن يمس و ستقتصر الإجراءات الحلّية على خسارته لـ120 من أذيال نظامه .
تحكم روسيا سيطرتها على الملف السوري و تضبط أي تحرك قد يُذهب ببشارها إلى خارج السلطة ، و تضع البدائل لأداواتها ، فاستدعت الإئتلاف و عرضت عليه ، فأن تمرد و رفض (وهذا الأغلب وفقاً لبيانه بالأمس بشأن خطة دي مستورا) ، فإن الخطط البديلة متوافرة ، من معارضة مؤتمر القاهرة ، وهذا ما أكده هيثم مناع ، مع كشفه قول لافروف للائتلاف أنه في حال الرفض سيشارك معارضي القاهرة ، و لم تكفِ روسيا بهذين الفصيلين ، بس استجلبت "معارضة الداخل" ، لتكون الخطة البديلة الثالثة .
في حين لم نسمع من الدول التي تعرف بـ"أصدقاء الشعب السوري" ، سوى تكرار لسمفونية أن "لامستقبل للأسد في سوريا " و هي نسمعها منذ أربع سنوات و بضع شهور ، دون أن يكون أي عمل بهذا الإتجاه .
بينما يسعى مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، إلى جمع أطراف المعارضة السورية على برنامج حوار لا يعرف أحد مآله وماذا ينتظره فيه، يعمل الإيرانيون، بأقصى ما يستطيعون من عزيمة وسرعة، لاستغلال التردد والغموض والتجاذبات القوية في الموقف الدولي، من أجل تكريس أمر واقع على الأرض السورية، يضمن ما يعتبرونها مصالحهم الاستراتيجية في المستقبل، من دون أدنى مراعاة حتى لمصالح حليفهم الأسد في الحفاظ على الحد الأدنى من مظاهر السيادة والاستقلال. فبعد أن وضعوا يدهم على مقاليد السلطة والأمر العسكري في سورية، من خلال تقديم المليشيات الطائفية و”الحشود الشعبية” وتمويلها وتدريبها على حساب تطوير الجيش السوري، وسيطرتهم على قطاعات عسكرية عديدة، وعلى غرف العمليات في جبهات القتال، وجديدها ما نشرته الصحافة، في الأسبوع الماضي، من وثائق عن وضع اللواء 47 دبابات المتمركز في ريف حماة تحت سيطرة الحرس الثوري الإيراني، بقرار من وزير دفاع الأسد، يبدون الآن في عجلة من أمرهم لتوسيع دائرة حضورهم المادي والبشري في المناطق والمدن الاستراتيجية التي يعتقدون أن عليهم الحفاظ عليها مستقبلاً، في إطار تقسيم محتمل لسورية، وتشكيل محمية إيرانية على شاطئ المتوسط الشرقي.
سورية من دون سوريين
في هذا السياق، تدخل حرب الإيرانيين المستمرة في القلمون منذ أشهر طويلة، وفيه يبرز تمسكهم في مفاوضات الهدنة التي جمعتهم مع وفد من “أحرار الشام” بإخلاء الزبداني وكامل مدن وقرى الغوطة الشرقية ووادي بردى من سكانه “السنة”، لإعداده لعملية استيطان جديدة بسكان يدينون لهم بالولاء، من المذهب الشيعي، عرباً كانوا أو آسيويين. وفي هذا السياق أيضاً، يأتي إعلان “مواليهم” من نظام الأسد، في الأسبوع الماضي، عن بدء تنفيذ مشاريع في المدن المستهدفة، في حمص ودمشق خصوصاً، تدخل تحت مسمى تنظيم المدن وإعادة الإعمار، وهي، في الواقع، مشاريع مقنعة لعمليات التطهير العرقي وتغيير البنية السكانية للمناطق.
وقد نشرت صفحة “دمشق الآن”، المحسوبة على أحد أفرع مخابرات النظام، قبل أيام، صوراً لتصميمات مشروع إعادة إعمار حمص الذي سيقام على مساحة 217 هكتاراً، ويضم 465 مقسما سكنيا، إضافةً إلى مباني الخدمات “المشافي والمدارس والمباني الاستثمارية والتجارية والترفيهية”، وهو يشمل “إعادة إعمار” أحياء بابا عمرو وجوبر والسلطانية، وهي مناطق كانت قد دمرت بالكامل، وهجر أهلها، ومنعوا من العودة إليها، بعد أن شهدت أبشع مجازر النظام بحق سكانها خلال النصف الأول من 2012.
وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلنت محافظة دمشق التابعة لحكومة الأسد عن البدء بتنفيذ ما سمي مشروع حلم دمشق، وفي مقدمه بناء المجمع الإيراني الضخم الذي يغطي مناطق واسعة من حي المزة المكتظ بالسكان وسط العاصمة دمشق. وانطلقت، في اليومين الماضيين، بالفعل عمليات هدم منازل المدنيين في منطقة “بساتين المزة”، بينما منعت قوات الأمن التي كان يرافقها محافظ دمشق السكان من الاقتراب من منازلهم بالقوة، وأخرجت من تبقى في المنازل عنوة، ورمت مقتنياتهم وفرشهم في الشارع. وكان سكان المنطقة قد تلقوا إنذارات بالإخلاء في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، فيما لم يتلق السكان، حتى الآن، أي تعويض أو بدل سكن أو منزل للإيجار.
وكانت مليشيات حزب الله، وحليفتها العراقية التي احتلت مدينة القصير، قد منعت سكان هذه المدينة وريفها من العودة إليها، وأحلّت مكانهم مستوطنين من جنسيات أخرى تابعين لها. ولا تزال مدن عديدة في المنطقة وقراها مغلقة على سكانها، ومنها مدينة حمص القديمة التاريخية التي تنتظر من دون شك مشاريع “إعمار” مماثلة. ويأتي هذا الجهد الاستيطاني ليكمل، أو ليعوض عن خسارة مشاريع عديدة، كانت طهران، قد عملت عليها في العقود الثلاثة الماضية، قبل ثورة مارس/آذار 2011، وبنت، في إطارها، مئات المراكز الدينية والحسينيات في مختلف البقاع، وفي أكثر المناطق تجانسا مذهبيا، وذلك لإيجاد وقائع مادية على الأرض، تحفظ نفوذ طهران، وتفرض الأمر الواقع المرتبط بها. وتعتبر منطقة السيدة زينب قرب دمشق مثالا لهذا الاستيطان الجديد الذي حوّل قرية صغيرة إلى مدينة ضخمة، تحتضن أكبر تجمع مذهبي عسكري ومدني طائفي متعدد الجنسيات في المنطقة.
وتستخدم حكومة الحرس الثوري في إيران النظام السوري، بعد أن ورطته في حرب خاسرة، وحشرته في الزاوية، من أجل خلق وقائع جديدة صلبة لا يمكن تغييرها. وهي تستفيد من تعبئة المهاجرين الشيعة في إيران نفسها من الأفغان والباكستانيين وغيرهم، وتستثمر الشعور بنشوة النصر لدى طائفة وجماعات عانت طويلاً من الشعور بالعزلة والهامشية والحرمان، من أجل قلب الأوضاع السياسية داخل المنطقة رأسا على عقب، وإعادة رسم الخرائط الجيوسياسية على حسب مطامعها وأحلامها.
بين إعادة الإعمار والاستيطان
تشكل مجموع هذه النشاطات، من تدمير منهجي للمدن والقرى وتهجير إجباري للسكان وتفريغ البلاد من سكانها، وتوطين أكبر عدد ممكن من الساكنين الأجانب، من إيران وباكستان وأفغانستان ولبنان والعراق والهند وغيرها، وحرمانهم من حقوقهم ومنعهم من العودة وتدمير منازلهم وبيئتهم الطبيعية وحرق قراهم ومحاصيلهم وخصخصة الأملاك العامة وسطو المليشيات الأجنبية عليها، واحتلال منازل الغائبين وإجلاء السكان عن أحيائهم ومدنهم، مهما أطلق عليها من أسماء، ومهما قدم لها من تبريرات، مشروعاً متكاملا للتطهير العرقي والإحلال السكاني وتمديد رقعة الاستيطان، بهدف تمكين دولة أجنبية من السيطرة على مقدرات الشعب السوري، وانتزاع حقه في تقرير مصيره وفرض مصالحها وأجندتها الإقليمية والدولية عليه. وهو إحلال سكاني مرتبط بمخطط استراتيجي للهيمنة الإقليمية، يستخدم جميع الوسائل، وأكثرها همجية ووحشية، من قتل وتمثيل وتعذيب واغتصاب لتحقيق هدفه. وهو يعكس التفكير الاستراتيجي الإيراني الراهن الذي يعتقد أن إبادة سورية العربية الراهنة الطريق الوحيدة من أجل إحلال سورية أخرى محلها، سورية إيرانية، تخضع لطهران وتندمج فيها، وتتحول إلى واحدةٍ من محافظاتها.
وهذا وحده ما يمكن أن يفسر التكتيك الحربي الوحشي الذي استخدمه قادة الحرس الثوري المؤطرون لجيش الأسد ومليشياته، وهو تكتيك لا يبقي فرصة لأي حوار أو تفاهم أو تسوية بين السوريين، ولا يمكن أن يقود إلا إلى تدمير البلاد وتقسيمها. فمن دون التدمير الشامل والمنظم للبئية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، والاستهداف اليومي للمدنيين، والقضاء على كل أمل في الحياة بقصف المشافي والأسواق الشعبية والمدارس، وفرض الحصار والتجويع وقطع الماء والكهرباء ومواجهة السكان بالأسلحة الكيميائية وكل أنواع العنف الممكنة، ما كان من الممكن تفريغ المدن والمناطق من ساكنيها، وتيئيسهم، وقطع أي أمل لهم بالبقاء، وإجبار أكثر من نصف سكان البلاد على الرحيل عن منازلهم ومدنهم، وتركها خاوية لمن يريد أن يستوطنها.
ولا ينفصل هذا المشروع، أيضاً، عن طبيعة الاستراتيجية التي تبنتها قيادة الأسد، بتوجيهات من قادة الحرس الثوري الإيراني وخبرائه، القائمة على عدم الدخول في أي حوار أو تسوية، والاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة، وتعطيل كل المبادرات العربية والدولية. فليس هناك أي ضمانة في أن تنجح سلطة الاحتلال في تغيير الوقائع، وفرض الأمر الواقع الجديد على الأرض، من دون التخفي وراء لهيب الحرب وتبرير خرق كل القوانين والعهود الوطنية والدولية والإنسانية، فمن نافل القول إن حرب كسر العظم التي اتبعتها القوى الحليفة في سورية تجاه الشعب الثائر والمعارض ليست في مصلحة النظام، ولا في مصلحة الطائفة التي يدّعي النظام حمايتها. ولا يوجد مستفيد حقيقي منها سوى سلطة الاحتلال وحلم التوسع الإيراني.
ليس لهذه العمليات الممنهجة أي علاقة بإعادة الإعمار، وليس هناك أي منطق في إطلاق عملية إعادة إعمار من طرف واحد، وبمساعدة الحكومة والشركات الإيرانية وحدها، ولا لبناء مساكن ومَشاف وأسواق، بينما تقوم البراميل المتفجرة والمدفعية والصواريخ الاستراتيجية بتدمير مثيلها كل يوم في جميع المدن والأنحاء السورية. وليس هناك منطق في فرض الأمر الواقع، وتوسيع دائرة الاستيطان للجماعات المرتبطة بطهران، في الوقت الذي يطلق فيه المبعوث الدولي وروسيا مفاوضات التسوية السياسية، إلا إذا كان الهدف قطع الطريق على أي مفاوضات، ودفع المعارضة إلى رفض المشاركة فيها.
ما يحصل تحت اسم إعادة الإعمار هو تأكيد على منطق الحرب، وتوسيع دائرتها لتشمل عمليات التوطين وتجريد السوريين من ملكياتهم، لخدمة أهداف استراتيجية، وهو يعكس سياسة الهرب إلى الأمام، ويشكل برهانا قاطعا على غياب أي إرادة للانخراط في حلول سياسية.
تكاد سياسة “أسد طهران”، وطهران نفسها، تتطابق تماما مع سياسة تل أبيب في فلسطين وتجاه الفلسطينيين الذين لا ترى وسيلة للتعامل معهم سوى الحرب، لإبعادهم وتهجيرهم، أو إخضاعهم لمشيئتها من دون أي تسوية أو تفاهم على حل. وإذا تحدثت عن السلام والمفاوضات، فليس ذلك بهدف التوصل إلى تسويةٍ، تضمن ولو الحد الأدنى من الحقوق السياسية للفلسطينيين، وإنما لكسب مزيد من الوقت، للتمكن من طردهم واستكمال مشروع الاستيطان الكامل لفلسطين، وليس في تصور الإسرائيليين أي مكان للفلسطينيين في فلسطين، باستثناء الاختفاء في تجمعات مغلقة ومعزولة عن بعضها، تماما كما حصل للهنود الأميركيين. وكما تنقض الحكومة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية لتصادرها، وتعلن مشاريع مستوطنات جديدة، رداً على أي عمل فلسطيني قوي ضد الاحتلال، ترسل طهران ودمشق براميلها المتفجرة وآلتها الدموية الرهيبة، لتزرع الدمار والرعب في أي بلدة أو مدينة تخرج عن سيطرتها، لتجبر سكانها جميعاً، أو أغلبيتهم الساحقة على النزوح والهجرة حفاظا على أرواحهم.
وكما الحال في المسألة الفلسطينية، لن يكون لمفاوضات شكلية، تنظم للتغطية على فشل الأمم المتحدة وعلى تعارض المصالح الإقليمية والدولية، أي قيمة، ولا أي دور في وقف العنف وإيجاد حل للنزاع، بمقدار ما سوف تستغل من محور الحرب في طهران ودمشق، لكسب مزيد من الوقت، والتغطية على مشروع التقسيم والاستيطان المرتبط به، قبل وضع السوريين والعالم أمام الأمر الواقع. وعلى الذين يعتقدون أن المفاوضات ربما تخلق دينامكيتها، كما يقول دي ميستورا والمبخّرون لمبادرته، نسوق مثال المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من ربع قرن، من دون أي نتيجة تذكر، سوى تمدد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية، والمزيد من التعنت والتشدد ضد الفلسطينيين من الساسة والرأي العام الإسرائيليين، وبناء مزيد من جدران العزل العنصري التي يشكل وجودها واستمرارها إدانة للعالم أجمع.
لا حل من دون إرادة دولية قوية
ما لم تبرز إرادة دولية قوية لوضع حد للحرب، وتسمية المسؤول عن استمرارها وإيقاد نارها بالاسم، وتحديد مسؤوليات الأطراف، وإظهار الرغبة في الانخراط الجدي وتقاسم المسؤوليات تجاه محنة الشعب السوري من الأطراف الدولية، وخصوصاً الدول الديمقراطية، لن يكون هناك أي حل، وسوف تتحول المفاوضات إلى سراب يدفع السوريين إلى الركض وراءه من دون أن يجدوا أمامهم سوى الحرب المستمرة، وفي ظلها تحقيق طهران مزيدا من التطهير المذهبي والإثني الذي تسعى إليه في المناطق الاستراتيجية التي تريد البقاء فيها.
والحال، كما حصل بالنسبة لفلسطين، لا تبدي الدول أي إرادة في الانخراط، ولا في تحمل المسؤولية، ولا تبدي أي موقف واضح من أطماع طهران التي هي اليوم الموقدة الرئيسية في نار الحرب، وتكاد هذه الدول تكون فاقدة العزيمة، وراضية عن التضحية بمبدأ الحق والقانون والعدالة، وقابلة للتخلي عن التزاماتها الدولية في مقابل الحفاظ على مصالح سياسية أو تجارية أو استراتيجية، تنطوي عليها العلاقات الحسنة مع طهران وموسكو وبعض العرب الضالين.
وكما أنه لم يوجد من يقول لتل أبيب كفى تهربا وتوسعا واعتداء على حقوق الفلسطينيين، ويتخذ الإجراءات التي تفرضها مواثيق الأمم المتحدة لحماية هذه الحقوق، لم نر اليوم من بين الدول الكبرى والصغرى التي تخفي انتهازيتها وأنانيتها وراء كلمات الحل السياسي المعسولة، من يعترف بما تقوم به طهران في تمديد أمد الحرب الأهلية، لخدمة مصالح لا تخفيها هي نفسها عن أحد، ولا من يطالبها بالتوقف عن اللعب بمصير السوريين، وسحب قواتها ومليشياتها من سورية، وإدانة دفاعها عن رئيس قاصر، دانته جميع تقارير المنظمات الدولية بجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. وطالما استمرت الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، في تجاهل حقوق الشعب السوري والتضحية بها، لتعميق تحالفها أو تعاونها أو تفاهمها مع طهران، لن يكون هناك حل، وسوف يستمر السوريون في الدفاع عن حقوقهم والعمل بكل الوسائل لوضع حد للتدخل الإيراني وجميع التدخلات الأجنبية التي دمرت حياتهم وأحرقت وطنهم.
لن ينجح الإيرانيون في تحقيق حلمهم الدموي، ولن يحول جورهم دون استمرار السوريين في الدفاع البطولي عن حقوقهم وهويتهم وبلادهم، ولا دون انتصارهم الحتمي. لكنهم سوف يخلفون جرحاً غائرا في سورية والضمير العربي والعالمي، تماما كما هو جرح فلسطين الذي لا يدمل ولن يدمل قبل أن تقلع اسرائيل عن سياسة الإبادة القومية التي اتبعتها، وتعتذر عن ماضيها وأخطائها.
لا بد أن تقلب على ظهرك من الضحك عندما تسمع النظام السوري وحلفاءه من روس وإيرانيين وعراقيين ولبنانيين وحتى عرب وأمريكيين وهم يصرون على أن أي حل أو اتفاق سلام في سوريا يجب أن ينص على الحفاظ على مؤسستي المخابرات والجيش. طبعاً لسنا متفاجئين من إصرار جماعة النظام على حماية تلك المؤسستين تحديداً دون غيرهما في سوريا. والسبب يعرفه كل السوريين، وهو أنه لولا الجيش والأمن لما استطاع النظام أن يدوس على رقاب السوريين لعقود وعقود، ويكتم أنفاسهم، ولولاهما لما استطاع أن يسحق الثورة، ويشرد غالبية الشعب السوري، ويدمر بيوته فوق رؤوسه. لا عجب أبداً في أن يصر النظام في مفاوضاته مع العالم على حماية الجيش والأمن، لأنه لولاهما لما استطاع أن يصمد شهراً واحداً بعد أن هب السوريون في وجهه قبل حوالي خمس سنوات.
لقد كانت أجهزة الأمن تحديداً تتمتع بحصانة تحسدها عليها كل أجهزة الأمن في العالم. فكما هو منصوص عليه في الدستور السوري منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة، فإن رجل الأمن السوري له كامل الحرية والصلاحية بأن يفعل ما يشاء بالسوريين قمعاً واغتصاباً وابتزازاً وقتلاً دون أن يستطيع المواطن السوري أن يصرخ في وجهه، فما بالك أن يقاضيه، لا سمح الله. لقد حمى الدستور السوري أجهزة الأمن من الملاحقة القانونية حماية مطلقة. وإذا ما تجرأ سوري على الشكوى على رجل أمن قضائياً، فعليه أن يحصل على إذن خاص مباشرة من رئيس الجمهورية تحديداً. لاحظوا كم هي سهلة عملية الحصول على موافقة من الرئيس لرفع دعوى على رجل أمن. طبعاً بالمشمش.
لقد وضع نظام الأسد أجهزة المخابرات فوق الجميع، لا بل إن رجل الأمن باستطاعته أيضاً أن يدوس حتى الشرطي في الشارع، لأن السلطة الأولى والأخيرة في البلاد في أيدي الأجهزة حصراً. وكل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في قبضة الأجهزة تحديداً. فهي التي تعين موظفي الدولة من كناس المدرسة إلى رئيس الوزراء. لا بل إن البعض يسخر أصلاً من وجود مؤسسات في سوريا، فلا قيمة لأي مؤسسة في البلاد إلا لأجهزة الأمن ومن بعدها الجيش. والمؤسستان الوحيدتان اللتان يمكن أن نسميهما «مؤسستين» فعلاً هما الجيش والأمن. أما باقي المؤسسات، فهي عبارة عن توابع، ودكاكين رخيصة لا علاقة لها بالمؤسساتية لا من بعيد ولا من قريب، وهي أشبه بحارة «كل مين إيدو إلو». أضف إلى ذلك أن القسم الأكبر من الميزانية السورية يذهب منذ عقود للأمن والدفاع. والمقصود هنا ليس طبعاً أمن الشعب والبلاد، بل أمن النظام، وليس طبعاً الدفاع عن الوطن، بل حماية النظام من غضب الشعب. الكل يعلم أن الجيش السوري الذي دفع عليه السوريون المليارات من قوت أولادهم ظناً منهم أنه سيحميهم من الأعداء الخارجيين، وخاصة إسرائيل، لم يطلق على الإسرائيليين منذ أربعين عاماً رصاصة يتيمة. وكلنا يشاهد كيف تعتدي الطائرات الإسرائيلية على المواقع السورية بين الحين والآخر دون أن يتجرأ الجيش على إطلاق صاروخ واحد عليها، بينما يوفر كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً لمواجهة السوريين. مع ذلك يريدون من الشعب السوري أن يحتفظ بالجيش الذي قتل منه أكثر من مليون شخص، ودمر ثلاثة أرباع البلاد، وارتكب ألوف المجازر الفاشية.
لقد اعتقد السوريون بعد الثورة أن يخفف النظام من حمايته لأجهزة الأمن، وأن يخضعها للمحاسبة نزولاً عند رغبة السوريين الذين ثاروا تحديداً على ممارسات الأجهزة الأمنية التي كانت تتدخل حتى في إقامة حفلات الأعراس وبيع المازوت على ظهر البغال. فذات يوم حاول شخص في قريتنا أن يبيع المازوت على ظهر بغل، فقالوا له بأنه يحتاج إلى موافقة أمنية. وقد اضطر الرجل للانتظار أكثر من ستة أشهر حتى جاءت الموافقة على استخدام البغل في بيع المازوت في شوارع القرية.
لاحظوا المفارقة الكبرى أن النظام وكل من يشد على يده في الحفاظ على الأجهزة الأمنية والجيش في أي اتفاق سلام في سوريا، لاحظوا أنهم يريدون حماية من تسبب أصلاً في اندلاع الثورة السورية، ألا وهي أجهزة المخابرات، وأيضاً حماية من يسمون زوراً وبهتاناً «حماة الديار». إنها نكتة كبرى فعلاً. أجهزة الأمن ظلت تنكل بالسوريين لعقود وعقود حتى جعلتهم يثورون على النظام، وعندما ثار السوريون، أنزل بشار الأسد «جيشه» إلى الشوارع بعد شهر فقط لقمع المتظاهرين وسحقهم. وعندما رفض الشعب الرجوع إلى البيوت، بدأ باستخدام كل الأسلحة ضد الثوار. وقد وصل الأمر بقيادة الجيش السوري إلى استخدام السلاح الكيماوي لتركيع الشعب الثائر، ناهيك عن البراميل المتفجرة وصواريخ سكود والطائرات. لقد كان الجيش السوري على مدى أربع سنوات وأكثر قليلاً وسيلة النظام الأوحش لمواجهة السوريين وإعادتهم إلى بيت الطاعة. وبدلاً من أن يطالب العالم، وخاصة أمريكا، بمحاسبة ذلك الجيش الذي نافس النازيين في جرائمه، ها هي أمريكا وروسيا وإيران تناصر النظام في ضرورة الحفاظ على المؤسستين الأمنية والعسكرية، مع أنهما سبب الثورة وتبعاتها الكارثية.
طبعاً هذا لا يعني أبداً أننا لا نريد بأن يكون لسوريا جيش وأمن قويان. على العكس تماماً، فإن قوة أي بلد من قوة جيشه وأمنه، على أن يكون جيشاً وطنياً، لا سلطوياً أو طائفياً. إن كل من يدعو للإبقاء على الجيش والأمن السوريين بشكليهما الحاليين اللذين دمرا سوريا، وشردا شعبها، إنما يريد الامعان في تخريب سوريا والاستمرار في ذبح شعبها، لا إنقاذها، كما يدعي الروس والإيرانيون وكل من تحالف مع بشار الأسد من عرب وجرب. أليس من المستحيل لملايين السوريين الذين دمر الجيش مدنهم وقراهم، وذبحهم، وشرد أهلهم أن يتصالحوا معه ومع أجهزة الأمن؟ هل سأل الذين يريدون الحفاظ على جيش الأسد أنفسهم هذا السؤال البسيط؟ نعم لجيش سوري وأجهزة أمن سورية جديدة، لكن بشرط أن يكون الجيش والأمن في خدمة الوطن والشعب، وليسا أداتي قتل وإجرام في يد النظام لإذلال الشعب وسحقه كما كان الحال في سوريا على مدى عقود.