بسبب المعارضة الشديدة التي أبداها كبار مساعديه، خصوصا وزيرا الخارجية ريكس تيلرسون والدفاع جيمس ماتيس، لم يصل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى حد إعلان انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، كما كان تعهد في حملته الانتخابية. مع ذلك، فإن جملة الإجراءات التي يهدّد باتخاذها، أو هو بصدد اتخاذها، ضد طهران تعد كافيةً لجعل الاتفاق النووي عديم القيمة، من وجهة نظر إيران، أو جزء معتبر من نخبتها الحاكمة. وبعكس الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي ركز على برنامج إيران النووي، يتجه ترامب إلى التركيز على نفوذها الإقليمي ونقاط قوتها التقليدية، خصوصا برنامجها الصاروخي الذي رفضت إيران إدراجه على طاولة البحث مع الغرب، إضافة إلى الحرس الثوري الذي يعد ذراع إيران الإقليمية الضاربة، والمسؤول عن سياستها الأمنية والخارجية في المنطقة العربية (سورية، العراق، لبنان، اليمن)، ومن ضمنه أيضاً حزب الله اللبناني الذي بدأت الحملة تشتد عليه أخيرا. وإذا قام ترامب فوق ذلك بتشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، أو إعادة بعض منها، فذلك يعني أيضا إضعاف قدرتها على تمويل برامجها الصاروخية وعملياتها الخارجية، بما في ذلك نشاطات الحرس الثوري، خصوصا فيلق القدس الذي يقوده قاسم سليماني، وكذلك حزب الله اللبناني.
عندما جرى التوصل إلى الاتفاق المرحلي بشأن برنامج إيران النووي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، كانت تقديرات الأجهزة الاستخباراتية الغربية أن إيران لا تبعد سوى شهرين عن امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي. لكن واقع الحال كان يفيد بأن البرنامج النووي الإيراني، الذي ظل منذ كشفت المعارضة الإيرانية عن وجوده عام 2002، يبعد أشهرا عن امتلاك هذه القدرة، لم يكن سوى وسيلة لاستدراج الغرب إلى الاعتراف بالنظام الإيراني، ولرفع العقوبات الاقتصادية التي اشتدت على الأخير، بعد صدور قرار مجلس الأمن 1929 لعام 2010، وبلغت ذروتها مع عقوبات إدارة أوباما عام 2012، وأيضا للحصول على اعتراف أميركي تحديدا بنفوذ إيران الاقليمي.
مع انتخاب حسن روحاني رئيسا صيف 2013، كان على النظام الإيراني أن يقرّر أنه حان التخلي عن البرنامج النووي، الذي أخذ يستنفد الغرض منه أداة لجعل إيران دولة إقليمية مهيمنة، وأخذ يتحول إلى عبء يمكن أن يهدد ليس فقط مشروعها الإقليمي، بل النظام نفسه. في هذه اللحظة التي بلغت فيها الضغوط الاقتصادية والسياسية مداها، قرّر مرشد الثورة، والنخبة الحاكمة المحيطة به، أنه حان وقت التخلي عن البرنامج النووي، وحصاد ثمار أكثر من عقد من الاستثمار في بناء النفوذ الإقليمي الذي بدأ مع الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، ثم العراق عام 2003.
بدا أوباما الذي كان مستعجلا لإنفاذ وعوده بالخروج من العراق عام 2011، وأفغانستان عام 2014، بدا مستعداً لإعطاء إيران ما تريده مقابل التخلي عن برنامجها النووي الذي أراد أن يجعل من اتفاقٍ حوله إرثاً رئاسياً خاصا به، ولقاء مساعدته أيضا في تهدئة الأوضاع في العراق وأفغانستان، حتى يتمكن من الانسحاب بهدوء. كانت إيران، في المقابل، مستعدة لإعطاء أوباما ما يريده في مقابل الحصول على اعترافٍ بنظامها ورفع العقوبات القاتلة عنها، والإقرار بنفوذها الإقليمي. وهكذا حصلت الصفقة المجزية إيرانيا: النووي مقابل النفوذ الإقليمي، الأداة مقابل الهدف.
حتى وقت قريب، كانت إيران مطمئنة إلى أن الاتفاق النووي يضمن لها هذه الصفقة، فالاعتراف بالنظام حصل ضمنيا من خلاله، وجرى تصديقه من أعلى هيئة دولية (مجلس الأمن)، أما العقوبات فقد تمت إزالة كثير منها، المتصلة خصوصا بالملف النووي، في حين بقيت العقوبات المتصلة باتهامات الإرهاب. أما النفوذ الإقليمي فقد جرى الإقرار به، وإن بات على إيران أن تتقاسمه مع قوى أخرى في المنطقة، مثل روسيا وتركيا وأميركا.
مع ترامب، باتت كل الإنجازات التي حققتها إيران من وراء صفقة النووي في مهب الريح، فالرئيس الخلف المحكوم بعقلية القضاء على إرث السلف يريد من بين ما يريده استئصال نفوذ إيران الإقليمي، عبر استهداف أدواته ومقومات استمراره. لهذا السبب، تقلق إيران، فقد دفعت الثمن لكن البضاعة مهددة. هل هذا خبر جيد للعرب أم سيئ؟ يعتمد أي عرب نقصد!
لم ينعم النظام الحاكم في إيران بمساحة زمنية مريحة إلا في ظل المساحة الزمنية التي شغلت فيها إدارة باراك أوباما البيت الأبيض. وبرحيل هذه الإدارة، فقد نظام علي خامنئي امتيازات لم يكن يحلم بها حقا.. إنها حقيقة يعرفها الجميع، بمن فيهم أولئك الذين كانوا ضمن إدارة أوباما نفسها، وكانت لهم رؤى مختلفة عن إدارتهم حيال التعاطي السهل المتسامح مع إيران. الرئيس الأمريكي السابق أراد طباعة بصمة له في التاريخ السياسي لبلاده، من خلال اتفاق نووي مضطرب مع إيران، والكل يعلم أن حلفاءه (لاسيما الفرنسيين) ضاقوا ذرعا بهذا التوجه، ما جعلهم الطرف الأكثر تشددا مع النظام الإيراني خلال المفاوضات. والمصيبة، أن أوباما أراد أكثر من "بصمة" له في أسرع وقت ممكن. فأعاد (مثلا) العلاقات مع كوبا، دون أن يتحقق أدنى تقدم لحقوق الإنسان في هذا البلد، وترك الشعب السوري لمصيره البائس، متفاخرا بأنه ليس كسلفه جورج بوش الابن، يزج بالجيش الأمريكي في حروب خارجيا.. كل هذا أدى إلى هروب الولايات المتحدة من واجباتها كدولة كبرى، وانتشار فراغات ملأتها الفوضى والظلم والحروب والإرهاب.
إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب "رغم محليتها"، وجدت الثغرات المفجعة "الأوبامية"، في السياسة الأمريكية حيال إيران، ليس فقط من ناحية الاتفاق النووي الهش، بل أيضا من جهة الاستراتيجية الإيرانية التخريبية في هذه المنطقة أو تلك، بما في ذلك التخريب داخل إيران نفسها. كان لابد أن تتشدد وتطلق مخططات جديدة حيال هذا البلد الذي لم يوفر فرصة سانحة إلا وانتهزها لنشر الإرهاب والفوضى والطائفية. وقبل هذا وذاك، لتنفيذ وهمٍ يعود لأول أيام عهد الخميني، ينحصر في ماذا؟ في "تصدير" الثورة ومثل هذه "الصادرات" لم تنتج إلا الويلات، على جهة "المنشأ" نفسها وعلى بلدان "الاستيراد". وهذا النوع من التصدير كما الاستيراد يتطلب أموالا وتمويلا مكلفا. بمعنى ينبغي أن تكون هناك سيولة وافرة للمضي قدما فيه.
وفي عز العقوبات التي فُرضت على إيران بسبب برنامجها النووي الخطير، تلقت من الاتفاق النووي المرتبك، أول دعم مالي. كيف؟ برفع جانب مهم من هذه العقوبات الذي رفد نظام خامنئي بالأموال المطلوبة. هذه الأموال لم تذهب بالطبع إلى التنمية، وخفض معدلات البطالة في البلاد عن طريق توفير فرص العمل، ولا استخدمت في انتشال ما أمكن من إيرانيين من ميدان الفقر، بل راحت كلها لـ"الحرس الثوري"، وهذا الأخير هو في الواقع الجيش الإيراني الحقيقي، إضافة إلى أنه وزارة مالية موازية لوزارة المالية المدنية في حكومة رئيس لا يملك في الحقيقة القرار النهائي لأي شيء في كل البلاد. "الماستر" الأعلى هو "الولي الفقيه" الذي لا يفقه إلا الحروب والتدخلات العسكرية المشينة، وتمويل العصابات، واحتلال ما أمكن له من مناطق لا يربطها مع إيران حتى شريط حدود بعدة أمتار.
هكذا وفر اتفاق أوباما النووي المدد المالي لنظام يثبت يوميا أنه ليس فقط ضد السلام الإقليمي، بل ضد السلم العالمي أيضا.. ليس مهما. هنا الحديث عن انحناء حلفاء الولايات المتحدة الغربيين لرغبة إدارة تريد نصرا ذاتيا. واهما.. فقد اعتاد العالم على الأصوات المرتفعة لهؤلاء الحلفاء في البدايات، وصمتهم المطبق في النهايات! كان ضروريا لإدارة ترمب أن تتحرك بعد أكثر من تسعة أشهر من التحقيقات والمشاورات والتحليلات بشأن اتفاق فيه من المخاطر أكثر ما فيه من الأمان. وهنا أيضا لنترك الحلفاء مرة أخرى جانبا.، لاسيما بعدما صرخوا (في البدايات) بأنهم ملتزمون بالاتفاق.
هذا الأخير لن يلغى، على الأقل في المستقبل المنظور، لكن الأهم أن واشنطن فعَّلت آليات العقوبات على أذرع عديدة للنظام الإيراني، بما في ذلك ما يسمى بـ"الحرس الثوري".
هذه مقدمة جديدة لوضع مزيد من الكيانات والشخصيات الإيرانية أو المتعاونة مع هذا النظام على قوائم العقوبات. لم يعد سرا منذ سنوات، أن "الحرس الثوري" يقوم بتسيير اقتصاد مواز في البلاد، وعوائد هذا الاقتصاد تذهب مباشرة لتمويل حروبه في كل الأرجاء، لاسيما في سورية والعراق واليمن، إضافة طبعا إلى دعم عصابات شيعية موالية، تعمل بكل صفاقة جهارا نهارا ضد بلدانها. وفي كل يوم يثبت النظام الإيراني أنه يستحق العقوبات تلو الأخرى، بل يتحدى حتى البلدان الغربية "اللطيفة" تلك التي تصرخ وتصمت فجأة! والعقوبات في الواقع لا تنال من الشعب الإيراني، بصرف النظر عن بكائيات بعض الإيرانيين "الخامنئيين"، لماذا؟ لأن عوائد رفع العقوبات في أعقاب الاتفاق لم تذهب إلى أي مشروع تنموي. ولا نزال نتذكر تأخر رواتب حتى العاملين في المنشآت النووية الإيرانية.
إنها المتغيرات الأمريكية التي لاقت تأييدا حتى من سياسيين أمريكيين أعلنوا صراحة عدم حبهم لدونالد ترمب، وإيران ستدفع على ما يبدو فواتير إرهابها.
يُقدر حجم الغاز الطبيعي في شرق المتوسط (أحواض ليفياثان وهيرودوت ودلتا النيل) بـ 13.2 تريليون متر مكعب، وحجم الغاز المسيل بـ 9 مليون متر مكعب، فيما يبلغ مقدار النفط قرابة 3.5 مليار برميل.
هذه المقادير سبب كافٍ من أجل وضع الدول المستعمرة للعالم في مواجهات وصدامات مع بعضها البعض. وإخضاع الدول لبعضها البعض عن طريق اللعب بورقة الطاقة يبدو الأسلوب الأكثر فعالية في عالم اليوم.
وأبرز مثال على ذلك، تهديد روسيا، خلال السنوات الماضية، بإغلاق عنفة الغاز الطبيعي التي تغذي البلدان الأوروبية.
الوضع الحالي في سوريا والعراق ناجم في الحقيقة عن حرب على موارد الطاقة. واحتياطي الغاز الطبيعي الكبير الموجود في شرق المتوسط يدفع إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة إلى وضع استراتيجيات جديدة باستمرار.
وفي هذا الإطار، نقلت روسيا قاذفات القنابل الثقيلة وأحدث الدبابات إلى القاعدة العسكرية في طرطوس، التي تتمتع بأهمية كبيرة في السيطرة على موارد الطاقة في شرق المتوسط والمنطقة. ولا تريد روسيا، التي تحتكر الغاز الطبيعي في العالم، أن تفقد نفوذها في المنطقة.
الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على تركيا وأزمة حظر التأشيرة متعلقة بممر الطاقة الموجود في هذه المنطقة. ولهذا تسعى واشنطن منذ عام 2013 إلى عزل تركيا.
استغلال موارد الطاقة هو السبب في رغبة الولايات المتحدة بأن ترى بلدًا ممزقًا ومشتتًا عوضًا عن تركيا القوية في المنطقة.
ولهذا فإن عملية إدلب تتمتع بأهمية قصوى بالنسبة لتركيا.
فما الهدف من العملية؟
تسعى تركيا إلى الحيلولة دون إنشاء حزب الاتحاد الديمقراطي ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا، خطًّا يمتد عبر إدلب إلى البحر المتوسط.
فتسويق نفط شمال العراق إلى العالم عبر هذا الخط يعني في الوقت نفسه توفير مردود اقتصادي كبير لحزب الاتحاد الديمقراطي.
ومن أجل إنشاء ممر يبدأ من الحدود العراقية ويصل إلى البحر المتوسط يتوجب على حزب الاتحاد الديمقراطي السيطرة على جزء من إدلب.
لكن في حال إنشاء منطقة خفض التوتر في إدلب، والسيطرة على المنطقة ستتلاشى آمال حزب الاتحاد الديمقراطي، المسيطر على جيوب الإرهاب في عفرين، في إيجاد مخرج على البحر المتوسط.
وبذلك فإن تركيا ستصبح صانع ألعاب في المنطقة، وستمسك بزمام العمليات اللوجستية لممر الطاقة.
أظهرت تركيا بكل وضوح أنها لا تؤمن بوجود سياسة ذات محور غربي فقط في العالم، وأثبتت أنها مستعدة للانتفاض في وجه جميع القوى، بما فيها الولايات المتحدة، في سبيل حماية أراضيها.
في الفترة من 8 إلى 12 أكتوبر/ تشرين الأول، قامت عناصر الاستخبارات التركية والقوات الخاصة بعمليات استطلاع في شمال سوريا في إدلب وجنوب عفرين، مع الحفاظ على الاتصالات مع وحدات المعارضة السورية التي تسيطر على المنطقة. ويشكل هذا النشاط التحضيري في الواقع مسرحا عملياتيا. بعد ذلك دخلت سوريا كتيبة تركية مكونة من 100 من قوات الكوماندوز، و30 مركبة، ومعدات البناء والهندسة العسكرية.
وقال بيان صادر عن القيادة العسكرية التركية فى 13 أكتوبر إن القوات التركية التى ستعمل في منطقة وقف التصعيد في إدلب بدأت بإقامة مراكز مراقبة عسكرية على النحو المحدد خلال محادثات السلام فى أستانا بكازاخستان. في تلك الليلة، دخلت كتيبة تركية ثانية تتكون من دبابات M60 صابرا و ليوبارد 2، وبدأت في الانتشار في الشيخ بركات، وهو جبل يبلغ ارتفاعه 842 مترا يهيمن على عفرين.
ووصف نظام الأسد انتشار القوات التركية شمال إدلب بأنه "عدوان صارخ على سيادة سوريا ووحدة أراضيها وانتهاك واضح للقانون الدولي ومبادئه".
تعد عملية إدلب التي بدأت يوم 13 أكتوبر المرة الثالثة التي يدخل فيها الجيش التركي الأراضى السورية فى أقل من ثلاث سنوات. كانت المرة الأولى في فبراير/ شباط 2015، عندما نقلت مقبرة سليمان شاه التي هددها تنظيم الدولة (داعش)، وفي أغسطس/ آب 2016، بدأت عملية درع الفرات في تطهير مثلث جرابلس - الراعي- الباب من عناصر داعش، واستمرت هذه الحملة سبعة أشهر.
وفي الوقت الحالي ووفقا لاتفاقيات أستانا، سينتشر الجنود الأتراك لستة أشهر داخل إدلب وشمالها. وهدف أنقرة من هذا الانتشار هو بناء 14 موقعا استراتيجيا للمراقبة على امتداد 50 كيلومترا بين الريحانية في تركيا ومارع التي أدمجت بالفعل ضمن منطقة عملية درع الفرات. ومن شأن ذلك أن يُمَكّن أنقرة من إقامة منطقة تخفيف التصعيد شمالي إدلب، مع السيطرة على مرتفعات الشيخ بركات المسيطرة على جنوب عفرين، والتي ستشكل حزاما عسكريا حول عفرين.
يتوجه الاهتمام حاليا إلى مدافع الهاوتزر التركية عيار 155 مم، والمدافع الصاروخية متعددة السبطانات من عيار 122 مم في الريحانية. وإذا دخلت سيارات الدعم الحربي الثقيلة هذه أيضا إلى سوريا، فإن ذلك يعني أن تركيا سوف توسع نطاق التغطية النارية لتصل إلى عفرين، مما يجعل منطقة عفرين بأكملها تحت سيطرتها دون أن تهيمن على المجال الجوي. وعلاوة على ذلك، فإن تسليم هيئة تحرير الشام المتشددة لمناطق الهيمنة النارية مثل الشيخ بركات للجنود الأتراك دون اشتباك يشير إلى أن المفاوضات بين أنقرة والهيئة قد أسفرت عن نتائج، على الأقل في شمال إدلب. وينصب التركيز الآن على المفاوضات بشأن إدلب ذاتها التي تقوم بها أنقرة، وتراقبها روسيا بدقة.
وقالت مصادر أمنية لـ "المونيتور" إن جماعة "هيئة التحرير الشام" في إدلب عرضت بدائل على أنقرة،: تسليم أسلحتهم وتسريحهم، والسماح لهم بالبقاء في إدلب في الوقت الحاضر، أو أن يتحولوا إلى الاعتدال وينضموا إلى الجيش السوري الحر الذي تسيطر عليه أنقرة، أو الدخول في معارك مع الجيش التركي. وتقول التقارير إن من يوافقون على الانضمام إلى الجيش السوري الحر وأسرهم لن يسمح لهم بالبقاء في إدلب ولكنهم سينقلون إلى الجيب الذي طهرته عملية درع الفرات.
وهذا هو السبب في أننا قد نرى إخلاء مجموعات كبيرة بالحافلات من منطقة إدلب إلى منطقة درع الفرات. أما الذين ما زالوا في إدلب ويصرون على الاحتفاظ بأسلحتهم فسيُعدّون عناصر متطرفة أو إرهابيين. وهنا العامل الأهم: هل ستشارك الجماعات المتشددة التابعة لهيئة تحرير الشام داخل إدلب أو حولها في عمليات مقاومة ضد الانتشار؟ وإذا حدث هذا فإنه سيؤثر تأثيرا مباشرا على الجهود المبذولة لإنشاء منطقة تخفيف التصعيد في إدلب، ويمكن أن يحول بسرعة بعثة رصد وقف إطلاق النار إلى بعثة لإنفاذ وقف إطلاق النار.
أعتقد شخصيا أن هذه العناصر الراديكالية ستختار التخفي في التجمعات البشرية، وتستعد لحملة طويلة الأجل وشديدة الكثافة من الهجمات الإرهابية.
في محادثات أستانا وافقت روسيا وإيران وتركيا على إرسال 500 جندي إلى إدلب. ومن المتوقع أن ترسل تركيا أكثر من هذا العدد، بيد أنه لم ترد حتى الآن أي أنباء عن تحركات عسكرية كبيرة من جانب روسيا وإيران إلى تلك المنطقة. ويبدو أن إيران وروسيا تنتظران أن تكمل تركيا انتشارها العسكري وأن تنتهي عملية التفاوض على الأرض.
هل يمكن للتحركات العسكرية التركية أن تزداد وتتحول إلى عملية عسكرية كبيرة على عفرين؟ جوابي هو نعم، فأنقرة ترغب في هذا كثيرا، ولكن إذا وافقت روسيا.
وعلى ذلك يتعين علينا رصد ثلاثة مؤشرات عسكرية رئيسية على أرض الواقع. أولا، هل سينسحب الجنود الروس بالفعل من عفرين؟ وثانيا، هل ستفتح روسيا المجال الجوي الذي تسيطر عليه بقوة غرب نهر الفرات أمام الطائرات الحربية والطائرات العمودية التركية؟ وأخيرا، هل سيُسمح لقوات الأسد بالاقتراب من المنطقة؟ وبالنظر إلى هذه الخيارات، فإن تقييمي هو أن روسيا لن تسمح لتركيا بفرض سيطرتها الكاملة على عفرين بحيث تحاصرها من الجنوب.
وكما أكدت في مقال سابق، فإن روسيا، بإبقائها تركيا في خضم عملية محتملة بشأن عفرين، تريد أن تحول دون تعميق العلاقات الأمريكية مع وحدات حماية الشعب الكردية في عفرين. ويقول المسؤولون الأتراك إن وحدات حماية الشعب المدعومة من الولايات المتحدة هي امتداد لحزب العمال الكردستاني الذي تعده تركيا جماعة إرهابية.
ومن ثم فإن الخيار الأكثر منطقية لروسيا هو السماح لتركيا بدرجة من السيطرة على جنوب عفرين لتهدئة أنقرة، مع تشجيع المفاوضات بين وحدات حماية الشعب التي تسيطر حاليا على عفرين ونظام الأسد للسماح للجيش السوري بالسيطرة عليها.
والسؤال هو هل ستنجح هذه الخطة الروسية؟ يجب أن نسأل الروس: الوضع يزداد سخونة اليوم، فهل هناك خطة للتخفيف من حدة المواجهة المحتملة بين الجيش التركي ووحدات حماية الشعب في جنوب عفرين؟
شارفت أيامي الأخيرة في منصبي ممثلاً بريطانياً خاصاً إلى سوريا على نهايتها. وحين أتأمل ثلاث سنوات قصيرة قضيتها في مهمتي هذه، أرى أن الكثير من التغيير قد طرأ في سوريا، لكن في الوقت نفسه الكثير أيضاً ظل كما هو من دون تغيير.
لا شك أن هذا الصراع شهد أياماً وفظائع أسوأ بكثير، وأغلبها من صنع نظام الأسد الذي لا يعبأ بصالح الشعب السوري؛ إذ شهدت سوريا استخدام أسلحة كيماوية، وحصارات وحشية، وهجرة قسرية، وكذلك – بعيداً عن العيون – اعتقالات تعسفية، وتعذيباً، واختفاء مواطنين. والكثير من هذه الممارسات ما زال إلى اليوم مستمراً تحت ستار حرب ضرورية ضد الإرهابيين، في محاولة لحجب واقع شن حرب هوجاء على المواطنين السوريين.
اليوم، هناك الكثير من الكلام الذي يُلقى على عواهنه، والتحليلات المرتجلة التي توحي بأن الأسد وداعميه قد «ضمنوا النصر في الحرب»، ذلك عبر مزيج من التقدم العسكري الحاصل تحت غطاء من القصف الجوي الكثيف، وسلسلة من مئات عدة مما يُطلق عليه «اتفاقات مصالحة» مع المجتمعات المحاصرة، التي لا خيار أمامها سوى الاستسلام أو التضوّر جوعاً والتعرض للقصف. وبينما تتبجح الأبواق الإعلامية بالمصالحة، تعمل الآلة العسكرية على وضع قادة المجتمعات وناشطي المجتمع المدني في حافلات خضراء تتوجه بهم نحو مصير مجهول ومحفوف بالخطر.
لكن رغم كل التعقيدات التي تنطوي عليها هذه الحرب، فإنني ما زلت أؤمن بثلاث حقائق:
الحقيقة الأولى، ليس هناك شيء اسمه «نصر». ولن يكون لهذا الصراع «حل عسكري». وقوات الأسد تتضاءل باستمرار، ويزداد اعتمادها في البقاء باطراد على الميليشيات الأجنبية والقوة الجوية التي تحميها. ومن خلف الخطوط الأمامية المتقدمة، يخلّف الجيش العربي السوري والميليشيات وراءهم أراضي ممزقة الأوصال تخضع لتسلّط أمراء الحرب الساعين لتحقيق مكاسب شخصية قبل أي شيء آخر.
يمكن المجادلة بالطبع بأن الأسد لا يبالي بذلك، طالما أنه يحتفظ بقطعة من «سوريا مفيدة» له، وطالما أن سوريا تحتفظ بمقعدها في الأمم المتحدة بفضل الحماية الروسية. فمهمة النظام، في نهاية المطاف، هي الحفاظ على بقائه والسيطرة على البلد، وليس إحلال السلام فيه.
لكن، يجب ألا نستكين لذلك؛ إذ إن عدد المتضررين بسبب النظام وداعميه هائل جداً: ما يزيد بكثير على 400 ألف قتيل؛ ونحو 13 مليون محتاج إلى المساعدة؛ وأكثر من نصف سكان ما قبل الحرب باتوا نازحين داخلياً أو اضطروا للهرب؛ واقتصاد انكمش بنسبة تفوق 60 في المائة؛ وشعب يعاني من الصدمة؛ وجيل من الأطفال بلا تعليم أو أمل. إن نظام الأسد هو من يتحمل المسؤولية الكبرى عن معاناة الشعب السوري، وتفاقم التطرف والإرهاب، وفسح المجال لبروز «داعش». وقد كانت الأمم المتحدة قد لفتت الأنظار من قبل إلى «تفتيت الفسيفساء السورية» المتمثلة بالتعددية السكانية في سوريا، ويتحمل الأسد ونظامه القسط الأكبر من المسؤولية عن ذلك، رغم ادعائه بالدفاع عنها.
ينقلني ذلك إلى الحديث عن الحقيقة الثانية: بإمكان سوريا أن تجد السلام الحقيقي بالانتقال بعيداً عن الأسد إلى حكومة يمكنها حماية حقوق جميع السوريين، وتوحيد البلاد وإنهاء الصراع. وكان إبراهيم الأصيل بليغاً بما كتبه في مقال في صحيفة «واشنطن بوست» منذ أيام، حيث قال إنه لا يمكن تأسيس سوريا تحت قيادة الأسد: فالمؤسسات السورية تداعت وباتت شبه مدمرة؛ والمسؤولون عن هذه المؤسسات لا يفكرون إلا في ملء جيوبهم؛ والنظام الذي أتقن رعاية الدولة للإرهاب وما يُطلق عليه «استخدام اللاجئين سلاحاً» سيكرر فعل ذلك مجدداً. وأخيراً، إن الكراهية للنظام والرغبة في مستقبل أفضل، وهما ما دفع ملايين السوريين إلى الخروج إلى الشوارع في 2011، ما زالتا مستمرتين حتى اليوم – شباب سوريون من كافة مشارب الحياة يقولون لي إن انطلاق الثورة مجدداً هو مسألة وقت فقط.
كثيرا ما يُسائلني الناس عن تركيز بلدي على أخطاء الأسد. لِمَ لا نسلط الضوء كذلك على انتهاكات ترتكبها أطراف أخرى؟ أولاً، أنا لا أتعمد تجاهل كافة وأي من الانتهاكات التي اقتُرِفت باسم هذه الحرب من هذا الجانب أو ذاك. لكن، ثانياً، تتحمل ما يُطلق عليها الأسد اسم «حكومة» المسؤولية الأساسية عن حماية شعبها. وثالثاً، فإن آلة الحرب الأسدية هي التي قتلت أو دمرت حياة أو تسببت بهرب الغالبية العظمى من الضحايا السوريين لهذا الصراع.
والحقيقة الثالثة التي أؤمن بها تتعلق بما يحدث حالياً: التهدئة. يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية أخلاقية لتقليل وتهدئة وتيرة العنف في أنحاء البلاد. قد يقول الناقدون إن التهدئة خطوة من المجتمع الدولي على طريق التطبيع مع النظام، أو لعلها العكس تماماً: أي أن التهدئة في أجزاء مختلفة من سوريا بطرق مختلفة هي خطوة تجاه تقسيم البلاد أو على الأقل تجميد الصراع للأبد، بينما يتساءل آخرون ما إذا كان باستطاعة الدول الغربية أن تستغل بشكل جدي مسألة إعادة الإعمار أداةً لفرض العملية الانتقالية. ففي نهاية المطاف، الأسد – وليس الروس – هو من قال بوضوح إنه لن يسمح لأعدائه أن «يحققوا بالسبل السياسية ما فشلوا في تحقيقه في ميدان المعركة وبالإرهاب». وهناك من يجادل بأن النظام سينجو بفضل أي دعم محدود يمكنه الحصول عليه مما يوصف عموماً بالشرق. عندئذ سيظل الأسد يماطل إلى أن نذعن له.
تلك هي تحديات من الصعب التأمل بها، لكن هذا هو ما ينبغي أن نفعله. ذلك يعني بوضوح ضرورة أن تفضي أي جهود للتهدئة إلى الحفاظ على الهوية السورية في مناطق التهدئة. كما يعني أن على الغرب التمسك بحزم بموقفه المتمثل في أنه سيساعد في إعادة إعمار سوريا فقط لدى «الانطلاق الجدي» لعملية انتقال سياسي شاملة وحقيقية، وبمشاركة الجميع. هذه الكلمات الأخيرة حيوية للغاية: إعادة الإعمار لدى انطلاق عملية الانتقال السياسي، وليس قبل ذلك. فالمساعدة مبكراً تعني الرهان على أن باستطاعتنا إصلاح سوريا من الداخل، بينما الأسد ونظامه مستمران في الحكم. تلك سذاجة، وتُغفل تركيز النظام على مصلحته وليس على مصلحة سوريا والسوريين.
يحملني ذلك للحديث عن حقيقة رابعة، وهي، خلافاً للحقائق الثلاث السابقة، حقيقة لست متأكداً كيف سينتهي بها المطاف: ألا وهي ضرورة المضي قدماً في عملية الانتقال، وأن السوريين هم من سيقرر كيفية حدوث ذلك.
الطريقة السهلة والبسيطة للنظر إلى هذه الحقيقة هي أن يقرر السوريون العملية الانتقالية، ويتوقفون عند ذلك الحد. فهناك بطبيعة الحال «بيان جنيف» وقرار مجلس الأمن 2254، وهما واضحان بما فيه الكفاية.
أما الطريقة الأصعب للنظر إلى هذه الحقيقة، فهي الإقرار أولاً بأن مفاوضات جنيف لم تحقق تقدماً طوال 18 شهراً منذ انطلاقها، رغم الجهود المستمرة والصبورة التي يبذلها المبعوث الخاص ستيفان دي ميستورا. ورغم كل ما يُوجَّه للمعارضة من انتقادات، فإن النظام هو من يتحمل هنا أيضاً المسؤولية الكبرى عن ذلك؛ حيث إنه لم يُبدِ استعداده للتفاوض، بل إنه ماطل لكسب الوقت، بينما استمر في الوقت ذاته في اعتداءاته على السوريين في بلدهم.
ما يتعين عمله بهذا الشأن حالياً ليس بأوضح بالنسبة لي مما كان لدى انطلاق محادثات جنيف في يناير (كانون الثاني) 2016، وكل ما يمكنني قوله هنا هو أن محادثات جنيف ضرورية للغاية، رغم صعوبتها؛ وأن هناك عدداً من المبادئ الراسخة التي توصل لها دي ميستورا بالفعل؛ وأن مسؤولية الدفع تجاه تحقيق تقدم في عملية للسلام تقع تماماً على عاتق من يدعمون الأسد كي ينتصر، حتى وإن كان ثمن ذلك النصر خسائر فادحة. وفي غضون ذلك، علينا ضمان أن محادثات جنيف تتفهم وتعكس وجهات نظر ملايين السوريين في المنطقة الذين لا صوت لهم.
الأمر الواضح هو ضرورة أن يشهد السوريون محاسبة مرتكبي الإساءات وانتهاكات حقوق الإنسان طوال هذه الحرب، وهذا أمر ضروري كذلك إذا ما أريدَ للسلام أن يدوم. وكم يؤلمني كون عملية جنيف لم تحقق أي تقدم في المسألة الحيوية المتعلقة بالمعتقلين والمختفين قسرياً. والتحدي الملحّ هنا هو معرفة مصير هؤلاء المختفين والمعتقلين، وضمان سلامتهم والإفراج عنهم. أما المهمة على المدى الأطول فهي ضمان المحاسبة عن المعاناة التي تعرضوا لها.
إن التحرك نحو السلام في سوريا – وأتحدث هنا عن السلام العادل – مهم لسوريا والمنطقة وللعالم أجمع. وفي غياب إحراز تقدم، ستستمر مأساة سوريا، وستكون وصمة عار في ضمير العالم.
بينما استعد للانتقال للقيام بدور آخر، اسمحوا لي أن أشيد بالكثير من السوريين الذين كان لي شرف العمل والشراكة معهم في سعيهم لأجل السلام. فما يتمتعون به من صبر وصمود وشجاعة إنما يُخجل تواضعي. السوريون لا تقهرهم أو ترهبهم أبداً التحديات التي أمامهم. وقد كان من دواعي سروري أنا وفريق عملي في أنحاء المنطقة العمل ومساعدة السوريين ضمن مجتمعاتهم، باذلين كل ما في استطاعتنا، وبكل ما لدينا من إمكانات.
لم تستطع والدة المجرم "عصام زهر الدين" تحمل فاجعة الموت التي أصابتها بعد أن وصل نبأ مقتل ابنها الأكبر، فخارت قواها، كيف وهو الابن فلذة الكبد، ولكن ..... هل فكرت أم زهر الدين يوماً بآلاف الأمهات اللواتي فقدن فلذات أكبادهن صغاراً وكباراً على يد وليدها المغادر من الدنيا.
هل فكرت أم زهر الدين يوماً كيف عاشت أمهات أيامها بعد أن قتل ولدها العميد في جيش الأسد في دوما وزملكا وباب عمر وأخيراً في دير الزور، ألم تصلها صور الأشلاء الممزقة التي قطعها زهر الدين بكلتا يديه، ثم وقف بجانبهاً مغتراً بإجرامه يقدمها قرباناً لتأكيد الولاء لسيده الأسد ...!!!؟.
والدة زهر الدين التي ظهرت في مقطع مصور يثته مواقع إعلامية للأسد اعتزت بولدها وبكل ماقام به، وبكته بكاءً الأم الثكلى، فنالت نصيباً صغيراً في قلبها من الفقد والحزن والألم مما نالته أمهات أبكاها زهر الدين دماً وحرقة على فقد أبنائهن، ومع ذلك لقبت أم زهر الدين نفسها بـ "أم البطل" وعن أي بطل سفك الدماء وانتهك الحرمات وقطع الأشلاء.. إنه بطل بقتل شعبه وسفك دمائه... بطل بإجرامه وكيف لا يكون.
قالتها أمام عدسة الكمرات باكية "أنا بعتز فيكم كلكم، ببطل سوريا أبو يعرب الي مات شهيد بطل، ربي يوفقكم لترجع الجولان لأصحابها"، وكأن أم زهر الدين ظنت أن ولدها الذي لقبته بالبطل كان مرابطاً على ثغور الجولان، يدافع عن الأرض والعرض، وكأنها لم تدري أن ولدها "البطل" كان يقتل ويجرم بحق الشعب السوري في دوما ودير الزور، وكأنها لم تسمع بما قاله زهر الدين وماوجهه للاجئين بأنه لن يسامح.
لم يغب على أم زهر الدين أن توجه التحية للأسد، للمجرم الأكبر الذي علم ولدها الإجرام وأطلق يده في قتل الشعب السوري فتابعت "كلكم بعيوني والرئيس بشار الأسد بقلبي وعيوني، هو وجيشوا والله ينصر هالجيش".
بكت أم زهر الدين كثيراً وأبكت من حولها، فولدها البطل المغوار الأسطورة قد قتل، لايهمها من قتله وكيف قتل ولايهم أم زهر الدين كم يتم وقتل وشرد وقطع من الأشلاء... كم انتهك الحرامات وكم وكم فعل من المجازر في تاريخ إجرامه الذي لن ينساه الشعب السوري يومياً، وسيخلد اسمه بين مجرمي العصر.
فلتبك أم زهر الدين فكم أبكى ابنك أمهات من قبلك لم تشعري ليوماً بما اعتلج صدورهن وقلوبهم من الأسى، فلتبك أم زهر الدين علك تشعرين بشيء من نار الحرقة التي أشعلها ولدك في قلوب ألاف المعذبين ... وليعش ولدك في قبره بانتظار الحساب الرباني ... وليعش سيدك الأسد، وليخلد التاريخ سيرة مجرم سفاح...فابكي ماشئت وكابدي كما كابدنا على يد ابنك المجرم، وأنت وأمثالك تهتفين وتصفقين لأسدك وأتباعه المجرمين.
لم تستطع والدة المجرم "عصام زهر الدين" تحمل فاجعة الموت التي أصابتها بعد أن وصل نبأ مقتل ابنها الأكبر، فخارت قواها، كيف وهو الابن فلذة الكبد، ولكن ..... هل فكرت أم زهر الدين يوماً بآلاف الأمهات اللواتي فقدن فلذات أكبادهن صغاراً وكباراً على يد وليدها المغادر من الدنيا.
هل فكرت أم زهر الدين يوماً كيف عاشت أمهات أيامها بعد أن قتل ولدها العميد في جيش الأسد في دوما وزملكا وباب عمر وأخيراً في دير الزور، ألم تصلها صور الأشلاء الممزقة التي قطعها زهر الدين بكلتا يديه، ثم وقف بجانبهاً مغتراً بإجرامه يقدمها قرباناً لتأكيد الولاء لسيده الأسد ...!!!؟.
والدة زهر الدين التي ظهرت في مقطع مصور يثته مواقع إعلامية للأسد اعتزت بولدها وبكل ماقام به، وبكته بكاءً الأم الثكلى، فنالت نصيباً صغيراً في قلبها من الفقد والحزن والألم مما نالته أمهات أبكاها زهر الدين دماً وحرقة على فقد أبنائهن، ومع ذلك لقبت أم زهر الدين نفسها بـ "أم البطل" وعن أي بطل سفك الدماء وانتهك الحرمات وقطع الأشلاء.. إنه بطل بقتل شعبه وسفك دمائه... بطل بإجرامه وكيف لا يكون.
قالتها أمام عدسة الكمرات باكية "أنا بعتز فيكم كلكم، ببطل سوريا أبو يعرب الي مات شهيد بطل، ربي يوفقكم لترجع الجولان لأصحابها"، وكأن أم زهر الدين ظنت أن ولدها الذي لقبته بالبطل كان مرابطاً على ثغور الجولان، يدافع عن الأرض والعرض، وكأنها لم تدري أن ولدها "البطل" كان يقتل ويجرم بحق الشعب السوري في دوما ودير الزور، وكأنها لم تسمع بما قاله زهر الدين وماوجهه للاجئين بأنه لن يسامح.
لم يغب على أم زهر الدين أن توجه التحية للأسد، للمجرم الأكبر الذي علم ولدها الإجرام وأطلق يده في قتل الشعب السوري فتابعت "كلكم بعيوني والرئيس بشار الأسد بقلبي وعيوني، هو وجيشوا والله ينصر هالجيش".
بكت أم زهر الدين كثيراً وأبكت من حولها، فولدها البطل المغوار الأسطورة قد قتل، لايهمها من قتله وكيف قتل ولايهم أم زهر الدين كم يتم وقتل وشرد وقطع من الأشلاء... كم انتهك الحرامات وكم وكم فعل من المجازر في تاريخ إجرامه الذي لن ينساه الشعب السوري يومياً، وسيخلد اسمه بين مجرمي العصر.
فلتبك أم زهر الدين فكم أبكى ابنك أمهات من قبلك لم تشعري ليوماً بما اعتلج صدورهن وقلوبهم من الأسى، فلتبك أم زهر الدين علك تشعرين بشيء من نار الحرقة التي أشعلها ولدك في قلوب ألاف المعذبين ... وليعش ولدك في قبره بانتظار الحساب الرباني ... وليعش سيدك الأسد، وليخلد التاريخ سيرة مجرم سفاح... فابكي ماشئت وكابدي كما كابدنا على يد ابنك المجرم، وأنت وأمثالك تهتفين وتصفقين لأسدك وأتباعه المجرمين.
هناك حرب أو حروب صغيرة تتجمّع خيوطها وأسبابها في أجواء المنطقة العربية، ولعلّها الترجمة الفعلية لـ «العاصفة» التي أشار اليها الرئيس الأميركي قبل كشف إستراتيجيته الجديدة للتعامل مع إيران. قد لا تتلازم دوافع دونالد ترامب - «أميركا أولاً» - مع حاجات المنطقة، لكنها تتلاقى في شكل أو آخر، وإذا كانت الأخطار والتهديدات على درجات فلا شكّ في أن إيران هي اليوم أعلاها وأشدّها. وعندما تفجّرت الأزمة النووية كانت طهران وضعت قنبلة ميليشياتها المذهبية في الخدمة، فيما كانت تعمل على إنجاز قنبلتها النووية. واقع الأمر أنه كان ينبغي التعامل مع هاتين القنبلتين كأولويتين وكتهديدين متساويين ينبغي التعامل معهما في آن، لكن باراك اوباما اختار التصدّي للخطر النووي الآجل بالتفاوض على «تأجيل» القنبلة وترك الخطر العاجل، القائم والمتفاعل، بل ساهم في تغطيته، ليحصل على «أسوأ اتفاق» أميركياً، أما إيران فأشهرته كـ «أفضل اتفاق» يبطّن قبولاً لجرائم بقنبلتها المذهبية، بدليل رفع العقوبات عنها، ولا يحرمها نهائياً من قنبلتها النووية.
كان ذلك الاتفاق ترجمة لإرادة سياسية مصممة لدى اوباما بمقدار ما كان ثمرة دهاء المفاوض الإيراني وحنكته. فكل ما كان معلناً خلال عامَي التفاوض اقتصر على مسائل تقنية (نسبة التخصيب، أعداد أجهزة الدفع المركزي، تفكيك المنشآت، المراقبة، الحدّ الزمني...)، لكن اوباما وإدارته استنتجا غداة التوقيع أن الاتفاق سيؤدّي الى تغيير إيران سلوكها الإقليمي، فعلامَ استندت؟ وعندما يقول ترامب وإدارته أن إيران انتهكت «روح» الاتفاق فعلامَ تستند؟ لا يمكن هذه «الروح» سوى أن تكون سياسية، لكن النصوص التقنية لا تعبّر عنها، فأين تلك «الروح» إذاً؟ لا بدّ أنها في محاضر الحوارات الطويلة على هامش المفاوضات، وما يُحتمل أن الطرفين الأميركي والإيراني تبادلاه من تعهّدات لتسهيل التوصّل الى اتفاق تقني بلا أي «روح». في تلك الأثناء، وعلى خلفية المفاوضات، كانت إيران تجني المكاسب: أرواح الآلاف في سورية تُزهق، معاناة ملايين العراقيين تتفاقم، انقلاب الحوثيين في اليمن يتوسّع، تعطيل الدولة للاستحواذ عليها في لبنان يتأكّد، والقلق في عموم الخليج يتصاعد.
لم يتغيّر سلوك إيران في الداخل، أما في الخارج فأطلقت العنان لنهج التخريب وتمزيق المجتمعات، إذ كان هدفها التالي انتزاع الاعتراف بنفوذها السياسي، وقد حصلت على أداتَين جديدتَين: تنظيم «داعش» والحرب الأميركية عليه. ومع أن ادارة أوباما بكل أجهزتها كانت على علم بالعلاقة العميقة بين إيران والنظام السوري مع جماعات الإرهاب، إلا أنها ظلّت رافضة حتميّة مواجهة الاثنين معاً. في «إستراتيجية ترامب» افتراق واضح عن «إستراتيجية أوباما» في كونها تضع دور إيران في دعم الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة بموازاة إشكالية الاتفاق النووي، وتنتقل في تحديد الأخطار من الإشارات الأوبامية السطحية والخجولة الى ابراز السجل الأسود لإيران - الجمهورية الإسلامية من مساهمتها في قتل المئات من الجنود الأميركيين طوال عقود ثلاثة ماضية الى إيقادها العنف الطائفي في العراق وإزكائها الحرب الأهلية في سورية واليمن فضلاً عن تهديدها جيرانها والتجارة الدولية وحرية الملاحة... بمعنى أن «روح» الاتفاق (النووي) كانت تقتضي التعامل مع كل هذه المسائل، ومنها الحدّ من تطوير الصواريخ البالستية الذي كان مثار نقاش وخلاف خلال مفاوضات فيينا.
كل ذلك يبني «قضية» موجودة أصلاً وتتطلّب معالجة جدّية إذا كان استقرار المنطقة العربية ومكافحة الإرهاب هدفَين حقيقيين للقوى الدولية، وبالأخص للولايات المتحدة. و «القضية» كما أصبحت واقعياً، وكما أوضحتها «إستراتيجية ترامب»، لا تنطوي حالياً على مقوّمات تفاوض تريده الولايات المتحدة لتحجيم النفوذ الإيراني وتريده إيران للاعتراف بنفوذها. وثمة معطيات اخرى، كالأزمة الكورية الشمالية والصراع البارد بين أميركا وكلٍّ من روسيا والصين، وكذلك التردّد الأوروبي، تستبعد الضغط (أو التوافق) من أجل حلٍّ تفاوضي. فهذه الأطراف خرجت مستفيدة من الاتفاق النووي أو تنتظر مكاسب جمّدتها القيود الأميركية، وحتى الأوروبيون الذين يمقتون النظام الإيراني ويدركون النتائج الكارثية لتوسّعاته الإقليمية لا يبدون تأييداً لإلغاء ذلك الاتفاق أو لإخضاعه لمعايير واشنطن. لكن»إستراتيجية ترامب» قد تضطرّهم عاجلاً أو آجلاً لتوضيح مواقفهم بالاصطفاف «مع» أو «ضد»، وليست مصادفة أن يذكّر اثنان من المعنيين آنذاك (هانز بليكس رئيس المفتشين الدوليين ومحمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرّية) بأن الأجواء الحالية مشابهة لما شهداه قبيل غزو العراق واحتلاله. قد يصحّ ذلك، لكن لن يكون غزو أو احتلال هذه المرّة، أما المسرح المرشّح فحدّدته إسرائيل بسورية ولبنان، بتغاضٍ أميركي (وروسي؟)، مع تداعيات قد تمتدّ الى العراق.
المهم في تلك الإستراتيجية أنها الأولى الواضحة في عهد ترامب، وكونها نتيجة توافق بين أجنحة الإدارة، وموضع ترحيب البارزين في الكونغرس (جون ماكين وبول راين). وربّما جاء الأهم في شروح الأطراف التي ساهمت في صوغها، وعلى الأخص وزير الخارجية ريكس تيلرسون الذي قال إن «هذه نهاية اللعبة (مع إيران) لكنها لعبة طويلة الأمد»، مؤكّداً التعامل مع كل التهديدات الإيرانية وليس الاتفاق النووي فحسب، ليخلص الى أن واشنطن تسعى الى «تغيير» النظام الإيراني عبر دعم قوى المعارضة. وفيما أعلن البنتاغون أنه يجري مراجعة شاملة للنشاطات والخطط دعماً للإستراتيجية الجديدة، أكمل مستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر بأن ترامب « لن يسمح بأن يكون الاتفاق غطاءً لحكومة مروّعة كي تطوّر سلاحاً نووياً... ونحن نعرف من سلوك الإيرانيين في المنطقة وتجاه الاتفاق بأنهم تجاوزوا الخطوط المرسومة مرات عدّة». أما المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي فأشارت مجدّداً الى «عدم السماح بأن تكون إيران كوريا الشمالية المقبلة»، على رغم أن ناقدي توجّه الإدارة الترامبية يحاججون بأن زعزعة الاتفاق مع إيران تقوّض احتمالات الحل السلمي للأزمة مع كوريا الشمالية.
من الواضح أن المواجهة مع إيران هي جوهر «إستراتيجية ترامب»، وأنها قد تستدرج حرباً تكاثر الحديث عنها أخيراً. فالأجهزة الإسرائيلية كثّفت أخيراً اتصالاتها مع واشنطن وموسكو، وطرحت أفكاراً في شأن الوجود الإيراني في سورية وحدّدت الخطوط الحمر التي ترفض تجاوزها. إذ لم يعد الاتفاق النووي الأولوية الحالية لإسرائيل بل الحدّ من النفوذ الإيراني. ثمة مؤشّر آخر في سلسلة اجتماعات عقدت أخيراً في واشنطن، بمشاركة سياسيين وعسكريين أميركيين وإسرائيليين، وأخرى حضرها مسؤولون من المؤسسات المالية الكبرى، وكانت الخيارات المطروحة إزاء التوسّع الإيراني محوراً للنقاش. وعلى رغم أن تصنيف الحرس الثوري كجماعة ارهابية بدا ضرورياً إلا أن تبنيه رسمياً من جانب الرئيس الأميركي يُلزمه بإعلان الحرب عليه إسوةً بالتنظيمات الإرهابية الأخرى، ما يعني حرباً واسعة لا تريدها أميركا لأسباب داخلية وخارجية. أما الحرب على «حزب الله» وغيره من الميليشيات الإيرانية في لبنان وسورية، باعتبارها أدوات لـ «الحرس»، فيمكن أن تأخذ فيها إسرائيل زمام المبادرة بموافقة أميركية ضمنية. واللافت أن تقدير المواقف ذهب إلى حد ترجيح عدم اعتراض روسيا على «فرصة» متاحة أمامها لتحجيم الوجود الإيراني في سورية، لكن سيكون لها لاحقاً دورٌ في إدارة وقف إطلاق النار.
في أي حال، إذا صحّت هذه التوقّعات، لن تكون الحرب وشيكة فهي تتعلّق أولاً بمرحلة «ما بعد داعش» في العراق وسورية، ثم بتثبيت «مناطق خفض التصعيد» في سورية، وأيضاً بجلاء الصراع حول المسألة الكردية. وكلّها محطات تسعى إيران إلى استغلالها في تعزيز نفوذها. ولا شك في أن الضربات الإسرائيلية المتواصلة للمواقع الإيرانية في سورية تشكّل جزءاً من السيناريو الذي يدور تحت أنظار الروس. ولعل ما يدعم احتمالات المواجهة العسكرية أن إيران تريدها طالما أنها أولاً خارج أراضيها، وثانياً تؤمّن لها إدامةً للصراعات إذا لم تحصل على اعتراف بنفوذها، وهو ما لا ينفكّ يبتعد. لذلك فإن مناخ المواجهة قد يجعلها أكثر عدوانيةً في عموم المنطقة العربية.
كان الإيرانيون يتوقعون بالطبع مواقف ترامب المتشددة إزاء سياساتهم، بعدما دأب على التصريح بها طوال حملته الانتخابية، ثم بعد وصوله إلى البيت الابيض، لكنهم ظلوا يراهنون على إمكان تراجعه بسبب ضغوط داخلية وخارجية، إلى أن أعلن استراتيجيته رافضاً التصديق على التزام طهران الاتفاق النووي، وملوّحاً بالانسحاب منه ما لم يتم تعديله.
وعلى رغم أنهم شعروا بقلق كبير من تصنيفه «الحرس الثوري» ضمن قائمة الكيانات الداعمة للإرهاب، وما يعنيه ذلك من فرض عقوبات عليه لاحقاً، إلا أن ما أثار استياءهم الفوري كان استخدام الرئيس الأميركي مصطلح «الخليج العربي».
تقول مجلة «تايم» الأميركية أن «الكلمتين اللتين استخدمهما ترامب أثارتا غضب الإيرانيين على اختلاف انتماءاتهم، متديّنين كانوا أو ليبراليين، موالين للنظام أو معارضين له، قوميين أو ثوريين، لأن أيّا منهم لا يمكنه هضم تسمية اللسان المائي الذي يفصل إيران عن جيرانها العرب بأي اسم آخر غير الخليج الفارسي». وتضيف أنه «بعد دقائق فقط من الخطاب، بث التلفزيون الإيراني الرسمي شريط أخبار يشير إلى تسمية الخليج العربي التي أطلقها ترامب وإلى وصفه الإيرانيين بالأمة الإرهابية. وركزت وكالات الأنباء الحكومية وشبه الحكومية والمواقع الإلكترونية والصحف جميعها على هذه الإهانة المزدوجة».
ولم يتأخر الرئيس الإيراني روحاني في كلمة متلفزة في السخرية من «ضعف معلومات ترامب الجغرافية»، فيما زار ملايين الإيرانيين حسابه الرسمي على «إنستغرام» للتعبير عن غضبهم.
بالطبع، لا يتعلق الأمر بخلاف على التسمية، بل بمحاولة إيران إكساب الاسم القديم للخليج جسداً لم يعد له، عندما يتحدث مسؤولوها عن استعادة مجد «فارس» وكيف تتوسع «الإمبراطورية» لتشمل العراق وسورية ولبنان.
وأذكر أنه في عام 1987، تلقت صحيفة عربية مرموقة في بيروت رسالة وقحة من السفارة الإيرانية تجرأت فيها على دعوتها إلى استخدام مصطلح «الخليج الفارسي» بدلاً من الخليج العربي، وأرفقت طلبها بخرائط قديمة يونانية وفارسية، تعود إلى حقب تاريخية كان العرب خلالها أحد الشعوب المستباحة. وكان لبنان في تلك الفترة يتحول تدريجاً مرتعاً وساحة للاستخبارات الإيرانية وجهازها الجديد «حزب الله»، بموافقة نظام حافظ الأسد، وكانت عمليات خطف الأجانب التي يقوم بها العملاء الإيرانيون تحت مسميات مختلفة، في أوجها. وجاء رد فعل السفارة على عدم استجابة الصحيفة طلبها الغريب والمستهجن، زيارات قام بها شبان ملتحون يتحدثون بعربية ركيكة إلى مبنى الصحيفة وسؤالهم عن بعض العاملين فيها.
مشكلة إيران تكمن في عنصريتها التي تلبس اليوم قناع «الثورة الإسلامية»، وتظهر جلية في سعيها إلى تعميم نموذج الحكم فيها على دول المنطقة، وفي رفضها الإقرار بأن التاريخ الذي انقضى لن يعود، وأن الإمبراطوريات تظهر وتزدهر ثم تزول، وأن الوقائع أقوى من الخرافات، والحاضر أقوى من الماضي. وكثيرون يعرفون مدى صفاقة الإيرانيين وصلفهم منذ قيام جمهوريتهم الإسلامية، عندما يتعلق الأمر بالسيادة على الخليج العربي، وهم لم يتورّعوا عن احتلال جزر إماراتية ثلاث بحجة التاريخ نفسه.
والذين ينبرون اليوم لتحذير الولايات المتحدة من توتير العلاقة مع ايران، إنما يتجاهلون قصداً الحقائق الراسخة عن سلوكها، ولا يفعلون سوى الدفاع عن صفقات وعقود محتملة مع طهران.
ونسأل بدورنا: لماذا لا يشمل «التوتر» الذي يتحدثون عنه ما يحصل في المنطقة العربية، وكيف يشذ عنه التدخل الإيراني في العراق وسيطرة طهران الواسعة على القرار السياسي والعسكري في بغداد، وكذلك التدخل العسكري الإيراني في سورية وإرسال ميليشيات طهران المذهبية للدفاع عن نظام الأسد المتهاوي، وأيضاً إمساك ربيبها «حزب الله» بالوضع في لبنان وتشكيله دولة داخل الدولة أقوى منها وتديرها؟ وماذا يُسمى ما تفعله إيران في اليمن، من تسليح وتدريب لأطراف مذهبية بهدف تفكيك وحدته وتهديد جيرانه؟ أليس هذا توتراً وحرباً واعتداءً وانتهاكاً للحدود والكيانات، يستحق رداً؟
عدد كبير من الناس في الغرب مقتنع بأن التهديد الأساسي الآتي من سورية ومنطقة الشرق الأوسط هو من «داعش». لكن قناعات هذه الغالبية تنبع من لا مبالاة أو عدم اهتمام بالتطورات وبما يحصل في الشرق الأوسط بسبب هيمنة «الحرس الثوري» الإيراني ووحشية نظام بشار الأسد التي أدت إلى إنشاء «داعش». الغريب أنك عندما تتحدث مع الرجل العادي في أوروبا تجد أن هناك نوعاً من خلط التراث الثقافي الإيراني الفارسي القديم بالنظام الكارثي الحالي مع خامنئي وجنراله الشهير قاسم سليماني الذي يتجول بين سورية والعراق ولبنان كأنه في بلده لإعطاء التوجيهات العسكرية والمكافآت عند اللزوم.
استطاع بشار الأسد أن يقنع بعض السذج في الغرب بأنه المدافع عن مسيحيي الشرق، إذ إنه يحميهم وأن لا علاقة له بظهور «داعش»، وأن حليفته إيران هي دولة ذات نفوذ واسع وذات تاريخ وثقافة عريقة كأن خامنئي و «حرسه الثوري» لا علاقة لهما بثقافة حافظ وبالشاهنامة. فهذه الصورة المشوهة في الغرب مردها إلى عدم اهتمام الخارج في الغرب بما كان وما زال يحدث في البلد ذاته منذ قرون وعائلة الأسد الأب والابن تحكم سورية. فالمجازر والقتل والتعذيب التي كان يتعرض لها أي مواطن سوري يعارض النظام كانت نموذجاً عن نهج «داعش» الذي هو نسخة عن مخابرات النظام التي يعرفها لبنان واللبنانيون المستقلون والوطنيون الأحرار. فقبل القتل الذي تعرض له الشعب السوري منذ بدأت التظاهرات في درعا، كان لبنان الاختبار الأول للأسد الأب ثم الابن حيث كانت تصفية المعارضين أو خطفهم وتعذيبهم الطريقة السهلة للهيمنة والبقاء بالتخويف. أما إيران التي أصبحت الآن تسيطر في العراق عبر الميليشيات الشيعية وفي سورية بفضل قواتها العسكرية ووكيلها «حزب الله»، فهي أيضاً أصبحت في نظر الرأي العام الغربي الدولة الكبرى التي لها تاريخ عريق مستقر، وأن لا علاقة لها بوحشية «داعش». فهذه التقويمات المغلوطة سببها عدم اهتمام المواطن العادي في الغرب بما يحدث في البلدين من انتهاكات واعتقالات وتعذيب وجرائم. فصحيح أن إيران سوق كبيرة تهم أوروبا التي لم تحصل إلا على القليل من دول الخليج، ولكن هل نسيت أوروبا وبالتحديد باريس العمليات الإرهابية التي استهدفت قواتها في لبنان ومن كان وراءها؟ إن ما يحصل حالياً في العراق ومساعدة إيران في طرد مقاتلي «البيشميركة من كركوك هدفهما الاستقواء على نظام العبادي الضعيف الذي أضعفته خطوة بارزاني بتنظيم الاستفتاء. وبارزاني كان حذّر الرئيس السابق هولاند من خطوات تعتزم إيران أن تقوم بها في العراق لإنشاء طريق يربط بغداد ودمشق وبيروت كي لا يكون أي عائق لتمرير كل الأسلحة وما يحتاجه «حزب الله» على الأرض في لبنان وسورية. فهذه الأنظمة الديكتاتورية نجحت في فرض فكرة أنها ضامنة الأمن والاستقرار، في حين أنها ضامنة الكوارث والخراب. ومنذ جاء الخميني إلى الحكم في إيران عام ١٩٧٩، زادت الطائفية والتشنج وعدم الاستقرار في المنطقة. ولا شك في أن بارزاني أخطأ التقدير في تنظيم الاستفتاء، لكنه على حق في أن إيران تريد تأمين الطريق من العراق إلى دمشق ولبنان.
ومع كل المآخذ على شخصية ترامب وكل ما يصدر عنه من تصريحات غريبة، فهو على حق بالنسبة إلى كل ما تقوم به إيران والملف النووي ليس وحده الأهم، بل إن سياسة إيران في المنطقة هي أيضاً على المحك والكل مستعجل للعمل مع بلد غني ومسايرة إيران التي ليست بعيدة من «داعش» وممارسته في العراق ولا في سورية ولا في لبنان. فالمطلوب تصويب الصورة لأن تاريخ إيران وسورية وثقافتاهما لا علاقة لهما بالأنظمة الحاكمة فيهما اليوم.
في مناوشات متكررة مع منظمة الأمم المتحدة، أصرّ وزير الخارجية اللبناني على إسقاط نعت «الطوعية» المضاف، عرفاً، الى «الآمنة» لدى الحديث عن عودة السوريين الذين هجّروا من بلادهم أو فرّوا منها. لم يحدّد الجهة التي تقرر متى تكون العودة آمنة، ولم نعرف منه كيف تتحقّق العودة إن كانت غير طوعية، أي قسرية.
غير أنه، وفي المدة الأخيرة، أكّد تكراراً أن مناطق واسعة في سورية باتت آمنة وأن العودة اليها ممكنة بل ضرورية. لكنه تجاهل الإقرار بأن إعادة السوريين القسرية ليست في متناوله، وأنها انتهاك لأبسط الحقوق الإنسانية.
زاد تشديده على العودة بعدما غيّر التدخل الروسي موازين القوى العسكرية في سورية، وأطلق عملية آستانا التفاوضية والمقتصرة على خفض التصعيد في مناطق محددة. ومال أصدقاؤه وبعض أنصار النظام السوري اللبنانيين الى اعتبار تلك المناطق، المحدودة العدد والحجم، بمثابة مناطق آمنة. وأسرعوا في دعوة لبنان الرسمي الى التفاوض مع النظام السوري في شأن عودة اللاجئين الى ديارهم. غير أن أحدهم لم يشر، لا تصريحاً ولا تلميحاً، الى استعداد حكّام دمشق لاستقبال من اضطروا للجوء الى لبنان في المناطق التي باتوا يسيطرون عليها مع حلفائهم.
أكثر من ذلك، لفّ الصمت اللبناني ما يعرفه السوريون، وسواهم من المعنيين، عن انعدام الرغبة لدى النظام في مجرد البحث الجاد في هذه المسألة.
وحين بادر وزير الخارجية اللبناني الى لقاء نظيره السوري، وضع اجتماعهما تحت علامة سعيه من أجل عودة السوريين الذين لجأوا الى لبنان، بخلاف منتقديه المتهمين بأنهم لا يريدون تلك العودة. لم يقل كلمة واحدة تعوّض عن صمت زميله أو تشي باتفاقهما على متابعة القضية التي تشغله.
كل ذلك يعني أن العودة مؤجلة مهما علت أصوات مستعجليها. ونجدنا أمام اصطناع توقعات لدى المتذمرين من ثقل الوجود السوري. ويبدو لنا أن هذا الاصطناع يؤول الى استثمار مزدوج، في العمل على التقرّب من النظام السوري بحجة تيسير العودة وفي توظيف المشاعر الحادة، بعد تأجيجها، والمخاوف، بعد تضخيمها، في حسابات السياسة المحلية. لكنه، ككل اصطناع، يجر الخيبة والمرارة ويزيد احتمالات الجنوح الى العنف.
صحيح أن لبنان يواجه مشكلات نتيجة اللجوء السوري لا مجال لإنكارها، وأن السياسات الوطنية والدولية قاصرة في معالجتها. لكنه صحيح أيضاً أن تعبئة اللبنانيين ضد السوريين، وتوسّل المبالغات في تعدادهم ووصف أحوالهم وإنزال العقوبات الجماعية بهم وتحويل المطالبة بعودتهم الى ما يشبه الدعوة الى ترحيلهم، سلوكيات غير أخلاقية تنذر بأخطار كبيرة. وهي لا تيسّر العودة الآمنة بل تلحق الأذى الكبير، المادي والمعنوي، باللبنانيين والسوريين معاً.
باتت معركة إعادة الإعمار في سورية آخر المعارك الكبرى المنتظرة في الصراع السوري المعقّد، وهي المعركة التي تتكثّف فيها رهانات الأطراف المختلفة، وتشكّل الاختبار الحقيقي لإراداتهم السياسية ورؤاهم الجيوسياسية بعد أن جرى توضيب عناصر الصراع الأخرى بطرق مختلفة، تفاوضية وتهادنية، بما يتناسب ومقاربة الأطراف الفاعلة ميدانياً، روسيا، وإيران بدرجة أقل.
في مقابل ذلك، تنازل الغرب والعرب عن متابعة تفاصيل الصراع وطرق تسويته وعملية إخراجه النهائية، وفضلوا عدم مزاحمة روسيا بالحل، ربما لقناعة هذه الأطراف أن أي محاولة للصدام مع روسيا سياسياً وعسكرياً لن يكون لها جدوى بعد ان حقّقت الاخيرة سيطرة شاملة في سورية، حتى أميركا الطرف الغربي الأكثر انخراطاً في الصراع اقتصر اهتمامها على جزئيات محدّدة ومناطق ترتبط بأمن حلفائها في المنطقة.
يتركز الرهان الغربي- العربي على أن روسيا، الطامحة ليس فقط إلى اعتراف هؤلاء بها قوة أساسية في سورية، بل والإفادة من عملية إعادة الإعمار مالياً عبر شركاتها التي ستتولى جزءاً من تنفيذ العملية، ستضطر إلى تقديم تنازلات سياسية تقترب خلالها مع مقاربتهم التي تدعو إلى تصميم عملية سياسية تلحظ مشاركة المعارضة في الترتيبات السورية القادمة وإعادة صياغة نظام الحكم بطريقة جديدة تؤدي إلى تعديل الحياة السياسية في سورية وأن لا تتم إعادة إنتاج نظام الحكم القديم، وهو ما تحاول روسيا الالتفاف عليه عبر تعديلات دستورية محددة تبقي على هيكل نظام الحكم مع خفض صلاحيات رأسه.
وانطلاقاً من حقيقة أن روسيا هي صاحبة الدور الأكثر تأثيراً في سورية، فإن التقديرات يجب أن تنطلق من معرفة الأولويات الروسية وحساباتها للربح والخسارة، وقراءة المعطيات بشكل واقعي وليس عاطفي ورغبوي لصياغة موقف سليم من قضية الإعمار في سورية وموقف روسيا منها.
لا تشكل عملية إعادة الإعمار بحد ذاتها أولوية روسيّة، لا شك في أن روسيا ترغب في إنجاز مهتمها السورية بنحو أفضل وترغب أن يشار إليها على أنها نجحت في إنهاء الحرب وتحقيق السلام وإعادة إعمار البلد، وهي ما انفكت تتباهى بإعمارها غروزني. لكن ذلك، على أهميته، لا يشكل أولوية مطلقة، على الأقل في الوقت الراهن والمدى المنظور، وترى روسيا أن إعادة الإعمار فرصة لمكاسب سياسية واقتصادية ما دامت روسيا قد ربحت من مختلف مراحل الحرب، ويكفي التذكير بأنها في مرحلة القتال كسبت عقود بيع سلاح كثيرة، وفي مرحلة التفاوض على السلم أصبحت مركز الاهتمام لدول الشرق الأوسط، وهي تريد استثمار كل مرحلة إلى أقصاها، ومرحلة إعادة الإعمار لا زالت تنطوي على فرص كثيرة يستلزم استثمارها. بالإضافة إلى لذلك، لم يمر وقت طويل على عودة روسيا إلى الفاعلية الدولية وقد وفرت لها الساحة السورية هذه الفرصة، وبالتالي فهي لا تزال في طور اختبار الممكنات والفرص التي تتولد عن هذا الوضع بعد غياب دام عقوداً.
في سبيل ذلك، سوف تناور ورسيا في هذه المرحلة في مواجهة الغرب والعرب، وسوف تطرح إجراءاتها باعتبارها تنازلات أو مقدمات للحل في سورية، مع إيصال رسالة بأن هذه الإجراءات ستكون مفتوحة على آفاق كثيرة شرط عدم مطالبتها بضمانات خطية ولا استعجال بهذه الإجراءات. الاستعجال المطلوب هو الانفتاح على الأفكار الروسية والتعامل الإيجابي لها لأن ذلك سيشكل المفتاح لفتح الآفاق المرغوبة.
على الأرض ستحاول روسيا إثبات أن إعادة الإعمار مصلحة غربية وعربية أكثر منها روسية سورية، فهي عدا عن كونها ستجعل هؤلاء شركاء في صنع مسارات الأمور في المنطقة، فإنها بلا شك ستفيدهم اقتصادياً، كما أن الغرب والعرب، على السواء، الذين لا يريدون وقوع سورية تحت سيطرة إيران، عليهم ترجمة ذلك في مشروع إعادة الإعمار وبإجراءات عملانية تؤدي إلى تقوية مواقعهم وتقوية الدولة السورية وليس فقط عبر الضغط على روسيا لتحجيم نفوذ إيران والذي يبدو أنه طلب غير واقعي في هذه الظروف.
غير أن المناورة الأكبر والتي بدأت روسيا بالقيام بها، تتمثل في إيصال رسالة إلى الغرب والعرب أن لديها بدائل عن مساهمتهم في هذا المجال، وهذه البدائل تتمثل في شركاتها وشركات إيران والصين. صحيح أن العملية ستتأخر نظراً لنقص حجم التمويلات وستنطوي على مشكلات فنية لكنها في النهاية ستنجز.
من جهة أخرى بدأت روسيا السماح لبعض المناطق التي عقدت مصالحات بإدخال مواد البناء لترميمها ما يعني أن جزءاً من العملية سيضطر السوريين إلى القيام به وإنجازه كيفما اتفق ليستطيعوا ممارسة حياتهم ولو بحدودها الدنيا، وهو شكل تلفيقي لإعادة الإعمار.
في ظل هذه الوقائع، بالإضافة إلى ظهور مؤشرات عن تسابق الشركات وبعض رجال الأعمال في المنطقة على الفوز بحصة من كعكة إعادة الإعمار، الخوف أن لا تجد روسيا نفسها مضطرة لتقديم تنازلات جوهرية في الحل السياسي المرتقب بما يؤدي إلى تبخر الرهانات على عملية إعادة الإعمار لإعادة التوازن المفقود في سورية.