
سوريا المكلومة: حكايات الفقد التي لا تنتهي
في إحدى اللحظات التي لا تُنسى، ظهر زوجان مسنّان من داريا في لقاء تلفزيوني مع قناة الجزيرة، يرويان بحرقة واحدة من أبشع مآسي الحرب السورية. فقدا عشرة من أبنائهما دفعة واحدة في الحرب التي هزّت بلادهم. على شاشة التلفزيون، ظهرت الأم بعيون دامعة وصوت متهدّج، بينما تحكي عن ابنها "أحمد"، الذي كان عريساً جديداً لم يمضِ على زواجه سوى 15 يوماً، عندما تم اعتقاله وقتله أمام ناظريها.
قصتهما ليست حالة فردية، بل هي مرآة لمئات الآلاف من القصص التي عاشها السوريون خلال سنوات الحرب. فكلما استمعنا إلى هذه الشهادات المؤلمة، كلما بدأنا نرى مدى عمق الفقد الذي لا يمكن وصفه، ذلك الفقد الذي يبتلع الأمهات والآباء في موجة من الحزن والدمار لا يمكنهم الهروب منها.
تسبّب نظام بشار الأسد في خلق مئات الآلاف من القصص المشابهة، في معظم المحافظات السورية، حتى بات الفقد طقساً مألوفاً في كل بيت. لم تسلم عائلة من وجع الخسارة، وامتلأت الذاكرة السورية بمشاهد مؤلمة من وداعات مفاجئة ومقابر جماعية ومنازل خالية من أصحابها.
عائلات بأكملها فقدت أبناءها بسبب القصف، أو الاعتقال، أو الإخفاء القسري، أو التعذيب داخل المعتقلات. هذه الانتهاكات، التي ارتُكبت بحق المدنيين، لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل تحوّلت إلى جزء من التاريخ الشخصي والجمعي لشعب لم يعرف الأمان لسنوات.
وفي إدلب، لم تكن الحاجة أم عبدو استثناءً. فقد خسرت ستة من أبنائها في مراحل مختلفة من الحرب. كان الأول قد قُنص في الأيام الأولى لدخول قوات النظام إلى المدينة، ليُحمل جثمانه إلى المنزل جثة هامدة.
وبعد ذلك، استُشهد اثنان آخران أثناء معركة تحرير مدينة حارم، فدفنتهما في مقبرة معرة مصرين. أما الرابع، فقد شارك في معركة تحرير إدلب، لكنه قُتل ولم تتمكن من رؤية جثته أو توديعه أو حتى دفنه. ورغم هذا الكمّ من الفقد، أصرّ ابناها المتبقيان على مواصلة القتال، فلحقا بإخوتهما، واحداً تلو الآخر.
وكم شاهدنا من أمهات وآباء يعانقون جثامين أبنائهم الذين ارتقوا تحت قصف النظام السوري، حتى بات هذا المشهد المؤلم يتكرّر في تفاصيل حياتنا اليومية؛ على منصات التواصل الاجتماعي، وفي أروقة الواقع السوري، من إدلب إلى حماة، مروراً بحلب ومناطق أخرى مزّقتها الحرب. صور الحزن صارت مألوفة، والألم أصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية.
وفي ريف إدلب، كانت "أم عمر" مثالاً آخر على هذه الفاجعة المتكررة. فقدت اثنين من أبنائها؛ أولهما كان من بين الشباب الذين حملوا السلاح ضمن الفصائل المعارضة بعد أن ضاقت بهم انتهاكات الأسد، والثاني اعتُقل في بدايات الثورة، ولم تعرف مصيره إلا بعد سنوات، حين عثرت العائلة على اسمه ضمن قوائم المتوفّين في المعتقلات بعد تحرير المنطقة.
أما "أم محمد" من ريف حماة، فقد خسرت ثلاثة من أبنائها. الابن الأكبر قُتل عام 2016 أثناء مشاركته في معركة ضد قوات النظام. أما ابنها الآخر، فاستُشهد في أواخر نيسان عام 2019 إثر قصف عنيف خلال الحملة العسكرية على ريفي إدلب وحماة. وفي عام 2021، فقدت ابنتها بانفجار لغم أرضي أثناء عودتها من مدينة حماة إلى قريتهم.
قصة الزوجين المسنين اللذين فقدا عشرة من أبنائهما تجسد فقط جزءًا من المأساة التي يعيشها ملايين السوريين الذين فقدوا أبناءهم في الحرب. قصصهم، التي انتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت شهادات حية على الألم الذي عايشه السوريون. من قصف وغارات، إلى اعتقالات وقتل عشوائي، الحرب السورية تركت عائلات بأكملها في حالة من التشتت والفقد، ولم تترك لهم سوى الذكريات المدمرة والصور التي تُعبر عن حزنهم العميق.