في الحملة الانتخابية النيابية التي يروّج لها حزب الله في لبنان اليوم، يشكّل خطر قيام حرب إسرائيلية قريبة منه، أحد أبرز عناوين حملته الانتخابية.
حزب الله الذي كان له الدور الأبرز في إنجاز قانون انتخاب يتيح له اختراق التمثيل النيابي في الطوائف اللبنانية الأخرى، ويوفر له السيطرة على التمثيل الشيعي، بدأ قبل أكثر من شهر ونصف الشهر من موعد الانتخابات في السادس من مايو المقبل، أمام معضلة مع جمهوره.
وتتصل هذه المعضلة في البعدين الاقتصادي والإنمائي، وفي تنامي الانتقادات لأداء نوابه في السنوات التسع الماضية على هذا الصعيد، حيث تشهد منطقة بعلبك الهرمل، المنطقة التي حضنت تأسيس حزب الله في العام 1982، أسوأ ظروف الحياة الاقتصادية في لبنان، وعلى الرغم من تمثيل حزب الله لها في مجلس النواب منذ أكثر من ربع قرن، فإنها تشكّل المنطقة الأكثر إهمالا، وتعاني من أوضاع اجتماعية واقتصادية سيئة، وتشهد أكثر نسبة من الانفلات الأمني وانتشار العصابات الإجرامية ولمظاهر الخروج على القانون.
لم يجد حزب الله وسيلة لمواجهة حال التململ والاعتراض في بيئته، إلا لغة التخويف عبر استحضار عنوان الحرب الإسرائيلية، كخطر داهم، من دون أن ينسى في السياق نفسه ما يسميه خطر تنظيم داعش، متناسيا إعلان أمينه العام، حسن نصرالله، النصر على هذا التنظيم قبل أشهر.
فأمام عجزه عن تقديم إجابات موضوعية لجمهوره عن سبب تقصير ممثليه في البرلمان في تحسين أحوال منطقة البقاع وأهلها، وإزاء إصراره على ترشيح نفس النواب المتهمين بالتقصير والفساد مجددا إلى الندوة البرلمانية، في خطوة هي أقرب إلى تحدي جمهوره، كانت حالة الاعتراض والتململ تمتد وتعبر عن نفسها بوسائل مختلفة، وهذا ما دفع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، إلى إطلاق تحذير من خطر وصول نواب إلى البرلمان ممن يدعمهم تنظيم داعش أو مموليه، ولم يكتفِ بذلك بل قال “إذا اقتضى الأمر أن أزور هذه المنطقة قرية قرية من أجل دعم لائحة الحزب فسأقوم بذلك”، وهي إشارة واضحة إلى شعوره بأنّ أهالي البقاع لم يعودوا كما كانوا سابقا ملتزمين بتوجيهات حزب الله وأمينه العام، أي أن حالة التململ تهدد فعليا وصول كامل مرشحي حزب الله إلى الندوة البرلمانية في كل الدورات الانتخابية منذ العام 1992 حتى آخر انتخابات نيابية جرت في العام 2009.
سلاح التخويف والتهديد الوجودي رفعه حزب الله في مواجهة بيئته الشيعية، بالقول إن الحرب ستحصل قريبا، فانتبهوا من عودة ممكنة لتنظيم داعش، وما إلى ذلك من ضخ تقارير صحيحة وأخرى مفبركة عبر العشرات من المنابر الإعلامية وعبر شبكات التواصل الاجتماعي التي تشكّل القناة السرية التي يوجه حزب الله من خلالها جمهوره بشكل غير رسمي.
والملفت في الأيام الماضية بث هذه المنابر حجما هائلا من الأخبار والتقارير التي تتحدث عن حرب إسرائيلية وشيكة على حزب الله، لكن أي متابع ومدقق للمواقف الإسرائيلية، سيجد أن لا تغييرا حدث في المواقف الإسرائيلية يبرر هذا الحجم المتداول من التقارير والأخبار عن حرب وشيكة على لبنان تحرص وسائل حزب الله الإعلامية المباشرة وغير المباشرة على بثها.
إذاً ليس لدى حزب الله ما يعطيه لجمهوره سوى بضاعة الخوف والتخويف، لمواجهة أسئلة الحياة اليومية في العيش وفي العمل وفي الحقوق التي لا ينالها المواطن.
وعلى الرغم من أن سمة الاستعلاء والاستقواء هي الأبرز في خطاب حزب الله تجاه مطالب اللبنانيين في تثبيت دور الدولة ومرجعيتها أمام تغوّل مشروع الدويلة، فإنّ نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، أعلن صراحة أنّ حزب الله المطمئن إلى فوز لوائحه لا سيما في المناطق الشيعية، يعمل على إيصال حلفائه إلى الندوة البرلمانية، أي أنّ حزب الله يريد أن يضمن لنفسه كتلة نيابية تستند إلى قاعدة شيعية صلبة، وتستكمل بنواب متنوعين من الطوائف المختلفة، بغاية أن تتحول هذه الكتلة إلى قوة نيابية يستخدمها الحزب في مواجهة أي مخاطر دستورية أو قانونية تتصل بدوره الاستراتيجي والعسكري.
على أن ذلك لا يعني أن حزب الله يولي اعتبارا أساسيا للعملية الدستورية، فهو الذي هُزم وحلفاؤه في الانتخابات النيابية عام 2009 نجح بسطوة سلاحه في إلغاء هذا الفوز، وحول الأكثرية النيابية إلى جانبه، بل نجح في إبعاد زعيم الأكثرية النيابية بعد الانتخابات، في ذلك التاريخ، سعد الحريري من رئاسة الحكومة، والإتيان بالرئيس نجيب ميقاتي بديلا منه، أي أنّ السلاح كفيل بأن يقلب المعادلات الدستورية لصالحه مهما كانت موازين مجلس النواب.
لكن ذلك لا يلغي اهتمام حزب الله بالانتخابات النيابية منذ إعداد قانونها وإقراره، وصولا إلى التحالفات ثم إجراء الانتخابات، بغاية إظهار أن وجوده لا يزال يحظى بشرعية شعبية، فالانتخابات اللبنانية رغم ما فيها من شوائب تخلّ بمصداقيتها، لا سيما في ظل استخدام سطوة السلاح والقدرة على تزوير النتائج في بعض الدوائر الخاضعة لسلطة حزب الله كما هو الحال في البقاع والجنوب، إلا أنّها تظهر إلى حد ما مؤشرات واتجاهات الرأي والتمثيل السياسي لدى الشعب اللبناني، ودلالات التغييرات الجزئية المتوقعة في هذه الانتخابات، ومنها ما هو داخل بيئة حزب الله.
من هنا فإن حزب الله يستخدم كل ما لديه من سطوة لترتيب النتائج الانتخابية في مناطق نفوذه ليس عبر تشكيل لائحته فحسب، بل هو متفرغ هذه الأيام لتشكيل لوائح خصومه، ويستخدم كل ما لديه من تأثير سياسي ومالي وأمني في تفتيت وتشتيت لوائح الخصم، والعمل على اختراقها سياسيا.
إذ أن حزب الله بحسب بعض المصادر المتابعة للانتخابات في بعلبك، نجح نسبيا في تعميق الشرخ بين القوات اللبنانية وتيار المستقبل في هذه المنطقة، بما أربك حلفاءهم المفترضين في البيئة الشيعية، وساهم هذا الشرخ في إنعاش آمال حزب الله بمنع حصول خروقات كبيرة في لائحته.
وقد ذهب أحد الناشطين في تشكيل لائحة معارضة لحزب الله تضم كل القوى المتضررة والمعارضة، إلى القول إنّ “حزب الله ليس موجودا في لائحته الانتخابية فقط، بل إنه يدير لائحة معارضته”، ملمحا إلى “صفقة غير مستبعدة بين جهات رسمية وحزب الله من أجل منع خرق تمثيله النيابي في البقاع الشمالي، مقابل ثمن سياسي يقدّمه الحزب لهذه الجهة لاحقاً”.
وأكد الناشط المعارض لحزب الله أن الحزب مستعد لأن يدفع الكثير لمنع إحراجه في الانتخابات النيابية القادمة، وهناك من هو قابل من الذين يشاركونه في الحكم لبيع الفوز بثمن بخس، أي بمحاولة تصديع مختلف القوى المعارضة لحزب الله أو تشتيتها في لوائح انتخابية متعددة خاصة في منطقة البقاع الشمالي، وهي الهدية التي يشتهيها حزب الله اليوم في الانتخابات.
استعاد نظام بشار الأسد، ذكرى انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية السلميّة ضدّه في آذار/مارس من عام 2011 بمنهجيته المعتادة: تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بوقف فوري لإطلاق النار عبر اجتياح الغوطة الشرقية لدمشق، وكانت آخر أفعاله قصف سوق شعبي في الغوطة الشرقية المحاصرة والمجوّعة والمتعرضة للاجتياح حالياً، مما خلّف عددا كبيراً من جثامين الأبرياء المحترقة، وإعدامات ميدانية لمئة شخص في بلدة حموريّة التي احتلها قبل أيام، ثم استخدم أهاليها دروعاً بشريّة لصدّ هجوم معاكس للمعارضة، فيما تعرض وسائل إعلامه صور آلاف المدنيين الجوعى يخرجون من أراضيهم وبيوتهم مهزومين، في متابعة حثيثة لمقتلته الكبرى التي بدأها في درعا وانتقلت إلى بانياس وحماه وحمص، ثم تمدّدت إلى كافّة أنحاء سوريا.
الأمم المتحدة، التي تراقب، عبر مبعوثيها ومنظماتها والناطقين باسمها، تفاصيل الكارثة السورية، تابعت بدورها تقاريرها المخيفة عن أحوال تلك البلاد: قوات «الحكومة» السورية والميليشيات المتحالفة معها تستخدم الاغتصاب والاعتداء الجنسي على النساء والفتيات والرجال لمعاقبة المناطق المعارضة، والأطفال خصوصاً هم ضحايا «جرائم حرب»، وأن البلاد صارت كلها «غرفة تعذيب ومكانا للرعب الوحشي والظلم المطلق»، وأن النظام السوري يخطط لما يشبه «نهاية العالم»، وتنهي كل ذلك بتبشير السوريين بأن المحنة السورية في عامها الثامن ستشهد «معارك طاحنة».
لكن باستثناء هذه التصريحات المرعبة للمنظمات التي تمثل الشرعية الدولية فإن العالم، وأدواته الفاعلة، كمجلس الأمن الدولي، والمنظومة الدولية عموما، مستنكف تماماً عن أي محاولة للتدخّل لوقف المجازر، فيما يطلق أقطابه كل فترة تحذيرات للنظام من استخدام النظام للأسلحة الكيميائية (التي لم يكفّ طبعا عن استخدامها) في خذلان عجيب لملايين السوريين الذين تُركوا ليواجهوا نظاماً وحشيّاً، مدعوماً بآلة القتل الروسية التي جعلت سوريا ميدانا لتجريب أسلحتها والتفاخر بفاعليتها وتسويقها تجارياً، وبميليشيات إيران المتعددة الجنسيات، التي تعتبر ما يحصل تكريساً لنفوذها الكبير في المنطقة العربية.
استدعت هذه المحنة المستمرة أسئلة ممضّة للسوريين، وخصوصاً بعد انتشارهم الكبير في المنافي وتنامي التيارات العنصرية الكارهة للمهاجرين والمسلمين منهم خصوصا، عن سبب تكاثر السكاكين عليهم، وإذا غضضنا طرفاً عن الموالين الذين نزعوا عن المدنيين إنسانيتهم ورحّبوا بأعمال الإبادة، لوجدنا حلفاً عجيباً يجمع بين أيديولوجيات متخاصمة نظريا، فيجتمع في تأييد نظام الأسد وإبادة شعبه بعض مدّعي المقاومة والممانعة العرب، مع ميليشيات تابعة لإيران، مع تيارات العنصريّة الفاشية الغربية الكارهة للإسلام، مع اليسار الستاليني.
بعض أنصار الثورة أعادوا، في هذه المناسبة، تأكيد وفائهم لفكرة الثورة رغم الكارثة المديدة على الجغرافيا السورية، والهزائم الكبيرة التي تعرّضت لها، وتحوّل بلادهم إلى مركز صراع إقليمي ودولي بالوكالة، وتراجع التيارات الديمقراطية والمدنية أمام مدّ السلفيّة والجهادية المسلّحة، التي ضيّقت بدورها على سكان المناطق المحررة من النظام، وكثيرون منهم انهمكوا في لوم العالم، والعرب، وبعضهم البعض، فانهمر اللوم على التيارات الإسلامية، وعلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة وعلى المثقفين، بل إن البعض انشغلوا بلوم الشعب نفسه، وذمّ هويتهم العربية والإسلامية وثقافتهم ودينهم، في حالة تدمير ذاتي ناتج عن الإحباط أو الألم والمرارة.
البعض الآخر طالب بمراجعة لمفاهيم متجذّرة، كالوطنيّة السورية نفسها، التي انقسمت شر انقسام على أسس طائفية وإثنية، بعد أن امتهنها النظام شرّ امتهان، بتحوّله إلى مطيّة للقوى الأجنبية ضد شعبه، وهو ما حوّله، بالنسبة للسكان أنفسهم، وللعالم، إلى جيش احتلال أجنبيّ وحشيّ يدافع عن طغمة كاسرة دمّرت البلاد وباعت مستقبل الشعب وأراضيه للحفاظ على السلطة.
لقد فتحت المحنة أبواب الجحيم على السوريين، لكنّها فتحت أيضاً نافذة الوعي الحادّ بإشكاليات العالم كله، والوعي هو جزء من حلّ المشكلة.
ربما لم تكن مصادفة أن تشتعل أغصان سورية بأزهار الثورة السورية في آذار، فأي زمنٍ آخر لم يكن ليكون أنسب منه للبدايات.. كل البدايات، تلك التي لا تكاد تنطفئ وتتعرّى لنظنّها قد جفت، حتى تطلق النسغ كل آذار من جديد.
في عيد ميلادها السابع، تئن الثورة السورية تحت أنقاض بيوت الغوطة الشرقية، ليخرجها رجالها جريحة مدماة، لكنها حيّة.
في عيد ميلاها السابع، تصيح الثورة السورية من داخل معتقلات نظام الأسد، تكزّ على أسنانها الغضة بعد كل اغتصاب، لكنها تمزّق ليل المعتقل بصراخها، لتقول لنا إنها لم تزل حيّة.
في عيد ميلادها السابع، تمسكنا من أنفاسنا، وتشد شعر أحلامنا وتهزّنا بكل قوّتها لنُسقط عن ذاكرتنا الغبار، ونُعيد النظر مرات ومرات قبل أن يتجرأ أحدنا، ويعلّق على روحه، أو حتى على جداره الافتراضي، ورقة نعوتها.
ما يحييه السوريون في آذار منذ 2011 ليس عيداً للثورة بمفهومها الواقعي، حراكا شعبيا جامحا فقط، بل هو عيد لاستعادة تفاصيل أعمق لامستها الثورة، فأعادت صياغتها وخلقها. حيث لم يكن لآذار في "سوريا الأسد" ما قبل الثورة نكهة الحياة، ولا طعم تجددها، بعد أن غيّب النظام الدكتاتوري كل أعياده، وشوّهها عن قصد.
لم يكن يوم الثامن من آذار عيدا للمرأة السورية المسلوبة الحقوق والمهمّشة، كما الرجل السوري، بل كان يوم احتفال بفرض سيطرة الأسد الأب علينا في "ثورة الثامن من آذار"، يتكفّل خلاله "الاتحاد النسائي" بتمزيق مفهوم المرأة الحرة والمستقلة، وترسيخ النموذج الممسوخ والمستلب والمنافق منها.
لم يكن يوم الحادي والعشرين من آذار ليتجرأ على إعلان نفسه عيدا للخصب، أو نيروزا كامل الاشتعال، حيث ينشغل إعلام النظام وأبواقه بحصر الحدث في عيد الأم العربي، ليس رفعا لقيمة الأم، أو اهتماما بها، بل لحصر الاحتفال بحدث واحد، لا يُسمح لأحد بالاحتفال بغيره.
لم يكن يوم السادس والعشرين من آذار قادرا على الاستمرار بإحياء ذكرى وفاة سلطان باشا الأطرش، قائد الثوة السورية الكبرى عام 1925 والرمز الممثل للوحدة الوطنية والإرادة الشعبية المقاومة للاحتلال، حيث قام نظام الأسد، ضمن سياسته الممنهجة في طمس وتغييب كل الأسماء الوطنية، بل ومحوها من الذاكرة الشعبية، بمنع الاحتفال بهذه المناسبة تحت قوة الرصاص.
لم يصبح لآذار نبض حياة قبل 2011، ولم نعرف، نحن السوريين، معنى الولادة والانبثاق والحقوق والحرية قبل هذا التاريخ.
بعد انطلاق ثورة الحرية في آذار 2011، احتفلنا بها في 15 أو 18 من هذا الشهر، صار لعيد المرأة وقع آخر، أدركته النساء السوريات، عندما أدركن أن لهن أصواتا لم يسمعنها من قبل، وعندما عرفن أنهن قادرات، على الرغم من حجم الموت الهائل الذي يحيط بهن اليوم، على منح الحياة لكل من حولهن في أصعب الظروف، وأشدها تعقيدا.
بعد الثورة، وعلى الرغم من كل اليأس الذي أحدثه، وما يزال، إنكار العالم إبادة الحياة التي يتعرّض لها السوري اليوم، صار الربيع يتفجّر في الواحد والعشرين من آذار، ويتدفق من قلوب السوريين وأغنياتهم علانية، ومن دون أي قيود، وعاد نيروز ليشتعل على قمم أرواحنا التي طاولت السماء، فيطلق للعالم شارة البدء من جديد. وعاد الكردي ليصدح على أنغام بزقه، وبقصائد ترتدي كلماته وتزهو بها.
بعد آذار الثورة، استعاد السوريون تاريخهم، ونفضوا عن أسماء رجالاتهم رماد سنين الأسد، ليستعيدوا وجوههم القديمة الجميلة، ويلقوا عنهم تلك الأقنعة التي يصرّ العالم أن يُلبسهم إياها اليوم، ليراهم شعبا كاملا من الإرهابيين والقتلة، فيبرر لنفسه السماح للأسد بقتلهم جميعا.
لم تكن الثورة وحدها من وُلد في آذار، فقد وُلدنا جميعا من جديد، حين سمعنا أول مرة صراخنا، ونحن نستنشق أنفاس الحرية الأولى.
اليوم، وعناداً بالموت والدمار والمجازر.. وعلى الرغم من سقوط كل شعارات العالم الإنسانية الجوفاء، نحتفل مع الثورة بعيدنا السابع، نحتفل بأنفسنا، بسوريتنا، بانتصارنا على هذا العالم، فقط بأننا لم نمت بعد كما يشتهي. نحتفل بتجدد النسغ فينا، وإطلاقنا عصيانا مفتوحا ضد الظلم والاستبداد.
هذا الـ "آذار" وكل آذار.. سنحتفل بأننا وثورتنا.. أحياء.
قبل الثورة السورية كنت– وعلى مدى عامين– أكتب في جريدة «الثورة» مقالاً في الأسبوع، وكنت أتناول مواضيع اجتماعية، خصوصاً تلك المتعلقة بالتخلف والفساد، أو عرضاً لكتب استوقفتني بأهميتها. كنت أحب أن يكون لي منبر في إحدى صحف وطني الحبيب سورية وأن يقرأ الناس ما أكتب. وبعد اندلاع الثورة السورية رفضت جريدة «الثورة» نشر مقال لي كنت أتحدث فيه عن العار في إقامة احتفالات وتشييد خيم احتفالية في مركز اللاذقية، وإحضار مكبرات صوت عملاقة تبث أغاني بصوت كالجعير يسبب الطرش، أغانٍ لم تعد تحرك في النفوس شيئاً مثل «سوريا يا حبيبتي»، ولافتات تحمل شعارات كاذبة وأهمها «خلصت، خلصت، خلصت» والمقصود الثورة التي اعتبرها النظام من اليوم الأول مؤامرة كونية. ولافتة مثل «مهما ارتقى أعداؤك سيدي الرئيس، فإن رؤوسهم لن تلامس نعل حذائك»، في الوقت الذي كان الدم السوري بدأ يسيل بغزارة في شارع الصليبة والطابيات وغيرها. اتجهت للكتابة في جريدتي «السفير» و «الحياة» فكتبت مقالات عدة تسببت لي باستدعاء جهاز أمن الدولة مراراً. ولا أنسى قول ضابط أمن الدولة لي بعد أن احتجزني ساعتين عنده، إنني يجب أن أكون كاتبة وطنية (دوماً يعمد النظام إلى سياسة التخوين وتشكيك الناس بوطنيتهم) وبأنه من المعيب أن أكتب مقالات أشبه بنشر الغسيل الوسخ. فقلت له يومها إن الكتابة تعني لي تحديداً نشر الغسيل الوسخ.
أحب أن أستعيد بعض المقالات التي رفضت جريدة «الثورة» نشرها لي (طبعاً قبل بداية الثورة). فمرة كتبت عن فساد الجهاز الطبي، خصوصاً التابع للجيش (أي أطباء متعاقدين مع الجيش) وكيف كان العديد منهم يتقاضى رشاوى ضخمة من الشبان الذين يريدون الإعفاء من خدمة الجندية وهم في كامل صحتهم، وكنت أعرف طبيب العيون الذي كان يقبض مليون ليرة من الشاب الذي يتهرب من الخدمة العسكرية مقابل أن يكتب له تقريراً بأن لديه درجات حسر بصر وانحراف عالية تُعفيه من خدمة الجيش. وأعرف طبيباً متعاقداً مع الجيش مختصاً في أمراض الهضم، كان يُحضر صوراً شعاعية وتقارير تشريح لمرضى ويُرفقها بإضبارة الشاب الذي يدفع له مبلغاً ضخماً كي يُعفى من العسكرية. فاحت رائحة الفساد في أطباء الجيش، وصار الناس يتناقلون تلك الفضائح، فكتبت عنهم مقالاً رُفض نشره، فالجيش «خط أحمر وكل ما يتعلق به ممنوع التطرق إليه».
ومن جريدة «الثورة» انتقلت إلى وزارة الإعلام، فتطرقت لسوء معاملة مدربات الفتوة للطالبات في المرحلة الإعدادية والثانوية، وكتبت عنهن مقطعاً في روايتي «امرأة من طابقين»، وكيف كن يصرخن بنا حين نردد تحية العلم كببغاوات: أقوى يا حيوانة. ثم نجعر بالروح بالدم نفديك يا رئيس، ونتلقى وابلاً من الشتائم لأن حبال حناجرنا لم تتمزق ونحن نجعر. وكن يعاقبن الطالبات بالزحف مهما كان البرد شديداً والأرض مُبللة بالمطر. فحين فعلت رُفضت روايتي مرتين من قبل لجنه القراءة في اتحاد الكتاب العرب ووزارة الإعلام. واعتقدت أن الرفض سوف يكون لسببين، أولهما أنني تطرقت لانتقاد المؤسسة الدينية التي تزرع فينا أفكاراً رافضة للآخر ومعادية له، والثاني أن ثمة صفحات في الرواية جريئة وتصف العلاقة الجنسية بين الشابة الطموحة التي تريد أن تكون كاتبة وبين كاتب البلاد العجوز المُكرس من قبل النظام، والذي تُقام على شرفه حفلات التكريم، هو الذي كتب عدة روايات في مديح النظام ورأس النظام. ثم تبين لي عن طريق صديقة مخلصة تمكنت من قراءة التقرير حول رفض روايتي، بأنني تعرضت لمدربات الفتوة اللواتي يمثلن حزب البعث، وممنوع المساس بحزب البعث فهو خط أحمر أيضاً. واضطررت بأسى وألم أن أحذف الصفحات المُتعلقة بمدربات الفتوة حتى طُبعت الرواية في سورية. بعدها لم أعد أطبع في سورية مُطلقاً بل في لبنان. ومن حسن حظي أن مجموعتي القصصية «الساقطة» رفض اتحاد الكتاب العرب طباعتها بحجة أنها جريئة جداً، وكان لي الحظ أن أتقدم بتلك المجموعة إلى جائزة أبي القاسم الشابي في تونس وأحصل على الجائزة، من بين 150 مخطوطاً، في 2003.
حرية التعبير عن الرأي الحر معدومة في سورية. فاتحاد الكتاب العرب تحسه فرعاً من فروع الأمن، وقد ظل علي عقلة عرسان يترأسه ربع قرن، وكان أشبه بالبطل الوحيد في المسرحيات التي يقوم ببطولتها ممثل واحد. فكل بداية عام كان يُقام الاجتماع السنوي للكتاب العرب، ويتوافد الكتاب من كل أنحاء سورية ليستمعوا إلى كلامه المنمق لمدة ساعة، ثم ينضم إليه أحد المسؤولين في القيادة القطرية. وينتهي الاجتماع بأن يُصرف لكل كاتب مبلغ تافه بالكاد يكفي أجرة السفر، وكانت أسئلة الكتاب في شكل عام حين يُفتح باب المناقشة تدور حول: تأمين المازوت لهم وضرورة رفع المبلغ المُخصص للضمان الصحي وضرورة رفع التقاعد ومعونة الوفاة. ولم يكن كاتب واحد يمتلك الجرأة ليسأل أسئلة عن حرية التعبير ورفض كل كتاب يحمل فكراً حراً أو منتقداً لنظام القمع. وأذكر أن أحد الكتاب السوريين تحدث بفخر، في عشاء أقامه اتحاد الكتاب على شرف زيارة بعض الكتاب الأردنيين إلى سورية، فقال إنه رأى الرئيس حافظ الأسد في منامه يقول له اكتب، فكتب.
وأنا التي اخترت أن أرجع إلى وطني الحبيب وإلى اللاذقية المُنتهكة كي أكون أقرب إلى شعبي وأكون صوته وضميره وشاهدة عصر، أجد نفس المظاهر تتكرر، وأتأمل الجرائد الرسمية السورية كيف تنشر كل أسبوع صفحة كاملة تضم أكثر من أربعين صورة لشبان استشهدوا، أحس بالاختناق ونظري يزوغ في تأمل تلك الوجوه النضرة الشابة المُبتسمة، وكيف زُج بها إلى موت عبثي ومعركة قذرة، ثم هناك الأسطر القليلة المكتوبة تحت كل وجه عن فرح واعتزاز الأهل أو الزوجة أو الأخ بموت أولاده. صفحات من مسرح اللامعقول ومن العطب الفكري، والأهم من الخوف المتشرش في قلوب السوريين.
وأخيراً، لا بد من ذكر تلك الحادثة التي انطبعت كالوشم في ذاكرتي، فحين صُعقت بأنني ممنوعة من السفر إلى البحرين بدعوة من وزيرة الثقافة البحرينية، وقدم لي ضابط الأمن على حدود العريضة السورية قُصاصة مجعدة من ورق بضرورة مراجعة فرع أمن الدولة في دمشق، اتصلت بسيدة تحتل منصباً رفيعاً جداً في النظام وكانت بمثابة أم لي ومن الطائفة المسيحية، لأنها كانت تعتز بأنها مسيحية وابنة عائلة عريقة، ورجوتها أن تتدخل بنفوذها وتلغي منع السفر، لكنها أجابتني بفظاظة: «ليش عم تطولي لسانك وتكتبي مقالات تسيئ للوطن خارج سورية؟»، وقالت لي: «تعالي إلى دمشق، سأرسل شخصاً من مكتبي ليصحبك إلى فرع أمن الدولة في كفرسوسة»، ثم أغلقت السماعة بوجهي. وعدت إلى اللاذقية مذهولة. نصحني أحد الأصدقاء أن أتصل بسيدة أخرى تحتل منصباً رفيعاً في النظام (وليست مسيحية) إذ الكثيرون من الناس يعتقدون بأن كل مسؤول يساعد أبناء طائفته ويدافع عنهم، وعلى رغم أنني لم ألتق بها أبداً في شكل شخصي فقد استمعت إلي بكل احترام واعتذرت نيابة عن تصرفات أجهزة الأمن بحق المثقفين، وألغت لي قرار منع السفر وسافرت إلى البحرين. ولم تقبل تلك السيدة الراقية أن أشكرها حتى، وقالت لي: هذا واجبي، مهمتي حماية المثقفين.
أتمنى لو أستطيع نشر مقالات لي في جرائد وطني سورية، لكن النظام لا يزال كقبضة حديد تخنق كل صوت حر، بينما إعلام النظام يتبجح بضرورة عودة المعارضين الشرفاء إلى سورية (وطبعاً وحدة قياس الشرف لدى النظام هو النظام نفسه) وبضرورة الحوار وأهمية الحل السياسي. والكل يعلم أن هذه التصريحات نفاق بنفاق. ترى أي عار ألاّ يتمكن كتّاب سورية الشرفاء وأصحاب كلمة الحق الشجاعة من نشر مقالاتهم في صحف سورية؟
متى سيحررنا الحق، والحق، كما قال السيد المسيح، يحرركم.
بعد فوز "فلاديمير بوتين" في الانتاخبات الرئاسية في 18 من شهر آذار/مارس الجاري، تلك النتيجة التي كانت معروفة قبل الاعلان عنها، باتت الساحة السورية أرض خصبة لن تتنازل عنها موسكو مدى الحياة، لاسيما بعد أن دخلت روسيا في استثمارات كبيرة مع نظام الأسد، الأمر الذي يضمن لها أن تحصي خسارتها المادية في المجال العسكري.
فبالرغم من أن بوتين خصص مبلغ 324 مليار دولار لبرنامج تسليح "وزارة الدفاع" للفترة 2018-2027، إلا أن قراره لم يكن إلا بعد ان اضطلعت روسيا باستثمارات كبيرة في البنية التحتية للطاقة والموارد الطبيعية في سوريا عام 2017.
فقد وقعت شركة "إيفرو بوليس" اتفاقاً في مجال الطاقة مع نظام الأسد، بينما عقدت "سترويترانسغاز" صفقة حول التنقيب عن الفوسفات، اضافة الى توقيع موسكو لاتفاقية مع نظام الأسد حول التعاون في مجال الطاقة في سوريا في شهر أيلول/ سبتمبر لماضي، ناهيك عن دخولها في اعادة إنشاء البنية التحتية للاتصالات في سوريا.
وفي خضم تلك الاتفاقيات الى جانب الأهمية الجيوستراتيجية، فقد تعامل بوتين مع الأزمة الاقتصادية لبلاده بسبب التدخل العسكري في سوريا بذكاء، بعد أن وجد موارد بديلة لتغطية التراجع الاقتصادي لبلاده، فلم تضع ثلث موار موسكو التي خصصها لوزارة الدفاع التي تورطت في الحرب السورية، وبات ذاك التدخل العسكري مكسباً طويل المدى بدل أن يكون خسارة على موسكو.
موسكو التي ادعت خروج قواتها العسكرية من سوريا في منتصف العام الماضي، لم تفي بأي من تلك التصريحات الكاذبة، وأصبح لوجودها العسكري في سوريا دور كبير في استعادة ما خسرته من أموال، ناهيك عن دور تلك الحملة العسكرية التي بدأت منذ سبتمبر 2015، في اثبات مكانتها السياسية التي كانت واضحة في الكثير من الاتفاقات والتشاورات التي دخلت فيها روسيا وسيطاً، سواء بين تركيا وايران أو بين النظام والمعارضة السورية التي فوضت تركيا بالتفاوض عنها مع الروس، لتتوصل في النهاية الى تحجيم الدور الامريكي في الحرب السوريا وتأخذ دروها المحوري في السيطرة على تلك المنطقة.
نحن في سباق ماراثوني بين تصعيد خطابي أميركي من جهة، وزحف إيراني على أرض الواقع في سوريا للسيطرة على مساحات أكبر من جهة أخرى، والمهلة 60 يوماً.
عيّن الرئيس ترمب مايك بومبيو وزيراً للخارجية خلفاً لتيلرسون، وباقٍ على المهلة التي منحها ترمب للكونغرس والحلفاء الأوروبيين لتعديل الاتفاق النووي 60 يوماً، إذ ستنتهي المهلة في منتصف شهر مايو (أيار)، حيث أعلن ترمب في الثالث عشر من أكتوبر (تشرين الأول)، العام الماضي، استراتيجيته تجاه إيران، التي طالَب فيها بإجراء تعديلات على الاتفاق النووي الذي وصفه بأسوأ اتفاق، وطلب وقف برنامج إيران الصاروخي، ووقف تدخلها وتمددها في الدول العربية وتهديدها للأمن الإقليمي، والباقي من زمن المهلة التي منحها ترمب 60 يوماً.
منذ ذلك التاريخ وإيران في سباق مع الزمن لزيادة رقعة تمدد نفوذها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، كي تأخذ أكثر مما تحتاج إليه من أجل أن تفاوض بعد الستين يوماً، للإبقاء على ما تحتاج إليه في منطقة الشرق الأوسط الجديد، حيث زادت إيران من أنشطتها الشيطانية والتخريبية، كما يصفها طاقم الإدارة الأميركية في المنطقة، وتعتمد في ذلك على علاقاتها مع نظام الأسد وحلفائها في الحكومة العراقية، فطلبت من قاسم سليماني فتح معبر بري ثالث عبر الأراضي العراقية يربط بين إيران والبحر الأبيض المتوسط يمر هذه المرة عبر محافظة الأنبار، لمساعدة حلفائها في سوريا ولبنان، فجمع سليماني قادة من الحشد الشعبي ومن «حزب الله» للتنسيق لفتح هذه المعابر، وتجري إيران الآن عملية تهجير قسرية للمدن السورية والعراقية التي يُراد أن تكون طريقاً يصل بإيران للبحر الأبيض المتوسط، ومن تلك المدن الغوطة الشرقية... تعمل إيران الآن بالتعاون مع نظام الأسد وبغطاء روسي على إخلاء هذه المدينة من سكانها وإحلال الميليشيات الشيعية المرتزقة مكانها.
في الوقت ذاته، تعمل إيران على تعزيز خمسة قطاعات عسكرية بقوات يصل عددها إلى 75 ألف مقاتل لبناني وعراقي وأفغاني بالتعاون مع 10 آلاف جندي، وضابط من الحرس الثوري الإيراني. لم تكتفِ إيران بالتمدد في القطاع الشمالي، إنما تمددها لمحاذاة الحدود الإسرائيلية السورية يتحدى التهديدات الإسرائيلية بتزويد قواتها بصواريخ باليستية، وأسلحة ثقيلة مضادة للطائرات، حتى ليبدو أن المواجهة، التي جرت قبل شهر، لن تكون الأخيرة، وإسرائيل تصرح بأنها لن تسكت أكثر من ذلك على اقتراب إيران من حدودها (المصدر «المرصد الاستراتيجي»).
زيارة وزير الخارجية الفرنسي لإيران حملت رسالة للملالي هناك، مفادها أن صبر أوروبا قد نفد، وموقفها أصبح محرجاً أمام الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وأنها قد تنضم للموقف الأميركي تجاه الصواريخ والتمدد الإيراني، مما حدا بخامنئي إلى الإيعاز لخطيب الجمعة في طهران بأن ينقل الرد على لسانه فقال إن «وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي زار طهران يوم الخامس من مارس (آذار) الحالي تلقّى الرد المناسب بشأن البرنامج الصاروخي».
وأضاف أنه «من الخطأ أن يقول وزير الخارجية الفرنسي إنه يجب أن تأخذوا الإذن منّا في القضايا الإقليمية. إن قائد الثورة أكد أن منطقتنا لا علاقة لها بهم، وفي هذا الإطار لم نسمح لأحد إلى الآن بالتدخل، ومن الآن فصاعداً لن نسمح بإثارة الفتن، ووجود أميركا في المنطقة هو من أجل إثارة الفتن»، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة «تسنيم» الدولية للأنباء، الذراع الإعلامية لـ«فيلق القدس» في «الحرس الثوري».
على الجانب الآخر، لا يبدو أن التحركات الأميركية على الأرض؛ سواء في سوريا أو اليمن، تتناسب مع وتيرة التحركات الإيرانية، ولا تتناسب حتى مع زيادة جرعة تصريحات المسؤولين الأميركيين، وآخرهم هربرت ماكماستر مستشار الأمن القومي الأميركي، الذي وصف ما يقوم به الأسد من مساعدة إيران بـ«جرائم حرب»، وأن إيران ساعدت وكلاءها بـ16 مليار دولار، فما السرّ وراء تباطؤ الولايات المتحدة للرد على إيران؟ وكيف سيكون الردّ؟ وهل سيكتفي بالعقوبات البطيئة؟ وهل تأخرت الولايات المتحدة لأنها تعمل على تأهيل المنطقة قبل حدوث الصدام الذي تشير أغلب التكهنات إلى أنه سيكون إسرائيلياً إيرانياً على الأراضي السورية؟
هل حمل وزير الخارجية الفرنسي الإنذار الأخير لإيران؟ هل إزاحة تيلرسون المتهاون إيرانياً، الذي يرى في الاتفاق النووي اتفاقاً «معقولاً»، قبل انتهاء المهلة لها دلالاتها؟ وتعيين بومبيو الذي يرى هو ووزير الدفاع جيمس ماتيس بأن الأمن الدولي لا الإقليمي مهدَّد بسبب أنشطة إيران له دلالاته؟ جميع هذه الأسئلة ستتحدد أجوبتها في الشهرين المقبلين.
تختصر الغوطة الشرقية لدمشق حكاية الثورة السورية في ذكراها السابعة. الجحيم الذي تعيشه الغوطة اليوم، قتلاً وتهجيراً، هو نفسه الذي عاشته مناطق سورية عديدة، في ظل صمت دولي لم يفلح سوى بالاستنكار علناً والتواطؤ ضمناً مع القتلة على الساحة السورية بأشكالهم كافة، فالقتل في سورية لم يكن يوماً حكراً على النظام وحلفائه، بل نبتت في بلاد الشام أيضاً فصائل استعارت من نظام الأسد قمعه وإجرامه، ومارست الطغيان على مساحات واسعة من الأراضي التي سيطرت عليها.
الغوطة بمعاناتها ترمز اليوم إلى الثورة المقتولة من النظام وحلفائه والمغدورة من بعض أبنائها. عناوين المعاناة متكرّرة منذ اليوم الأول للثورة. في البدء كان القتل، ولا يزال مستمراً، وإن تطورت أدواته، ودخلت أطراف عدة لتمارسه على الأرض السورية، وتجرّب ما طاب لها من الأسلحة في أجساد السوريين وممتلكاتهم. خلال السنوات السبع، لم تتراجع الوتيرة، بل زادت، ومعها زاد عدد الضحايا الذين لم يعد أحد قادراً على إحصائهم بشكل دقيق. الرقم لا يهم سوى دارسي الإحصاء وخبراء المقارنات، إلا أنه يختزن حكايات وأحلام عشرات الآلاف الذين باغتتهم براميل النظام وطائرات الروس وخلافات الفصائل المتصارعة. هذه حكاية من الثورة ومن الغوطة أيضاً بكل تفاصيلها.
للتهجير أيضاً السياق والإسقاط بين الغوطة والثورة. مشاهد الخارجين يومياً من الغوطة الشرقية تستعيد صوراً أخرى من مناطق سورية متعددة، ومن مخيمات لجوء لا تزال تستقبل هاربين من الموت اليومي. الشتات هو قصة أيضاً من الجحيم السوري، لا تزال فصولها تروى في أكثر من مكان. وأيضاً لا أرقام دقيقة لعدد الهاربين من الموت، أو المجبرين على مغادرة قراهم وبيوتهم وأراضيهم، لكن المؤكد أنهم تجاوزوا الخمسة ملايين بأقل تقدير. هي أرقام غير نهائية ومفتوحة على الزيادة، بلا أي أفق للحل، خصوصاً لأولئك الذين تقطعت بهم السبل ووجدوا أنفسهم محاصرين في مخيماتٍ لا يتمكنون من مغادرتها، أو العودة إلى بيوت كانت لهم.
التواطؤ العالمي، من القريب والبعيد، له أيضاً حصته من الثورة السورية ومن وضع الغوطة حالياً. قرارات دولية وتهديدات عدمية وتفاهم من تحت الطاولة. كلها عناوين للموقف الدولي والعربي مما حدث ويحدث في سورية. خلال الأسابيع الماضية، اقتصرت ردود الفعل تجاه المجزرة في الغوطة على الاستنكار والمطالبة بوقف القتل، مع التحذير من استخدام الأسلحة الكيماوية، والذي سيجلب رداً دولياً، على اعتبار أن القتل بالأسلحة التقليدية أمر مسموح. هي نفسها التصريحات والتهديدات التي أطلقت خلال السنوات الماضية، واستعادة كل العبارات، خصوصاً المتعلقة بالأسلحة الكيماوية. ومع ذلك، لم يتغير شيء، والقتل بالأسلحة الكيماوية والتقليدية استمر على مرأى العالم ومسمعه.
ولغدر الثورة من المحسوبين عليها قصص تروى. ولعل أحدثها يأتي من الغوطة التي شهدت اقتتال الفصائل، وتفاهمات ضمنية مع القتلة، لتحييد هذا الطرف أو ذاك. وهي الحكاية نفسها التي تكرّرت في أكثر من منطقة سورية، بعدما تحولت الفصائل إلى أطراف محسوبة على هذه الدولة أو تلك، هي تديرها وتأمرها وتحيدها لحسابات دولية، تماماً كما هو حادث اليوم في الجنوب السوري الخاضع لتفاهم عام يقضي بالهدوء، بغض النظر عما تشهده مناطق أخرى.
حكايات كثيرة تروى أيضاً عن الغوطة والثورة في ذكراها السابعة، وكلها تقود إلى أن الجرح السوري لا يزال غائراً، والتئامه ليس بقريب.
قبل أن يلتقي ولي العهد السعودي مع الرئيس الأميركي بعد غد، تتسارع الخطى داخل أوروبا للتوصل إلى صيغة ظاهرها تقييد إيران وباطنها وقف محاولة أميركا إجهاض الاتفاق النووي مع إيران. وصول الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، وسبقه بأسبوع خروج ريكس تيلرسون من وزارة الخارجية الأميركية، يعزز مخاوف الأوروبيين من عزم واشنطن على فرض عقوبات على إيران قد تؤدي في الأخير إلى أن يسقط الاتفاق.
واتفاق «JCPOA» الذي وُقِّع عام 2015، ويُعرف بمجموعة خمسة زائد واحد، الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، مع نظام إيران، هو السبب في الفوضى التي نراها اليوم. إيران مقابل تجميد نسبة من التخصيب النووي حصلت على رفع العقوبات عنها، ونتيجة لذلك زادت نشاطاتها العسكرية في المنطقة، واستفادت أيضاً بالعمل على تطوير منظومة صواريخها الباليستية المؤهلة لحمل وإطلاق سلاح نووي. ومنذ ذلك اليوم والجميع يشهد أن الاتفاق تسبب في المزيد من الفوضى والحروب، وزاد من جرأة النظام وتسلطه داخل إيران وخارجها، بخلاف تصور الغرب الذي قال إن طهران ستتخلى عن سياساتها العدوانية وستتحول نحو التنمية والسلام. بوصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وبروز الأمير محمد بن سلمان وإعلان الاثنين أنهما سيقفان ضد إيران إقليمياً، لم يعد للاتفاق تلك القدسية. بإمكان كل أوروبا أن تنحني للمرشد الأعلى في طهران وتكمل العمل معه، لكن واشنطن هي صاحبة القول الفيصل.
المشكلة ليست في الاتفاق بل في النظام الإيراني. وهذه هي الولايات المتحدة تصارع في العراق وسوريا بسبب التوغل الإيراني، والسعودية تحارب في اليمن دفاعاً عن نفسها وإنقاذاً لليمن من الانقلاب المدعوم إيرانياً.
وأوروبا، التي لا تريد المواجهات مهما كانت المخاطر، أخيراً اكتشفت أن ترمب وحلفاءه في المنطقة عازمون على ضرب الاتفاق، لذلك تحاول إرضاء الطرفين بتقديم مشروع جديد يقيّد تطوير إيران لصواريخها الباليستية ويضع حداً لنشاطها في العراق وسوريا واليمن.
مشروعها، الذي سُرِّب إلى وكالة «رويترز» الإخبارية، يتوعد بوضع عقوبات على الأسماء من المتورطين. يبدو هزيلاً ومسرحياً. كل المتورطين من قيادات الحرس الثوري والجيش والاستخبارات الإيرانية أصلاً لا يعيشون في الغرب ولا تؤثر عليهم العقوبات.
المطالب التي ترفضها أوروبا هي معاقبة النظام الإيراني و«حزب الله» اقتصادياً، ودعم القوى التي تواجههما على الأرض حتى تصبح كلفة التدخل والاحتلال باهظة الثمن. من دون خطوات جادة لمحاصرة النظام لن يتراجع. ولنتذكر أن السبب الذي جعله يقبل بالتفاوض والاتفاق في المرة السابقة أن العقوبات الاقتصادية حاصرته حتى واجه خطر الانهيار، واضطر إلى طلب التفاوض وعرض فكرة وقف مشروعه النووي بعد أن كان يقول إن الحديث عنه والتفاوض عليه مساس بسيادته. وفي الأخير قَبِل وجلس وفاوض ووقّع، لكن المفاوضين الغربيين توصلوا إلى مشروع مستعجل، وُلد مشوهاً. ترمب والأمير محمد بن سلمان يتوخيان إصلاح الاتفاق لا إسقاطه، لكي ينهي أربعين عاماً من زرع الفوضى وتمويل التنظيمات المسلحة في المنطقة، فيكون الاتفاق ليس محصوراً في التحكم في نسبة التخصيب بل وقف مشروعها بنشر العنف والفوضى وإنهاء حالة الاحتراب في المنطقة.
في ذكرى الثورة السورية السابعة، يروق لي أن أصفها بـ"الثورة الكاشفة" لأنّها كشفت عن مستويات وأنواع من الصراع في منطقتنا أشدّ عمقًا وأكثر تاريخية وحضورًا في ذات الوقت من الصراع الذي يشار إليه على الدوام، ويُتّخذ مفسرًا للأحداث والمتغيرات في المنطقة في السبعين سنة الأخيرة، أي الصراع العربي الإسرائيلي.
في تصوري، فإنّ الثورة السورية قد كشفت عن ثلاثة مستويات من الصراع الأكثر تأثيرًا من الصراع العربي الإسرائيلي في منطقتنا. المستوى الأول من الصراع الذي كشفت عنه وأظهرته الثورة السورية هو الصراع الأممي. وسأستخدم هنا مصطلح "الأممي" بدلاً عن "القومي" لكون الأخيرة مُشبَعة بالتصور الحديث للقومية؛ في حين أنّ وجود واختلاف الأمم "المتخالفة" والمتقاتلة في منطقتنا أبعد تاريخيًّا وأعمق من التصور الحديث.
في منطقتنا، يتجاور الفرس والترك والعرب والكرد، وكلٌّ منهم أمّة مستقلة لا يمكن أن تندمج في الأخرى، ولا يمكن أن تذوب إحداها في الأخرى. هكذا قال التاريخ، وهكذا يؤكد الواقع الذي نعيشه في هذه اللحظة عام 2018. هذه الأمم الأربعة تدين بدين الإسلام، ولكنّ التاريخ والواقع كذلك يؤكدان أنّ الدين لم يؤّدي إلى مزج هذه الأمم سويًّا. بل ظلّت على تمايزها، ونشب بينها وبين بعضها الصراع في أوقاتٍ كثيرة في التاريخ. وهو الأمر الذي يتكرر في هذه اللحظة.
بسبب عدم اهتمام الولايات المتحدة بسوريا واكتفائها بدعم فصائل الجيش الحر لفترة محدودة، فإنّ روسيا قد وجدت فرصة ذهبية لفرض سيادتها الجوية على سوريا ومدّ نفوذها غربًا لساحل البحر المتوسط
لقد كشفت الثورة السورية عمّا يمكن أن نسمّيه بالصراع العربي - الإيراني، والذي لا يدركه تمامًا كثيرٌ من العرب. وقد أشرت لهذا الصراع في تدوينة سابقة بعنوان "الثوة الإيرانية لا تزال مستمرة". لقد كانت إيران حاضرة بميليشياتها ونفوذها في سوريا منذ أوّل لحظة في الثورة، ولولا هذا النفوذ ما كان للثورة السورية أن تؤول لهذا المآل. وهذا النفوذ العسكري الإيراني هو ما حدا بالمملكة العربية السعودية تدعم الفصائل الثورية السورية لمجابهة هذا النفوذ.
كشفت الثورة السورية كذلك عن الصراع التركي - الكردي الذي يعود لعقود بطبيعة الحال، ولكن هذه المرة حضر إلى أراضينا وأثّر في مجريات الثورة السورية بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا في منتصف يوليو 2016 وهو ما جعل تركيا تقرّر التدخل العسكري التركي في شمال سوريا لصالح دفع الأكراد السوريين إلى شرق الفرات ومنع اتصالهم بساحل البحر المتوسط.
أمّا المستوى الثاني من الصراع فهو الصراع المذهبي، والذي يوظّف في خدمة السياسي ببراعة. والمذهبان اللذان يتصارعان بوضوح في المنطقة هما التشيع في مقابل السلفية أو الوهابية. وعلى رغم معقولية الادعاء أنّ الصراع المذهبي ليس الأساس، فلا يمكن إنكار كيف ساعد هذا الخلاف المذهبي الذي وصل حدّ الاقتتال في تأجيج الصراع عند الأتباع الشيعة الأقل حظًا من العلم والذين يشكلون وقود الحرب البرية في سوريا وخاصّة في محيط دمشق.
المستوى الثالث من الصراع الذي كشفت عنه الثورة السورية هو الصراع الدولي والذي استدعى التدخّل الروسي لصالح نظام الأسد في سبتمبر عام 2015. وبسبب عدم اهتمام الولايات المتحدة بسوريا واكتفائها بدعم فصائل الجيش الحر لفترة محدودة، فإنّ روسيا قد وجدت فرصة ذهبية لفرض سيادتها الجوية على سوريا ومدّ نفوذها غربًا لساحل البحر المتوسط، وهو ما يعني حضورها بقوة في أيّ مشروعات مستقبلية تخصّ منطقة الشرق الأوسط، خاصّة إذا تعلّق الأمر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة وعلى الأخص دولة إسرائيل. فلن نستغرب إذن إن أصبح للروس دور وتأثير في مستقبل القضية الفلسطينية.
هكذا، فبالكشف عن مستويات ومحاور أخرى للصراع بخلاف الصراع العربي الإسرائيلي، فإن الثورة السورية قد غيرت وجه مشرقنا العربي لعقود قادمة من الزمن، وهي لذلك تستحق لقب "الثورة الكاشفة".
تكاد لا تخلو جلسة سورية بين مثقفين معارضين، أو حتى رماديين، من الحديث عن غياب المشروع الوطني السوري. وجوهر الأمر شعور بالعجز عن صناعة ما هو أفضل من واقع قائم اليوم، ويمكن تسميته بالكارثي، وحتما البحث عن صناعة مستقبلٍ، يقطع مع الماضي الذي سبق ثورة السوريين التي تعبر إلى عامها الثامن، في ظل حربٍ كارثيةٍ يشنها النظام وحليفتاه إيران وروسيا في مناطق متفرقة من البلاد، من جنوبها وغوطتيها الشرقية والغربية، ومن وسطها وشمالها في إدلب، والغريب انضمام تركيا إلى حرب توافقية مع كل من روسيا وإيران في عفرين، لفتح الطريق أيضاً إلى منبج، ما يعني أننا أمام الرعاة الثلاثة لاتفاقات أستانة التي أعلنت أنها بهدف خفض التصعيد، وصولاً إلى وقف كامل لإطلاق النار في سورية، والذهاب إلى مفاوضات سياسية تهيئ لحل المأساة السورية التي تدخل عامها الثامن.
وعلى الرغم من الغوص في كل لقاء يجمع بين سوريين، بحثاً عن أخطاء مؤسسات المعارضة وتفنيدها، وانتزاع الدروس التي كلفت الشعب السوري ضحايا كثيرين، إلا أننا في كل وقت نقف عند حدود تلك الانتقادات، في محاكاة لتجربة رجم الشيطان، أو تقديم الاعترافات، من دون الولوج إلى جوهر الطقوس، بما تعنيه القطع مع تلك الأخطاء والخطايا تحت بند التوبة، ما يؤسس من جديد لتجارب لا تبتعد في مساراتها عن الحفر المعلن عنها خلال التشريح الواقعي لعمل تلك المؤسسات، ما يجعل من خطاب النقد المتتالي مجرّد شعارٍ، يضاف إلى جملة من شعارات المرحلة الغارقة بفشلها سورياً، سواء على صعيد العمل السياسي أو العمل المسلح بشقيه، العفوي والمؤدلج.
ومن هنا تأتي أهمية استنباط آليات جديدة في صناعة فعل سوري يمكنه أن ينتج جسراً يعبر فوق الواقع، مستفيدا من حوامله الوطنية، ومتجاوزاً التدخلات الإقليمية والدولية، ومتكئاً على رغبة السوريين في إيجاد مشروع وطني، يكون هو التعبير الحقيقي عن هدف الثورة ضد نظام الاستبداد وحكم المؤسسة الأمنية. ولكن كيف يمكن الوصول إلى ذلك المشروع؟ وما آليات العمل عليه؟ ومن أين يمكن لحظ ضروراته الوطنية؟ ومن هي الجهة القادرة على جمع لم السوريين على صورة وطن المستقبل؟ وهل بقي بين المعارضين أفراد أو مجموعات من يستطيع فعلياً تجاوز "الأنا" الفردية مقابل ال "جميع"؟
قد نظلم قلة من الشخصيات الوطنية المعارضة عند الحديث عن طغيان المصالح الشخصية، وحروب أعداء الكار، التي تطفو على بحرٍ من كراهية الآخر، والتقليل من شأنه، واعتبار وجود "الآخر الشريك" تعتيما على وجوده، ما يجعل من العمل الجماعي المؤسساتي، في ظل هذه الأجواء، غير ممكن، إلا في ظل الخضوع لمعادلة السيد والتابع، وفقاً للقدرات في تأمين الدعم المالي فقط، ولهذه مواصفاتٌ لا يمتلكها كثيرون، بل يمكن القول 99 بالمائة من الشخصيات الوطنية الحقيقية، حيث لا تدخل من ضمن ما تسمى "كاريزما" الأسماء التي يحترمها الشارع السوري، أي أن من يستطيع تحويل التطلعات من نظريةٍ إلى المشروع الوطني القابل لأن يكون بديلاً لكل ما يطرح من مشاريع، تأخذ السوريين خارج الحل المستقبلي لسورية، سيكون "متهماً" فوراً أنه من صنف غير الشخصيات المراهن عليها وطنياً، وسيأخذ، بطريقة أو بأخرى، المشروع لتعويمه مع مموله، أي لن يكون هناك أي دور للقدرات القيادية والثقافية والتجربة والخبرة ومنطق العمل الوطني.
وبمصارحة مؤلمة لمن يكتبها ويقرأها، فإن المال السياسي هو الذي بات يعول عليه تقديم الحلول، إما بطريقة مباشرة، من خلال الرعاية العلنية لأي نشاط يستهدف نخبة المجتمع، أو بطريقة غير مباشرة، عبر غطاء من جهة، أو شخصية سورية، صنعها أصلاً ذاك المال السياسي ذاته، ما يعني أن أي حديثٍ عن جهد وطني خالص لإيجاد حالة وطنية جديدة، محكوم باختراقه وتعطيله، وتوجيه دفته باتجاه أجندة مموله، سواء الظاهرة أو الخفية.
وضمن هذا الواقع المأساوي الذي أفرزته السنوات السبع من حرب الاستنزاف التي شنها النظام على الشعب السوري، الذي واجهه بمطالبه الإصلاحية، للخلاص من نظام أمني استبدادي، وبناء منظومة حكم تحقق له حريته وأمانه وكرامته وحقوقه المواطنية، يبرز السؤال الملح الذي لا يمكن تجاهله، سواء مر عام أو سبعة أعوام، ففي كل وقتٍ لا بد من إحياء هذا السؤال، بهدف العمل على إحداث الخرق الممكن في مواجهة حالة انسداد الأفق في وجه السوريين:
هل على النخبة السياسية والثقافية الاستسلام لاختطاف القرار الوطني، والانخراط بالاصطفافات السياسية الخارجية لمستثمري المال السياسي في الصراع السوري، بكل أوجه الاستثمار من العسكري إلى الإعلامي والثقافي، وحتى الفني، أم أن القدرة على ولادة ذلك التوجه الوطني لا تزال متوفرة، حتى عندما تبدأ من أسفل سلم التوافقات بين سوريين ليسوا ضمن المحسوبين على الممولين الدوليين، ولا يسعون، من خلال انخراطهم بمشروع وطني، إلا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من دور للسوريين في اختيار أجندة مستقبلهم، وسبل العيش بينهم، وآليات إنهاء مأساتهم وفق الممكن والمتاح، وبما لا يهدر التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب السوري فداء لحريته؟
هذا السؤال برسم مجموعة من المثقفين والسياسيين اجتمعوا أخيرا، حضرت معهم جانبا من اجتماعاتهم، كواحدة من مجموعة العمل التي شاركت في كتابة النداءات، مع آخرين انضموا إليهم ومنهم: ميشيل كيلو، موفق نيربية، ماجد كيالي، وزكريا صقال، وأنور بدر، ومنى أسعد، وكان من ضمن من شاركهم في النداء الأول فايز سارة ونغم الغادري، وهي المجموعة التي وجهت نداءاتها إلى الشعب السوري منذ ما يزيد من عام، ووافقها مئات من السوريين رؤيتها ووقعوا على تلك النداءات، للقطع مع الرهانات الخاطئة للمعارضة السورية، والاعتراف بأن الارتهان للدول، وعسكرة الثورة، وأدلجة الفصائل، وضياع الخطاب الوطني وتشتته بين الخطابات الإيدولوجية والطائفية والمذهبية، كلها أسباب أدت إلى تراجع مكانة الثورة داخلياً وخارجياً، والسعي من خلال تجمعات سورية - سورية إلى اجتراح الحل السوري، ولو على صعيد الخطاب الوطني، قبل الحديث عن العمل الفعلي.
كان مثمراً أن تستعيد بعض النخب دورها، من خلال أقلامها، في تحريض الشارع السوري على العمل، ولو عبر مجموعاتٍ صغيرة، فربما تنتج تقاطعاتها المشتركة لاحقاً، وما يمكن أن يبشر لفعل إيجابي، فيما لو نجت هذه الاجتماعات من مصائر سابقاتها، كاختطافها وتحويلها إلى "رخصة سياسية"، أو كما يسميها الشارع السوري "دكاكين"، تشارك في زيادة شتات المعارضة، وتعميق خلافاتها وتأجيج نزاعاتها. حيث يغرق المشروع الوطني، ولا يصبح بالإمكان البناء فيه أو عليه.
تشهد العلاقات الأمريكية الروسية في الآونة الأخيرة تصعيدا كبيرا عنوانه الغوطة الشرقية، ووصل الأمر إلى حد إعلان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي نيكي هايلي أن "الولايات المتحدة مستعدة للتحرك في سوريا إذا تعين ذلك"، وأنه "عندما يتقاعس مجلس الأمن عن التحرك فهناك أوقات تضطر فيها الدول للتحرك بنفسها".
ولا شك بأن تصريحا من هذا النوع يأتي من نيويورك وليس من واشنطن، يحمل دلالات سياسية، وهي أن الإدارة الأمريكية ليست عازمة فعلا على شن ضربة عسكرية ضد النظام السوري، وإنما محاولة ضغط سياسية على موسكو لعدم استخدام حق النقض "الفيتو" ضد مشروعي القرار الأمريكيين حيال سوريا، أحدهما متعلق بالغوطة، والآخر بالسلاح الكيماوي.
الرد الروسي جاء على مستويين: الأول من وزير الخارجية سيرجي لافروف الذي حذر من عواقب وخيمة قد تترتب لأي ضربة يُحتمل أن توجهها الولايات المتحدة ضد قوات النظام السوري.
والثاني جاء من لافروف نفسه، حين رد على المندوبة الأمريكية بالقول: "على هايلي أن تدرك أن استخدام الميكروفون في مجلس الأمن بشكل غير مسؤول شيء، وما يحدث بين العسكريين الروس والأمريكيين شيء آخر".
التصريح الثاني يؤكد استمرار التنسيق والاتصالات بين موسكو وواشنطن، وأن هذه الاتصالات لم تصل إلى حائط مسدود، والخلاف بين الجانبين لا يتعلق بالكارثة الإنسانية التي تحل بالغوطة، فمثل هذه القضايا لا تفجر أزمات دولية ذات صبغة سياسية، كما حصل بين لندن وموسكو على خلفية محاولة قتل الجاسوس الروسي المزدوج الذي وجد مسموما جنوبي غرب بريطانيا.
على الأغلب لن تُقدم واشنطن على توجيه ضربة عسكرية لاعتبارات إنسانية، ولم ترفع واشنطن مستوى التحدي العسكري والسياسي إلا في أربع مناسبات، جميعها مرتبطة بالسلاح الكيماوي السوري:
الأولى عندما هددت عام 2013 بتوجيه ضربة للنظام السوري بسبب استخدامه السلاح الكيماوي، وكان من نتيجة ذلك أن تدخل الروس وقرروا إزالة جميع الأسلحة الكيماوية في سوريا، وترتب على ذلك (المناسبة الثانية) صدور القرار الدولي 2118 الخاص بتفكيك برنامج سوريا للأسلحة الكيميائية.
وجاءت المناسبة الثالثة في آذار/ مارس 2015 بصدور القرار الدولي 2209 الذي هدد باللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة إذا لم يطبق النظام منطوق القرار 2118.
وجاءت المناسبة الرابعة في نيسان/ إبريل 2017 حين ضربت الولايات المتحدة مطار الشعيرات الذي خرجت منه طائرات قصفت خان العسل بالسلاح الكيماوي، وكانت الضربة رمزية ذات رسائل سياسية أكثر منها عسكرية، لأن النظام تجاوز الخط الأحمر الذي وضعته إدارة ترامب.
ولعل تصريح وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس "سيكون من الحمق الشديد أن يستخدموا الغاز سلاحا في وقت أوضح الرئيس دونالد ترامب ذلك بشدة في بدايات حكمه"، يعني أن واشنطن تربط الضربة في حال استخدم النظام السوري أسلحة كيماوية، وتأكدت واشنطن بالأدلة القاطعة أنه فعل ذلك.
في الواقع يرتبط التهديد الأمريكي بمسائل استراتيجية فوق إنسانية، فواشنطن سمحت وفق القرار الدولي الأخير 2401 قيام المحور الروسي بشن عملية عسكرية لإسقاط الغوطة من معادلة الصراع في سوريا، وهي منطقة ليست ذات قيمة بالنسبة لواشنطن، ولا تدخل ضمن حساباتها، لكنها مهمة لحلفائها في الإقليم.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية موافقة على تمزيق الغوطة إلى كانتونات جغرافية منعزلة ومنفصلة عن بعضها البعض، بحيث تسمح للنظام فيما بعد بحسم المسألة، إلا أنها لن تسمح بالقضاء نهائيا على كامل الغوطة وكل الفصائل.
ويبدو منذ نحو عشرة أيام أن محاولة إبعاد "جيش الإسلام" من العملية العسكرية بدت واضحة مع دخول القاهرة على الخط أولا، وإفراج "جيش الإسلام" عن معتقلي النصرة لإخراجهم من الغوطة ثانيا، والسماح للمصابين بالخروج من الغوطة مقابل الإفراج عن عناصر للنظام في سجون "جيش الإسلام" ثالثا.
المعادلة واضحة، يجب الحفاظ على الدور السعودي في الساحة السورية، وإن كان إلى حين، وهذا مطلب يتوافق مع المصالح الأمريكية والروسية والمصرية كل لأهدافه.
بالنسبة لواشنطن، فهي تدعم حليفتها وتؤكد أنها لم تتخل عنها نهائيا في الملف السوري، وبالنسبة للروس، فهم بحاجة ماسة للدور السعودي، خصوصا بعيد التقارب الجزئي الحاصل بينهما الذي انعكس على مستوى إنتاج النفط، وعلى مستوى الملف السوري، خصوصا في مؤتمر "الرياض 2" للمعارضة السورية.
وبالنسبة لمصر الراعية لاتفاق تموز/ يوليو الماضي بين النظام السوري و"جيش الإسلام"، فهي بحاجة لدور ما يعيد إليها حضورها الإقليمي، مهما كان هذا الدور، ناهيك عن حساباتها الإقليمية الأخرى المرتبطة بالسعودية وقطر.
ووفقا لذلك، تتجه واشنطن إلى إصدار قرار من مجلس الأمن يوقف القتال على أن تجري بعده مفاوضات ثنائية مع روسيا لترتيب الوضع في الغوطة، دون المساس على ما يبدو بالبنية العسكرية الناظمة لـ "فيلق الرحمن" و"أحرار الشام" و"جيش الإسلام"، كونها أوراق لا تحبذ واشنطن تدميرها قبيل حدوث التسوية الكبرى.
وربما هذا ما دفع الروس للإعلان بأن واشنطن تحاول من مشروع قراراتها في مجلس الأمن حماية ما سموه بـ"الإرهابيين".
لكن الروس لن يفوتوا فرصة الاستحواذ على معظم الغوطة في ذروة التنافس مع واشنطن وذرة التفاهم مع طهران وأنقرة، وتبدو الأيام المقبلة كفيلة بتوضيح مسار الصراع وما سيترتب عليه من تفاهمات في مناطق معينة وانفلات عسكري في مناطق أخرى، ضمن مرحلة ما بعد تثبيت مناطق النفوذ.
بعد سبعة أعوام من تجاهل عالمي ملحوظ ومتزايد لما يرتكب في بلادنا (سورية) من جرائم روسية/ إيرانية / أسدية ضد شعبنا، لم تخرج معظم ردود أفعالنا إلى اليوم عن الميل إلى تحميل الآخرين المسؤولية عما يجري لنا، وغمرهم بالشتائم. لم تكن هذه السنوات السبع كافية لأن نفكر بأن علينا، نحن أنفسنا، مسؤولية ما عن هذا الذي وصلنا إليه.
إذا كان العالم لا يريد مساعدتنا أو تفهم قضيتنا العادلة، ألا نريد نحن مساعدة أنفسنا والانتصار لقضيتنا، أم أن دورنا يجب أن يقتصر على شتم الآخرين، والامتناع، في الوقت نفسه، عن القيام بواجبنا تجاه أنفسنا، باعتبارنا شعبا مرشحا للإبادة، أم أن موقفنا يجب أن يكون الوجه الآخر لموقف العالم منا؟ أليس من الأجدى التوقف عن شتم عالمٍ لا ينصفنا، والبدء بإنقاذ أنفسنا من محنة من الواضح أن ما اعتمدناه إلى اليوم من سياسات ومواقف لن يستطيع إخراجنا منها.
من المفهوم أن يتسلل اليأس إلى نفوسنا، بسبب موقف العالم منا، لكنه ليس مفهوما أن نسهم بتقصيرنا في تعميق يأسنا، وتحويله إلى إحباطٍ يسبق عادة العجز فالهزيمة، وما يترتب عليهما من تحول صراعنا ضد النظام إلى صراعاتٍ تدميرية بيننا، وفي صفوف شعبنا، تمعن في تمزيقنا أكثر مما نحن ممزقون، وتغرقنا في حالٍ من التخبط، لطالما قادت ثوراتٍ كبيرة كثورتنا إلى الفشل.
بدل الشكوى الدائمة من ظلم العالم وانحيازه إلى موتنا، أليس من واجبنا أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار في حساباتنا، ومواجهتها بخطط مدروسة نبلورهاونطبقها أخيرا، سعيا إلى ترميم أوضاعنا ثم إصلاحها، ليس فقط لأن لها دورا لا يستهان به في ابتعاد العالم عنا، وإنما أيضا، وقبل كل شيء، لأن صمودنا اليوم وانتصارنا غدا رهنٌ بمبارحة واقعنا المريض، وإصلاح واقعنا بما يعيننا على إقناع الدول بأن مصالحها لن تكون محفوظة عندنا، إلا بقدر ما تكون حقوقنا مصونة عندها، وأن دورنا سيكون مقرّرا بالنسبة لتحديد هوية الفائزين والخاسرين في صراعٍ تتخطى نتائجه سورية والدول العربية والإقليمية إلى الدول الكبرى والعظمى، سيتوقف مستقبل العالم ومآل قواه على مخرجاته.
بعد سبعة أعوام من إدانة العالم، حان الوقت كي ندير ظهرنا لهذا النهج العبثي، ونلتفت إلى ما أهملناه دوما: وضعنا نحن: وضع قوانا السياسية والعسكرية، ووضع شعبنا في الداخل والخارج، ونمط ما اتخذناه من مواقف وبلورناه من رؤى وبرامج، لمواجهة ما مررنا ونمر به من تحديات، ووضع ممارساتنا والأساليب التي استخدمناها في معركتنا الشاقة من أجل حريتنا، وما قمنا به من تدابير، لكي لا يتقدم أعداؤنا علينا، ونجد أنفسنا محكومين بردود أفعال تترك لهم المبادرة والأعمال الاستباقية، وتجبرنا على انتهاج سياساتٍ لا يمكن أن يحترمها أحد، مفككة ولحاقية وجزئية، وتفتقر إلى الواقعية والانسجام، كما هو حال سياساتنا خلال سبعة أعوام مضت، لم نتعلم خلالها الكثير حول مسؤوليتنا نحن عن مصيرنا.
إذا كانت الدول تتخذ موقفا ظالما منا، فهل هذا سبب كافٍ لأن نتخذ نحن أيضا الموقف الظالم نفسه من شعبنا وثورتنا، ونظل أسرى علاقات مركزها الآخر وليس نحن، على الرغم من أننا نحن أصحاب قضيتنا، وليس هو أو أي أحد سوانا.
منذ نيف وستة أعوام، ونحن نندب حظنا، وندين ظلم العالم وتجاهله لنا. أما حان الوقت لكي نخرج من هذا المرض الذي جعل منا ندّابين بكائين، لا خير فيهم لقضيتهم العادلة التي تتعرّض على أيديهم هم بالذات لأفدح ظلم وتجاهل ينزل بها.