مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣١ مايو ٢٠١٨
هل يمكن اجتثاث التدخل الإيراني في سورية؟

يبدو أن نظام الملالي الإيراني بات، في أيامنا هذه، في وضع لا يحسد عليه، وأقل ما يمكن وصفه أنه وضع حرج، خصوصا بعد حديث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن ضرورة انسحاب كل القوات والمليشيات الأجنبية من سورية، خلال استدعائه بشار الأسد إلى سوتشي، وإبلاغه أوامر بضرورة النأي بنفسه عن النظام الإيراني، وعدم القيام بأي رد فعل حيال الضربات الإسرائيلية لمواقع الحرس الثوري والمليشيات الإيرانية في الأراضي السورية. والأهم هو تزامن أو تناغم حديث بوتين مع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي، وإعلان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، تفاصيل الاستراتيجية الأميركية لمرحلة ما بعد هذا الانسحاب، والتي تضمنت 12 بنداً، ثلاثة منها تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، والباقية تتعلق بالنفوذ الإيراني في المنطقة، مع التلويح بتطبيق أقسى عقوبات في التاريخ على نظام الملالي في طهران.

ويظهر مما أعلنه بومبيو أن خطة تعامل الإدارة الأميركية الحالية مع إيران ستتمحور على ثلاثة مجالات، تبدأ بمجال اقتصادي من خلال فرض عقوبات اقتصادية ستلقي ظلالها الثقيلة على الاقتصاد الإيراني المتهالك وقطاع المال فيه، مع التهديد بأنها ستكون العقوبات الأقسى في التاريخ، ومستوى دبلوماسي سياسي، يعتمد على دفع حلفاء الولايات المتحدة وأصدقائها على التعاون من أجل الحدّ من تدخلات نظام الملالي الإيراني في المنطقة، والمطالبة بسحب قواته ومليشياته من سورية، والمستوى الثالث ينهض على الوقوف إلى جانب الشعب الإيراني وحراكه الاحتجاجي ضد ممارسات نظام الملالي وسياساته.

غير أن صيغة المطالب الأميركية من طهران جاءت على شكل اشتراطات وتهديدات، مثل الانسحاب من سورية ووقف دعم حزب الله اللبناني، وعدم التدخل في شؤون العراق واليمن، والامتناع عن تهديد إسرائيل والسعودية، ووقف عمليات تخصيب اليورانيوم نهائياً، وإلغاء برامج تطوير الصواريخ البالستية، بما يفضي إلى إنهاء التدخلات الإقليمية التي اعتاش عليها نظام الملالي، ما يعني ببساطة إنهاء هذا النظام برمته.

وليست مصادفة أن يلتقي تقاطع المصالح ما بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل على انسحاب قوات نظام الملالي ومليشياته الطائفية والمتعدّدة الجنسيات من سورية، على الرغم من أن لكل طرف أجندته ودوافعه الخاصة المرتبطة بمصالحه، إذ تريد روسيا أن تكون القوة الوحيدة في سورية، ولا تريد لإيران أن تشكل منافساً حقيقياً لها على الأرض، وفي أي تسوية مقبلة، فيما تسعى الولايات المتحدة إلى الحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة ضمن مساعيها الضاغطة على نظام الملالي، بعد الانسحاب من الاتفاق النووي. أما إسرائيل، بوصفها مشروعاً احتلالياً استيطانياً، فلا تريد للمشروع الإيراني التوسعي أن يكون منافساً لها، ولذلك تعتبر تغلغل مليشيات نظام الملالي في سورية خطراً يهدّد أمنها، ووجهت ضربات عسكرية موجعة لمواقعه وقواعده فيها من دون أي رد فعل من منظومات الصواريخ الروسية، الأمر الذي يطرح أسئلة بشأن ما يقال من تحالف وتفاهم روسي إيراني في سورية، إذ يفسر الصمت الروسي رغبة موسكو في التخلص من التغلغل الإيراني، أو على الأقل تحجيمه، ويدخل ضمن تفاهماتٍ روسية أميركية إسرائيلية بشأن الوضع السوري.

غير أن واقع الحال يكشف أن التغلغل الإيراني في المنطقة العربية كان يتم تحت مرأى ساسة الولايات المتحدة الأميركية، بل وأحياناً بتسهيل منهم، خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 والسياسات الهوجاء لإدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، حتى أن الفترة الذهبية للتغلغل الإيراني تمتّ برعاية إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي لم يكن يكترث مطلقاً لهذا التغلغل وازدياد نفوذه في كل دول المنطقة، وليس في سورية والعراق ولبنان واليمن فقط، بل وصمت أوباما عما جرى في سورية أكثر من سبع سنوات، خاض خلالها نظام الملالي معركة الدفاع عن نظام الأسد الإجرامي ضد غالبية السوريين وثورتهم. ولذلك فإن السؤال الذي يطرح، في هذا السياق، هو كيف يمكن أن يتحقق انسحاب نظام الملالي من سورية، خصوصاً بعدما تغلغل فيها إلى مختلف مفاصل النظام والمجتمع، وصرف كثيراً من المال والرجال فيها، وبات بحاجة إلى عملية اجتثاث واسعة؟

وبشأن الوضع في سورية، فإنه خلال سنوات التدخل العسكري المباشر لنظام الملالي دفاعاً عن نظام الأسد، تغلغلت أذرع إيران الأخطبوطية في مختلف مفاصل هذا النظام، وفي المجتمع السوري أيضاً، حيث زجت إيران بضباط وخبراء من الجيش الإيراني ومن الحرس الثوري، وخصوصاً فيلق القدس، إلى درجة بات معها قائد هذا الفيلق، قاسم سليماني، يظهر في معظم المعارك التي شنها تحالف نظام الملالي جنباً إلى جنب مع مليشيات النظام الأسدي والنظام الروسي الذي زجّ ضباطه ومستشاريه العسكريين، مع دكّ مقاتلاته الحربية وقاذفاته وصواريخه الاستراتيجية أماكن فصائل المعارضة السورية، وقصف مختلف مرافق البنى التحتية للمناطق التي كانت تحت سيطرتها.

وتفيد تقارير موثوقة بأن عدد مرتزقة نظام الملالي ومليشياته المتعدّدة الجنسيات بلغ أكثر من سبعين ألفاً، فضلاً عن مليشيات حزب الله اللبناني. ولعل الأخطر في تغلغل نظام الملالي هو عمليات شراء الأراضي والمساكن في العاصمة دمشق، وسواها من المدن والبلدات السورية التي يقوم بها تجار إيرانيون، إلى جانب منح النظام هويات سورية لبعض أفراد وعائلات المليشيات وإسكانهم محل السوريين المهجرين قسرياً، وخصوصاً في المعضمية وداريا والزبداني وسواها، إلى جانب عمليات التشيع وبناء الحوزات والحسينيات في معظم المدن والبلدات السورية، فضلاً عن تغلغل نظام الملالي في أجهزة الاستخبارات السورية ووحدات جيش النظام، ما يعني أن تغلغل نظام الملالي كان يتمّ ضمن مشروع توسعي استيطاني، له وجوده متعددة، وبحاجة إلى عمليات اجتثاث واسعة. والسؤال هو كيف يمكن اجتثاث هذا التغلغل؟

اقرأ المزيد
٣١ مايو ٢٠١٨
«الدستور» و «الانتخابات» عنوانان لحلّ على قياس الأسد

 باتت مصطلحات مثل «اللجنة الدستورية» و «الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة» و «مناطق خفض التصعيد» مجرّد عناوين في الخطّة الروسية لإنهاء الحرب والإيهام بوجود حلٍّ سياسي في سورية، أو بكلام أكثر دقّة لتصفية المعارضة عسكرياً وسياسياً بموازاة إعادة إنتاج النظام... مع شيء من التنقيح. ومن بين الأطراف المعنية جميعاً هناك فقط اثنان مستاءان، النظام السوري وحليفه الإيراني، إذ يتشاركان الاقتناع بعدم تحريك الحلّ السياسي قبل إنجاز السيطرة العسكرية الكاملة، بما في ذلك مناطق تخضع حالياً للوجود التركي أو الأميركي. لكن بشار الأسد الذي التقى الرئيس الروسي أخيراً في سوتشي عاد بمقدار من الإحباط والقلق لأنه تلقّى أمراً بالتخلّي عن إصراره على تعيين جميع أعضاء «اللجنة الدستورية» والاكتفاء بتعيين ممثلي النظام فيها، وهو ما فعله، أما بقية الأعضاء فيتوقف تعيينهم على مشيئة موسكو سواء بتشاور شكليّ مع أنقرة وطهران أو بأخذها آراء الأطراف الأخرى في الاعتبار.

ما الذي جعل من «اللجنة الدستورية» مفتاحاً وعنواناً وحيداً مقبولاً لاستئناف البحث عن حلّ سياسي؟ ثمة أسباب - أو بالأحرى أوهام - عدّة: أولها، أن الدول المناوئة للنظام وتعتبر أن قتله أبناء شعبه ألغى نظرياً شرعيته لم تستطع نزع شرعيته عملياً، وبما أنها استبعدت باكراً الحل العسكري فإنها قيّدت نفسها بالحاجة الى رئيس النظام وتوقيعه لتمرير أي حل سياسي. والثاني، أن وجود إيران ثم روسيا على الأرض مكّنهما من التمسّك بالأسد واستخدام «شرعيّته» الى أقصى حدّ، واستطاعت روسيا توظيف مشاركتها في الحلَّين معاً بغية إخضاع الحل السياسي لمخرجات الحل العسكري. لذلك برز المبرّر الثالث، وهو أن استحالة انضواء المعارضة في كيان جامع يختزل «قوى الثورة» ويحظى بقبول واسع وتمتثل له الفصائل المقاتلة لم تحلْ فقط دون وجود «بديل» من النظام بل جعلت الدول التي تساند المعارضة في موقف تفاوضي ضعيف أمام المحاججة الروسية بأن النظام هو ضمان الدولة والمؤسسات في مواجهة مشاريع اقتتال فوضوية، فضلاً عن مواجهة الإرهاب واستشرائه.

كل ذلك لا ينفي حقائق مؤلمة ومؤسفة، أهمها أن داعمي المعارضة، أو «أصدقاء سورية»، يعرفون أن النظام هو مَن سعى الى عسكرة الانتفاضة الشعبية مستغلّاً إحجام المجتمع الدولي عن حماية الشعب السوري، وهو مع حليفه الإيراني مَن هندس انتشار الإرهاب باجتذاب تنظيمي «القاعدة» و «داعش». الحقيقة الأخرى هي أن تباينات المعارضة وعدم قابليتها للانتظام سرعان ما عكست تباينات «الأصدقاء» الذين لم تكن لديهم معرفة مسبقة بالمعارضين وعندما بدأوا يتعرّفون اليهم تناقضت استنتاجاتهم بين قوى إقليمية تتنافس على استقطاب الإسلاميين وقوى غربية تخشى هيمنة الإسلاميين وتطالب بضمانات مبكرة لـ «حقوق الأقلّيات» الدينية. كانت هذه المطالبة بـ «حقوق الأقلّيات» محقّة بلا شك، بل كانت مؤشّراً الى اقتناع راسخ لدى القوى الغربية بأن بعثية/ «علمانية» النظام ضمانٌ لتلك الحقوق، وهي ارتكبت بذلك تجاهلاً مبكراً أيضاً لأهمّ أسباب الانتفاضة وهو التاريخ الطويل من انتهاك النظام «حقوق الغالبية» بمختلف انتماءاتها الطائفية.

هذا يعيد الى حقبتَين، ما قبل الأزمة وما بعد الانتفاضة. في الأولى، كان المجتمع الدولي معتمداً على أن النظام بنى نموذجاً «مستقرّاً» لـ «حكم الأقلية» في سورية على رغم أن الغرب كان يوجّه انتقادات موسمية وشكلية لانتهاكات حقوق الإنسان.

وفيما تغاضى العرب عن كل ارتكاباته لتكريسه إحدى الركائز الثلاث للنظام العربي الإقليمي، كانت إسرائيل مرتاحة عموماً الى سلوكه ومتهادنة معه وإنْ حصلت بينهما مواجهات غير مباشرة في جنوب لبنان. أمّا في بدايات الأزمة وطوال الشهور الأولى، فكان الرهان الخارجي على النظام واضحاً، وذلك استناداً الى تجارب سابقة أبدى فيها حنكة وبراغماتية متأتّيتين عن حسّ مصلحة سلطوية، وكان معظم المواقف والاتصالات المباشرة وغير المباشرة يتمحور حول عبارة وردت في تصريح لباراك اوباما طالب فيها الأسد بأن يطرح الإصلاحات الضرورية ويقود تحقيقها.

لم يسقط هذا الرهان الخارجي على الأسد حتى بعد انتشار اليأس من «حكمته» وإفشال المحاولة الجدّية الأولى لإسقاطه عسكرياً (منتصف 2012). هناك من توهّم بعد ذلك بأن حليفه الإيراني يمكن أن يؤثّر «ايجاباً» في خياراته، وهو طرح فعلاً نقاطه الستّ التي روعيت لاحقاً في صوغ أسس الحل السياسي الذي أصبح القرار 2254، لكن الإيراني أصبح في ذلك الوقت مأخوذاً بالفرص الكثيرة التي فُتحت أمامه سواء لمشروع «تصدير الثورة» أو للدعوة الى التشيّع والسيطرة على سورية بتغيير التركيبة الديموغرافية لدمشق ومحيطها وباختراق مذهبي للمدن ذات الغالبية السنّية بهدف إضعاف طابعها السابق الذي جعل منها حواضر متكاملة الإمكانات الاقتصادية والعمرانية والثقافية. ووسط انشغال إيران بمشروعها وتفاصيله على نمط المستوطنات الإسرائيلية، إذا بالمعارضة تتمكّن من طرد النظام من ادلب والسيطرة على أجزاء كبيرة من حلب بالإضافة الى تهديد معقل النظام في الساحل. قبل ذلك، كان تنظيم «داعش» انتشر شمالاً وبدأ يتوسّع جنوباً وغرباً، وفيما كان النظام وإيران يراهنان على أن المساعدة التي قدّماها لـ «داعش» تضمن أن يلعب لمصلحتهما فحسب، إذا به ينقلب لمصلحة مشروعه و «دولته»، ما أنشأ استطراداً واقع الحرب على الإرهاب وأولويتها.

مع وجود تحالف دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة على حدود سورية، تعاظمت مخاوف إيران من استخدام هذه القوة الخارجية ضد النظام السوري وبالتالي ضدّها وضدّ ميليشياتها. بعد التجربة العراقية صار مستبعداً أي تدخّل عسكري مباشر للأميركيين في الأزمة السورية، لكن مجرّد وجودهم على الحدود كان كافياً لإنذار روسيا بأن الوقت حان للتدخّل المباشر، أولاً لحماية ما لديها من مصالح والاستزادة منها ثم لإنقاذ النظام وتوسيع سيطرته تمهيداً لإعادة تأهيله وفرضه كأمر واقع دولي. ومن أجل ذلك لم يتردّد الروس باللجوء الى الوحشية في حلب والغوطة الشرقية، أو بالشدّة ثم الخدعة لاستقطاب تركيا واستخدام نفوذها لدى المعارضة لفرض ما سمّي «مناطق خفض التصعيد»، أو أخيراً بابتزاز القوى الخارجية الأخرى. وفي كل المراحل العسكرية كان يبدو الروس والأميركيون على خلاف، لكن الالتزام الروسي بالدفاع عن النظام لم يكن يوماً بمستوى الدفاع الأميركي - الغربي عن المعارضة، بل إن التفاهمات بين الدولتين انتقلت بثبات من إدارة اوباما الى إدارة ترامب.

كان لا بدّ من هذه المراجعة السريعة لإظهار الخطّ الانحداري للحل السياسي من طموحات جنيف (هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات ثم «السلال الأربع») الى إملاءات آستانة - سوتشي (لجنة دستورية ثم «انتخابات»)، وكيف أن هذا الخط كان يمعن في الهبوط بموازاة ارتفاع خط التوسّعات الميدانية لروسيا وحليفيها وبنمط احتلالي معادٍ للشعب. الأكيد أن الدستور مسألة كانت تتطلّب التفاوض عليها، لكن تلاعب روسيا بشكل المفاوضات واختيارها عدداً من أتباعها «المعارضين» وآخرين معروفين بموالاتهم للنظام لعضوية اللجنة وتحكّمها بالتمثيل الضئيل للمعارضة فيها تنبئ بأن لدى موسكو نسخة شبه جاهزة للدستور تريد تمريرها، بما يعنيه ذلك من تضييع وإفساد لفرصة حل حقيقي للمسألة السورية. وبطبيعة الحال، فإن الانتخابات يجب أن تكون تجسيداً للعملية السياسية وحافزاً على إنجاحها، لكن الروس والنظام يدافعون عن إجراء انتخابات في ظروف هيمنة للأسد وشبّيحته ولا يمكن لإشراف الأمم المتحدة أن يحول دون التزوير المسبق للعملية الانتخابية أو دون الترهيب قبل الاقتراع وأثناءه وبعده، ومَن لا يصدّق ذلك فليسأل خبراء المنظمة الدولية بعيداً من الكاميرات والميكروفونات وليتعرّف الى لائحة الصعوبات أمام انتخابات حرّة ونزيهة في بلد نصف شعبه في الخارج ولن تكون له مشاركة فاعلة في اختيار ممثليه، بل أن مرشّحيه لن يتمكّنوا من مخاطبة الناخبين في ظروف صحيحة ومناسبة.

ليس معروفاً متى يقتنع الروس بأن المنظومة العسكرية والأمنية الراهنة كفيلة بإحباط أي حلّ حتى لو كان الدستور مثال العدل والإنصاف، وأن إهمال ملف العودة الآمنة للنازحين والمهجّرين ومفاقمته بـ قوانين» خرقاء كالقانون الرقم 10 الذي يشرّع سرقة الممتلكات لا يمكن أن يمهّدا لأي عملية سياسية سليمة.

اقرأ المزيد
٣١ مايو ٢٠١٨
«الممانعة» في جنوب سوريا وافتضاح المفضوح

أعلن ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي عن توافق بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن لعقد اجتماع ثلاثي مكرس للحفاظ على التهدئة العسكرية في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء جنوب سوريا، وتجديد الالتزام باتفاق خفض التصعيد الذي توصلت إليه الدول الثلاث في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. ونقلت وكالة رويترز تصريحات لمصدر رسمي أردني ذهبت في الاتجاه ذاته، وأشارت إلى أن وقف إطلاق النار في الجبهة الجنوبية أعطى «أفضل النتائج» خلال الفترة السابقة.

يأتي هذا التطور في أعقاب مؤشرات على اعتزام النظام السوري فتح معركة درعا، بينها إرسال تعزيزات عسكرية إلى خطوط التماس مع فصائل المعارضة في المحافظة، وإلقاء منشورات تدعو المقاتلين إلى إلقاء السلاح. لكن تطورات لاحقة تكفلت بتجميد مشروع النظام، ومهدت لعقد الاجتماع الثلاثي.

فمن جهة أولى وجهت الخارجية الأمريكية إنذاراً واضحاً إلى النظام السوري، مفاده أن الولايات المتحدة سوف تتخذ «إجراءات حازمة ومناسبة» في حال انتهاك وقف إطلاق النار في مناطق خفض التصعيد في جنوب سوريا وشمالها. ومن جهة ثانية، ذكرت تقارير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبلغ رئيس النظام السوري بشار الأسد ضرورة تفادي وقوع مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران على الأراضي السورية، مع تشديد على عدم ممانعة تل أبيب في عودة جيش النظام إلى احتلال مواقعه على الحدود مع الاحتلال وفق ما كانت عليه قبل آذار/ مارس 2011 تاريخ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في سوريا.

وليس مستبعداً أن تكون موسكو قد توصلت إلى تفاهم مع طهران وتل أبيب حول هذا الأمر، بدليل أن عناصر «حزب الله» والميليشيات التي تسيرها إيران بدأت تنسحب بالفعل من المنطقة، وإعلان السفير الإيراني في الأردن أن بلاده لا تشارك حالياً ولا تنوي المشاركة مستقبلاً في أي عملية عسكرية يمكن أن تشهدها هذه الجبهة. وبذلك فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي سوف تكون الغائب الحاضر في الاجتماع الثلاثي المقبل، بالنظر إلى أن مصالحها سوف توضع على رأس جدول الأعمال.

وقد تكون الخلاصة الأبرز في قراءة هذه الأنباء عن الجنوب السوري هي انكشاف المزيد من أوهام أكذوبة «السيادة» التي يتشدق بها النظام السوري بين حين وآخر، إذْ أن الدول الثلاث تجتمع وتعقد اتفاقيات وتسهر على تنفيذها وتحذر من انتهاكها، دون أن يكون للنظام السوري أي دور في إبرامها أو أدنى مشاركة في صياغة بنودها. والحال ذاتها تنطبق على التفاهمات الأمريكية ـ التركية في عفرين ومنبج، والإشراف العسكري الأمريكي على «قوات سوريا الديمقراطية» شرق الفرات.

الخلاصة الثانية هي ابتداء مرحلة تضارب المصالح بين القوى الداعمة للنظام السوري، والتي تجلت مؤخراً في تصريح بوتين حول انسحاب القوات الأجنبية من سوريا والرد الإيراني بأن لا أحد يمكن أن يجبر إيران على الخروج من سوريا، وتجلت أيضاً في التلميحات التي تشهدها الصحافة الروسية والإيرانية بصدد المنازعة حول عقود إعادة بناء سوريا بعد إنجاز التسوية السياسية.

ولا يخفى أن صمت محور «الممانعة»، حول افتضاح المفضوح في هذه الملفات، يظل أبلغ من أي ضجيج.

اقرأ المزيد
٣٠ مايو ٢٠١٨
سيناريوهات الجنوب السوري

كما كان متوقّعاً، فإنّ الجنوب السوري أصبح محور اهتمام النظام السوري وحلفائه، بعدما تمّ تأمين دمشق وريفها، فبدأ النظام يحشد ويعدّ بكثافةٍ لعمليةٍ كبرى في محافظة درعا، بينما تتضارب الأنباء بشأن حقيقة الموقف الأميركي مما يحدث، بين تحذير شديد من جهة وتسريباتٍ عن اتفاق جديد من جهةٍ أخرى!

الوضع الراهن للجنوب السوري، خصوصا درعا، أنّها خاضعةٌ لاتفاق "خفض التصعيد" بين الولايات المتحدة وروسيا، وبدور أردني فاعل في هذا الاتفاق، والاتفاقيات اللاحقة عليها التي تضمنت آليات تنفيذه ومراقبة وقف إطلاق النار، ومنها إبعاد المليشيات غير السورية مسافة تصل إلى 25 كم عن الحدود السورية - الأردنية، ووقف دعم المعارضة المسلحة في درعا بالسلاح (الجبهة الجنوبية التي يقدّر عددها بـ35 ألف مقاتل)، والتخلص من نفوذ جبهة النصرة وجيش خالد بن الوليد (التابع لتنظيم داعش).

يؤكد المسؤولون الأردنيون على استمرار تعهّد المسؤولين الروس والأميركيين بالالتزام بالاتفاق، بمعنى وقف إطلاق النار، وتجنيب المحافظة (التي حصلت على هدوء قرابة عام ونصف) أي تبعات لعمل عسكري شبيه بما حصل في الغوطة الشرقية وريف دمشق.

لكن هذه "الضمانات" الأميركية - الروسية لا يبدو أنّها تنسجم كثيراً مع الواقع، ومع بعض التسريبات عن توجهات أميركية تذهب نحو إعادة صوغ الاتفاق، ولا حتى مع ارتفاع وتيرة الخلافات الأميركية الروسية، ولا مع التباين في الأجندتين الإيرانية - الروسية في سورية، بما يحمل، في طيّاته، احتمالات لسيناريوهات أخرى.

ما هي الخطوط العريضة للسيناريوهات المتوقعة؟ السيناريو الأول، بالفعل بقاء الاتفاق الروسي - الأميركي، خصوصا أنّ هنالك "العامل الإسرائيلي" موجود بقوة في هذه المعادلة، وتنفيذ الوعيد الأميركي برد فعل عنيف على أي هجوم متوقع على درعا، من الجيش النظامي والمليشيات المؤيدة له.

السيناريو الثاني، انهيار "المعادلة" كاملة، وتفكّك الاتفاق الروسي - الأميركي، مع تصاعد حجم الخلافات، وانتهاء عمل غرفة المراقبة المشتركة في عمّان، وبالتالي الدخول في مسار حرب داخلية - إقليمية في هذه المنطقة. وهذا يعني تحدياتٍ جديدة على كل من الأميركيين والأردنيين والإسرائيليين، في كيفية التعامل مع الهجوم المتوقع، بعدما توقف دعم المعارضة المسلّحة منذ قرابة نصف عام.

السيناريو الثالث، إعادة تصميم اتفاقٍ جديد على أساس أفكار نائب وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، وتقتضي إعادة تسليم درعا إلى النظام، مع ترحيل المعارضة المسلّحة المتشددة إلى إدلب، وضمانات دولية بتجنب سيناريوهات ما حصل في مناطق أخرى، مع وصول قوات الجيش النظامي إلى الحدود، وعودة مؤسسات الدولة إلى درعا، وتسليم المعارضة السلاح الثقيل، والوصول إلى صيغةٍ تعتبر آلاف المقاتلين جزءاً من الشرطة المحلية.

قد لا يكتب لمثل هذه الأفكار الاستمرار مع وجود خط متشدد في الإدارة (بومبيو - بولتن) يرفض هذه الصيغة، وهنالك احتمال مغادرة ساترفيلد نفسه موقعه قريباً.

الموقف الأردني مرتبط جوهرياً بالموقف الأميركي، وإن كان في دوائر القرار الأردنية أكثر من رأي أيضاً. يتبنّى الأول الموقف الذي يؤكد على ضرورة الحفاظ على الاتفاق الحالي، وعدم وجود أي ضماناتٍ حقيقية مستقبلاً بألا يجد الأردن على حدوده قوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، ويرى في الاتفاق الراهن الصيغة الفضلى. ويميل الرأي الثاني إلى فتح القنوات مع النظام السوري بصورة أفضل، وتسهيل عودته إلى الحدود، وفتح معبر نصيب الحدودي، وإعادة تشغيل خط التجارة بين عمّان ودمشق.

تبدو المسألة أكثر تعقيداً من التفضيلات الأردنية، لأنّها أصبحت مرتبطةً بمعادلة دولية - إقليمية. وفيها رأي إسرائيلي أيضاً، وخطوط حمراء بعدم القبول باقتراب قوات إيرانية من المناطق المحاذية للجولان، وهو الأمر الذي يفسّر إلى الآن بقاء جيش خالد بن الوليد (الموالي لداعش، والموجود في حوض اليرموك الموازي للجولان) خارج دائرة الاستهداف الدولي والإسرائيلي، إذ تحوّل إلى ما يشبه "المنطقة العازلة" للقوات الإيرانية عن مرتفعات الجولان المحتلة.

على أيّ حال، هنالك تحرّكات عسكرية كبيرة وطبخات سياسية بالتزامن والتوازي، لكن على الأغلب فإنّ الاتفاق الراهن يواجه تحدّياً حقيقياً في الاستمرار والصمود.

اقرأ المزيد
٣٠ مايو ٢٠١٨
من «حرب المخيّمات» إلى مخيّم اليرموك

هذه السنة تحلّ الذكرى الثلاثون لـنهاية «حرب المخيّمات» التي استمرّت ثلاث سنوات في جنوب بيروت والجنوب. الحرب رتّبت أكلافاً إنسانيّة تفوق الأكلاف التي نجمت عن اقتحام مخيّم تلّ الزعتر في 1976 ومذبحة مخيّمي صبرا وشاتيلا في 1982. إحدى الروايات تقول إنّ المرجع الدينيّ الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله أفتى يومها بالتالي: يجوز لسكّان المخيّمات المحاصَرة أكل لحوم الحيوانات النافقة.

«حرب المخيّمات»، مع هذا، حظّها قليل: لا أحد يتذكّر. لا أحد يذكّر.

قد نقع على إجابة رمزيّة تفسّر هذا التجاهل في حدث آخر شهدناه قبل أسبوع: تجديد انتخاب نبيه برّي رئيساً للمجلس النيابيّ اللبنانيّ للمرّة السادسة. برّي كان، ولا يزال، زعيم التنظيم الذي خاض حرب المخيّمات. النصر على المخيّمات، إذاً، مستمرّ سنةً بعد سنة بعد سنة. مع كلّ «نصر» يتحقّق على إسرائيل، يتأكّد النصر على المخيّمات ويتكرّس.

التذكّر والتذكير ليس هدفهما نكء جراح الماضي. هدفهما، في المقابل، التوكيد على الكذب والانتقائيّة في العواطف اللذين يُظهرهما البعض حيال الفلسطينيّين وحيال العداء لإسرائيل. ذاك أنّ العنصر المقرّر ليس تلك المشاعر المزعومة حيال الفلسطينيّين، بل المشاعر المضادّة حيال من قاوموا النظام السوريّ ومطامعه الإقليميّة، أكانوا مسيحيّين أم فلسطينيّين. وهذه عيّنة صغيرة على ما تمّ التعارف على تسميته «قوميّة» و «وطنيّة» في لبنان، وعلى كونه غطاءً لعصبيّات أهليّة محتقنة.

واقع الحال أنّنا إذا راجعنا تلك الصفحات القديمة، بهدف فهم الحاضر، لاحظنا كيف أنّ نظام دمشق كان يضرب المخيّمات بيد، وباليد الأخرى يحول دون نشأة سلطة مركزيّة لبنانيّة. انشقاق «اللواء السادس» ومشاركته يومذاك في حروب تصديع السلطة المركزيّة، ثمّ في حرب المخيّمات، دليل لا يخطئ على الهدف المزدوج هذا.

بالطبع، وراء «أمل» و «اللواء السادس»، كانت هناك رغبة النظام السوريّ في الاجتثاث السياسيّ للفلسطينيّين، في طرابلس كما في البقاع والجنوب، وبالتأكيد في بيروت. إنّها، لمن يذكرون، المعركة ضدّ «العرفاتيّة» أو ضدّ «القرار الوطنيّ الفلسطينيّ المستقلّ».

صحيح أنّ معاملة الفلسطينيّين لم تكن مرّةً معاملة كريمة في لبنان، لكنّهم لم يحظوا مرّةً بمعاملة لئيمة كالتي عرفوها في عهد الوصاية السوريّة حين كانت تخفق رايات «عروبة لبنان» و «وحدة المسارين». وليُسأل عن ذلك خصوصاً وزراء الشؤون الاجتماعيّة والعمل الذين كانوا دوماً الأقرب إلى قلب المسؤول الأمنيّ في عنجر.

اليوم، يذكّرنا انتخاب برّي مجدّداً وعودة «رموز الوصاية» بمدى نجاح حرب المخيّمات في إخضاع الفلسطينيّين، وبتوطّد نظام هو، على رغم كلّ تقلّباته، لا صلة له بفلسطين. أكثر ما يذكّرنا بذلك أنّ الذاكرة السائدة لم تعد تتذكّر شيئاً عن تلك الفترة. الانتصار على الفلسطينيّين وصل إلى حدّ المحو والاستئصال. ما هو أبعد، أنّ النظام السوريّ الذي يستعين بالروس والإيرانيّين وميليشياتهم على شعبه يستطيع أن يبقى منتصراً في لبنان ومنتصراً على الفلسطينيّين. لكنّ نسيان حرب المخيّمات لا يكفي لحجب تدمير مخيّم اليرموك...

بالطبع، «ولّى زمن الهزائم».

اقرأ المزيد
٣٠ مايو ٢٠١٨
من السوري ومن غير السوري

كعادته في مثل هذه الأيام من كلّ سنة، عقد “بيت المستقبل”، الذي أسسه الرئيس اللبناني السابق أمين الجميّل في ثمانينات القرن الماضي، مؤتمره السنوي بحضور شخصيات لبنانية وعربية ودولية تتعاطى الشأن العام. معظم هذه الشخصيات تمتلك خبرة في الموضوع الذي تتناوله، كما تمتلك ثقافة تسمح لها بالتحدث في الشأن الإقليمي والربط بين الأحداث الشرق أوسطية من جهة، وما يدور في العالم من جهة أخرى.

ما جمع بين مؤتمر السنة الذي كان عنوانه “الأمن في خضمّ الانحلال”، والمؤتمرات التي انعقدت في السنوات الماضية هو الجرأة في طرح قضايا تتناول المنطقة ككلّ. كان في الماضي تطرّق إلى الوضع الإقليمي في ذكرى مرور مئة عام على اتفاق سايكس- بيكو. وكان هناك مؤتمر خصّص لخيار الدولتين على أرض فلسطين (دولة إسرائيل والدولة الفلسطينية) وما إذا كان هذا الخيار لا يزال قائما في ظل الزحف الإسرائيلي في اتجاه ضمّ الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.

كان المؤتمر الذي انعقد قبل أيّام قليلة “لقاء في خضم حال الانحلال التي طالت أكثر من صعيد وتأثيرات التفكك على أمن المنطقة واستقرارها. وكأنّ عالمنا العربي لم يتغيّر من عام إلى عام، من عقد إلى عقد، بل ينحدر من سيّء إلى أسوأ”. هذا ما أشار إليه أمين الجميّل في افتتاح المؤتمر متحدثا عن “نزاعات تحوّلت إلى معارك عبثية وانتحارية دمّرت البشر والحجر”. تحدث أيضا عن “نزاعات سياسية في الإقليم لم توفّر أيّ جانب من حياة المجتمع ولم تقتصر على النزاعات السياسية بين الأنظمة، بل استهدفت بشكل أساس المجتمع والإنسان في وجوده وحرياته وسلامته ورفاهه، فكانت نزاعات سياسية وإقليمية: عربية- عربية، عربية- إسرائيلية، عربيّة- إيرانية، إسرائيلية- إيرانية”.

ارتدت هذه النزاعات طابعا دوليا، خصوصا في ظلّ الوجودين الروسي والأميركي في سوريا. هذا ما أشار إليه غير مشارك في الندوات المختلفة التي استضافتها سرايا بكفيا، وهي ندوات كان محورها ما العمل في مواجهة التهديدات التي تواجه الكيانات القائمة وحال الانحلال التي تعاني منها.

لعلّ الندوات الأهمّ في مؤتمر “الأمن في خضم الانحلال” الذي شاركت في تنظيمه “مؤسسة كونراد اديناور” وجامعة تافت الأميركية وجامعة كيبيك الكندية وبلدية بكفيا- المحيدثة، تلك التي تناولت أبعاد التدخل الإيراني في المنطقة. هل يمكن التعايش بين مؤسسات الدولة وميليشيات مذهبية تستخدمها إيران في عدد لا بأس به من دول المنطقة، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، على سبيل المثال وليس الحصر…

كان لبنان منطلقا للمشروع التوسّعي الإيراني القائم على إيجاد ميليشيا مذهبية تعمل في موازاة مؤسسات الدولة. استفادت إيران من تجربة “حزب الله” في لبنان لتعممها في المنطقة. ما لم يشر إليه المشاركون في الندوات أن “داعش” الذي تحرّك في سوريا والعراق ابتداء من العام 2014، لم يكن التنظيم الوحيد الذي تجاهل الحدود بين الدول. كان تدخل “حزب الله” في سوريا ابتداء من العام 2011 مباشرة بعد اندلاع الثورة الشعبية فيها، دليلا على تقديم الرابط المذهبي على كلّ ما عداه، بما في ذلك سيادة الدولة على أرضها.

هناك بكل بساطة إطار جديد للنزاعات الدائرة في كل دولة من دول الشرق الأوسط وفي المنطقة كلّها. هذا الإطار هو الثنائية بين الدولة والميليشيا. كان الناطق السابق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ في غاية الوضوح لدى تشريحه الوضع في بلده في ضوء نتائج الانتخابات التي أجريت في الثاني عشر من أيار- مايو الجاري.

شرح خطورة ما تشكله الميليشيات الموالية لإيران والمنضوية تحت تسمية “الحشد الشعبي”. قال الدبّاغ في سياق مداخلة له تطرّق فيها إلى التحدي الكبير الذي خلقه وجود مجموعات الحشد الشعبي”، إن “المشكلة الكبرى تكمن في كيفية صهر هذا الوجود المؤدلج الذي يعود في مرجعيته السياسية إلى إيران (…) والممانعة الكبيرة في تذويبه في مؤسسات الـدولة بعد قرار دمجه بالقوات الحكومية”. لاحظ أيضا “أن ما تبقى من هذا الحشد تحول إلى مجموعة ميليشيات دخلت التنافس السياسي وأصبح لها وجود في صنع القرار”.

لم يخف الخوف من نشوء “ثنائية” تتألف من “الحشد والدولة”. خلص إلى أن “هذا هو التحدّي الأكبر الذي سيواجه الحكومة القادمة والتي إن نجحت سيكون العراق قد عبر أزمة الوجود والهوية إلى الهوية الجامعة، وإذا فشلت سترسّخ الانقسام القائم الذي صاحب الوضع السياسي الجديد”. إلى جانب مداخلة الدبّاغ، كان راسل برمان الأستاذ في جامعة ستانفورد، وهي من أهمّ الجامعات في الولايات المتحدة، في غاية الدقّة عندما عرض نوعا جديدا من التحديات التي تلعب دورها في تغيير طبيعة الكيانات القائمة في الشرق الأوسط. أشار إلى خطورة العبارة التي وردت في خطاب لبشار الأسد في تموز – يوليو من العام 2015. قال بشار وقتذاك “سوريا ليست لمن يسكن فيها أو يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها ويحميها”.

أعطى بذلك إشارة الانطلاق لعملية تطهير ذات طابع عرقي، أو مذهبي. بالنسبة إلى برمان “لم تعد من حاجة إلى الذهاب إلى أبعد للتحقق من مدى الانحلال الذي تشهده سوريا”. ما لم يقله أنه صار هناك بلد لا يعترف فيه رئيس النظام بالمواطن حامل الجنسية. صار بشّار يقرر بنفسه من يجب أن يكون خارج سوريا ومن يستطيع البقاء فيها. من السوري ومن غير السوري.

نعم، هناك انتقال من السيء إلى الأسوأ. يمكن اختصار الوضع في الشرق الأوسط بأنّ اليوم الذي نعيش فيه أفضل من يوم غد…ويوم غد سيكون أفضل من اليوم الذي سيليه. هـذه حال الإقليم منذ بدأت الميليشيات المذهبية التابعة لإيران تحل مكان مؤسسات الـدولة. ما الذي سيحدث في السنة التي لا تزال تفصل عن المؤتمر المقبل لـ“بيت المستقبل”؟ ماذا بعد الانحلال؟ ماذا إذا أصرّت إيران على البقاء عسكريا في سوريا؟ ماذا إذا لم تفهم إيران معنى إعلان دونالد ترامب الانسحاب من الاتفـاق في شـأن ملفّها النووي؟ ماذا إذا لم يقرأ المسؤولون الإيرانيون بتمعّن النص الكامل للخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو والذي ضمّنه الشروط الـ12 التي يتوجب على النظام الإيراني تنفيذها في حال أراد العودة مجددا إلى المجتمع الدولي؟

الجواب عن كل هذه التساؤلات في غاية البساطة. عندما ينعقد مؤتمر 2019 لـ“بيت المستقبل”، ستبدو كلمة انحلال أقرب إلى مزحة، لا لشيء سوى لأن إيران لا تستطيع أن تكون دولة طبيعية من دول المنطقة. علّة وجود نظامها قائمة على أنها دولة غير طبيعية. سيدافع النظام عن نفسه حتّى آخر لبناني وسوري وفلسطيني وعراقي ويمني… قبل أن يدرك أن الميليشيات المذهبية تستطيع تدمير المنطقة العربية والكيانات القائمة فيها، لكنّها لا تستطيع أن تبني أيّ مؤسسة ناجحة في دولة ناجحة تضع نفسها في خدمة مواطنيها. وهذا ينطبق على إيران قبل غيرها.

اقرأ المزيد
٢٩ مايو ٢٠١٨
روسيا وإيران... بوادر خلاف حول سوريا؟

إلى أي مدى يمكن الرهان على الخلافات الروسية الإيرانية في سوريا للوصول إلى تسوية سياسية حاسمة للأزمة هناك؟

الدعوة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أسبوعين بضرورة خروج القوات الأجنبية من سوريا، مثلت في نظر المراقبين انعطافة محتملة في التحالف الوثيق بين البلدين، الذي يرد له الفضل في حماية نظام بشار الأسد من السقوط.
لم يذكر بوتين صراحة إيران في دعوته، لكن مبعوثه لسوريا الكسندر لافرينتييف صرح في وقت لاحق بأن الانسحاب المطلوب يشمل إيران أيضاً.

النظام السوري المرهون للتحالف الإيراني الروسي، تبنى تفسيراً مغايراً لتصريحات بوتين وقال متحدث باسمه إن انسحاب أو بقاء القوات الأجنبية الموجودة بإذن من الحكومة السورية، هو شأن يخص دمشق وغير مطروح للنقاش.

كان واضحاً منذ بداية الأزمة في سوريا أن تحالف روسيا مع إيران، هو تعاون فرضته الوقائع الميدانية، ولم يكن خياراً لأي من الطرفين. بمعنى آخر كان تحالفاً إجبارياً اقتضته مصالح متباينة القاسم المشترك الوحيد لها الجغرافيا السورية بما تعنيه للجانبين في حسابات النفوذ والمصالح.

في لقاءات كثيرة جمعت بوتين بقادة عرب، كان يمكن التقاط إشارات كثيرة على تبرم الروس من دور إيران في سوريا، وسلوكها الطائفي في مناطق سيطرتها، وتحفظات كبيرة على نوايا الميليشيات الطائفية المرتبطة والممولة من طهران.

ويؤكد سياسيون على صلة وثيقة بمحادثات أستانة أن خلافات طهران وموسكو حول مناطق خفض التصعيد، ووقف إطلاق النار، كانت ظاهرة للمراقبين هناك.

عندما أجرى الأردن مباحثات مكثفة مع الجانبين الروسي والأميركي لإقامة منطقة خفض التصعيد في الجنوب السوري، ومركز لمراقبة إطلاق النار في عمان، لم تمانع روسيا في القبول بالشروط الأردنية والأميركية القاضية بإبعاد الميليشيات الإيرانية مسافة كافية عن الحدود مع الأردن، والتزام موسكو بمنع هذه الميليشيات مستقبلاً من التمركز قرب الحدود في حال تم التوصل لتفاهم على انسحاب قوات المعارضة وعودة السيطرة السورية على المعابر الحدودية مع الأردن.

طهران لم تكن معنية أبداً باحتواء قدرتها ونشاطها في كثير من المناطق السورية، وكانت ولا تزال تسعى لكسب المزيد من النفوذ في مختلف المواقع، لتعزيز وجودها في سوريا، وفرض أمر واقع يستحيل معه التفكير بتغيير المعادلة السياسية في البلاد.

وكان الاختبار الأهم للتحالف الروسي الإيراني مع دخول إسرائيل على خط العمليات العسكرية في سوريا.

لقد استثمرت إيران نفوذها على الأرض وبالحماية الروسية في السماء السورية، لتطوير مواقع عسكرية متقدمة، تؤهلها للاحتكاك بإسرائيل من موقع القوة. لم تكن إسرائيل لتسمح بمثل هذا التغيير في معادلة القوة، فشرعت في شن سلسلة من الهجمات المدمرة على القواعد الإيرانية ومخازن السلاح ووحدات الحرس الثوري.

لم تتدخل روسيا على الإطلاق، واكتفت راداراتها بالفرجة على الصواريخ الإسرائيلية وهي تعبر الأجواء السورية وتضرب المراكز الإيرانية.

وتذهب أغلب الروايات إلى تأكيد القول بأن موسكو كانت على علم مسبق بكل طلعة جوية للمقاتلات الإسرائيلية.

على المستوى السياسي، لم تكن إيران معنية أبداً بتقدم مفاوضات الحل السياسي في جنيف، وطالما عملت على إفشالها. روسيا فعلت الشيء ذاته في جولات كثيرة، لكنها كانت على قناعة بأن دوام الحال في سوريا غير ممكن لفترة طويلة، ولا بد من العمل على حل سياسي، يضمن مصالحها على المدى البعيد.. حل بوجود الأسد أو من دونه.

لروسيا مروحة واسعة من المصالح في الشرق الأوسط، وهي جزء غير قليل من حزمة قضايا دولية عالقة مع واشنطن والدول الغربية، ولا يمكنها التشبث بسوريا دون تصور أشمل لعلاقتها المعقدة مع العالم الغربي.

وروسيا ليست في وضع اقتصادي يسمح لها بالمناورة على جميع الجبهات لفترة طويلة. ينبغي عليها التفكير في تفكيك الأزمات والتخلص من الضغوط للتفرغ لتحديات أكبر تنتظرها مع توجه إدارة ترمب لإطلاق موجة جديدة من سباق التسلح، ودخول ميدان المنافسة القوية مع الصين.

في هذا السياق يمكن قراءة استدعاء بوتين للرئيس السوري منفرداً إلى سوتشي مؤخراً، والطلب منه تسمية وفده لتشكيلة اللجنة المقرر لها أن تناقش تعديلات الدستور السوري ضمن تفاهمات جنيف.
انصاع الأسد لطلب بوتين، وأعلن تسمية ممثليه تمهيداً لبدء جولة من المناقشات.

لا تبدو إيران مرتاحة أبداً لهذه التطورات، وتعمل خلف الكواليس لإفشالها، لأن أي تقدم على مسار الحل السياسي في سوريا، يعني بداية النهاية لنفوذها هناك.

لكن التباين في أجندة الطرفين حيال مستقبل سوريا، لم يبلغ مرحلة الصدام بعد، وهو ليس مرشحاً لبلوغها في الوقت الحالي.

روسيا تعلم بنوايا طهران، ورغبتها الجامحة في تعطيل مسارات الحل السياسي، لكن في المقابل لا تأمن القيادة الروسية بعد الجانب الأميركي، ولا تعرف حدود دوره في مستقبل سوريا، وتخشى أن يكون حاصل التضحية بالحليف الإيراني يصب في حساب واشنطن دون أن تنال شيئاً في المقابل.

على المدى المتوسط ستعمل موسكو على احتواء النفوذ السياسي لإيران في سوريا، فالأخيرة تخطط للاندفاع بشكل أكبر على كل الجبهات رداً على قرار ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي وتحسباً لعقوبات غير مسبوقة تنتظرها. روسيا ورغم موقفها المعارض لقرار ترمب، فإنها غير معنية أبداً بتحويل سوريا لورقة مساومة في يد طهران.

ثمة اعتقاد لدى باحثين مختصين بالشؤون الدولية بأن البلدين روسيا وإيران سيستغلان بعضهما البعض بأكبر قدر ممكن ولأطول فترة ممكنة، إلى أن تحين لحظة الطلاق في سوريا، وهي مؤجلة لزمن غير معلوم.

اقرأ المزيد
٢٩ مايو ٢٠١٨
معركة الجنوب السوري الممكنة

ثمة تطوران لا بد من التوقف عندهما، فيما يتعلق بموقف نظام الأسد من الوضع في الجنوب السوري. التطور الأول قيام نظام الأسد بتحشيد قواته وقوات حلفائه على نقاط التماس، بين المناطق التي يسيطر عليها والمناطق الخارجة عن سيطرته في الجنوب السوري، وخاصة على طول الخط الدولي الذي يصل بين دمشق ودرعا. والتطور الثاني، إطلاق تصريحات من أركان النظام بعزمهم التوجه نحو الجنوب لـ«تحريره من الإرهابيين»، واستعادة سلطة «الدولة» عليه.

وللحق، فإنه لا يمكن فصل التطورين السابقين عن التطورات الميدانية والسياسية الجارية في بقية المناطق، والتي كان أبرزها تقاسم السيطرة في المناطق الأخرى، حيث النظام أحكم سيطرته على منطقة القلب، الممتدة من السويداء جنوباً إلى دمشق وحمص وحماة وطرطوس واللاذقية، مع تعرج خاص يصلها بمدينة حلب متجاوزاً إدلب. ورغم أن النظام هو الحلقة الأضعف في تحالف ثلاثي يجمعه مع إيران وروسيا، فإن الأهداف العامة لهذا الحلف، وقدراته العسكرية المشتركة، تجعله الأبرز في قوى تقاسم السيطرة في سوريا.

القسم الثاني من السيطرة، هو سيطرة تركيا على الشمال الغربي، التي تشمل بصورة أساسية مناطق حملة «درع الفرات»، وتتمركز في منبج، وتمتد في أنحاء من محيط حلب، وصولاً إلى مناطق عملية «غصن الزيتون» التي اتخذت من عفرين قلباً لها، بل إن إدلب وجوارها، ليست أكثر من منطقة نفوذ تركي، بحكم سيطرة قوى سورية مسلحة هناك، يرتبط أغلبها بعلاقات وثيقة مع تركيا، وحتى المختلفين مع الأخيرة يسعون إلى تجنب معركة حاسمة معها. وقد عززت تركيا سيطرتها في المنطقة، ليس بتحالفها في إطار آستانة مع روسيا وإيران فقط؛ بل أضافت إليه مؤخراً اتفاقاً تم التوصل إليه في أنقرة مع الولايات المتحدة، حول استراتيجية مشتركة، تطمئن تركيا على مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، حليفة واشنطن، والخصم الرئيس لتركيا في الشمال.

القسم الثالث من تقاسم السيطرة في سوريا، واقع تحت السيطرة الأميركية، شاملاً الجزيرة السورية، وخاصة الرقة، حيث تنتشر «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بدعم أميركي ظاهر. ولا تمثل خروقات النظام في المنطقة، على نحو ما هو عليه وجوده في الحسكة، أهمية تخفف من حقيقة السيطرة الأميركية، والحال في هذا تنطبق على أي وجود آخر جنوب نهر الفرات.

وسط تركيز تقاسم السيطرة في المناطق الثلاث، تبدو منطقة الجنوب الأقل تركيزاً؛ لكنها الأكثر تعقيداً. ففي الخط الواصل بين دمشق ودرعا، وفي بعض انفراجاته، يسيطر نظام الأسد وحلفاؤه من الإيرانيين وميليشيات «حزب الله» الراغبين في التمدد بالمنطقة، على أمل السيطرة الكلية عليها، فيما تنتشر في بقية الأرجاء تنظيمات المعارضة المسلحة الوثيقة العلاقة مع الأردن، إضافة إلى جيوب لجماعات التطرف والإرهاب من «داعش» و«النصرة» وأتباعهما، يعاديها الجميع علانية، ويدعمها الحلف الإيراني الروسي مع نظام الأسد ضمناً، ويستخدمها في تكتيكاته السياسية والميدانية.

وباستثناء تداخل السيطرة في الجنوب السوري بين النظام والمعارضة، فإن الجنوب موضع تقاسم سيطرة سياسية لهاتين القوتين مع قوى أخرى، أبرزها الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال نفوذهما وقدراتهما السياسية والعسكرية، وعلاقتهما المعقدة بالنظام والمعارضة من جهة، ومن جهة أخرى علاقتهما مع الطرف الأردني الذي يسعى لضمان مصالحه للاتفاق والتوافق مع كافة الأطراف بما فيها الروس، والتي أثمرت في إحدى نتائجها إلى وضع الجنوب السوري ضمن ترتيبات مناطق خفض التصعيد، التي يتمسك بها الأردن ليتجنب من خلالها أضرار أي حرب يشهدها الجنوب.

وسط تلك اللوحة المعقدة المحيطة بالجنوب، فإن مساعي النظام لاستعادة سيطرته على الجنوب تواجه باعتراضات من مختلف الأطراف، ولا سيما إسرائيل التي لا تعارض عودة قوات الأسد؛ لكنها ترى أن العودة سوف تعطي إيران و«حزب الله» فرصة اقتراب أكثر من خط وقف إطلاق النار على جبهة الجولان، وهو أمر تعارضه واشنطن، ليس من الناحية السياسية فقط؛ بل وصولاً إلى استخدام القوة أيضاً، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب تحاول إيران ونظام الأسد تجنبها، فيما يسعى الروس إلى عدم حصولها أصلاً.

الجنوب السوري على ما في وضعه من تعقيدات وتشابكات، حالة مؤجلة في حسم تقاسم السيطرة. ولأن الوضع على ما هو عليه، فإن الجنوب يفتح على بوابة مختلفة أساسها اتفاق وتوافق بين الأطراف المختلفة، وهو أمر إذا حدث في سياق حل تعقيدات وضع الجنوب، فإنه يمكن أن يكون بوابة في حل للقضية السورية، قبل أن يمتد من الجنوب إلى المناطق الأخرى، وما لم يحصل ذلك، فإن الوضع القائم سوف يستمر في الجنوب في المدى المنظور، وتستمر معه التعقيدات والتحديات، وبينها احتمالات الصراع العسكري وربما الحرب الشاملة.

اقرأ المزيد
٢٩ مايو ٢٠١٨
العقوبات الأمريكية على إيران

اكتسب موقف واشنطن تجاه طهران وضوحاً أكبر من خلال التصريح الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو"، إذ قال: "سيتم تطبيق عقوبات لم تشهدها الحكومة الإيرانية على مدى تاريخها"، وبذلك يتوضّح أن المسألة بالنسبة إلى أمريكا لا تقتصر على الاتفاق النووي فقط، ويمكننا رؤية إصرار الأخيرة على وضع إيران في لوحة الأهداف، ولذلك تضع مسألة الاتفاق النووي مبرراً لخطتها الرئيسة، وبالتالي يتم فرض شروط صعبة جداً على إيران، وبطبيعة الحال لن توافق الأخيرة على هذه الشروط مما سيتيح المجال أمام واشنطن لزيادة الضغط على طهران بحجة أنها لا تلتزم بشروط الاتفاق النووي.

كان الاتفاق النووي الذي وضعه الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" عائقاً كبيراً أمام إيران، لأن الأخيرة لن تستطيع امتلاك السلاح النووي مع استمرار هذا الاتفاق، وقد كانت مدة صلاحية هذا الاتفاق تتمثّل في خمسة سنوات، لكن كانت هذه الشروط عبارة عن محاولة اكتساب المزيد من الوقت، أي إن إيران لن تستطيع صناعة السلاح النووي حتى بعد 15 عاماً، لكن يبدو أن الرئيس الحالي "ترامب" يرى هذه المسألة بمنظور مختلف عن نظيره السابق.

يبدو أن موقف إيران تجاه الاتفاق النووي يستند إلى أسباب بسيطة أكثر مثل العداوة الإيرانية-الأمريكية في عهد أوباما، لكن نظراً إلى الإشارات التي يتم توجيهها لإيران من قبل أمريكا يمكننا رؤية أن الأخيرة لا تعطي اهتماماً كبيراً لهذا الاتفاق، إذ تحدّث بومبيو عن تغيير نظام الحكم في إيران، في حين أن إيران كانت تؤمن بأنها ستحصل على بعض الراحة من خلال هذا الاتفاق حتى وإن لم تستطع صناعة السلاح النووي، كان إيران بعيدةً جداً عن مجال التطوير الباليستي، ولذلك حاولت أن تحافظ على تقدّمها المكاسب الاقتصادية والعسكرية التي حققتها في الشرق الأوسط، وبذلك نلاحظ أن المسألة لا تقتصر على السلاح النووي بالنسبة إلى إيران أيضاً، لكن لم يكن هذا الاتفاق كافياً لحصول إيران على بعض الراحة، لأنها لم تتمكّن من تأسيس أجواء أمان على الرغم من جميع محاولاتها في هذا الصدد.

كانت بعض الدول الأوروبية تنوي للاستثمار في إيران، ولكنها لم تجرؤ على الدخول إلى السوق الإيراني بسبب هذه المشاكل الأمنية، وكانت الأخيرة تتوّقع انتهاء هذه المشكلة مع مرور الوقت، ولكن ازداد هذا الاحتمال ضعفاً منذ قدوم ترامب إلى السلطة، والآن أصبح هذا الاحتمال أمراً مستحيلاً، ولذلك فإن الدول الأوروبية لن توافق على انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي، وكذلك لن تلجأ للتعاون مع إيران بما يخالف مصالح أمريكا، ولذلك ستضطر الدول الأوروبية للانتظار إلى أن يتم إيجاد حل لهذه الأزمة.

ستسعى إيران لاستغلال هذه النقطة، وتحاول دفع الدول الأوروبية للتدخّل في المسألة، إذ لا يمكنها اكتساب المزيد من الوقت سوى بهذه الطريقة، مع التذكير بأنها لا تستطيع اكتساب شي آخر سوى الوقت بهذا الأسلوب، وفي هذا السياق ستقدّم إدارة ترامب اتفاقاً أكثر صعوبةً من سابقه لإيران، ورأينا أن المسألة لا تتعلق بالصناعة النووية، لذلك ستحاول إيران تحديد إطار هذا الاتفاق حول مسألة السلاح النووي فقط، ويبدو أن الأخيرة قد تخلّت عن فكرة السلاح النووي بسبب العقوبات المفروضة عليها، وركّزت اهتمامها على مكاسبها في الشرق الأوسط فقط، وستوافق على جميع الشروط المقدّمة لها من أجل الحفاظ على هذه المكاسب.

يبدو أن أمريكا تهدف لشيء آخر من خلال هذه الخطوات، لكن لا أعتقد أنها تملك خطة استراتيجية واضحة من أجل الوصول لغايتها، على سبيل المثال إلى أي درجة ستحاول دفع إيران للتراجع؟ ما هي المناطق التي تشمل هذه الخطة؟ اليمن؟ أم سوريا؟ أم العراق؟ أم جميعها معاً؟ ما هي القوى التي ستتحالف معها في هذا الصدد؟ يبدو أن أمريكا لم تجر حسابات كافية فيما يخص هذه المسألة.

ستستمر  تغيّرات السياسة اليومية في تغيير موقف إدارة ترامب، وعلى الرغم من رغبة إسرائيل في رؤية سوريا ولبنان ضمن أحداث هذه المسألة إلا أن تركيز أمريكا سيكون حول ضم العراق أولاً لهذه الخطة، لأن الانتخابات العراقية المقبلة اكتسبت واقعيةً أكبر خلال الفترة الأخيرة، ونشأ احتمال تأسيس تحالف جديد معارض لإيران، مما دفع أمريكا للتدخّل والبدء في إجراء المفاوضات، لذلك يبدو أن الحكومة العراقية الجديدة ستكون أكثر تقارباً مع واشنطن من السابق، وبذلك قد يميل مركز الصراع السياسي العالمي نحو العراق، لكن يبدو أن سوريا ستبقى مركزاً للصراع العسكري العالمي في الفترة الحالية، إذ تستمر الحرب الداخلية في سوريا، وطبيعة الظروف السورية في الوضع الحالي مناسبة جداً لفتح مجال القضاء على إيران أمام أمريكا من خلال حروب الوكالة، لكن لا يمكن لأمريكا تحقيق ذلك بالتعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي، ويتوجّب على واشنطن التوجّه للتعاون مع مجموعات المعارضة السورية للوصول إلى هذه الغاية.

اقرأ المزيد
٢٨ مايو ٢٠١٨
حظوظ الحرب ما زالت أرجح

 حتى الآن، لم تبد طهران أي استجابة للعروض الإسرائيلية بالمباشرة في حربٍ مع تل أبيب في سورية. الغارات صارت شبه يومية، والأهداف تنوعت بين مطارات ومخازن أسلحة ومواكب، والأميركيون بدورهم اشتركوا ببعض الغارات.

والحال أن عدم استجابة طهران لعروض الحرب ينطوي على قدر من السياسة، ذاك أن قراءة للمشهد ستفضي بصاحب القرار في طهران، إذا ما كان واقعياً، إلى أن الانكفاء أجدى، وأن موازين القوى في هذه الحرب ليست إلى جانبه بأي حالٍ من الأحوال، والاكتفاء بوعود الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله بردود غير متوقعة هو الصيغة الأكثر ملاءمة للواقع الإيراني اليوم.

لن يكون أحد إلى جانب طهران إذا بدأت الحرب. موسكو نفسها ستكون على الحياد، والجيش السوري عبء وليس سنداً. الميليشيات الشيعية، باستثناء «حزب الله»، لا تصلح لحربٍ من هذا النوع وستكون مجرد هدف للغارات، فيما ستكون واشنطن إلى جانب تل أبيب، وجهود التهدئة الأوروبية ستبدأ في الأسبوع الثالث، أي بعد أن تكون الحرب قد أرست معادلات ميدانية. خصوم طهران من كل حدب وصوب سينتظرون جلاء النتائج.

لكن، في ظل معادلة اليوم، على المرء أن يراقب المشهد وأن يحار مما سيفضي إليه! فما يجري ميدانياً هو حرب غير معلنة. الغارات اليومية التي تصلنا أخبارها ليست سوى حرب لا يرغب أطرافها في توريط أنفسهم بإعلانها. وما لا يصلنا أخبار عنه مما يجري في الميدان ربما كان أكبر. من يدري، طالما أن إسرائيل لا تعلن وطهران قالت إن لا وجود لها في سورية.

شرط الحرب هو أن يُعلن عنها، وهذا ما يبدو أن طهران وتل أبيب تتفاديانه حتى الآن. الحرب بصفتها حدثاً سياسياً، لا عسكرياً، تقتضي أن يُكشف عن وقائعها لكي تتحول سياسة ومفاوضة ومعطياتٍ ميدانية. أن تنفذ إسرائيل غارة وأن تدمر قاعدة للحرس الثوري الإيراني، فلا قيمة غير ميدانية لما جرى طالما أن طهران، وبالتواطؤ مع تل أبيب، لا ترغب في أن تبني على الشيء مقتضاه. لن يطول الوقت حتى تنقضي هذه المعادلة، فهذا الاختناق لن يولد نتائج لا شك أن تل أبيب تسعى إليها. الحرب غير المعلنة لا تنجم عنها نتائج. الخسائر السرية تحمي من يتكبدها من تبعات الهزيمة الفعلية. وهذه لعبة تجيدها طهران، وتل أبيب من جهتها لا تمانع حتى الآن طالما أن الهدف ما زال منع طهران من تثبيت قواعد لها في الجنوب السوري.

وعند هذا المستوى من الاختناق، ستسعى طهران إلى مزيد من البراغماتية الميدانية، وهي تجيد ذلك كثيراً. الأرجح أن تنفذ «انكفاءات» ميدانية وأن تفسح في المجال لدور روسي أكبر على الأرض في سورية، وثمة معلومات غير موثقة عن انسحابات بدأت تنفذها الميليشيات الشيعية من الجنوب السوري. وهذه المعلومات، إن صحت، لا معنى لها سوى أن طهران تقول إنها لا تريد الحرب.

لكن، من المرجح أيضاً أن ذلك لا يكفي في عرف تل أبيب. فالتورط الإيراني في سورية لا يمكن حجبه بسحب بعض الفصائل العراقية. وانسحابات فعلية للميليشيات المرعية من إيران تعني أن النظام المحمي من هذه الميليشيات فقد ظهيره الرئيسي وسيلتقط خصومه أنفاساً تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. موسكو من جهتها، لا يبدو أنها في موقع إدارة مفاوضات لتفادي الحرب. الأرجح أنها أضعف من أن تشكل ضمانة لأي اتفاق، ولهذا هي في موقع المنتظر. وأن تتعرض طهران لضربة في سورية، فهذا ما يرشح فلاديمير بوتين لأن يملأ الفراغ، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن موسكو لا ترغب في ردع أحدٍ.

حظوظ حرب إسرائيلية إيرانية في سورية ما زالت أرجح من حظوظ نجاح المساعي لتفاديها. علماً أن المساعي تقتصر حتى الآن على خطوات انكفائية تنفذها طهران، ولا يبدو أن تل أبيب تشعر بأنها مقنعة.

اقرأ المزيد
٢٨ مايو ٢٠١٨
سورية في مهب إعصار أممي

أخذتنا الأحداث، وكثرة الأطراف الضالعة في الحرب على أرض سورية، بعيدًا عن واقعنا الذي ما زال يتدهور في حالةٍ مريعةٍ، حتى لم يعد في الإمكان رؤية أفق في مدى هذه الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات، وصرنا نلهث خلف الخبر، وصرنا أسرى الفضائيات وأسرى الصور والمشاهد فائقة المكر. بل فتحت شبكة الإنترنت والمواقع المتنوعة المجال أمام الجميع، ومن دون قيود، لوضع ما يريدون على الإنترنت، ليكون متاحاً للعالم رؤيته، فجرفنا هذا الضخ المتدفق كالشلال إلى دوامةٍ زادت في ضياعنا وغربتنا عن واقعنا. صارت أنظارنا ترنو إلى انعكاس وهج النار في محيطنا، علّ يلوح في الأفق من يمدّ خراطيم المياه لإطفائها، ولا نحاول إنقاذ أنفسنا، أو مدّ يد العون إلى إخوتنا. بينما نحن نحترق بالفعل في أتونها، بل المحزن والمخزي أننا نتشفى بموت بعضنا بعضا.

لكن بالفعل لم يعد أمام السوريين من خياراتٍ كثيرة، فمن يتابع الأحداث وتسارعها يستنتج أن الترتيبات المتوقعة أو المرجوة تديرها لعبة الأمم الضالعة في صنع مصيرنا، وفي صنع مصير العالم أيضًا. نحن رهن هذه اللعبة، وكان من الواجب على من احتكروا الحراك الشعبي السوري، ونصبوا أنفسهم بدعم من جهاتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ أن يفهموا هذه اللعبة، وأن يعرفوا كيف يحرّكون مجاذيف الزورق الذي حملوا فيه كل السوريين، في مغامرةٍ غير محسوبة النتائج، ولم يكن كسفينة نوح.

ردا على سؤال الإعلامية ميسون ملحم، في قناة دويتشه فيليه، ما إذا كانت سياسة الأوروبيين تجاه إيران تتعارض مع مصالحهم مع العالم العربي، خصوصا مع دول الخليج التي تعتبر شريكاً تجارياً مهماً لهم، قال رئيس قسم العلاقات عبر الأطلسي في الجمعية الألمانية للسياسات الخارجية، هيننغ ريكه، "إن الأوروبيين ينتهجون مع إيران سياسة على مسارين في الوقت نفسه، فمن ناحيةٍ، هم أعلنوا عن دعمهم الاتفاق النووي، ومن المفترض أن يحاولوا التعويض لإيران عن بعض الخسارات التي ستلحق بها. ومن ناحية أخرى، سيحاولون دفع إيران إلى مفاوضاتٍ تتعلق ببرنامج الصواريخ وبتدخلها في سورية وفي اليمن، حيث تدعم جماعات شيعية مسلحة منخرطة في النزاع المسلح. طبعاً مفاوضات كهذه لا يمكن أن تتم مع إيران وحدها، وإنما مع أطرافٍ أخرى، مثل السعودية أيضاً، ومن خلال مؤتمر سلام إقليمي".

هل يمكن للسوريين الذين شتتتهم الحرب، وشرّدتهم، ومزقت نسيجهم الاجتماعي، ودقت أسافين الفرقة والتقسيم فيما بينهم، أن يحلموا بسلام بناءً على احتمال مؤتمر إقليمي للسلام، كما يقول الباحث؟ عاش السوريون عقودًا تحت خيمة شعار "الأرض مقابل السلام"، ودفعوا فواتير حرب مرصودة في القادم من الأيام، كانت دائمًا تختبئ خلف أبوابهم، وتجعلهم أسرى التهديد الوجودي الكبير، العدو الصهيوني. ومنذ النكبة، أي منذ سبعين عامًا، وإسرائيل تزداد تغولاً في حياة الشعب الفلسطيني، والأرض والحقوق تنتهكان، ولم يأت السلام. وتسعى إسرائيل في طريق ترسيخ وجودها، وتمكين نفسها دولةً قويةً متطورةً راسخةً ضاربةً بكل القرارات الدولية والوثائق والمعاهدات والاتفاقيات عرض الحائط. وصار الموقف المعلن من إسرائيل، ومن القضية الفلسطينية، هو ما يفرز الدول والأنظمة من حولنا إلى صديق أو عدو، بينما تعمل تلك الدول والأنظمة على ضبط سياساتها وفق مصالحها، ومن يقرأ سياسات إيران وتركيا على الأقل خلال العقود الماضية سيرى ما يؤكد هذه الوقائع.

ومنذ قدوم ترامب إلى سدة الرئاسة، تتضاءل فرص التوصل إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، هذا الرجل السافر حدّ الذهول، فماذا فعل العرب، أو فعلت تركيا وإيران أمام قراره نقل سفارة بلاده لدى إسرائيل، وبمباركة دول عربية "شقيقة"، كما أوهمتنا الإيديولوجيا القومية، القرار الذي لم ينتظر طويلاً حتى ينفذه بالفعل، فهو رجلٌ نافد الصبر على ما يبدو، لا يعرف الانتظار كثيرًا، أو ربما هو يعرف تمام المعرفة حجم بلاده، وثقلها وسطوتها على العالم. وبالتالي يفعل ما يريد، لأنه يعرف أيضًا أن كل فعل منه سوف يربك العالم بأسره، وحلفاءه قبل أعدائه أو خصومه. بل ماذا يفعل العرب إزاء موت الفلسطينيين المحاصرين في غزة منذ سنوات طويلة؟ ما يُحكى عن حل تسعى مصر إلى تطبيقه مع الولايات المتحدة من إلحاق غزة اقتصاديًا بمصر عن طريق رفح، وإقامة مطارات في العريش، أمر مؤلم وفاجع، باعتبار أن في دور كهذا ما فيه من نسيان لجرائم إسرائيل، ورفع المسؤولية عنها مع الزمن، يمكن أن تلعبه مصر.

ليس فقط تمييع القضية الفلسطينية والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني ونسف المسار الذي اتفقت القوى الفاعلة سابقًا حول تطبيقه يقوم على أساس الدولتين، ونسف السلام المرجو، بل إن نسف الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعته الولايات المتحدة والدول الشريكة في يوليو/ تموز 2015، من دون إقامة اعتبارٍ إلى الشركاء الآخرين سوف نحصد نتائجه المريعة هنا، في سورية وفي المناطق الأخرى التي تشتعل فيها الحروب على شعوبنا، منذ رفعت الصوت تريد الحرية، خصوصا بعد تحذيرات وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، ومطالبته إيران بتنفيذ بنود اثني عشرية.

يقول الباحث في الحوار نفسه: "ما تزال الولايات المتحدة الشريك الأقرب والأهم بالنسبة للاتحاد الأوروبي. إنه أمر يتعلق بالارتباط الكبير في مجال الدفاع المشترك من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالعلاقات الاقتصادية القوية بين الطرفين. يجب أن لا ننسى أن الولايات المتحدة الأميركية مع كندا والاتحاد الأوروبي تشكل أقوى حلفين، عسكري واقتصادي، في العالم. إضافة إلى ذلك، تجمع الطرفين قيم مشتركة كثيرة فيما يخص الديمقراطية وحقوق الإنسان". فحتى لو بدا، كانطباع أولي عن المشهد الحالي، أن الأوروبيين على خلاف مع الولايات المتحدة، وأنهم يرغبون في إنقاذ الاتفاق النووي، عن طريق التعاون مع أطراف أخرى، كالصين وروسيا، إلا أن مصلحة الغرب، في النهاية، هي مع حلفائها الأهم، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، حتى لو أبدوا ما أبدوا من مواقف ضد إلغاء الاتفاق النووي، فهم في الواقع ليسوا في موقعٍ يملك من القوة ما يجعلهم فاعلين أساسيين، أقله على المدى المنظور. فأمام الاتحاد الأوروبي مسؤولياتٌ تجاه المنطقة، ولديهم ما يكفيهم من الاستحقاقات التي باتت نقطة خلافٍ في السياسات الداخلية لدى بلدانٍ عديدة، تبدو مشكلة اللاجئين في صدارتها، تُدخلها في مساومةٍ حولها عن طريق الدفع في تكاليف إعادة إعمار سورية.

لو ينظر السوريون بتمعنٍ ونياتٍ متحرّرة من عصبيات ما أحدثته الحرب في واقعهم، لكانت الحقيقة صادمةً إلى درجة أن من غير المحتمل بقاءهم مرتهنين للخارج، على الأقل في نظرتهم إلى ما يجري في بلادهم، وأن ما يبدو انتصارا لطرف، وهزيمة لآخر، ما هو إلاّ نتيجة كارثية لصراع القوى الدولية والإقليمية فوق أرضهم، دفعوا ثمنه، وهو نكبة سورية كلها. لم يبقَ جيش نظامي، أو قوات غير نظامية، أو مليشيا تابعة، إلاّ ولها موطئ قدم وزناد على الأرض السورية. لأميركا أماكن نفوذ مع حلفائها على مساحة كبيرة، تركيا، إيران، روسيا. ولا يمكن لهذا الوضع المختلط إلا أن يدفع باتجاه الخوف مما يحصل في العالم، من الفوضى التي أحدثتها أميركا، من وأد القضية الفلسطينية، من التحالفات الرجراجة التي يفرضها الظرف الراهن والتطلع المستقبلي. كلها عوامل تؤكد أن السوريين، إذا لم يلاقوا صيغةً يتفاهمون من خلالها على انتشال وطنهم من السقوط المدوي، لن يكونوا قادرين مستقبلاً على لملمة مزقه. العالم يرتب أولوياته، وتسعى الأمم إلى ضمان مستقبلها على حسابنا، وحساب قضايانا العادلة. ونحن لا نعرف أن نحلم بأن نكون أمةَ، بعد أن ضيعنا بعضًا من أسسها التي كان يمكن أن يبنى عليها.

اقرأ المزيد
٢٨ مايو ٢٠١٨
ميركل وبوتين.. لعبة السياسة والابتزاز

تتبادرُ إلى الأذهان، فورَ سماع خبر زيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، الرئيسَ الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية، وطرحها مسألة القانون الذي أصدره بشّار الأسد قبل أسابيع، مسألة الابتزاز التي يجيدُ ممارستها الساسة. وهو قانون يعطي السلطة التنفيذية الحقّ في تنظيم وإعادة تنظيم أية منطقة عقارية تحدّدها هي، وتقوم العملية على مبدأ حلّ الملكيات الفردية، واعتبار المنطقة كاملة بمثابة عقار واحد، يتمّ إعادة تقسيمه بعد اقتطاع النسب المجانية للصالح العام. ويعتبرُ أكثر الحقوقييّن السوريين هذا القانون بمثابة سلاح جديد يستخدمه النظام لتجريد السوريين المعارضين، خصوصا منهم المهجرين، من ملكياتهم العقارية، فقد اشترط على ملّاك العقارات إثبات ملكياتهم خلال شهر أمام لجان إعادة التنظيم، لمعرفته باستحالة ذلك، في ظلّ التعقيدات الأمنية الهائلة المفروضة عليهم، وعلى وكلائهم القانونيين، في حال تمكّنوا من توكيل أحد يمثّلهم.

أن تذهبَ بنا عقولُنا المشرقيّة المبنيّة، منذ بدايات زمن الانحطاط، بشكلٍ مكثّف وشبه تام على حضور نظريّة المؤامرة في تفسير كلّ حدثٍ خارجٍ عن إرادتنا، ونعجزُ عن تفسيره، أمرٌ لم يعُد ينطلي على كثيرين، أو على الأقل لم يعُد يروق لكثيرين. التاريخُ حركةُ تفاعل جدليّ، وصراعٌ بين مجموعة من المصالح والقيم والمفاهيم، وهو ليس نتاج أفرادٍ يقرّرون بخالص إرادتهم هذه السيرورة المعقّدة، لكنّ المتتبّع لدور الأفراد في التاريخ يجدُ، في المقابل، أنه لم يكن أبداً حاصلاً صفريّاً، بل هو قيمةٌ محسوسةٌ ذات وزن قابلٍ للقياس.

صحيحٌ أنّ العامل الفردي يبقى محدود التأثير، ويتمظهرُ انعكاسا، بشكل أو بآخر، لمجموعة القوى الفاعلة، إلّا أنه يكون أحياناً عاملَ حسمٍ، وعتلةً رافعةً للتغيير المطلوب في لحظةٍ مفصليّة من لحظات التاريخ، وهذا ما ينطبقُ بشدّة على الرئيس الروسي الذي يعتبره بنو قومه المسيح المخلّص الذي قام من موته، وبعثَ معه العِرقَ الروسي وشعوره القوميّ المستند إلى موروث القياصرة العريق.

في كلّ الأحوال، كيف نفسّرُ هذه المخاوفَ الألمانية من قانونٍ صدر في دولةٍ فاشلةٍ، تقبعُ منذ خمسين عاماً خارج تاريخ فعل الإبداع البشري؟ ولماذا تمّ الطرحُ أمام القيصر الروسي؟ ولماذا كان ردّ القيصر أن على الغرب تحمّل أعباء إعادة إعمار المدن والقرى التي دمّرها مُصدِرُ هذا القانون وحليفه الراعي؟

لا يُعقل أن يكون بوتين قد طلب من بشّار الأسد إصدار هذا القانون، ولكن يمكن الجزم بأنّه، وبسبب دعمه المطلق وحمايته العسكرية والسياسية التي وفرها له سبعة أعوامٍ ونيّف، أوجد الأرضيّة المناسبة، أو البنية التحتيّة لهذه التراجيديا القانونية. وبغضّ النظر عن القانون وآليات تطبيقه وآثاره، فإنه كان بلا شكّ من أهمّ سعاة البريد الذين حملوا رسائل العنف والابتزاز خارج نطاق تطبيقه المكاني وحيّزه الحيويّ أصلاً.

قرأت ألمانيا بحقّ هذه الرسالة، وسواء أكانت هي المقصودة بها أم لا، فإنها وجدت نفسها معنيّة بها بلا ريب. وهي تحتضن نحو نصف مليون لاجئ سوري، هربوا من براميل النظام، وجزءٌ يسير منهم هرب من جور التنظيمات التي فرّخ قادتها في سجونه وأقبية مخابراته. كلّ واحد من هؤلاء يكلّف الخزانة الألمانية مبلغاً لا يقلّ وسطيّاً عن ألف يورو شهريّاً (بحسب مصادر متخصصة)، ما يعني نصف مليار شهريّاً وستة مليارات سنويّاً. وقد باتت آثار هذا الأمر على الاقتصاد والمجتمع والسياسة الألمانية من أهمّ الحجج التي يرفعها اليمين المتطرّف في وجه الأحزاب الكبرى، وقد تكون زيارة بعض أعضاء البوندستاغ (البرلمان) الألماني من حزب البديل إلى سورية أحد أسباب التسريع في صدور هذا القانون.

المعايير القانونية والدستورية في أوروبا هي ما يجعل هذا الملف حساساً وقابلاً للاستخدام والضغط. وتنص المادة الأولى من الدستور الألماني "تكون كرامةُ الإنسان مصونةً، وتضطلعُ جميعُ السلطات في الدولة بواجبات احترامها وصونها". لم تتحدّث هذه المادّة عن كرامة المواطن الألماني، بل عن كرامة الإنسان. ومن هنا، يتمتع أي إنسان مقيم في ألمانيا بالدرجة نفسها من الكرامة والاحترام والحقوق (باستثناء الترشّح والانتخاب) التي يتمتع بها أي مواطن ألماني. يستتبع هذا أن تتحمّل الدول الأوروبيّة مسؤولياتٍ ماديّةً كبيرة لرعايتهم.

رسَم بوتين بدعمه طغاة الشرق الأوسط خطّاً بيانيّاً صاعداً لليمين المتطرّف في أوروبا، فأحزاب هذا اليمين أعجزُ من أن تقدّم برامج انتخابية مقنعة، تستطيعُ بها منافسة الأحزاب التقليدية التي تعاقبت على حكم أوروبا، ففي بلدانٍ يُشكلُ المسنّون نسبة كبيرة جداً من سكانها يجب على الأقل أن يكون لأي حزبٍ من ضمن برنامجه الانتخابي ما يتعلق بسنّ التقاعد وبالتأمين التقاعدي وتأمين رعاية المسنّين والعجزة، وهذا أمرٌ لم يستطع تقديمه مثلاً حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD)، ولذلك ترفع هذه الأحزاب شعارات معاداة اللاجئين، باعتبارها بطاقة رابحة في أوساط الطبقات الفقيرة.

كانت جزئيّة القانون رقم 10 ولا شكّ إحدى نقاط البحث بين ميركل وبوتين، وتشعّبات الملف السوري تجعلهُ حاضراً في أغلب بازارات المصالح السياسية والاقتصادية الدوليّة. وفي المقابل، هل يمكن التسليم بأن روسيا في موقع أقوى من ألمانيا، أو من أوروبا مجتمعة، حتى تمارس عليها هذا الابتزاز في ملفّ اللجوء، أم أن لدى أوروبا أوراقا كثيرة تستطيع اللعب بها في مواجهتها؟

يرى الناظر إلى طبيعة العلاقة ما بين الكتلتين أن الأوروبييّن في موقع أقوى من موقع الروس، بدليل أنهم يستطيعون فرض عقوباتٍ اقتصاديّة عليها، وهي لا تستطيع الردّ بالمثل، فماذا تملك روسيا غير الغاز الطبيعي، لتصدّره إلى أوروبا؟ ليس السلاح بضاعة رائجة هنا. وإذا احتاج الأوروبيّون سلاحاً، فبالتأكيد لن يشتروا الخردة الروسيّة التي لم تتطوّر كثيراً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. بالعكس، تحتاج روسيا بكل تأكيد التكنولوجيا الغربية والآلات والمواد المصنّعة بأعلى المواصفات التقنية التي لا يمكنها أبداً مجاراتها.

كذلك يمكن لأوروبا عموما، وألمانيا خصوصا، تحمّل ملف اللاجئين عدة أعوام، بل يمكنها الاستفادة من أبناء هذه الكتلة البشرية بشكل ممتاز، بعد جيل واحد، بافتراض أنها لن تستفيد من أيديهم العاملة الآن. ولكن، ماذا لو رفضت أوروبا، أو دولها المحوريّة على الأقل، الانخراط في إعادة إعمار سورية، هل ستخسر كثيراً، وهل سيكون بإمكان الروس الاستثمار بأنفسهم مثلاً، أم هل استثمارهم ممكن من دون موافقة الأميركيين المطلّين عليهم من كل جانب؟ الصراعُ جدليٌّ إذن بين الطرفين، ومن يجد في نفسه القوّة سيحاول الاستفادة أكثر على حساب الآخر.

يبقى أن نتذكّر أن القيصر يسعى إلى استعادة هيبة الدبّ الروسي التي انهارت مع انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي المقابل، ليست المستشارة ميركل من الشخصيّات المصنّفة تحت وزن الريشة، كما بشّار الأسد، ليستعرض بوتين عليها أو على بلدها عضلاته. إنها سيدة الماكينات الألمانيّة التي أنجزت المعجزة الاقتصاديّة، بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الثانية بعشرين عاماً، بينما انهارت روسيا التي انتصرت بها بعد أربع وأربعين سنة فقط.

ما يهمّنا، نحن السوريين، من هذا البازار كيفيّة انعكاسه على قضيّتنا المُشرعة الأبواب على رياح التأثير الدولية والإقليمية، وكيفية استفادتنا من مجمل المتناقضات، كي نصنع خياراتنا الوطنيّة ونرسمها ضمن الإمكانات المتاحة وهوامش الحركة الضيّقة.

هي أسئلة مطروحة للبحث والنقاش المستمرّين، وليس بالإمكان دوماً طرحُ الإجابات، ولا إيجادُ الحلول، فالسؤال يكون أحياناً جواباً في الوقت نفسه.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)