«سنعزز تحالفاتنا القديمة وسنشكل أخرى جديدة».
كانت هذه كلمات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 20 يناير (كانون الثاني) في مراسم تنصيبه.
هذا المبدأ الحاكم في سياسة ترمب الدولية، هو المفتاح الذي ندخل به دهاليز السياسة الأميركية الحالية في الشرق الأوسط؛ موقفه الصلب من النفوذ الإيراني، موقفه الضاغط على الأوروبيين بخصوص مراجعة الاتفاق «السيئ» كما يصفه دوماً مع إيران بخصوص برنامجها النووي (5+1)، كما يلاحظ الجميع.
ضمن هذا السياق أتت الخطوة الأميركية التي أعلن عنها وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون، الاثنين الماضي، أن الولايات المتحدة تعتزم إرسال فريق دبلوماسي إلى أوروبا، والفريق سيبحث «كيف يتسنى لنا التعاون بصورة أكبر بشأن مواجهة الأنشطة الإيرانية التي لا علاقة لها بالبرنامج النووي»، من ذلك صادرات إيران من الأسلحة «إلى اليمن وأماكن أخرى».
في هذا السياق أيضاً نفهم المقالة الكاشفة للباحث الأميركي جاي سولومون، الزميل الزائر بـ«زمالة سيغال» معهد واشنطن، ومؤلف «حروب إيران: ألعاب التجسس، معارك المصارف، والاتفاقات السرية التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط». المقالة منشورة على شبكة «إم بي إن» الأميركية، وفيها تحدث سولومون بتوسع عن الضغط الأميركي على الدول التي لها علاقة بإيران في المنطقة، حتى لو كانت علاقة وساطة مع إيران أيام أوباما، حسب سولومون كانت سلطنة عمان هي مثال المقال.
كما تحدث عن ازدياد الدعم اللوجيستي والاستخباري الذي تقدمه الولايات المتحدة للسعودية والتحالف العربي باليمن، قياساً على الموقف السلبي أو البارد أو المتخاذل أو المتواطئ، صفه بما شئت، أيام «العظيم العبقري» باراك أوباما!
على ذكر الأخير، كل يوم نكتشف المزيد من «ألغام» وهدايا الرجل لنا بخصوص النفوذ الإيراني، وكالة «رويترز» ذكرت أن موقع «واشنطن فري بيكون» كشف عن اتفاق «سري» آخر أبرمته إدارة باراك أوباما مع إيران يعرقل فرض عقوبات على «هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية» المتهمة بانتهاكات حقوق الإنسان.
وطبعاً لدينا صفقة «كاسندرا» الفاضحة التي تُتهم إدارة أوباما بها، وهي إيقاف التحقيق بخصوص أكبر شبكة اتجار بالمخدرات وغسل أموال لـ«حزب الله» اللبناني في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية! عشان عيون الاتفاق المقدس مع إيران.
بوضوح، مَن كان يلعب بالهامش الأوبامي مع إيران، لأن أميركا العظمى وقتها تحت قيادة السياسات الأوبامية الدافئة مع إيران، عليه أن يحدد موقفه بوضوح اليوم، سواء بأوروبا أو بلاد العرب.
يجب استيعاب الرسالة الأميركية الجديدة بخصوص إيران، وهي كما قال ترمب: «نعزز تحالفاتنا القديمة ونشكل أخرى جديدة».
حين يصبح «مكتوباً» على الولايات المتحدة وروسيا أن تتعايشا في ميدان عمليات واحد، كما الحال في سورية، فسيكون على بقية الأطراف الإقليمية أن تتحسس رؤوسها. يطلق وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون استراتيجية بلاده الجديدة في سورية، لكنه من داخل النص يقرأ السمات المتقدمة لسياسة بلاده الجديدة في الشرق الأوسط.
ووفق ما قدمه وزير الدفاع جيمس ماتيس مكملاً ما نفخ به زميله تيلرسون، فإن واشنطن تعود إلى المواجهة لوقف صعود صيني بات مقلقاً ولكبح جماح روسيا التي زينت سورية لها أمر ارتقائها نحو قمة العالم. يكشف رجال الديبلوماسية والدفاع في الولايات المتحدة أن ذلك النأي الذي مارسته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عن الانخراط الفعلي والفاعل في أزمة سورية، أتاح تقدماً لبكين وموسكو، وأن العودة إلى سورية هي الفيصل في استعادة زمام أمور زعامة الولايات المتحدة على العالم أجمع.
ربما في الأمر مفارقة. ذلك أن التحوّل الأميركي في الشرق الأوسط سريع الوتيرة انقلابي الخيارات تعوزه رصانة وثبات يليقان بالدولة العظمى في العالم.
فلا خيط عقلانياً يجمع بين قرار ترامب في شأن القدس ودعم الأكراد في سورية ومواجهة إيران وتعظيم التحالف مع دول الخليج. ولن نهضم نظريات تبيع حكمة من وراء ما هو ارتجالي انفعالي في خيارات واشنطن وتعتبرها واجهة لخطط جذرية متينة قادمة لإحلال السلم والعدل في المنطقة.
فجّرت واشنطن قنبلتها السورية فأصابت شظاياها أطرافاً قريبة وأخرى بعيدة جداً. ذلك أن تركيا كادت تعتبر الأمر عدواناً فيما رأت فيه موسكو تدخلاً غير شرعي وراحت طهران من خلال دمشق تهدد برد الاعتداء الغاشم. في الوقت ذاته صدر في باكستان والصين وأفغانستان والهند، ما جعل من «التفصيل» السوري حدثاً بيتياً له دلالات كبرى.
تدخل الولايات المتحدة إلى «عقــــر دار» روسيا وإيران، وهنا بيــــت القصيد. أسقطت واشنطن عقد الشراكة الملتبس الذي أبرم بين أوباما وفلاديمير بوتين. لم تكن شراكة بالمعنى الدقيق، بل كانت غضَّ طرفٍ أميركي يشبه الرعاية الكاملة لخطط سيّد الكرملين في هذا البلــــد. تمّ تقاسم الأدوار بين الدولتين، بحيث يبقى التنافر تقليدياً حول أوكـــرانيا على أن يكون تواطؤاً كاملاً في سورية. أوفى بوتين بقسطه من العقــــد، بأن أشرف على سحب سلاح النظام الكيماوي (الذي ثبت لاحقاً أنــــه لم يسحب) وسهر على صيانة أمــــن إسرائيل في سورية وراحت آلته العسكرية تحرق وتدمر على نحو لا تريد المنظومة الغربية التورط فيه، وسعى بدأب الى صناعة حلّ سوري يقي الغرب إرهاباً ومهاجرين.
تقادمت الشراكة السابقة بين واشنطن وموسكو في سورية. بات لواشنطن قواعدها العسكرية وطائرات مسيّرة تغير على قواعد روسية، وفق اتهامات موسكو. وبات على بوتين إعادة قراءة موقعه السوري وفق المعطى الأميركي الجديد. ومن تأمل ردود فعل روسيا منذ إطلاق تيلرسون «قنابله»، نستنتج حصافة عالية في مقاربة المستجد ودقة كبيرة في انتقاء صيغ التعبير. فبوتين متمرس في التحديق في ما هو بعيد، فيما الآخرون مستغرقون بالجلبة القريبة. يعرف الرجل أن أميركا تغيرت وأن عليه فقط تغيير شروط الشراكة.
على هذا ترتسم يوميات الخطط الأميركية في سورية، على إيقاع التحقيقات الداخلية الأميركية المتعلقة بمسؤولية روسيا في التلاعب بالانتخابات التي أتت بدونالد ترامب إلى البيت. وفي ضوء تقدم وتراجع التهم التي قد تكال إلى الكرملين والبيت الأبيض، ستتبدل وتتصّدع وتتعدّل سطور الشراكة الجديدة المفترضة بين موسكو وواشنطن في سورية. يدرك رجل روسيا القوي أن آستانة وسوتشي باتتا قرقعة لا مستقبل لها من دون رعاية أميركية كاملة. فواشنطن أعادت تأهيل جنيف من جديد بصفته المدخل الشرعي الوحيد لأي حل حقيقي في سورية.
لكن الحدث السوري بالنسبة إلى واشنطن يضاف إلى الحدث العراقي أيضاً ،من حيث العودة لتحدي إيران داخل مناطق لطالما اعتبرت ساقطة داخل نفوذها. يأتي التدبير الأميركي في سورية مكملاً لمسار أميركي عتيق أسس لعودة عسكرية وسياسية كاملة تحت مسوغ مكافحة تنظيم «داعش» في العراق. وفي الإعلان عن بقاء القوات الأميركية في سورية ما يأتي ملتحقاً بموقف ترامب من الاتفاق النووي، وربما تحضيراً لما تؤكد مراجع أميركية أنه عزم على الانسحاب من هذا الاتفاق على رغم تمسك الأوروبيين به. واللافت أيضاً، والذي يقلق طهران ويستفز داخلها البحث عن أدوات خلاقة للرد، أن المواجهة الأميركية لنفوذ إيران في المنطقة تأتي مباشرة بأدوات أميركية خالصة من دون المرور بالوكلاء والحلفاء في المنطقة. وكأن سياسة حافة الهاوية التي احترفتها إيران أضحت معتمدة في واشنطن أيضاً تستدرج الصدام.
قد تستفز سياسة واشنطن الجديدة في سورية الجميع، روسيا تركيا وإيران. لكن روسيا لن تصطدم مع واشنطن وكذلك لن تفعل تركيا، على رغم الصخب العسكري حول عفرين. فبين تلك البلدان حسابات دقيقة التي لا تتيح أن يتحوّل تناقض المصالح إلى مواجهة ميدانية. تعرف واشنطن ذلك، وهي في مقاربتها الهجومية تجذب الشركاء-الخصوم إلى تموضع آخر يفضي إلى توازنات جديدة. في المقابل، فإن طهران هي الوحيدة التي لها مصلحة في تقويض الوجود الأميركي في سورية كما فعلت سابقاً في العراق وأفغانستان.
ومع ذلك، فإن إيران التي اهتزت مدنها، على وقع التظاهرات الأخيرة والتي تراقب الزلزال القادم المتعلق بمستقبل الاتفاق النووي وتقلق من انفجار بنيوي داخلي على خلفية عدم القدرة على استشراف مستقبل النظام بعد خامنئي، لن تقوى على فتح جبهة إضافية ضد واشنطن لا من خلال «حرسها» الثوري ولا من طريق ميليشياتها التابعة. تعرف واشنطن ذلك، وتطلق في سورية عملية تقويض كبرى ضد إيران تنهل من حقد عتيق أحيا الأميركيون ذاكرته مؤخراً في نبش غريب لحدث عتيق تمّ ضد ثكنة المارينز في بيروت منذ أكثر من ثلاثة عقود.
يتخفف وفد المعارضة السورية من كل الشروط السابقة لحوارات الكيانات السياسية مع روسيا، الدولة الشريكة في صناعة المقتلة السورية. وعلى الرغم من أهمية ما يمكن أن ينتج عن الحوار المباشر مع دولةٍ شريكة للنظام في الحرب على الشعب السوري، إلا أن هذا الحوار كان يمكن أن ينتج من موقف كل من الجهتين المتحاورتين، أي الوفد باعتباره ممثلا عن المعارضة التي تتلقى حاضنتها الشعبية، بشكل دائم، صواريخ الجانب الروسي وقنابله، المقابل للمعارضة في الحوار في موسكو يومي الثلاثاء والأربعاء، والذي سبقته المعارضة ببيان يمكن أن تسميه روسيا "بيان اعتذار" أكثر منه بيان تصريح عن قبول "الدعوة" الموجهة إلى الوفد من الخارجية الروسية.
من المفيد أن يتابع الوفد نشاطاته بزيارات دولية لكسب التأييد الديبلوماسي للقضية السورية، بيد أن زيارة موسكو لا يمكن أن تقع ضمن سياق هذه الجهود، واعتبار البيان السابق لزيارة روسيا: "طرفاً معنياً بما يجري في سورية، وأحد رعاة العملية السياسية في جنيف، وضامنا أساسيا لمناطق خفض التصعيد"، حسب ماجاء في البيان الصادر عن هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية في 21 يناير/ كانون الثاني الجاري، من دون أي إشارة إلى شراكتها ومسؤوليتها عن الحرب الدائرة في سورية منذ تدخلها العسكري المعلن عام 2105، وفي وقت يتزامن فيه إصدار البيان مع قصف وحشي من روسيا على مناطق عديدة في سورية، ما يجعل من البيان ليس إعلانا، وإنما تصريحاً لاعتذار عن موقف المعارضة السابق من توصيف موسكو عدوا للثورة ومناصريها، ورسم صورة جديدة لروسيا في المشهد السوري، بما يتوافق والرغبة الروسية على ظاهر الحال.
إعادة ترتيب المعارضة استراتيجيتها في التعامل مع الأطراف المتصارعة في سورية، وعلى سورية، لا يمكن أن يتساوق مع فكرة تجاهل أن روسيا هي من رفعت الفيتو 11 مرة في وجه أي قرار يخدم أي تقدم في وقف المأساة السورية، ورفع الظلم عن السوريين ومحاسبة المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية، ما يعني أن الحوار مع الجانب الروسي، على الرغم من الاستعراض الشعبي الذي يحدث في المؤتمرات الصحافية، يجب أن يكون مفهوما من المعارضة، حتى ضمن محتوى بياناتها، أنه حوار مع خصم، وليس مع "معنيٍّ بما يجري في سورية"، فروسيا ليست فرنسا ولا ألمانيا، بل هي من تحوم طائراتها فوق المدن السورية محملةً بقنابل الموت والدمار. ومن هنا أهمية الحوار معها من أجل الطلب منها وقف عدوانها، والالتزام بالقرارات الدولية ذات الصلة بالصراع في سورية، وحتما ليس من أجل، كما ذكر البيان، "الوقوف على حقيقة الموقف الروسي تجاه العملية السياسية".
وأيضاً لا بد من القول إن المعارضة، بكل واقعية، بعد التخلي الأميركي عنها، لا تملك إلا السبل الدبلوماسية لمواجهة قوة عظمى مثل روسيا، ما يبرّر لوفد الهيئة مسعاها إلى الحصول على فرصة الحوار مع عدو للثورة، وأحد ضامني (مع إيران) تفوّق النظام في حربه الممتدة على مساحة سورية، لكن هذا المسعى لا يشترط تغيير المصطلحات والوظائف التي تتناسب وحقيقة الدور الروسي في المأساة السورية، وهو ما كان يمكن أن يعطي قوةً للوفد، وسبباً لوجوده في روسيا، قبيل تحضيراته لمباحثات فيينا تحت الرعاية الأممية، وقبل أيام من مؤتمر سوتشي الذي دعت إليه موسكو بغرض خلط الأوراق، وتمييع قضايا جوهرية، مثل مناقشة الدستور وقانون الانتخابات، وسط فوضى المدعويين، وبعيداً عن الشرعية الدولية.
تفيد هنا الإشارة إلى أن كل ما يدور اليوم من تعظيم لهالة "سوتشي"، وجعله مفصلياً في حياة المعارضة قد يصب جميعه في المصلحة الروسية التي قسمت الشارع: بين معارضين ومؤيدين من جهة، وبينه وبين القيادات المعارضة، على الرغم من أن تجاوز حضوره عبر الحوار مع روسيا مباشرة، والتعاطي معها وفق رؤيتها للحل في سورية، من خلال منحها متعة الانتصار معنوياً في جرّ المعارضة إلى حديقتها، في توقيتٍ متزامنٍ مع مذبحتها وما فرضته على نحو مائتي ألف سوري من تهجير قسري من إدلب، ومئات الضحايا في ريف دمشق، يوحي بأن المجتمع الدولي قد تخلى عن دعم المعارضة وتركها لمواجهة مصيرها مع روسيا وحلفها الجديد (إيران وتركيا)، على الرغم من إعلان المعارضة نجاحات الزيارات المكوكية لدول عديدة.
يمكن القول إن سلوك المعارضة السياسية ما قبل زيارة موسكو لن يكون كما بعدها، على الرغم من ترجيح عدم حضورها مجتمعة، مثل وفد الهيئة، مؤتمر سوتشي، وإبقاء الأمر منوطاً برأي كل مكون من مكونات وفد المعارضة، ما يتيح مرونة في التعبير عن رأي كل مكون بالحلول المقترحة، فبينما منصة موسكو لن تعارض، تكون منصة القاهرة صامتةً عن مشاركة أعضاء لها. ويبقى قرار الائتلاف الوطني في إسطنبول مرهوناً، حتى اللحظة الأخيرة، في ما يتعلق بحضور "سوتشي"، بقرار حليفته المضيفة له، وكذلك قرار الفصائل المسلحة الشريكة في مسار أستانة ومعركة عفرين، حيث يرتبط قرار أنقرة بحضور سوتشي بتفاهماتٍ عديدة، تتقاطع من خلال معركتها الدائرة في عفرين، حيث الموقف الروسي داخل أروقة مجلس الأمن سيكون المنعطف الحاسم في الطريق إلى سوتشي، وفي التوافقات على جدول أعماله، وأسماء المدعوين له.
ليس من باب التقليل من أهمية الاستراتيجية الجديدة للهيئة العليا للتفاوض، ولكن من باب التنبيه إلى أن الاعتراف بأخطاء سياسات الهيئة السابقة، عبر نسف محاذيرها في التعامل مع روسيا، وربما لاحقاً إيران، لا يعني بالضرورة أنه المسار الصحيح. ولكن قد يكون طرق الأبواب التي تعتمدها الهيئة الجديدة مجديا، في حال تسلحت بمشروعٍ وطنيٍّ فعليٍّ، وليس شعاراتيا، وتحدثت عن سورية كما أوردت في بيانها (سابق الذكر): "دولة ديمقراطية ذات نظام سياسي تعددي، دولة المواطنة المتساوية، وسيادة القانون"، من دون أن تنسى أن ضمن هذه الدولة مناطق تحت القصف، منها عفرين ومنبج وإدلب وريف دمشق وحماه.
بعد انتفاضة شعبية عمّت أرجاء إيران جاء آية الله خامنئي إلى الساحة ليقول كلمته في هذا الشأن، خصوصاً أن الشعارات المحورية في هذه المظاهرات كانت تستهدف شخصه بشدة قاسية، حيث إنه هو الآمر والناهي، وهو «العقل المدبّر» لنظام ولاية الفقيه، فمن المهمّ معرفة ما قال في هذا الخطاب الذي دون أدنى شكّ كان محصّلة مواقف نظامه حيال الشعب المنتفض.
كلّنا نعلم أن المسؤولين السياسيين الكبار عندما يتحدثون نصف ساعة، فليست الرسالة التي يريدون إيصالها سوى دقائق أو أسطر من الخطاب أو المقال. وعلى المرء أن يبحث عن هذه المحاور والمقاصد، وألا ينطلي عليه حجم المواضيع التي يطرحها.
لقد ركز المحور الأساسي في حديث خامنئي على «ثالوث» مزعوم كان في رأيه وراء الانتفاضة المذكورة، فسمّى بالجهر أميركا والمنافقين (مجاهدين خلق)، وعرف الثالث «عملاق المال في دول الخليج» قاصداً طبعاً المملكة العربية السعودية.
وعودة إلى ما كتبت عن ضرورة التركيز على المحور الرئيسي في الخطاب، فأعتقد أن ذكر الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية على لسانه لم يكن جاداً لأنه يعرف جيداً أن هاتين الدولتين ما كانتا خلف المظاهرات؛ لأن من المستحيل قيام مظاهرات شعبية في بلد كإيران بإيعاز من دولة أجنبية. لا أريد أن أقول: أن ليس لمواقف الدول تأثير على أحداث كهذه، خصوصاً إذا كانت هذه المواقف سلبية، كما شاهدنا عام 2009 ووقوف باراك أوباما مع خامنئي ومحمود أحمدي نجاد وضد مطالب الشعب الإيراني.
لكن بيت القصيد في خطاب خامنئي كان تركيزه على منظمة «مجاهدين خلق»، ودورها في هذه الانتفاضة. ويكفي نقل ما قال في هذا المجال حتى نعرف هذا التركيز. إنه قال: «كانوا جاهزين منذ أشهر. وسائل أنباء المنافقين اعترفت. هذه الأيام قالوا إنهم كانوا على اتصال بالأميركيين. وقاموا بالتنظيم ليلعبوا دور القوة الراجلة. أن يذهبوا لزيارة هذا وذاك. وحدّدوا أناساً في الداخل. وجدوهم ليساعدوهم. ثم وجّهوا الدعوة إلى الشعب. هؤلاء هم الذين وجّهوا النداء. رفعوا شعار (لا للغلاء). وهذا الشعار يرحّب به الجميع. هذا الشعار يجلب مجموعات. بعد ذلك هم دخلوا الساحة وتابعوا أهدافهم المشؤومة ويجرّون الناس وراءهم...».. وبهذا أعتقد أن خامنئي وضع نقطة نهاية للدعايات الغربية التي تصرّ على أن ليس هناك نفوذ لـ«مجاهدين خلق» داخل إيران.
خامنئي في حديثه أكّد على موضوعين أساسيين آخرين؛ الأول قوله بأن هذه الأحداث كانت مدبرة من الخارج، وهنا ردّ على التحليلات القائلة بأنها كانت عفوية. الثاني إيماؤه باستمرار الانتفاضة، حيث أشار إلى المنتفضين وقال: «عملاء الأعداء لن يتخلوا». وقال هذا في وقت أعلن فيه قبل أسبوع قائد قوات «الحرس» أن الانتفاضة قد انتهت، وكما أن روحاني أيضاً في مكالمته الهاتفية مع الرئيس الفرنس أكد له أن «هذه الاضطرابات ستنتهي بعد يومين».
وقبل أن أكمل التحليل أريد أن أضع النقاط على الحروف فيما يتعلّق بإشارته إلى الرئيس الأميركي، وأعتقد أن الكلام الذي قاله في الإساءة إلى الرئيس الأميركي إن دلّ على شيء فإنه لا يدلّ إلا على عدم تحكّمه في الأعصاب وفقدان السيطرة على النفس، لأن من المستحيل لزعيم دولة أياً كان إذا حظي برزانة عقل ومنطق وتوازن أن يعبّر عن رئيس دولة أخرى بهذه التعابير، ويصفه بـ«المعتوه». وبعبارة أخرى فإن فقدان التحكم بالنفس على قمة الهرم المؤسساتي ينبئ بزعزعة مقبلة داخل النظام كله.
عودة إلى التركيز على «مجاهدين خلق» ودورهم فيما حدث في الانتفاضة، فلا شكّ أن أبناء الشعب الإيراني عبّروا بأقسى العبارات عن إدانتهم السلطة السياسية القائمة جملة، لأن الشعب الإيراني يعيش في فقر مدقع، ولم يجنِ منذ زهاء أربعة عقود من هذا النظام سوى القمع والإعدام والتعذيب والإدمان والدعارة والفقر والغلاء والبطالة والحروب والإرهاب والفساد المتعدد الأشكال من الفقر والرشوة حتى تخريب البيئة و.... من مختلف المساوئ والويلات، فجاءوا إلى الشارع ليقولوا كفى! ويجب إنهاء هذه الحقبة السوداء من تاريخ بلد ينعم بمختلف الخيرات والثروات. والشعارات التي رفعها المواطنون في الشوارع في أكثر من مائة مدينة كانت الشعارات نفسها التي رفعتها المقاومة الإيرانية خلال هذه السنوات الطوال، ودفعت ثمناً باهظاً من أجلها. فدماء أكثر من مائة وعشرين ألف شخص أعدمهم النظام بسبب تمسّكهم بهذه المواقف كان قسطاً من هذا الثمن الباهظ. كما أن ثلاثين ألفاً منهم قضوا نحبهم خلال مجازر رهيبة عام 1988 بأمر مباشر من خميني، وبتنفيذ هؤلاء الذين هم في سدّة الحكم في الوقت الحالي. وهنا يلتقي أبناء الشعب مع المقاومة الإيرانية في المواقف والطموحات والشعارات.
وفي آخر المطاف لقد صدق آية الله خامنئي عندما قال: «إنهم دخلوا الساحة وجرّوا الناس وراءهم».
تحدث وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أمام مجموعة منتقاة من طلاب إحدى الجامعات الأميركية، وجزء من طاقمها التدريسي، عن استراتيجية جديدة لبلاده حيال الحرب في سورية. وكثف جزءاً من هذه الاستراتيجية بخمس نقاط، يتقدمها بند يتضمن وجوداً غير محدد المدة لقوات أميركية في سورية، وبرر ذلك بحرص أميركا على منع "داعش" من العودة. النقطة الثانية هي الوقوف في وجه النفوذ الإيراني "الخبيث" في المنطقة من أفغانستان وحتى لبنان. ووضعت هذه الاستراتيجية نصب أعينها الجهد الإنساني في سورية، وفي مناطق المعارضة، والحرص على عدم عودة أسلحة الدمار الشامل بأي شكل، وقبل ذلك كله حشدُ إمكانات السوريين كلها لإجبار بشار الأسد على التنحّي، وهو ما أكده تيلرسون، من دون أن ينسى أن يذكّر المتفائلين بأن المشوار طويل، وبأن لدى إدارته طاقة كبيرة على الصبر، ما يعني أن هذه الاستراتيجية لا تختلف كثيراً عما طبقته أميركا سابقاً، حين ساعدت في تشكيل ما عرف لاحقاً بكردستان العراق.
ارتفع الوجود العسكري الأميركي في سورية خلال الفترة السابقة من خمسمائة شخص، كانوا يعملون بصفة مدربين ومخابرات واستشاريين، إلى ما يقارب الألفي شخص. وتوزعوا جغرافيا بين الحدود الأردنية العراقية في منطقة التنف وعلى ضفاف الفرات قرب الرقة، وهو الوجود الذي ترغب الولايات المتحدة بتعزيزه، وسبق أن أعلنت رغبتها بتكوين جيش عديده ثلاثون ألف مقاتل، يقومون بحراسة الحدود التركية والعراقية مع سورية، ويمتدون على ضفاف الفرات الشرقية بمواجهة قوات النظام، مشكلين منطقةً واسعة ذات إمكانية تمويل ذاتي من الغذاء والوقود، عمادُها الأساسي قوات كردية، وهي الشريك الأساسي للوجود الأميركي.
ولكن، كيف يمكن لوجودٍ من هذا النوع أن يجعل استراتيجية الرئيس دونالد ترامب التي أذاعها تيلرسون قابلة للتحقيق؟ فالخطة تتطلب حشد الأكراد السوريين في منطقة محاطة بالمتوجسين من الأتراك والعراقيين والنظام السوري، ولدى كل طرف أكثر من سبب للوقوف ضد هذه القوة، وضد هذه الطريقة بالوجود، وبالتالي ضد هذه الاستراتيجية.
يطبق الروس واقعياً استراتيجية معاكسة تماماً، وفي المناطق المقابلة للمقاطعة التي يرغب الأميركان بتطويقها بقوات كردية، وهم يعملون جاهدين لإبقاء الأسد، ويختلقون مساراتٍ مختلفةً عن مسار الأمم المتحدة التفاوضي في جنيف، وقد كانوا اللاعب الوحيد. أما الآن، وفي ظل إعلان الاستراتيجية الأميركية، قد تتغير بعض عناصر اللعب وقواعده، فالخطة التي أعلن عنها تيلرسون تعاكس تماماً الخطة الروسية المطبقة عملياً على الأرض، وتشي بأنها موجهة بالأساس ضدهم، لكن الصبر الذي أكد عليه تيلرسون هو ما وضع حجر الأساس لنوع جديد من الحرب الباردة، وهو بهذا الخطاب يوجه خصمه الروسي، ليستعد لها، أما المعادل الواقعي للقواعد الروسية في حميميم وطرطوس، وتتزايد مساحتها ومحتوياتها، فسيتم إنشاء مقابل أميركي له، وعلى الجهة المقابلة للفرات، وأعمال الإنشاء قد بدأت بالفعل. وفي مقابل سورية التي يستفيد منها الروس جغرافياً واستراتيجياً هناك سورية سيستعملها الأميركان لإخماد النفوذ الروسي المتعاظم في المنطقة، وقد يكون حينها إخماد النفوذ الإيراني تحصيل حاصل.
إن استطاعت أميركا أن تثبت أقدامها في المساحة الجغرافية وراء نهر الفرات، علينا أن نتوقع فشل مؤتمر سوتشي، وكذلك مؤتمري جنيف وفيينا. وعلينا إعداد أنفسنا لمواجهةٍ سيكون نهر الفرات شاهداً عليها، حيث سيقف فيها السوريون مجدداً بمواجهة بعضهم بعضا، وبالرصاص الحي المستورد من مصانع السلاح في روسيا وأميركا، لمدى زمني غير معروف، كما قال تيلرسون، لأن معارك التراشق المتقطعة التي تتخللها مؤتمرات حوار كثيرة، تتغير بموجب الزمن، وبحسب السياسات، وبحسب نتائج الانتخابات، لكن المفيد في هذه الخطة أن مناطق السخونة ستقتصر على خطوط التماس، ما سيرفع من حرارة النهر، أو ربما يتسبب في جفافه النهائي.
يردد السوريون في هذه الأيام أسئلة متكررة مفادها بطاقة الحماية المؤقتة "الكمليك" وما يدور حولها.
وبعد حصولنا على معلومات من أصحاب القرار في هذا الشأن، وصلنا لمعلومات مفادها إغلاق خانة إسطنبول وأنطاليا نهائيًا بسبب وصول عدد السوريين للعدد المطلوب، وبذلك لا يحق لأي شخص الحصول على الكمليك أو الوثيقة.
ولكن يُسمح بالنقل في حال وجود فرع أو أصل أو زوج يقيم في إسطنبول، بعد الحصول على موافقة شعبة الأجانب بالنقل. وبذلك يعتبر أي استخراج للكمليك مرة ثانية ومن ولاية أخرى جريمة تزوير توصل صاحبها لعقوبتي الحبس والطرد.
وللفت النظر، لا يوجد بحسب قانون الحماية المؤقتة مصطلح كسر البصمة، وفي حال قام الموضوع تحت الحماية بتسليم الكمليك فإنه بذلك يكون قد تنازل عن حقه في الحماية المؤقتة، ولو غادر تركيا وقضى مدة العقوبة وعاد مرة أخرى.
وإلى الوقت الحاضر لا يحق لحامل الكمليك أو الوثيقة 99_98 التقدم للحصول على الإقامة السياحية، ويعتبر استصدار الإقامة لحاملي الكمليك تجاوز للقانون التركي مما يعرض فاعله للمساءلة القانونية.
ويلزم حامل الكمليك بأخذ إذن سفر من شعبة الأجانب في الولاية التي يعيش فيها في حال أراد السفر لزيارة ولاية أخرى. تحديث بيانات الكمليك والحصول على الكرت الجديد يتيح لصاحبه الحصول على إذن للعمل، ويؤهل صاحبه للترشح للحصول على الجنسية التركية الاستثنائية. التحديث شخصي ومن شعبة الأجانب حصرا.
وقد قامت إدارة الهجرة بفتح مركز للشكاوي ووعدت بفتح مركز آخر للتحديث مما يسهل عملية تحديث الكمليك وآلية الحصول عليها.
لم تكد تمضي أيام على تحديد روسيا، الموعد النهائي لمؤتمرها السوري، مؤتمر سوتشي للحوار الوطني، حتى أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إنها تعمل مع قوات سورية الديموقراطية، والتي يشكل عمودها الفقري الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، على تشكيل قوة حدودية جديدة قوامها 30 ألف مقاتل للانتشار على الحدود السورية مع تركيا شمالاً والعراق باتجاه الجنوب الشرقي وعلى طول وادي نهر الفرات.
لا يمكن النظر إلى الحدثين، الروسي والأمريكي، بعيداً من المتغيرات الدولية، والإقليمية، وحسابات كل من موسكو وواشنطن في إطار الاستعداد لمرحلة مابعد «داعش» على الأراضي السورية.
فمن ناحية تخطط موسكو ليكون مؤتمرها المرتقب أحد أهم مسارات الحل السياسي البديل لكل ما سبقه من مؤتمرات ولقاءات، ويكون سوتشي عوضاً عن كل المنصات السابقة التي يلتقي في كل منها مجموعة معارضة، مع فارق أن سوتشي وفق الرؤية الروسية سيضم كل الأطراف المعارضة منها والمؤيدة.
على رغم التدخل العسكري الروسي القوي في سورية طوال العامين السابقين، إلا أن روسيا ما زالت تفتقر إلى تفعيل أي دور سياسي قوي، وباتت تواجه تحدياً من نوع آخر هذه المرة، سياسياً وليس عسكرياً، من هذه الزاوية تعاونت موسكو مع دول إقليمية في المنطقة بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف.
موسكو استفادت استفادة كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخل في شكل واضح في سورية، وضبابية موقفها حيال المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، لذلك نلاحظ أن كل المحادثات الدولية والإقليمية التي تبحث الملف السوري هي بمبادرات روسية، من جنيف إلى آستانة مروراً (بميونيخ وفيينا لم يكتب لها الاستمرار) والآن وصولاً إلى سوتشي حيث تنتظر موسكو «موسم حصادها» .
فيما واشنطن التي اختارت هذا التوقيت أي بعد انتهاء الحرب على «داعش»، كونها ترى أنه حان وقت الحصاد وتريد أن تبلور نتائج دعمها وشرعنة المجموعات التي دعمتها على الأراضي السورية، بتشكيل قوة تحت مسمى جديد لإخفاء ماضي ووجه القوة السابقة، إلا أنه غاب عنها أن ذلك سيزيد من تقارب الأطراف الباقية المتشابكة في سورية.
وتريد واشنطن من هذه التوليفة الجديدة التي باغتت فيها أنقرة وتجنبت مشورتها – كون تركيا هي المستهدف التالي بهذا المشروع بعد سورية – شرعنة مشروعها وحماية المكتسبات والأراضي التي ورثتها عن تنظيم «داعش»، لتقوم لاحقاً بإجبار بقية الأطراف على دعوة ممثلين عن التشكيل الجديد إلى طاولة جنيف باعتبار أنه يسيطر على جزء كبير من الأراضي السورية، فحتى اليوم هذا التشكيل لا يمتلك أي شرعية، ودعم الولايات المتحدة له لمحاربة «داعش» لا يعطيه أي صفة قانونية على أراضي الجمهورية العربية السورية، إضافة إلى أنه وفق الرؤية التركية- السورية لا يختلف عن بقية التنظيمات الإرهابية التي انتشرت على الأراضي السورية.
عولت أمريكا طويلاً على عامل الوقت في سورية، لخلق واقع جديد، فواشنطن لا تعنيها المعارضة السورية ولا النظام، كما لا يهمها محادثات جنيف ولا محادثات آستانة، ما تريده واشنطن، ألا يعرقل أحد مشروعها، لو كانت جنيف تعنيها لرأينا أفعالاً وليس فقط أقوالاً، فلم يعد يخفى على أحد أن المسؤولين الأميركيين مع كل جولة من محادثات جنيف يبدأون بإطلاق الفقاعات الإعلامية بانهم يدعمون هذا المسار بينما على أرض الواقع وفي الساحة السورية يقومون بأمور لا علاقة لها بهذا المسار، وكذلك في محادثات آستانة التي جمعت الأطراف صاحبة الكلمة الحقيقية على الأرض السورية روسيا تركيا إيران والطرفين السوريين «النظام والفصائل العسكرية المعارضة»، إلا أن واشنطن اختارت صفة المراقب «المتفرج»، في هذا المسار، واليوم حان وقت الجني والاستثمار، رامية بوعودها وتطميناتها السابقة لتركيا عرض الحائط.
صحيح أن واشنطن تراجعت في تصريحاتها، عن تشكيل جيش من قوات «سورية الديموقراطية»، وذلك في تصريحات لوزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، الذي قال إنه لا توجد نية لدى الولايات المتحدة في «إنشاء قوة تنتشر على الحدود بين سورية وتركيا»، معتبراً أن المسألة التي أغضبت أنقرة لم تُطرح بالطريقة الملائمة، وشدد تيلرسون في نفيه وجود نية لتشكيل القوة من المسلحين الأكراد في سورية، وقال إنه من «المؤسف أن التصريحات التي أدلى بها البعض خلفت هذا الانطباع»، إلا أن ذلك لم يبدد قلق تركيا وهي ترى التنظيم الذي تحاربه منذ الثمانينات يحظى برعاية حليفها الإستراتيجي، ويتمدد على طول حدودها داخل الأراضي السورية بمسمى وغطاء جديدين، وأعلنت أنها ستنسق مع موسكو وطهران في عمليتها العسكرية المقبلة وعلى وجه الخصوص في عفرين.
من الواضح أن تركيا جادة في تهديداتها ولن تتوانى عن ضرب الأهداف التي تهدد أمنها القومي، بخاصة أن تلك المجموعات، إضافة للمجموعات الجديدة التي تنوي واشنطن تشكيلها، موجودة في منطقة جغرافية بالغة الأهمية الإستراتيجة، لكن الصدام الأميركي– التركي أمر مستبعد، إلا أن التوتر سيزداد بين أنقرة وواشنطن، فالدولتان من بين أعضاء الـ «ناتو» وأصحاب التأثير فيه وأي خلل جدي بينهما قد يؤدي إلى الإطاحة بكامل الحلف، وهو ما يسعد موسكو.
المقال التالي لم أكتبه أمس، بل كتبه في السادس من سبتمبر أيلول عام ألفين وأربعة عشر، أي قبل أكثر من ثلاث سنوات. وتساءلت فيه وقتها: هل داعش حركة جهادية تريد تحرير المنطقة من الغزاة والطغاة، أم هو مجرد مخلب قط بيد قوى كثيرة لاستباحة المنطقة والسيطرة عليها بشكل مباشر بحجة محاربة الإرهاب والتطرف؟ الماء يكذّب الغطّاس يقول المثل الشعبي. وما كنا نخشاه من أن تكون داعش وأخواتها أشبه بحصان طروادة قبل سنوات يتحقق الآن على أرض الواقع بشكل فاقع، خاصة بعد التصريحات الأمريكية المفضوحة بأن أمريكا ستحافظ على قواعد عسكرية دائمة في سوريا بحجة مواجهة الإرهاب والحليلولة دون عودة داعش إلى الساحة بقوتها القديمة.
ذاب الثلج وبان المرج. وقبل الأمريكيين بأسابيع خرج علينا الروس والإيرانيون وتفاخروا بانتصارهم على الدواعش، والهدف طبعاً من مثل هذه التصريحات تبرير بقائهم في سوريا أيضاً بحجة منع ظهور المتطرفين والتكفيريين مجدداً، مع العلم أن الهدف الرئيسي لكل القوى التي تتذرع بمحاربة داعش وأخواتها في سوريا هو تبرير سيطرتها بشكل مباشر على سوريا وغيرها. وبناء على هذه الحقائق الدامغة الآن تعالوا نقرأ ما كتبته قبل أكثر من ثلاثة أعوام حول هذا الموضوع.
كم كان وزير الدفاع الإسرائيلي الشهير موشي ديان على حق عندما قال قولته المشهورة: «العرب أمة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تفعل»! ونحن نقول كم ذاكرتنا العربية والإسلامية قصيرة كذاكرة السمكة، فسرعان ما ننسى لنقع في نفس الأشراك التي لم نكد نخرج منها بعد. لماذا نكرر ببغائياً القول الشريف: «لا يـُلدغ المؤمن من جُحر مرتين»، ثم نسمح لنفس الأفعى أن تلدغنا من نفس الجُحر مرات ومرات؟
لماذا لم يتعلم الإسلاميون من تجربتهم المريرة في أفغانستان؟ ألم تخدعهم أمريكا بالتطوع في معركتها التاريخية للقتال ضد السوفيات ليكونوا وقوداً لها، ثم راحت تجتثهم عن بكرة أبيهم بعدما انتهت مهمتهم وصلاحيتهم، وتلاحقهم في كل ربوع الدنيا، وكأنهم رجس من عمل الشيطان، فاقتلعوه؟
ألم تعدهم أمريكا بالدولة الإسلامية الفاضلة التي ظنوا أنهم يسعون إليها في أفغانستان دون أن يعلموا أنهم كانوا مجرد أدوات لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ بالأمس القريب صفق الكثيرون لتنظيم القاعدة، واعتبروا قائده محرراً للمسلمين من ربقة الطغيان الداخلي والخارجي. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تبين أن ذلك التنظيم وغيره، بغض النظر عن تطلعاته وأهدافه وطموحاته وشعاراته، تبين أنه كان مجرد حصان طروادة حقق الذين استغلوه الكثير من أهدافهم من خلاله. وما أن انتهى دوره حتى لاحقوه في كل بقاع الدنيا، لا بل وضعوا من ألقوا القبض عليهم من أفراد التنظيم في أبشع معسكر اعتقال في العالم ألا وهو «غوانتانامو». لماذا يكررون نفس الغلطة الآن، علماً أن الكثير من رفاقهم ما زالوا يقبعون في معتقل غوانتنامو، وينعمون بحسن ضيافة الجلادين الأمريكيين؟
ربما يقول البعض إن وضع «داعش» الآن يختلف عن وضع القاعدة أيام زمان. ولا مجال للمقارنة، فداعش سليلة تنظيم الزرقاوي الذي ترعرع في العراق وأذاق الأمريكيين وأعوانهم الكثير من الويلات، مما حدا بالأمريكيين إلى تصنيع ما يسمى بـ«الصحوات» لمواجهة تنظيم الزرقاوي. وهذا صحيح، لكن العبرة دائماً بالنتائج وبالمستفيد. ماذا استفادت المنطقة، وخاصة العراق من ذلك التنظيم. هل تراجع النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق مثلاً؟ بالطبع لا. فما زالت إيران التي يدعي التنظيم أنه يعاديها تتحكم بكل مفاصل العراق وتتمدد في سوريا ولبنان واليمن والخليج. ومازالت أمريكا تحكم قبضتها على بلاد الرافدين.
والسؤال الأهم: هل فعلاً دخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى العراق من سوريا واحتل محافظة الموصل ومحافظات عراقية أخرى رغماً عن الأمريكيين، أم بتسهيل وغض الطرف منهم؟ ألم تكتشف الأقمار الصناعية الأمريكية بضع عربات روسية دخلت أوكرانيا بسرعة البرق؟ هل يعقل أن تلك الأقمار لم تستطع اكتشاف جحافل السيارات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية وهي تدخل الموصل وبقية المناطق العراقية؟ هل يعقل أنها لا ترى جماعات الدولة وهي تتنقل داخل سوريا، وتستولي على مدن ومطارات في أرض مكشوفة؟ صحيح أن الطائرات الأمريكية قصفت بعض مناطق داعش في العراق، لكن ليس كل المناطق، بل فقط المناطق التي تجاوزت فيها داعش الخط الأحمر المرسوم لها أمريكياً، وخاصة عندما توغلت باتجاه كردستان العراق حيث المصالح الأمريكية والاسرائيلية ولا ننسى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تؤكد أن الروس كانوا يقصفون كل الفصائل في سوريا باستثناء داعش، إلا من رحم ربي.
هل سيسمح العالم، وخاصة الغرب بقيام دولة داعشية بين العراق وسوريا بالطريقة التي تحلم بها داعش؟ ألا يُخشى أن يكون ظهور داعش وتمددها حلقة جديدة في سلسلة المشاريع الجهنمية الغربية المرسومة لمنطقتنا؟ أليس من حق البعض أن يعتبرها مسمار جحا جديداً في المنطقة تستخدمها القوى الدولية كحجة، كما استخدم جحا مسماره الشهير، لإعادة رسم الخرائط وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟
أليس كل الجماعات التي يصفها العالم بـ»الإرهابية» استغلتها القوى الكبرى أفضل استغلال لتنفيذ مشاريعها في أكثر من مكان؟ فعندما أرادت أمريكا تأمين منطقة بحر قزوين الغنية بالنفط، فكان لا بد لها من احتلال أفغانستان. وماذا كانت الحجة؟ ملاحقة تنظيم القاعدة في أفغانستان. ذهبوا إلى هناك منذ أكثر من عشر سنوات ومازالوا هناك. ألم تكن القاعدة هي الشماعة لاحتلال أفغانستان؟ حتى في غزو العراق استخدمت أمريكا حجة وجود القاعدة هناك بالإضافة إلى أسلحة الدمار الشامل. ألم تصبح الجماعات المتطرفة شماعة لكل من يريد أن ينفذ مآربه هنا وهناك؟
ألم يوظفوا تلك الحركات جيداً لتحقيق غاياتهم الاستراتيجية؟ فبحجة الجماعات الإرهابية أصبحت كل منطقتنا مستباحة أمام القاصي والداني كي ينفذ كل ما يريد بحجة مكافحة الإرهاب؟ اليوم بإمكان الأنظمة الدولية القيام بكل الجرائم و الموبقات والخطط في المنطقة بحجة محاربة داعش، وبذلك تلقى دعماً كاملاً من شعوبها خوفاً من داعش، ولن يعارض أحد، لأن كل من يعترض يشتبه بصلته بداعش وبالإرهاب. وحتى لو بقيت الدولة الإسلامية، وتمددت كما يتوعد مؤيدوها، هل سيكون ذلك مجاناً، أم على حساب جغرافية المنطقة وخريطتها؟
ما هي الصفقات الدولية والعربية والإقليمية التي تتم من وراء الستار تحت شعار مكافحة إرهاب داعش؟ ألا يخشى أنه كلما ازداد تضخيم داعش إعلامياً كانت المنطقة على موعد مع خازوق تاريخي من العيار الثقيل؟ ألم يتم من قبل تضخيم خطر القاعدة، ثم انتهى قائدها مرمياً في البحر للأسماك؟ أليس من حق الكثيرين أن يخشوا الآن من تكرار السيناريو المعهود في سوريا ودول أخرى مجاورة تحت حجة مكافحة الإرهاب الداعشي؟ ألم يؤد ظهور داعش وأخواتها في عموم المنطقة إلى وأد الثورات العربية وأحلام الشعوب بالتحرر من الطغاة وكفلائهم في الخارج؟ ألا يؤدي إلى إنهاك المنطقة وشعوبها واستنزافها؟ هل تعلم تلك الجماعات أنها مجرد مسمار؟ هل التاريخ يعيد نفسه بطريقة فاقعة، ونحن نصفق كالبلهاء؟
وأخيراً أسألكم بعد قراءة هذا المقال المكتوب قبل أكثر من ثلاث سنوات: ألم يحدث كل ما توقعناه وكنا نخشاه؟
المشهد في سوريا يتغير بسرعة قياسية. الخطوات الأميركية دلَّت على ملامح سياسة أميركية جديدة، أكثر من اهتمام آنيّ، أقل من رؤيا شاملة. إنه مشروع إدارة ترمب في التنفيذ. المسرح الحقيقي سوريا، والهدف الأبرز تحجيم نفوذ النظام الإيراني، والحل السياسي في سوريا ممرّ إجباري لتحقيق الغاية التي حددتها واشنطن.
من البداية، قالت الإدارة الأميركية إن طهران هي المسؤولة عن زعزعة استقرار بلدان المنطقة، وأكدت أن سنوات التفاوض على الاتفاق النووي معطوفة على شكل وتوقيت الانسحاب الأميركي من العراق، تركت الباب مفتوحاً أمام طهران لملء الفراغ، والتوسُّع، وممارسة كل أشكال التدخل والقمع لترسيخ سيطرتها، من حروب مباشرة أو بالوكالة، عبر ميليشيات متطرِّفة استُقدِمَت من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، تركت خلفها الخراب العميم والاقتلاع المبرمَج والتهجير الواسع إلى عمليات تغيير ديموغرافي غير مسبوقة.
قبل الاتفاق الأميركي - الروسي بشأن الجنوب السوري وبعده، كان هناك حديث أميركي صريح عن إبعاد ميليشيات الحرس الثوري، ودعوة موسكو لتحجيم نفوذ طهران، ودورها في سوريا، وتكرر الأمر مع توزيع الشرق السوري في المعركة ضد «داعش» بين شرق الفرات وغربه، ومطالَبة أميركية للروس بمنع تقدُّم الميليشيات الإيرانية، لكن شيئاً من ذلك لم يتمّ، وشهد العالم جنرال الحرس الثوري قاسم سليماني يستعرض في البوكمال بعد دير الزور.
ومن «آستانة»، والتعهدات التي أطلقتها موسكو بشأن مناطق «خفض التصعيد» ولم تلتزم بها، مضت روسيا في مشروع مؤتمر «سوتشي» لإملاء «حلٍّ» يرتكز على موازين القوى الراهنة على الأرض، يضمن مصالحها، ويبقى على رأس النظام السوري، أقله إلى حين إبرام سوريا، بعد التسوية الجديدة، كل الاتفاقات المتعلقة بالثروات السورية وخطوط النقل، التي يُراد منها ضخُّ الأموال في خزائن الكرملين. هل هي قراءة متسرعة لموقف واشنطن؟ أو سوء تقدير روسي لحجم الانتصار؟ خصوصاً أن موسكو تهيمن مع حلفائها على نحو 55 في المائة من سوريا، فيما تهيمن أميركا مع حلفائها على نحو 30 في المائة، وهل أقنعت روسيا نفسها بأن التقدُّم الميداني يمكّنها من تقديم حلٍ معلّب في «سوتشي»، بتجاهل كلي لحقيقة التوازنات ومطالب السوريين، وعدم الإقرار بدور حقيقي لممثلي الثورة السورية؟
قبل أن يعلن وزير الخارجية الأميركي تيلرسون أن الوجود العسكري لبلاده مستمر في شرق سوريا وشمالها حتى تحقيق خمسة أهداف، أبرزها: حل الصراع السوري سياسياً بإشراف الأمم المتحدة، ووفق القرار الدولي 2254، ومن دون الأسد، وإنهاء النفوذ الإيراني حتى يصبح جيران سوريا في أمان، إلى عودة كل اللاجئين السوريين، ودون ذلك لا دعم لإعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري... قبل تحديد هذه الملامح للسياسة الأميركية، كانت واشنطن تشهد أحداثاً متتالية، من مباحثات عسكرية مع وفد من الجيش السوري الحر، ولقاءات مع وفد الهيئة العليا للتفاوض، إلى الاجتماع الخماسي في واشنطن بمشاركة فرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن، والإعلان أن أميركا تُعِدُّ ورقة عمل لتصور الحل السياسي في سوريا. وترافَقَ كلّ ذلك مع تأكيد أميركي على تدريب وتجهيز قوة عسكرية من 30 ألف مقاتل مناصفةً بين الأكراد والعرب تنتشر للفصل بين منطقة النفوذ الأميركي والمناطق الأخرى، وتشمل كل الحدود مع العراق حتى قاعدة التنف، أي جنوب معبر البوكمال، بما يعني منع النظام الإيراني من إقامة جسر بري حتى المتوسط.
الخطوات السياسية تلاحقت، ومثلها تسريع عملية التسليح، وما نفاه تيلرسون هو بناء جيش سوري جديد فقط. كل ذلك يعني سياسةً أميركيةً جديدةً تستند إلى وجود ميداني وتحالفات جديدها مع فصائل من الجيش الحر، وإطلاق دينامية دولية - عربية تتقاطع مع الثورة السورية، مقابل الدينامية الروسية الإقليمية التي باتت تفتقر لانسجام حقيقي، مع تزايد الشكوك التركية حيناً، والإيرانية في أحيان كثيرة، في النيات الروسية.
ينعقد «سوتشي»، نهاية الشهر، أو لا ينعقد، لم يعد قصةً كبيرةً، بل إنه يترنح وتحوَّل إلى لقاء بين الروس وأتباعهم، وبالتالي روسيا صاحبة الصوت الأعلى في سوريا عاجزة عن إرساء التسوية، وستكون عاجزة أكثر عن ترجمة ما حققته في الميدان من مكاسب سياسية، ولا يبدو أن نهجها سيمنحها القدرة على فهم سليم للشفرة السورية، ومأزقها يكمن في أنه لن يكون هناك «ستاتيكو» في مصلحتها، وتدرك أن جيش الأسد العاجز عن تأمين محيط «حميميم» لن ينجح في ديمومة السيطرة على المناطق التي تم استرجاعها.
خلف الضجيج المضحك للنظام السوري وموسكو وطهران من أن الأميركيين يخرقون «السيادة» السورية (...)، كانت للمواقف الأميركية دلالات كبيرة، عندما يتم التأكيد على مسؤولية نظام الأسد عن خَلْق «داعش»، وعندما توضع موسكو أمام المسؤولية من أن تدخلها وفَّر التغطية لممارسات التطهير العرقي، واستخدام الفيتو 10 مرات وفّر الغطاء لممارسات وحشية ضد السوريين من جانب النظام والحاضنة الإيرانية، حتى إنه تم استخدام غاز الكلور أخيراً ضد الصامدين في الغوطة الشرقية، ما يعني أنه على موسكو أن تضع مصالحها على الطاولة، وتُوازِن بين الممكن أن تنتزِعَه، أو انتظار بدء فصل جديد من الصراع على سوريا أغلب الظن أنه لن يتأخر، والأرض جاهزة لتجدد الحريق، ولا خطوط نفوذٍ مُكرَّسة بعد.
يبقى أن طهران التي تنفق على حربها ضد الشعب السوري نحو 10 مليارات دولار سنوياً على أقل تقدير، تعتبر وجودها في سوريا درَّة التاج في مشروعها الإمبراطوري، ومراراً كان خامنئي يعلن: «لن نترك سوريا أبداً»... فإن الخطوات الأميركية تكشف عن حاجة البيت الأبيض الماسّة للنجاح في سوريا لتوظيفه في الداخل الأميركي، واهتزاز النفوذ الإيراني لن يقتصر على دور طهران في سوريا، بل في كل المنطقة، لا سيما في العراق وفي لبنان، رغم خصوصية «الحشد الشعبي» في العراق و«حزب الله» في لبنان.
رغم كثرة الانتقادات الموجهة لسياسة الإدارة الأميركية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، فإنه يجب أن نعترف أنها أكثر وضوحاً والتزاماً من السياسات السابقة. وقد اختارت سوريا لتكون مركز اختبار استراتيجيتها الجديدة في مواجهة «داعش» وروسيا وإيران؛ لكن لا ندري إن كانت قادرة على إكمال الطريق الذي رسمته وأعلنت عنه أخيراً.
بانهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات انتهت الحرب الباردة، ولم تعد هناك سياسات أميركية خارجية سوى مواجهة الإرهاب. صارت السياسة ردود فعل على هجمات سبتمبر (أيلول) 2001، للرد على الجماعات الإرهابية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا. ودامت تلك المرحلة عقداً ونصف عقد من الزمن.
الآن، في سوريا وأوكرانيا وإيران، وبدرجة أقل في شبه الجزيرة الكورية، نرى ملامح مواجهات بين واشنطن وموسكو. هذا التنازع بين القوتين الروسية والأميركية يعيد للأذهان حالة الحرب الباردة، وجرى التأكيد عليها الأسبوع الماضي في كلمة وزير الخارجية الأميركي عن الاستراتيجية الجديدة لبلاده، أنها تعتمد بشكل أساسي مواجهة القوى المنافسة، روسيا بدرجة أساسية، والصين بدرجة أقل.
تحت إدارة دونالد ترمب اختلفت سياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي سوريا والعراق تحديداً. فقد قررت الوقوف في وجه الوجود الروسي وكذلك حليفه الإيراني، وكذلك مواجهة تنظيم داعش. واختارت الولايات المتحدة سوريا كأرض للمعركة التي أصبحت معقدة جداً، نتيجة تعدد القوى المنخرطة في الأزمة هناك.
ومع تبني واشنطن سياسة واضحة للمرة الأولى، أتوقع أنها ستفرز إشكالات جديدة لم تكن موجودة سابقاً، من بينها أن واشنطن ستتوقع من حلفائها دعم سياستها والعودة إلى سياسة الأحلاف القديمة. وسيبدأ فرز المواقف من الأزمة السورية، ثم ينسحب لاحقاً على القضايا الإقليمية الكبرى، مثل التعامل مع إيران. تركيا، التي هي عضو في حلف «الناتو» وتاريخياً جزء من منظومة الحلف الأميركي، تحاول اللعب على حبال الأزمة، حتى جاءت معركة عفرين التي وضعتها في مواجهة مع إيران وروسيا ونظام دمشق. وبالتالي ستجد تركيا، وكذلك بقية دول المنطقة، أن خياراتها تضيق مع الوقت. فهل ستتحالف مع واشنطن في سوريا أم مع موسكو؟
الأميركيون تخلوا عن سياسة العام الماضي بالتعاون مع الروس في سوريا، وتبنوا سياسة جديدة تقوم على مواجهتهم عبر الوكلاء والأحلاف الإقليمية. موسكو سبقت واشنطن في تبني هذه السياسة، فهي تستخدم الإيرانيين ووكلاءهم من ميليشيات لبنانية وعراقية وغيرها للقتال على الأرض. في المقابل يستخدم الأميركيون على الأرض ميليشيات كردية سورية، مع فلول «الجيش الحر» السوري، في منطقة شرق الفرات. أصبح التوجه الأميركي الجديد يقوم على إفشال المشروع الروسي الإيراني في سوريا، وإحباط محاولات «داعش» للعودة بعد إسقاط «دولة الخلافة» في الرقة.
ومن حسن حظنا في المنطقة، أن صناع القرار في واشنطن استيقظوا أخيراً إلى الخطر الذي تشكله التحولات الجديدة في سوريا، وهم ضد ما تفعله إيران أيضاً في العراق. وحتى لو لم ترقَ الأمور إلى درجة المواجهات العسكرية هناك، فإن تبني سياسة عدائية يكفي لرفع كلفة الحرب على النظام الإيراني، وسيجعل قدرته على الهيمنة على المنطقة بعيدة الاحتمال اليوم.
بعد إسقاط حلب بيد الإيرانيين والروس ومرتزقة الأسد، وسقوط الخيار الجهادي المتأسلم وأوهامه حول فرص إقامة نظام ديني في سورية، بدت الفرصة متاحةً لاستعادة رهان الثورة الأول، الذي جعلت تحقيقه هدفها الرئيس، وهو إسقاط النظام الأسدي، وبناء نظام ديمقراطي هو بديله الحتمي والوحيد.
قبل سقوط حلب، كان واضحا أن الثورة غير الجهاد، وأن مشروعها نقيض مشروعه، وانتصاره لن يحقق أهدافها التي هتف لها ملايين السوريين، عندما طالبوا بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية لكل سوري، من دون النظر إلى دينه أو معتقده أو انتمائه أو عرقه أو منبته الاجتماعي... إلخ، بينما أعلن الجهاديون أن مشروعهم هو لأهل السنة والجماعة دون غيرهم، وليس لعموم المسلمين، أو لأتباع الأديان الأخرى، وقالوا إن الحرية كفر والديمقراطية بدعة، في موقفٍ توافق توافقا فاضحا مع مواقف النظام من الثورة وأهدافها.
... واليوم، وبعد ما جرى الأسبوعين الفائتين في ريفي حلب الجنوبي وإدلب، حيث سلم تنظيم القاعدة في بلاد الشام مئات القرى من دون قتال إلى إيران والأسد، وتسبب في هجرة نيف ومائتي ألف مواطن من قرارهم وبلداتهم، يتضح بأدلة لا سبيل إلى دحضها أن الجهاد لم يعد فقط مشروعا مناقضا لمشروع الثورة، بل صار مقتلها، وأن قادته، من أمثال الجولاني، يتحدثون بظاهر لسانهم عن إسقاط الأسد وإقامة حكم الله، بينما يوقفون أفعالهم على استكمال معركة القضاء التام والناجز على ما تبقى من الثورة والسوريين.
وكانت جبهة النصرة قد أظهرت بطولات نادرة حقا في حربها ضد سبعة عشر فصيلا من الجيش الحر، قضت عليها بالتتابع خلال العامين الماضيين، وقتلت مقاتليها أو سجنتهم، وصادرت سلاحهم، ولاحقت من نجوا منهم، وقضت كذلك خلال يومين على حركة كبيرة هي "أحرار الشام"، واستولت على سلاحها، وقتلت وأسرت مئات من منتسبيها. وحين انفردت، أخيرا، بمنطقتي إدلب وجنوب حلب، عقدت "مؤتمرا وطنيا" في سياق سعيها إلى بناء إمارة إسلامية تشبه دولة البغدادي، ولكن بطرقها الالتفافية/ الاحتيالية التي دفعتها إلى تشكيل "حكومة إنقاذ"، سرعان ما بادرت إلى إنقاذ تلامذة المدارس وطلاب الجامعات من العلم، وأغلقت مدارسهم وجامعاتهم، واعتقلت عددا منهم، قبل أن تلغي المجالس المحلية المنتخبة، وتستولى على مكاتبها، وما في مخازنها من مواد غذائية وأدوية للسكان.
وشنت جبهة النصرة هجمات على ريف حماة الشمالي، قتل خلالها مئات من عناصرها، فيما كان عليها اتخاذ موقف دفاعي، يعد إدلب وجوارها لصد هجوم كبير، حين وقع، بادرت إلى إخلاء مناطق شاسعة من دون قتال، تطبيقا لمقرّرات أستانة التي هاجمها الجولاني، واتهم من توصل إليها بالخيانة، لاعتقاده بسذاجة أن كلماته يمكن أن تغطي انفراده بتنفيذ ما تقرّر في أستانة بشأن منطقة خفض التصعيد الرابعة (إدلب وجوارها). والآن، إذا ما تذكرنا أن مساحة المنطقة التي سلمها تربو على أربعمائة كيلومتر مربع، أدركنا المدى الذي بلغه التناقض بين جهاده والثورة. ولماذا استمات الأسد والإيرانيون والروس لفبركة تنظيمات جهادية، منها تنظيمه الذي ما أن أخذ موطئ قدم في سورية حتى شرع يحارب الثوار، وصولا إلى انفراده شبه التام، بما بقي من مناطق محرّرة شمال سورية، حيث تأكد لمن كان لا يصدق أن هدف الجهاد هو خنق الثورة وقتلها، ومنع انتصارها. ولو كان من الثورة لما تخلى عما حرّرته من أراض وبنته من مؤسسات، وأن على السوريين أن يختاروا من الآن بين جهاده والثورة، بعد أن انتفت الشكوك بشأن توافقهما، وتأكد لكل من يريد أن يفتح عينيه أنهما نقيضان، ولا يمكن لأحدهما أن يتعايش بعد إدلب مع الآخر.
واليوم، صار من الضروي أن يتخلى السوريون عن تنظيماته التي أوقفت "جهادها" على ذبح الثوريين، وأن يرتبط مصير سورية بالانحياز إلى الثورة ضد مشبوهين، لا يعرف أحد هويتهم الحقيقية، تكشف أخيرا أن عددا من كبار قادتهم عملاء لواشنطن وموسكو وطهران والأسد، وأن من دعمهم أوصلهم إلى مواقعهم المفصلية، ليسهموا في القضاء على الثورة، وينتزعوا منها ما حرّرته من أرض الوطن بأغلى التضحيات، تمهيدا لإعادتها إلى النظام، كما فعل الجولاني، فهل من المقبول أو المعقول أن يدعم أحد بعد اليوم جهادا يعادي الشعب السوري وحريته، لم يتردد يوما في التآمر عليهما مع الأسد وإيران.
أيها السوريون، إناثا وذكورا، أنقذوا ثورتكم.
هل يمكن أن يعود الوئام للسوريين بعد أن تخمد نار الحرب، بل الحروب التي تشتعل بجسد سوريا وروحها؟
هل يمكن تجاوز خنادق الكره وصدوع الحقد العميقة، بعد أكثر من 6 سنوات من أبشع حرب أهلية يشهدها العالم حالياً، وليس فقط العالم العربي؟
كيف يتعالى السني الحلبي والحمصي والحموي والإدلبي وأهالي مضايا والزبداني وجوبر ومخيم اليرموك وأسر حوران، من فظاعات قوات بشار وميليشيات نصر الله وحرس خامنئي، ومجرمي الحشد العراقي، وعجم الهزارة الأفغان؟
كيف يأمن العلويون، من الأهالي العاديين، بالساحل السوري وجبال الساحل وريف حمص من فظاعات «داعش» و«النصرة» وغيرهما؟
كيف يركن المسيحيون في وادي النصارى وحلب وحمص ودمشق بعد تفشي الثقافات المتطرفة السوداء؟
المجرم الأول بكل ما جرى، معلوم، وهو النظام الذي يحكم، لأنه هو المسؤول، بصفته قائد الدولة، عن صون السلم الاجتماعي واتحاد البلاد وردع الغزاة، لكن الذي فعله نظام بشار هو جلب العصابات الطائفية من كل مكان، وتسليم البلاد للغازي الإيراني والتدخل الروسي، وبذر سموم الفتنة الأهلية واستباحة الدماء والأموال والأعراض، والتسبب بتشريد ملايين السوريين بمنافي الأرض.
لولاه، لما فقست بيضة داعش الشيطانية، ولما تبرعمت ورقة القاعدة الشوهاء على ياسمين الشام.
لكن نرجع للسؤال الأول، هل يمكن لأهل سوريا أن يجتمعوا على كلمة سواء بعد كل هذا الهول؟ وعلى أي أرض؟
ربما هناك بقعة ضوء بعتمة الظلام، فقبل أيام نشرت هذه الصحيفة، «الشرق الأوسط»، خبراً عن الخلاصة التي خرج به سوريون ببرلين الألمانية بعد جولات من الحوار السري.
توصلت شخصيات وقيادات من المكونات العرقية والدينية والطائفية السورية، يعني من السنة، حضراً وعشائر، ومن شخصيات علوية معتبرة آتية من الساحل السوري، ومن كرد ودروز ومسيحيين لوثيقة من 11 بنداً بينها وحدة سوريا، و«المحاسبة الفردية» - يعني ليس أخذ الكل بجريرة البعض - عكست توافقات الكتلة الوسط في المجتمع السوري، مع أمل أن تكون وثيقة «عقد اجتماعي» فوق دستورية لمستقبل سوريا.
الوثيقة التي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها نصّت على 11 بنداً تحت عنوان «مدونة سلوك لعيش سوري مشترك». بها قواعد حاكمة للعقد الاجتماعي السوري المنتظر بعد أن تضع الحرب أوزارها منها: «وحدة الأراضي السورية، المكاشفة والاعتراف، لا غالب ولا مغلوب، لا أحد بريء من الذنب».
بنهاية الأمر، ستنتهي هذه الحرب، إما بالقوة الدولية والإقليمية وإما بتعب أطرافها، لكن كيف سيسفر الصباح السوري في اليوم التالي على دخان الحرائق؟
وثيقة برلين... جسر للعبور من ضفة القنوط لضفة الأمل.