
"العقاب الذهبي: قراءة في الهوية البصرية الجديدة لسوريا"
أعلنت الجمهورية العربية السورية عن اعتماد شعار بصري جديد، كشف عنه الرئيس السوري أحمد الشرع في احتفال رسمي أقيم داخل قصر الشعب في دمشق.
وجاء هذا الإعلان في خضم مرحلة تحوّل فارقة تمرّ بها البلاد، وسعي واضح نحو إعادة بناء الدولة على أسس حديثة تعكس طموحات السوريين وتطلعاتهم، إثر انتصار الثورة السورية التي وضعت حداً لعقود من الاستبداد، ومهّدت لانطلاقة مشروع وطني جامع عقب سنوات طويلة من الحكم الاستبدادي الذي رسّخه حافظ الأسد، وورثه ابنه بشار المخلوع لأربعة عشر عاماً أنهكت البلاد، وقوّضت بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال نهج قمعي عسكري أنتج انقسامات حادة بين مكونات الشعب السوري على المستويات العرقية والفكرية والجغرافية.
وقد جاء اعتماد الهوية البصرية الجديدة بوصفه تدشيناً لمرحلة سياسية واجتماعية وثقافية جديدة، تهدف إلى إعادة تعريف المفاهيم التي لطالما أُفرغت من مضمونها، مثل الانتماء والسيادة والمواطنة، ولم لا تقتصر على تعديل في الشكل أو اللون، بل تعبّر عن قطيعة رمزية ووظيفية مع رموز النظام السابق الذي احتكر تمثيل الدولة وأفرغ مؤسساتها من معناها.
من هذا المنطلق، يقدّم هذا التقرير قراءة تفسيرية وتحليلية للهوية البصرية الجديدة، مستعرضاً رموزها، سياقاتها، ودلالاتها على ملامح الدولة السورية المقبلة التي تُبنى اليوم من جديد، على أنقاض تجربة حكم استبدادي امتدت لنصف قرن.
العقاب الذهبي: تمثيل سيادي لدولة تقف على الحافة بين القوة والرعاية
الشعار الجديد، المتمثل بـ "العقاب السوري الذهبي"، يُمثّل حجر الزاوية في مشروع هوية بصرية تسعى إلى تجاوز المفهوم التقليدي للشعارات الرسمية، نحو سردية رمزية متعددة الطبقات تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
فالعقاب، بوصفه طائراً ضارباً في الثقافة والتاريخ، لا يُستحضر هنا كرمز للبطش أو الهيمنة، إنما ككيانٍ يطل من علٍ، يرقب ويحتضن، ويعكس مفهوم الدولة بوصفها كيانًا حارسًا لا متغولًا، راعيًا لا متسلطًا. فالمعنى هنا يقوم على التوازن بين السلطة والمجتمع، بين الثبات والحركة، بين الذاكرة والطموح.
ويأتي حضور العقاب، بوصفه مخلوقاً سماوياً حاضراً في الذاكرة الثقافية العربية والإسلامية، ليشكّل محوراً تأويلياً لهوية وطنية قيد التشكل؛ كرمز محمّل بدلالات تتجاوز مفاهيم السيطرة إلى معاني الحماية، ومن منطق القوة إلى منطق التوازن.
وخارج القوالب الكلاسيكية التي ارتبطت بالطيور الجارحة في شعارات الجمهوريات العربية، يظهر العقاب في التصميم السوري الجديد بوصفه تمثيلاً لدولة حارسة، يقظة، تؤمن بمسؤوليتها تجاه مواطنيهان وفي بنيته الرمزية، لا يلوّح بالبطش، بل يُفصح عن رؤية تقوم على الاحتضان لا الإخضاع.
والهيئة البصرية للعقاب تنطوي على توازن دقيق، أجنحة منبسطة تشير إلى الاستعداد دون استفزاز، وحالة توتر إيجابي تعكس الجاهزية لا العدوان.
أما المخالب، فمرسومة بوضعية انفتاح تحفظ وظيفة الدفاع لا القمع، في تناغم مع سردية دولة تحرس حدودها، وتحرص على سلام مواطنيها.
وفي هذا التكوين البصري، تتجسد الدولة بوصفها كياناً يُحسن الإصغاء إلى مواطنيه، لا كياناً يخنقهم تحت ثقله ومن هنا يظهر انتقالاً حقيقياً في فلسفة الحكم: من التسلط إلى الرعاية، ومن الرمز السلطوي إلى الرمز الوطني.
الجناحان والمخالب: خطاب بصري عن التوازن واليقظة
يشكّل جناحا العقاب في الشعار الجديد امتداداً مرئياً لوحدة الدولة وتكامل بنيتها السياسية والإدارية، أربعة عشر ريشة تتوزع بتوازن على كلا الجناحين، تمثّل المحافظات السورية لا بوصفها وحدات جغرافية فحسب، إنما كمكوّنات فاعلة في جسم الدولة،و مقاربة ترفض المركزية المطلقة، وتؤكد على فكرة الدولة المتوازنة التي لا تطير بجناح دون آخر.
أما المخالب، فمرسومة بوضعية انفتاح محسوب، لا تنقضّ على فريسة، ولا تُطوى في استسلام، بل تتموضع في حالة يقظة مرنة، مستعدة لاستخدام القوة عند الضرورة، لكنها لا تتصدر المشهد البصري، مما يرسّخ رؤية الدولة كضامنة لا كقامعة، وكمدافعة لا كمهاجمة.
في هذا التوازن الهندسي يتجلى المعنى السياسي الأعمق: دولة تحترم قوتها لكنها لا تُخيف بها شعبها، وتُبقي أدواتها السيادية في حالة جهوزية، دون أن تجعل منها وسيلة لترهيب الداخل.
النجوم الثلاث: انتقال من الاحتواء إلى التمكين
في الشعار الجديد، لم تعد النجوم الثلاث محاصرة داخل الترس كما في الشعار السابق، الذي جسّد دولةً قاهرة تحتضن الشعب داخل رموزها الأمنية وتُحجّمه ضمن بنيتها السلطوية، اليوم، ارتفعت النجوم إلى أعلى الشعار، واعتلت رأس العقاب في موضع سيادي بصري يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها.
والتمركز الجديديُجسّد تحوّلًا في فلسفة الحكم؛ إذ أصبحت النجوم تمثّل الشعب بصفته مصدر الشرعية، وضمانة الاتزان، وصانع المستقبل، ومن موقعها المرتفع، تنال النجوم دوراً إشرافيًا رمزياً، يعكس رؤية ترى في المواطن شريكاً في القرار، لا تابعاً للسلطة.
أما توزيع النجوم في فضاء الشعار، فيُعيد التوازن إلى المعادلة الوطنية، إذ لم تعد القوة العسكرية أو البُنى البيروقراطية هي مركز الثقل البصري، بل الشعب ذاته، المتجسّد في رمزية النجوم، هو من يتقدّم المشهد، ويُملِي شروط الشراكة الجديدة بين الدولة والمجتمع.
لا يقل الذيل أهمية عن الأجنحة والمخالب، بل يشكل قاعدة الاتزان التي يُبنى عليها الشكل الرمزي للطائر كاملاً، يحتوي الذيل على خمس ريشات عريضة، كل واحدة منها تمثل إحدى المناطق الجغرافية الكبرى في سوريا: الجنوبية، الوسطى، الشمالية، الشرقية، والغربية.
هذا التوزيع فأن الدولة سوف تتعامل مع الجغرافيا كوحدة بنيوية متكاملة، فكما يحفظ الذيل توازن الطائر في أثناء التحليق، فإن هذه المناطق تمثل في رمزيتها القوة الاستراتيجية والثقل الاجتماعي والثقافي الذي يحفظ توازن الدولة السورية الجديدة في حركتها نحو المستقبل.
ويمثّل إدراج هذه المناطق الخمس في الذيل تصحيحاً تاريخياً لمنطق التهميش والإقصاء الذي ساد سابقاً، ويعيد التأكيد على أن النهوض الوطني لا يُبنى من مركز واحد، بل من تفاعل متزن بين الأطراف.
وفي البعد الوظيفي، تتعاضد هذه الريشات الخلفية مع الجناحين لتشكّل بنية متكاملة للحركة والاستقرار، وتُجسد الرؤية الجديدة لسوريا باعتبارها دولة تُقيم توازنها من تنوعها، وتحلّق فقط حين تكون كل جهاتها حاضرة في صياغة القرار والمسار.
التفاعل المجتمعي والرقمي: #هوية_تجمعنا
لم يكن اعتماد الهوية البصرية الجديدة حدثاً معزولاً في نطاق الدولة، بل رافقه تفاعل شعبي واسع عبّرت عنه منصات التواصل الاجتماعي، حيث انطلقت حملة رقمية واسعة النطاق تحت وسم #هوية_تجمعنا. مثّلت هذه الحملة امتدادًا مجتمعيًا رمزيًا للهوية الجديدة، ووسيلة لترسيخها في الوعي الجمعي للسوريين.
تميّز الخطاب المصاحب لهذه الحملة بلغة غير استقطابية، تجاوزت الانقسامات التقليدية التي لطالما خيّمت على النقاش العام، وعبّرت عن شعور جماعي متجدد بالانتماء إلى دولة جديدة لا تنظر إلى مواطنيها من موقع الشك أو السيطرة، بل تسعى لإشراكهم في صناعة المستقبل.
وشكّلت هذه الموجة الرقمية انعكاسًا لحاجة السوريين، في الداخل والشتات، إلى نقطة مرجعية رمزية جامعة، تتجاوز الروايات المنهكة التي فرضها الصراع، وتعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة على أساس من الثقة والتكامل لا القهر والانفصال. وقد جسّد التفاعل الشعبي حول العقاب الذهبي هذا التوق، فكان تداول رمزيته، وتفسير خطوطه وألوانه، بمثابة ممارسة جماعية جديدة للهوية الوطنية، تبدأ من التصميم ولا تنتهي عنده.
ومعنوية مع شعارات الأنظمة السابقة التي كانت توظف الرموز لتكريس الهيمنة، وليفتح الباب أمام تصور جديد لدولة تقرّ بأن شرعيتها تُستمد من رضا مواطنيها، لا من أدوات سيطرتهم.
وشهدت ساحة الجندي المجهول على سفح جبل قاسيون بدمشق مساء الخميس ، حفلاً رسمياً لإشهار الهوية البصرية الجديدة للدولة السورية، ضمن فعالية كبرى احتشد لإحيائها عشرات الآلاف من المواطنين. ومع توافد المشاركين إلى مكان الفعالية في الساعات الأولى من المساء، انتشرت قوى الأمن الداخلي وفرق الإسعاف والإطفاء في محيط الساحة لتأمين سلامة الأهالي أثناء الاحتفال.
وقد اعتُبر هذا الحدث العرض الأبرز ضمن الاحتفالات الوطنية، حيث اجتمع مزيج من الرسميين والمواطنين للاحتفاء بالشعار الجديد بوصفه بداية عهدٍ جديد لسوريا تتشارك فيه الرمزية مع الواقع، والانتماء مع الأمل. ومعنوية مع شعارات الأنظمة السابقة التي كانت توظف الرموز لتكريس الهيمنة، وليفتح الباب أمام تصور جديد لدولة تقرّ بأن شرعيتها تُستمد من رضا مواطنيها، لا من أدوات سيطرتهم.
ولم يقتصر الحضور الشعبي على الفضاء الرقمي وساحة الجندي المجهول، بل شهدت المحافظات السورية احتفالات ميدانية واسعة بمناسبة إطلاق الهوية الجديدة، توزعت بين إدلب، حمص، حماة، حلب وجميع المحافظات، في مشهد غير مسبوق من التفاعل المجتمعي المتزامن.
الهوية البصرية الجديدة إعلان عن مشروع وطني يتجاوز رمزية العقاب ليعبّر عن لحظة تأسيس جديدة. في كل خط من خطوطه، وفي كل تموضع لعنصر بصري داخله، تتجلى ملامح دولة تنفض غبار الماضي وتعيد تعريف نفسها ككيان جامع، متوازن، وشامل.
هذه الهوية، التي سترافق السوريين في جوازات سفرهم، وثائقهم، مدارسهم، وشوارعهم، ليست ملحقا تجميليا للدولة، بل مرآة لجوهرها الجديد، محاولة لترميم العلاقة بين الفرد والدولة عبر لغة بصرية متزنة تعترف بالماضي دون أن تُختزل فيه، وتنظر إلى المستقبل من زاوية المشاركة لا الوصاية.