
المرأة العاملة في سوريا: صراع يومي بين الواجبات والضغوط
تقفُ نورا في المطبخ تُعدّ السندويشات لأطفالها الثلاثة، تنظر إلى ساعتها وتحاول الإسراع كي تلبسهم ملابسهم قبل الذهاب إلى المدرسة، وسط جو يعجّ بالطلبات:"أمي، مشطي لي شعري"، "أنا جائع"، "لا أريد الذهاب اليوم!". ليقاطعهم صوت زوجها: "أين قهوتي؟ هل كويتِ البنطال؟ أريد الذهاب إلى العمل".
تحاولُ نورا إنجاز المهام بسرعة، وبعد الانتهاء منها ترتدي ملابس عملها، تتناول قطعة خبز مع الجبن على عجل، ثم تنطلق.
اعتادتْ نورا، وهي سيدة في منتصف الثلاثينات، وتعملُ في مهنة التدريس، على هذا النمط من الحياة منذ أن قررت العمل لمساعدة زوجها في تغطية نفقات المنزل. لكن رغم ذلك، تمضي يومها تركض بين المجلى والغسالة، والتنظيف وإطعام الأطفال، بالإضافة إلى واجباتها الزوجية. كثيراً ما تفكر بترك العمل لتخفيف العبء عن نفسها، لكن الظروف المادية الصعبة التي تمرُّ بها الأسرة وحاجتهم إلى دخلها يجعلها تتراجع عن القرار.
عشرات السوريات معيلات لأسرهن
نورا واحدة من عشرات النساء في سوريا اللواتي يحملن على عاتقهن مسؤوليات مضاعفة، في العمل داخل المنزل كأمهات وزوجات وربّات بيوت، وخارجه في وظائف متعددة سواء في المنظمات، أو المشافي، أو المدارس، أو الأعمال الزراعية، أو المصانع، أو البيع المتنقل، وغيرها من فرص العمل المتاحة للنساء.
لكن ثقل هذه المسؤوليات، وقساوة الظروف التي تحاول النساء التوفيق بينها، يجعلهن عرضة لصعوبات نفسية، صحية، واجتماعية، سنتناول بعضها استناداً إلى شهادات جمعناها خلال إعداد هذا التقرير.
غياب عن الجمعات العائلية
تشتكي بعض النساء من عدم تمكنهن من حضور التجمعات العائلية المحببة، فغالباً ما يكون لديهن التزامات مثل تحضير طعام اليوم التالي، أو إنهاء مهام العمل المتراكمة في المنزل. كما أن بعضهن يتعرضن للاتهام بالتقصير في الواجبات الاجتماعية كزيارة الأقارب أو الجيران، بينما تحاول كثيرات استغلال أوقات الفراغ أو العطل في العناية بالمنزل أو الأطفال، أو على الأقل نيل قسط من الراحة.
تقول فاطمة (30 عامًا)، مقيمة في ريف إدلب الشمالي وتعمل في إحدى المنظمات الإنسانية في مجال المراقبة والتقييم: "في البداية كنت أنزعج من عتاب الجارات والأخوات والصديقات بسبب تقصيري في زيارتهن، لكنني اعتدت الأمر لاحقًا. فأنا أعمل من لحظة استيقاظي حتى المساء، وأسعى لإنجاز المهام المترتبة عليّ.
حتى يوم العطلة أخصصه للحالات الطارئة كزيارة مريض أو تهنئة بمناسبة لا يمكن تجاهلها. وإن لم توجد مناسبة، أقضيه في ترتيب المنزل. فالعمر ينتهي، لكن عمل البيت لا ينتهي".
تعب جسدي وإرهاق
وتعرضتْ نساء أخريات لتعب جسدي شديد نتيجة كثرة الأعمال اليومية الملقاة على عاتقهن. ووفقاً لسيدات تحدثنا معهن، تجلّى هذا التعب في آلام بالظهر، والركبتين، واليدين، والرقبة، خصوصًا لدى من يعملن في الزراعة، مثل الحصاد، وتنظيف الأراضي من الأعشاب الضارة، وقطاف الثمار، واقتلاع البطاطا، وجمعها في أكياس.
ولا تقتصر الآلام على العاملات في الزراعة، فالمعلمات أيضاً يعانين من الوقوف لساعات طويلة أثناء الشرح والتنقل بين الطلاب. وبشكل عام، لكل مهنة نوعها الخاص من الإرهاق الجسدي، والذي يتضاعف عند الجمع بين العمل داخل المنزل وخارجه.
تعلق أم محمود (45 عامًا) من ريف حماة، وأم لخمسة أبناء:"خلال العمل في الأرض، نضطر للاستيقاظ قبل بزوغ الفجر. أشعر أحياناً وكأن ظهري سينكسر، لكن لا خيار أمامي، فلا يكفي دخل زوجي من عمله في مكبس الحجارة لتلبية متطلبات الأسرة. أتعب كثيراً، وأشعر بآلام في أنحاء مختلفة من جسدي، وعندما أعجز عن التحمل، أضطر للبقاء في المنزل حتى أتحسن، ثم أعود للعمل من جديد".
ضرورات العمل
وتعيش كثير من النساء تحت ضغط نفسي ناتج عن تراكُم المهام والمسؤوليات، مما يؤدي إلى شعور دائم بالقلق والتوتر والتفكير الزائد، وقد يصل الأمر إلى اضطرابات في النوم. ومع ذلك، لا يستطعن التخلي عن أحد العملين، فالمنزل واجب مفروض عليهن حسب العادات والتقاليد، والعمل الخارجي أصبح ضرورة ملحّة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية وصعوبة تأمين أبسط مقومات المعيشة.
بل إن بعض النساء اضطررن لتحمّل مسؤولية الأسرة كاملة، خاصة في ظل ظروف الحرب، التي أودت بحياة بعض الأزواج، وأدت إلى اعتقال البعض الآخر، مما أجبر النساء على لعب دوري الأب والأم في آنٍ واحد.
تحكي سلمى (42 عامًا) من ريف دمشق:"اعتُقل زوجي في بدايات الثورة، ثم انقطعت أخباره كلياً. قررت ألا أستسلم، وأن أقوم بواجباتي تجاه الأسرة بالكامل. ساعدتني عائلتي قليلاً، لكن ذلك لم يكن كافياً، فاضطررت للعمل. وبعد تهجيرنا إلى إدلب، التحقت بدورات تدريبية في الدعم النفسي، وتمكنت من الحصول على وظيفة براتب جيد. وبعد تحرير السجون، لم نعثر على زوجي، ويُرجّح أنه استُشهد".
وتواصل سيدات سوريات على متابعة مهامهن يومياً، صابرات على التحديات الجسدية والنفسية التي يواجهنها بصبر وقوة لا توصف، لأنهن العمود الفقري لأسرهن، مجسدات مثالاً حقيقياً للصمود في وجه الظروف القاسية.