
فرنسا بعد 2011: موقف حازم ضد الأسد ودور بارز في العدالة الدولية
منذ اندلاع الثورة السورية في 2011، تبنت فرنسا سياسة صارمة ضد نظام بشار الأسد، التي تطورت في إطار سياق إقليمي ودولي متغير. بدأت باريس سياستها بتشديد موقفها منذ أغسطس/آب 2011، حيث طالبت صراحةً بتنحي الأسد عن السلطة، لتكون بذلك من أوائل الدول الغربية التي تتخذ هذا الموقف.
وتوجت فرنسا هذا الموقف بالاعتراف المبكر بالمعارضة السورية ممثلة بـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"، حيث كانت أول دولة غربية تمنح الاعتراف الرسمي للائتلاف في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
القطيعة الدبلوماسية مع دمشق
مع تفاقم الأزمة السورية، اتخذت فرنسا خطوة جريئة بقطع كافة الروابط الرسمية مع دمشق، فأغلقت السفارة الفرنسية في سوريا في مارس/آذار 2012، في خطوة احتجاجية على قمع النظام للانتفاضة الشعبية. ومنذ ذلك الحين، لم تكن هناك علاقات دبلوماسية مباشرة بين البلدين، حيث لم يُعيّن سفير فرنسي في دمشق، ولم تُجرَ زيارات رسمية متبادلة.
الدور الدبلوماسي الفرنسي: عزل النظام ودعم الحل السياسي
رسمت فرنسا نهجًا دبلوماسيًا قائمًا على عزل نظام الأسد دوليًا، مع السعي لإيجاد حل سياسي من خلال الأمم المتحدة. وشاركت فرنسا بقوة في مجموعة أصدقاء الشعب السوري، ودعمت قرارات مجلس الأمن، مثل القرار 2254 لعام 2015، الذي حدد خارطة طريق للانتقال السياسي في سوريا.
كما ساندت فرنسا مطالب المجتمع الدولي بشأن محاسبة النظام على الجرائم المرتكبة، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين. وفي هذا السياق، أطلقت باريس مبادرة في 2018 لإنشاء "الشراكة الدولية ضد الإفلات من العقاب لاستخدام الأسلحة الكيميائية"، والتي جمعت نحو 40 دولة.
التحولات في السياسة الفرنسية تحت قيادة ماكرون
في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، شهد الموقف الفرنسي بعض التحولات. ففي 2017، أشار ماكرون إلى أن الأسد لم يعد يشكل "عدوًا لفرنسا"، بل أصبح العدو الأكبر هو الإرهاب. كما شدد ماكرون على أن الأولوية الفرنسية كانت لمحاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في سوريا بدلاً من التركيز على تغيير النظام. إلا أن فرنسا تمسكت بـ"الخط الأحمر" المتمثل في استخدام الأسلحة الكيميائية، وعندما وقع الهجوم الكيميائي في دوما في 2018، شاركت فرنسا في ضربات عسكرية ضد منشآت مرتبطة بالأسلحة الكيميائية.
العقوبات والتجميد الاقتصادي
منذ بداية الأزمة، تبنت فرنسا سياسة العقوبات الاقتصادية على النظام السوري، في إطار الاتحاد الأوروبي. وقد فرضت فرنسا حزمًا من العقوبات شملت تجميد الأصول وحظر تصدير الأسلحة والتقنيات ذات الاستخدام المزدوج. كما شددت باريس على أن إعادة إعمار سوريا لن تتم إلا بعد التوصل إلى انتقال سياسي حقيقي. هذه السياسة أثرت بشكل كبير على الاقتصاد السوري، حيث تراجعت التجارة بين البلدين بشكل حاد، من مئات الملايين من الدولارات قبل 2011 إلى حوالي 22 مليون دولار فقط في 2023.
الملف الأمني والتنسيق غير المباشر
رغم القطيعة السياسية، شهد الملف الأمني نوعًا من البراغماتية. تصاعدت تهديدات الإرهاب الجهادي من الأراضي السورية، خاصة مع ظهور تنظيم داعش، مما دفع الأجهزة الأمنية الفرنسية إلى البحث عن معلومات استخباراتية من النظام السوري.
في 2015، أجرت باريس اتصالات أمنية سرية مع النظام السوري عبر وسطاء، كما تواصلت مع قوات سوريا الديمقراطية والعراق وتركيا لتأمين الحدود ومكافحة الإرهاب. هذه التنسيقات كانت تهدف إلى الحصول على معلومات حول المتطرفين والمقاتلين الأجانب.
العدالة ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات
على المستوى الحقوقي، قامت فرنسا بملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات المرتكبة في سوريا عبر القضاء الفرنسي والدولي. دعمت فرنسا إنشاء آلية الأمم المتحدة لجمع الأدلة على الجرائم السورية، كما سمحت قوانينها بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية حتى لو ارتكبت خارج أراضيها. وقد أسفرت هذه الجهود عن محاكمة رموز النظام السوري في محاكم فرنسية، مثل قضية عائلة دبّاغ، حيث أصدرت المحكمة الفرنسية مذكرات توقيف دولية بحق ثلاثة من كبار مسؤولي المخابرات السورية.
موقف فرنسا من التطبيع العربي مع النظام
مع عودة بعض الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع النظام السوري في 2023 و2024، تمسكت فرنسا بموقفها الرافض للتطبيع مع الأسد دون شروط. في قمة جدة في مايو/أيار 2023، أكدت فرنسا أن الأسد يجب أن يُحاكم عن جرائمه في محكمة دولية، ولن تقبل بتطبيع العلاقات إلا إذا حدث تقدم حقيقي في العملية السياسية. وقد التزمت باريس بدعم مطالب المعارضة السورية ودعم العدالة والحرية للشعب السوري، مشددةً على أن أي تطبيع يجب أن يرتبط بإصلاحات فعلية من النظام.
في الختام، اتخذت فرنسا موقفًا متسقًا وأخلاقيًا تجاه الأزمة السورية، مدفوعة برغبة في تحقيق انتقال سياسي يعكس تطلعات الشعب السوري. ورغم تغير الظروف الإقليمية، تمسكت باريس بمبادئها في دعم المعارضة ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات، مع الإصرار على أن لا يتم رفع العقوبات أو تمويل إعادة الإعمار دون تحقيق تقدم حقيقي في العملية السياسية.