
في اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب: وثائق جديدة تكشف وفاة الآلاف من المختفين قسرياً داخل مراكز احتجاز نظام الأسد
أصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان تقريرها السنوي بمناسبة اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب، والذي يُسلّط الضوء على واحدة من أبشع الجرائم المنهجية التي تعرّض لها السوريون منذ آذار/مارس 2011.
ويأتي تقرير عام 2025 في مرحلة مفصلية أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، وما تبعه من كشف معلومات جديدة من خلال وثائق وسجلات رسمية، إضافة إلى التواصل مع آلاف الأهالي، أثبتت لدينا وفاة أعداد كبيرة من المختفين قسراً داخل مراكز الاحتجاز التابعة للنظام.
وقد أدى ذلك إلى ارتفاع كبير في الحصيلة التوثيقية للضحايا الذين قضوا تحت التعذيب أو في ظروف احتجاز لا إنسانية، وفقاً لقاعدة بيانات الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان.
وأوضحت الشبكة أنها عملت على مدى أربعة عشر عاماً، على توثيق ممارسات التعذيب والانتهاكات التي تعرّض لها المعتقلون في مراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية التابعة لنظام بشار الأسد، وبنت قاعدة بيانات ضخمة تستند إلى شهادات آلاف الناجين وأقارب الضحايا، مدعومة بالأدلة البصرية والمستندات، لتشكّل مرجعاً رئيسياً في العديد من التحقيقات والآليات الأممية الدولية.
بيانات الضحايا الذين قضوا تحت التعذيب منذ آذار/مارس 2011 وتوزّعهم وفق قاعدة بيانات الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان
أشار التقرير إلى أنَّ عام 2025 شهد ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الضحايا الموثّقين بسبب التعذيب في سوريا، ويُعزى ذلك أساساً إلى توفر آلاف البيانات من شهادات ووثائق وأدلة كشفت عن وفاة عشرات الآلاف من المختفين قسراً في فترات سابقة.
وفق الشبكة، تم تأكيد وفاتهم من خلال وثائق رسمية، وبيانات صادرة عن دوائر السجل المدني، وتقارير من مراكز الاحتجاز، بالإضافة إلى شهادات ناجين من داخل تلك المراكز، وذلك عقب انهيار المنظومة الأمنية التي كانت تحجب هذه المعلومات بشكل منهجي.
ووفقاً لتوثيق الشَّبكة، فقد تم في عام 2025 تسجيل مقتل ما لا يقل عن 29,959 شخصاً نتيجة التعذيب، ما رفع الحصيلة الإجمالية للضحايا منذ آذار/مارس 2011 وحتى حزيران/يونيو 2025 إلى 45,342 شخصاً، بينهم 225 طفلاً و116 سيدة. وتعود معظم هذه الوفيات إلى الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2014، التي مثّلت ذروة حملات الاعتقال والإخفاء القسري.
وتُظهر بيانات الشَّبكة أيضاً أنَّ ما لا يقل عن 181,244 شخصاً، من بينهم 5,332 طفلاً و9,201 سيدة، لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري في مراكز احتجاز تتبع لجهات مختلفة داخل سوريا منذ آذار/مارس 2011 وحتى حزيران/يونيو 2025. ومن بين هؤلاء، يُصنّف ما لا يقل عن 177,021 شخصاً، منهم 4,536 طفلاً و8,984 سيدة، كمختفين قسراً. وتؤكد الإحصاءات أنَّ الغالبية العظمى من المعتقلين كانوا على خلفية مشاركتهم في الحراك الشعبي، وقد احتُجزوا تعسفياً دون أي إجراءات قانونية أو قضائية نزيهة.
نظام بشار الأسد مسؤول عن أكثر من 99 % من حالات الوفاة بسبب التعذيب
كشفت البيانات أنَّ أكثر من 99 % من حالات الوفاة تحت التعذيب (45,032 من أصل 45,342 حالة) وقعت داخل مراكز احتجاز تابعة للنظام السابق، الذي استخدم التعذيب كأداة قمع ممنهجة ضمن سياسة رسمية شملت الأجهزة الأمنية الأربعة الرئيسة: المخابرات الجوية، الأمن العسكري، أمن الدولة، والأمن السياسي، إضافة إلى السجون المدنية والعسكرية، ومراكز الاحتجاز غير الرسمية.
وقد وثّقت الشَّبكة استخدام ما لا يقل عن 72 أسلوباً من أساليب التعذيب، تراوحت بين الضرب، الصعق الكهربائي، الإيهام بالغرق، الشبح، العزل الانفرادي، والحرمان من الطعام والرعاية الصحية، إلى جانب العنف الجنسي. وطالت هذه الأساليب جميع الفئات، بما في ذلك الأطفال والنساء وكبار السن وذوي الإعاقة.
ووفق تحليل التقرير لتوزّع ضحايا التعذيب على المحافظات السورية، تصدّرت محافظات درعا، ريف دمشق، حماة، وحمص القائمة. كما أشار التقرير إلى أنَّ الانتماء المناطقي كان في كثير من الأحيان عاملاً مؤثراً في ممارسة التعذيب، حيث عمد عناصر النظام إلى تعذيب الضحايا على خلفية انتمائهم لمناطق معارضة، في إطار عمليات انتقام جماعي.
توثيق عبر صور "قيصر"
من خلال الصور المسرّبة من المشافي العسكرية، المعروفة بـ "صور قيصر"، تمكنت الشَّبكة من تحديد هوية 1,017 ضحية، غالبيتهم ممن اعتُقلوا خلال عامي 2012 و2013. وقد أظهرت البيانات أنَّ أكبر عدد من الضحايا وُثِّق في الفرع 227 (فرع المنطقة)، الذي سجّل 382 ضحية، يليه الفرع 215 (سرية المداهمة والاقتحام) بـ 300 ضحية، وهما من أبرز مراكز التعذيب القاتل في عهد نظام الأسد.
المساءلة والعدالة كمدخل لإنهاء الإفلات من العقاب ومنع تكرار التعذيب في سوريا
أكّد التقرير أنَّ سقوط نظام بشار الأسد وبداية المرحلة الانتقالية يُحمّلان السلطات الجديدة، إلى جانب المجتمع السوري بأكمله، مسؤولية تاريخية لتفكيك هذا الإرث الثقيل والتعامل معه بجدية ومؤسسية. ويتطلب ذلك اعتماد خطة شاملة لمعالجة ملف التعذيب، تقوم على المحاور التالية:
1. فتح تحقيقات وطنية مستقلة وجدية في جرائم التعذيب المرتكبة منذ عام 2011 وما قبله.
2. استقلال القضاء ثم تمكين السلطة القضائية من ملاحقة مرتكبي هذه الجرائم على مختلف المستويات، دون استثناء أو حصانة.
3. تعزيز التعاون مع الآليات الدولية، كـالآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM)، والمحاكم الوطنية التي تملك ولاية قضائية عالمية.
الكشف عن الحقيقة والشفافية المؤسسية:
• نشر نتائج التحقيقات المتعلقة بوقائع التعذيب والاختفاء القسري للرأي العام.
• تسهيل وصول ذوي الضحايا إلى المعلومات المرتبطة بمصير أحبّائهم، وتمكينهم من المطالبة بحقوقهم القانونية.
جبر الضرر وإنصاف الضحايا:
• الاعتراف الرسمي بحقوق الضحايا واعتبارهم ضحايا لانتهاكات جسيمة.
• إطلاق برامج دعم نفسي، صحي، واجتماعي للناجين من التعذيب.
• تقديم تعويض مادي ومعنوي عادل للضحايا وذويهم، يشمل إصلاحات رمزية وإعفاءات مناسبة.
الإصلاح المؤسسي وضمان عدم التكرار:
• تفكيك الأجهزة الأمنية المتورطة في جرائم التعذيب وإعادة هيكلتها بما يتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون.
• تطهير المؤسسات من الأفراد المتورطين في الانتهاكات الجسيمة، ومنعهم من تولي مناصب عامة في المستقبل.
التشريعات:
• تعديل القوانين الوطنية لتتوافق مع اتفاقية مناهضة التعذيب، وتجريم كافة أشكال التعذيب دون تقادم أو إعفاء قانوني.
العدالة الانتقالية كمسار متكامل:
• دمج ملف التعذيب ضمن استراتيجية وطنية شاملة للعدالة الانتقالية، تشمل المساءلة، جبر الضرر، كشف الحقيقة، والإصلاح المؤسسي.
• إشراك المجتمع المدني والضحايا في صياغة هذه الاستراتيجية وتنفيذها لضمان تمثيل حقيقي لمصالح المتضررين.
استنتاجات التقرير:
• تُعدّ ممارسات التعذيب التي ارتُكبت في مراكز الاحتجاز التابعة لنظام بشار الأسد السابق، بما في ذلك الوفاة تحت التعذيب، جريمة ضد الإنسانية وفقاً للمادة السابعة من نظام روما الأساسي، نظراً لطابعها المنهجي والواسع النطاق واستهدافها المدنيين ضمن سياسة الدولة.
• استمرار استخدام التعذيب في بعض مراكز الاحتجاز التابعة لأطراف أخرى في النزاع يعكس فشلاً في احترام القانون الدولي لحقوق الإنسان، ويعرّض المسؤولين عنها للمساءلة.
• تُظهر الإحصائيات أنَّ أكثر من 99 % من حالات الوفاة تحت التعذيب وقعت داخل مراكز احتجاز تابعة لنظام بشار الأسد، ما يبرز الطبيعة المؤسسية لهذه الجريمة ويستدعي تحركاً عاجلاً على المستويين الوطني والدولي.
التوصيات:
أولاً: إلى الحكومة الانتقالية:
1. الاعتراف رسمياً بجرائم التعذيب والانتهاكات التي وقعت داخل مراكز الاحتجاز، واعتبارها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، واتخاذ إجراءات لمعالجتها ضمن إطار العدالة الانتقالية.
2. إجراء جرد شامل لمراكز الاحتجاز الرسمية وغير الرسمية التي استخدمها النظام السابق، والتحقيق في الانتهاكات التي وقعت فيها، بما يشمل استجواب الموظفين السابقين والشهود.
3. حماية الوثائق والأدلة المتعلقة بالمعتقلين وضحايا التعذيب، وضمان عدم التلاعب بها أو إتلافها، نظراً لأهميتها الحقوقية والقانونية.
4. مراجعة وتجميد كافة التشريعات والأوامر الإدارية التي وفّرت غطاءً قانونياً لمرتكبي التعذيب، والعمل على سنّ قوانين جديدة تتماشى مع اتفاقية مناهضة التعذيب.
5. منع أي تسويات سياسية أو قضائية تُكرّس الإفلات من العقاب أو تضفي شرعية على الانتهاكات السابقة.
6. ضمان تعاون الحكومة الانتقالية مع المنظمات الحقوقية والآليات الأممية، وخاصة اللجنة الدولية للتحقيق والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM)، وتزويدها بالأدلة والوثائق المطلوبة.
7. إطلاق برنامج وطني شامل لجبر ضرر الضحايا وذويهم، يشمل التعويض المادي والمعنوي، والدعم النفسي والاجتماعي، والاعتراف الرمزي بمكانة الضحايا في المجال العام.
8. إدراج ملف التعذيب في المناهج التعليمية والسردية الرسمية للدولة الجديدة، كجزء من عملية المصالحة الوطنية وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان ومنع تكرار الانتهاكات.
9. التأكيد على عدم تولي المتورطين في جرائم التعذيب أي مناصب أمنية أو إدارية، وتطبيق إجراءات تدقيق مؤسسية صارمة ضمن عملية الإصلاح.
ثانياً: إلى القضاء السوري والمؤسسات القانونية المعنية:
1. ضمان استقلالية القضاء وفتح تحقيقات قضائية في جرائم التعذيب، وفق المعايير الدولية، وملاحقة المسؤولين عنها على كافة المستويات، دون تقادم أو استثناء.
2. تطوير أدوات عمل القضاء الوطني لتمكينه من النظر في الجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك التعذيب والاختفاء القسري، وإنشاء وحدات متخصصة في هذه القضايا.
3. تعزيز التعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي تمتلك قواعد بيانات وشهادات موثقة، لاستخدامها كأدلة في عمليات المحاسبة.
ثالثاً: إلى المجتمع الدولي والجهات الأممية:
1. مواصلة دعم جهود التوثيق والمساءلة المتعلقة بجرائم التعذيب في سوريا، وتقديم الدعم الفني واللوجستي للجهات السورية المستقلة المعنية.
2. توسيع نطاق اختصاص المحاكم الدولية والوطنية ذات الولاية العالمية لمحاكمة المتورطين في جرائم التعذيب في سوريا، بمن فيهم أولئك المقيمون خارج البلاد.
3. دعم برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للضحايا، لا سيما من تعرّضوا لأشكال شديدة من التعذيب والعنف الجنسي، وتوفير خدمات متخصصة وطويلة الأمد.