مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٢ أكتوبر ٢٠١٧
الاتفاق النووي الإيراني... والمصالح العربية

أمام الاتفاق النووي الإيراني - الذي سمح لإيران قبل عامين بالعودة بقوة على الساحة الدولية رغم الانتهاكات التي تقوم بها في العراق وسوريا واليمن وغيرها - أكبر تحدياته مع توجه الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى رفض المصادقة على بنوده. ومع اقتراب موعد 15 أكتوبر (تشرين الأول) الذي بحلوله يجب أن يوقع ترمب مجدداً على الاتفاق للمصادقة عليه، من المتوقع أن تتجه الإدارة الأميركية إلى الإعلان عن عدم التزام طهران بـ«روح الاتفاق» الداعية للتعاون وتطوير برنامج نووي سلمي. وبخطاب مرتقب خلال هذا الأسبوع، سيكشف ترمب عن مراجعة السياسة الأميركية تجاه إيران، لتوضيح أسباب رفضه دعم الاتفاق الذي أبرم خلال إدارة سلفه باراك أوباما، بمشاركة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا.

ومنذ توليه رئاسة الولايات المتحدة، كان على الرئيس الأميركي المصادقة على الاتفاق النووي كل 90 يوماً، ضمن آلية وضعت لإقناع الشعب الأميركي، بأن الاتفاق يتضمن مراقبة مستمرة للبرنامج النووي الإيراني. وفي حال لم يصادق ترمب مجدداً على الاتفاق النووي، سيكون هناك 60 يوماً قبل اتخاذ الكونغرس أي إجراءات لازمة للخروج من الاتفاق وتقرير ما إذا كانت ستفرض عقوبات جديدة. وتسعى فرنسا وبريطانيا وألمانيا - الدول الموقعة على الاتفاق مع واشنطن وبكين وموسكو - إلى الخروج بصيغة مناسبة خلال تلك الفترة لإنقاذ الاتفاق. وهنا على الدول العربية النافذة في أوساط صنع القرار الأميركي والأوروبي أن تدفع بمصالحها، وهي التأكد من سلمية البرنامج النووي من جهة، والتشديد على ضرورة مواجهة التصرفات الإيرانية في المنطقة؛ من التهديد باستخدام صواريخ باليستية إلى جعل الميليشيات قوى تتنافس مع الجيوش العربية من جهة أخرى.

الفرق بين إدارتي الرئيس الأميركي السابق أوباما والرئيس الحالي ترمب هو أن الأولى كانت تستعجل إبرام الاتفاق وكانت طهران واعية لذلك تماماً، بينما الثانية تريد الخروج من الاتفاق وإفشاله، وذلك ما يجعل طهران في موقع الدفاع عنه والبحث عن حلول مجدية لإنقاذه. ولكن الواقع اليوم مختلف عما كان عليه في 2015، فكل من روسيا والصين والدول الأوروبية الثلاث لن تتراجع عن الانفتاح الذي جرى مع إيران، كما أن التخلص من العقوبات الدولية على إيران المرتبطة ببرنامجها النووي يعني أنه من الصعب إعادة فرض العقوبات. وهنا على الدبلوماسية العربية أن تلعب دوراً مهماً في تسليط الضوء على الدور الإيراني السلبي في المنطقة، وأيضاً الإجراءات الممكنة لردعها، مثل دعم قوى الاعتدال ومنع تسليح الميليشيات ومحاسبة الحرس الثوري دولياً.

الإيرانيون يعلمون أنهم يواجهون إدارة أميركية عليمة بما يقومون به، خصوصاً في العراق وأفغانستان، حيث قتلت القنابل الإيرانية المئات من الجنود الأميركيين، وتركت مثل هذا العدد أو يزيد مبتوري الأطراف، أو يعانون من إصابات جسيمة. وعلى الدول العربية المتأثرة من أفعال إيران أن تظهر رغبتها في صد التصرفات الإيرانية، ولكن بطرق شرعية متناغمة مع المجتمع الدولي.

العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين يعملون على تقوية الاتفاق النووي ليشمل جانباً آخر مقلقاً من التصنيع العسكري الإيراني، وهو تصنيع الصواريخ الباليستية الذي بدأ النظام يتباهى بها. وقرار النظام إطلاق صواريخ باليستية في يونيو (حزيران) الماضي على سوريا كان هدفه إظهار قدرة طهران على توجيه ضربات عسكرية موجعة... وما يثير القلق أن تلك الصواريخ يمكن أن تطور لتحمل رؤوساً نووية، وهو الخطر الأكبر في هذه المنطقة المشتعلة.

وبما أن الأمم المتحدة قد وضعت عقوبات ضد إيران بسبب تطويرها للصواريخ الباليستية، هناك سابقة يمكن البناء عليها، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1929 الصادر عام 2010، حيث قرر مجلس الأمن بأنه «يجب على إيران عدم اتخاذ أي إجراءات متعلقة بتطوير قابلية الصواريخ الباليستية القادرة على إطلاق الأسلحة النووية، بما في ذلك إطلاق تقنيات الصواريخ الباليستية، وأن الدول ستتخذ كل الإجراءات الضرورية لمنع نقل التكنولوجيا أو منح أي مساعدات تقنية لإيران في هذا المجال». ولكن مع ذلك، تكرر إيران اختبارات الصواريخ الباليستية وتعلن عنها بكل عنجهية، كما تبث وكالات الأنباء الإيرانية الرسمية أنباء عن التعاون الوثيق بين إيران وكوريا الشمالية. فبعد إقرار الاتفاق النووي، تشجعت طهران على التمادي العلني.

ولكن مع اقتراب القرار الأميركي للتخلي عن الاتفاق، بدأت طهران تعيد النظر في حساباتها. وعلى الرغم من التصريحات الرنانة الصادرة من نظام المرشد الأعلى للنظام علي خامنئي برفضه مراجعة الاتفاق، إلا أن الضغط بدأ يخرج ببعض النتائج. وبحسب دبلوماسيين إيرانيين تحدثوا لوكالة «رويترز» هذا الأسبوع فإن طهران قد «نوهت للدول الست بأنها قد تكون منفتحة على محادثات حول ترسانة الصواريخ الباليستية». وهذه خطوة على الدول العربية أن تصر عليها، فهي في مرمى تلك الصواريخ، كما أن تقارير استخباراتية عدة تشير إلى توجه إيران لبناء مصانع لمثل هذه الصواريخ في سوريا واليمن.

خلال فترة المفاوضات السابقة للملف النووي الإيراني، كان الموقف العربي مهمشاً، ولكن على الدول العربية اليوم أن تكون لاعباً مهماً في التعاون مع واشنطن والعواصم الخمس الأخرى لإظهار المخاطر على المنطقة والخروج بصيغ بناءة بدلاً من الاكتفاء بالتنديد بالاتفاق. وربما الأهم من ذلك، على الدول العربية وكل طرف يجد نفسه متضرراً من التصرفات الإيرانية أن يقدم رؤيا واضحة وأدلة على كيفية إخفاق الاتفاق النووي في كبح طموحات طهران العسكرية. ففي الوقت الراهن، إيران تكسب معركة التعاطف الشعبي الأوروبي والسياسي في العديد من عواصم العالم، وتراوغ على أنها ملتزمة بالاتفاق، رغم خرقها لقرارات منع تطوير الأسلحة الباليستية وتسليح وتجنيد قوى خارجة عن القانون. والفرصة اليوم للدفع باتجاه محاسبة طهران، ولكن بموجب القانون الدولي، وبناء على المصالح المشتركة بين الدول العربية والقوى الكبرى.

اقرأ المزيد
١٢ أكتوبر ٢٠١٧
ترمب وإيران... عاصفة أم إعصار؟

فيما الساعات القادمة تتوالى، تتوقع إيران صدور استراتيجية أميركية شاملة تجاهها، لا تتصل ببرنامجها النووي فقط؛ لكن بكل رؤاها غير المشروعة في الهيمنة على مقدرات المنطقة.

قد يكون الخميس المقبل بحسب «واشنطن بوست» موعد إعلان الرئيس دونالد ترمب خطوطه الجديدة للتعاطي مع نظام الملالي، والسؤال الذي يشغل الجميع: هل سيسحب الرجل الثقة من الاتفاق ويحيل الأمر إلى الكونغرس، أم ينسحب تماماً من طرف واحد بما يلغي الموافقة الأميركية؟
لم يدارِ أو يوارِ ترمب يوماً ما، ومنذ أن ترشح للرئاسة الأميركية، مشاعره تجاه هذا الاتفاق السيئ والمحرج لأميركا، حسب وصفه من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي، وتصريحاته الأخيرة الأسبوع الماضي تجزم بأن العاصفة قادمة لا محالة، فيما الجميع يتساءل: هل هي عاصفة أم إعصار؟

العاصفة - معلوماتياً - هي هيجان الرياح والأمطار بشكل عشوائي في البر والماء، فيما الإعصار يبدأ في المحيط ومن ثم يلقي بمخلفاته التي تسبب الخراب للأرض واليابسة.

يود ترمب لو يكون في مقدرته تحريك الإعصار دفعة واحدة، تجاه طهران الساعية لنشر الفوضى والإرهاب في العالم، المهددة للملاحة الدولية، صاحبة الهجمات الإلكترونية تجاه جيرانها، الماضية قدماً نحو برنامج الصواريخ الباليستية، في تعاون لا تخطئه العين مع كوريا الشمالية، طهران التي تعتقل المواطنين الأميركيين بشكل متعسف.

لكن ليس كل ما يبغيه المرء يدركه؛ ذلك أن من حوله - لا سيما جنرالات البنتاغون - يدركون أن الأمر ليس هيناً أو يسيراً إن دفع دفعاً نحو الإلغاء الكامل، وربما الأفضل تضييق الخناق مع بقية الشركاء على إيران التي تخرق روح الاتفاق لا بنوده.

رجل الساعة في واشنطن اليوم وحول ترمب، هو المفكر المحارب الجنرال هيربرت ماكماستر، مستشار الأمن القومي الذي أدرجته مجلة «تايم» الأميركية بقائمة أكثر عشرة أشخاص تأثيراً في العالم عام 2014، قائلة آنذاك: «قد يكون أفضل من يتمتعون بفكر المحارب في القرن الحادي والعشرين».

يحجم ماكماستر من شطحات ترمب، ويوصي بسحب الثقة من الاتفاق النووي مع إيران، ليبدو الأمر كعاصفة من دون أن يصل إلى حد الضغط على الكونغرس لفرض عقوبات جديدة ضد طهران، قد تؤدي لانهيار الاتفاق.

يود ترمب أن يسترجع ما خسره من شعبية في عيون الأميركيين، ويرى في تنفيذ وعوده الانتخابية تجاه الاتفاق الإيراني مسرباً ملائماً، غير أن الكلمة الأخيرة حكماً للجنرالات، وبخاصة بعد أن لمح جيمس ماتيس، وزير الدفاع، الجنرال الأعزب المتعطش للقراءة ودراسة التاريخ العسكري، ما جعله يحصل على لقب «المحارب الزاهد» إلى أن الاتفاق النووي يخدم مصلحة بلاده، وعلى ترمب التفكير في الحفاظ عليه.

رؤية الجنرالات واضحة عبر معادلة بسيطة ومفهومة: الاتفاق النووي يؤخر حصول إيران على السلاح النووي، فيما إلغاء الاتفاقية يتيح للإيرانيين فرصة ذهبية للعودة من جديد إلى دائرة السعي لاقتناء أسلحة الدمار الشامل.

لا يود الذين يوسوسون في أذن ترمب أن يظلوا في الساحة الدولية بمفردهم، فالصين وروسيا حكماً سترفضان رفضاً قاطعاً الإلغاء الأميركي، ما سيعقد المشهد الدولي بأكثر مما هو معقد، فيما الأوروبيون ينكرون على ترمب ما يخطط له، وقد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التخلي عن الاتفاق بأنه «خطأ جسيم»، ويصف عدم احترامه بأنه أمر غير مسؤول.

أما الألمان فقد تحدث بلسانهم وزير خارجيتهم سيغمار غابرييل في الأمم المتحدة، بلسان براغماتي لا يخلو من وجاهة في التفكير بالقول: «حال إلغاء الاتفاق، من سيثق لاحقاً في أي اتفاقيات دولية»؟

يمكن القطع بأن الاستراتيجية التي سيعلنها ترمب خلال الساعات المقبلة سوف تلقي بتبعات واستحقاقات على حلفاء إيران والميليشيات التي تدعمها، والجماعات الإرهابية التي تقف وراءها، والحديث هنا لمجلة «بوليتيكو» الأميركية ذائعة الصيت، هذا عطفاً على مطاردة شبكة التحويلات المالية لإيران حول العالم، وفي الأثناء عينها يتوقع أن تصنف الإدارة الأميركية «الحرس الثوري الإيراني» كمنظمة إرهابية، وربما لن توفر واشنطن «حزب الله» من الاتهام ذاته، ما يعني أن الرياح العاتية ستلامس ما هو أبعد من طهران جغرافياً وديموغرافياً.

والشاهد أن نظرة متأنية للمشهد الأميركي تجاه إيران لا بد أن تربط بين واشنطن وكوريا الشمالية، تلك التي هدد ترمب بإزالتها إن تعرض أمن أميركا للخطر، والنظرة هنا ترجح العاصفة على الإعصار، فحال إغلاق الباب أمام الإيرانيين ستصل الرسالة إلى الكوريين سلبية جداً؛ حاملة معاني ودلالات على أن لا فائدة ترجى من التعاطي مع الأميركيين دبلوماسياً، وأن المحادثات معهم وقت ضائع، وهو ما لا ترغب في الوصول إليه النخبة الدبلوماسية، وربما العسكرية، في واشنطن اليوم.

التخلي عن الشكل وليس المضمون غالباً هو ما سيذهب إليه ترمب، ضمن حزمة من الإجراءات المقيدة لأحلام إيران التوسعية غير السلمية.
عاصفة أم إعصار؟
ترمب رئيس صعب قراءة أفكاره، فيما النتيجة الحتمية في كل الأحوال تضييق الخناق من حول رقبة الملالي.

اقرأ المزيد
١٢ أكتوبر ٢٠١٧
منتخب سوريا.. منتخب وطن، أم وسيلة لتلميع النظام؟

ربما لم نر انقساما في التاريخ العربي الحديث وحتى في العالم، حول تشجيع منتخب كرة قدم كما شهدناه حول تشجيع المنتخب السوري ضد أستراليا في تصفيات التأهل إلى كأس العالم 2018. وكان سبب الانقسام الرئيسي رؤية جزء من المؤيدين للثورة السورية بأن هذا منتخب للنظام السوري ويستخدم لأغراض سياسية. أما آخرون مؤيدون للنظام، وكذلك جزء من المعارضين له، رأوا بأن هذا المنتخب يمثل سوريا ولا يجب خلط السياسة بالرياضة.

في الحقيقة، ومن ناحية المبدأ، لا يجب خلط السياسة بالرياضة وتحييدها عنها، وعادة ما تلقى المنتخبات الرياضية إجماعا من مواطني الدولة لا تلقاه الأحزاب السياسية. لكن الوضع في الحالة السورية مختلف تماما، فهو ليس خلافا سياسيا، بل جرائم إبادة ترتكب على مرأى العالم كله، ويستخدم النظام القوانين الدولية والثغرات فيها للاعتراف بالحكومة (النظام) كممثل شرعي وحيد، وزيادة الضغط على أي معارض له، وارتكاب جرائم الإبادة تحت مسميات السيادة وبأن الدولة هي الوحيد الذي يمتلك حق استخدام القوة.

مبدأ السيادة هذا استخدمه النظام في الرياضة أيضا، وحصل على تضامن الفيفا الضمني بحسب تقرير استقصائي بثته قناة ESPN الرياضية. ونشر رواد موقع التواصل الاجتماعي صورا تثبت أن سلطات الملاعب في سيدني منعت إدخال أي علم آخر غير العلم السوري المعترف به دوليا، مستثنية بذلك علم الثورة تحت نفس القانون. وبالتالي، حصل مؤيدو النظام على فرصة دولية للتعبير عن رأيهم في حين حرم المعارضون منها، في حرب غير متكافئة أخرى بين المعسكرين.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، من الذي أقحم السياسة في الرياضة؟ هل جمهور المعارضة أم النظام السوري ذاته؟ النظام السوري منع مشاركة أي لاعب في المنتخب إذا كان من المعارضة إلا إذا عاد وأعلن تأييده للنظام، وبشكل فظ، وعمر السومة الذي تشكر الأسد على دعم المنتخب وتمنى لو لم يكن لاعبا أن يكون ضابطا في الجيش، وكذلك فراس الخطيب، الذي شكر راعي الرياضة والرياضيين أبرز مثالين على ذلك. وهذا دليل على أن النظام يريد أن يذكر الجميع بأن لا مستقبل رياضيا أمام أحد، مالم يكن موقفه السياسي موافقا له. فاستثنى بذلك مشاركة الساروت حارس منتخب شباب سوريا، وخربطلي وجهاد الحسين الذي رفض الانضمام إلى المنتخب.

هناك العشرات من المعتقلين الرياضيين في سجون الأسد، لم ينبس زملاؤهم في المنتخب عنهم ببنت شفة. كجهاد قصاب الذي توالت أنباء غير مؤكدة عن وفاته في المعتقل، وطارق عبد الحق. كما ذكرت مؤسسات حقوقية عن مقتل نحو مائتين وخمسين رياضيا بسبب قصف النظام أو تعذيبهم حتى الموت، 36 من هؤلاء كانوا يلعبون في أندية الدرجة الأولى، بحسب تحقيق ل ESPN.

إذا ما أردنا تجاهل كل هذه العوامل الأخلاقية، مازال هناك جانب سياسي، فالرياضة يمكن استخدامها من قبل الأنظمة الاستبدادية في السياسة كنوع من البروباغاندا. وهي مفيدة جدا في محاولة خلط المشاعر إزاء موقف سياسي. فالمؤيد للنظام سيشجع المنتخب بأية حال، أما المعارض فسيجد نفسه يريد سببا ليشجع منتخبا يلعب باسم بلاده، وينسى فكرة أن النظام، والاتحاد الرياضي، ومدربي الفريق، واللاعبين، صرحوا جميعهم بأنهم يلعبون لرفعة اسم الأسد. ويحاول أن يبني صورة ذهنية أن ذلك قد يكون سببا للتلاقي وبناء وطن بعيدا عن السياسة.

وقد يكون الجواب متوفرا في أبرز مثال على استخدام الرياضة في البروباغاندا السياسية: أولمبياد برلين عام 1936، الذي استخدمه هتلر ليجعل ألمانيا تبدو قوية وموحدة، ولاستمالة الشباب وتلميع نظرية "العرق الآري" المتفوق على جميع الأعراق الأخرى. يقول البعض إن التاريخ كان سيسجل أن ألمانيا هي انتصرت في ذلك الأولمبياد بحصدها أكبر عدد من الميداليات، لكن انتصار ألمانيا النازية في الأولمبياد ساهم في تسويق فكرة تفوق العرق الآري.. وأدى إلى خسارة ألمانيا، بحجرها وبشرها، عام 1945. في الحقيقة لا يمكن أن يذكر أولمبياد برلين دون ذكر اسم هتلر.. ولا يمكن أن نذكر منتخب سوريا.. دون أن نذكر الأسد.

اقرأ المزيد
١٢ أكتوبر ٢٠١٧
التغريبة الديرية ... مدينو ديرالزور بين "الموت" أو الهروب الى مجهول يتبعه الموت"

يواجه مدنيو دير الزور حرباً شاملة معلنة من عدة أطراف تتصارع فيما بينها على أرض هي الاغنى بثرواتها وخيراتها، حرم أهلها ومدنيوها منها لعقود طويلة، فكانت حجة "محاربة الإهاب" هي الدافع لكل هذه القوى لتسيير الجيوش وكل هدفهم تخلص المدنيين من تنظيم الدولة لا أكثر، فلا مطامع ولا أهداف أكثر من هذه الأهداف التي يتبادل فيها المتحاربون الأدوار في ترديدها وترويجها.

هذا الخلاص لابد له من فاتورة كبيرة تدفع لأجل التحرير، ولا أغلى من دماء أهلها التي باتت مدنهم وبلداتهم قبراً كبيراً تدفن فيها أشلائهم وأوجاعهم، باسم محاربة الإرهاب، والذي بات الحجة الرائجة والدامغة وموضة العصر لمواصلة قتل الشعب السوري الثائر وترسيخ السيطرة لوكلاء هذه الدول ممثلة بتنظيم الدولة والميليشيات الشيعية وقوات قسد، تتسابق مدعومة بطرف دولي للهيمنة وبلوغ مواضع الثروة على حساب دماء وأشلاء مدنيي دير الزور.

حركة نزوح هي الأكبر منذ سنوات عدة تشهدها محافظة دير الزور من مناطق عدة في البوكمال والميادين هرباً من الموت إلى مصير مجهول، لاتعرف نهايته، جراء ماتتعرض له المحافظة من هولوكوست حقيقي يستهدف بنيتها التحتية والبشرية وكل مايعترض طريق عملياتها، سجلت مئات الغارات الجوية خلال أيام قليلة على أرياف المحافظة تتشارك في رمي قنابل الموت طائرات روسيا والتحالف وعلى الأرض تتصارع القوى والوكلاء.

التغريبة الديرية اليوم هي الأكبر في موجات النزوح المتلاحقة التي شهدتها المناطق السورية خلال أعوام الثورة بسبب جور وظلم من ادعى نصرتهم، إلا أنه نزوح وهروب إلى المجهول، كون لا ملاذ آمن في دير الزور، ففي الشرق العراق وميليشيات الحشد التي تلاحق المدنيين، وفي الغرب الرقة المعذبة التي تنال نصيبها من الموت والقصف اليومي، فلا موضع تنزح إليه العائلات الهاربة من الموت إلا باتجاه مناطق قوات قسد وهناك مرحلة جديدة من العذاب والموت بشكل آخر.

بين رحلة الموت إلى المجهول تلاحق صواريخ التحالف وروسيا المدنيين فتقصفهم في العبارات المائية وفي مناطق نزوحهم، تقتل من سلم من قنابلها التي طالت مدنهم وبلداتهم، فيتحول الهروب إلى موت جديد، موت تختلط فيه صنوف العذاب بين التشرد والجوع والموت حرقاً وغرقاً، تمتزح الدماء الطاهرة بعذوبة نهر الفرات الذي يبكي أهله ودياره لما حل بهم من مجازر وعذاب.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٧
لماذا تدخلت أميركا في سوريا من الأساس؟

تحمل مذكرة صاغها وزير الدفاع الأميركي السابق، آشتون كارتر، فرصة نادرة للتعرف بصورة أفضل على استراتيجية الرئيس باراك أوباما تجاه سوريا قبل أن تتحول إلى جزء من ماض بعيد. إلا أن المعلومات القيمة الكثيرة التي طرحها تثير تساؤلاً كبيراً: لماذا تدخلت الولايات المتحدة في سوريا من الأساس؟

الواضح أن الهدف الرئيسي من وراء المذكرة تسليط الضوء على دور كارتر في هزيمة تنظيم داعش، ذلك أن وزير الدفاع السابق أكد أن العمليات الفاعلة ضد التنظيم وخطة القتال التفصيلية، التي يقول كارتر إن الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها تتبعها حتى اليوم، لم تجرِ صياغتها وإقرارها إلا بعد تعيينه في فبراير (شباط) 2015، وبعيداً عن هذا الهدف المرتبط حصرياً بالمصلحة الذاتية، تصف المذكرة التي تقع في 45 صفحة جهوداً لم تلقَ تأييداً يُذكر داخل المنطقة التي استهدفتها.

من ناحيته، يلقي كارتر باللوم على الانسحاب الأميركي من العراق في ظهور «داعش»، لكن حتى قبل أن تؤسس الميليشيا الإرهابية كيانها المزعوم، «لم يرغب سكان المنطقة في عودة قوات ضخمة بحجم يشبه قوات غزو»، حسبما ذكر الوزير السابق. وأشار كارتر إلى أنه طوال فترته وزيراً للدفاع التي استمرت عامين، اضطر إلى «إقناع رئيس الوزراء (العراقي حيدر) العبادي بقبول دخول مزيد من القوات الأميركية إلى البلاد (الأمر الذي كان مثيراً للجدل بالنسبة له في الداخل)». وأضاف كارتر إلى أن القوات العراقية بدت مترددة، بادئ الأمر، إزاء المشاركة في القتال، الأمر الذي أثار غضب كارتر وجنرالات أميركيين، واضطرهم إلى حث الجانب العراقي باستمرار نحو العمل.

وبطبيعة الحال كان الرئيس السوري بشار الأسد أقل ترحيباً بالتدخل الأميركي، رغم أن واشنطن سعت نحو بناء قوات محلية مناوئة لـ«داعش» من الصفر عبر «تجنيد أفراد مقاتلين، وتنظيمهم في وحدات، وإمدادهم بالتدريب والمعدات اللازمة داخل تركيا والأردن، ثم إعادة الدفع بهم لخوض القتال داخل سوريا». وشرح كارتر أنه رغم أن الفكرة دارت حول عدم تورط هذه القوات في الحرب الأهلية السورية، فإن الأسد كان مدركاً تماماً لتوجه واشنطن إزاءه.

بعد ذلك، تولى كارتر المنصب الوزاري وبدل الخطة من خلال تحويل دفة الدعم الأميركي باتجاه تشكيلات شبه عسكرية قائمة بالفعل. وأضاف: «تقريباً جميع المقاتلين الحقيقيين كانوا بالفعل جزءاً من جماعات قائمة، وكل ما كانوا يرغبونه قتال الأسد و(داعش)».

وبعد موافقة الولايات المتحدة على هذه الفكرة، لجأ الأسد إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي رأى في هذا الأمر تدخلاً أميركياً في الحرب الأهلية المستعرة في سوريا ومحاولة لتغيير النظام بها - الأمر الذي سبق أن عارضه بشدة في ليبيا، بل ووقع شجار بينه وبين الرئيس آنذاك ديمتري ميدفيديف لعدم تصديه للتدخل الغربي هناك. من خلال تسليح وتدريب جماعات معارضة للأسد، اجتذبت إدارة أوباما - بل وكارتر شخصياً إذا كان هو بالفعل من أقر تغيير الاستراتيجية الأميركية تجاه سوريا - روسيا إلى داخل الحرب.

وبعد أن بدأ بوتين العملية العسكرية الروسية في سبتمبر (أيلول) 2015، أشار كارتر إلى بذل الجانب الروسي جهوداً حثيثة لإقامة تعاون مع الولايات المتحدة. وعن ذلك، قال «منذ اللحظة الأولى، سعى الروس لإشراكنا نحن والحملة المناهضة لـ(داعش) فيما يفعلونه داخل سوريا - ودائماً ما أعلنوا أمام العالم رغبتهم في التنسيق والتعاون معنا، وطلبوا التشارك في المعلومات الاستخباراتية والأخرى المرتبطة بالأهداف».

إلا أن كارتر رفض هذه العروض الروسية لثلاثة أسباب رئيسية؛ أولاً: كان من الممكن أن يؤدي التنسيق مع روسيا، الحليف الوثيق لإيران داخل سوريا، إلى تثبيط رئيس الوزراء العراقي العبادي عن التعاون مع الولايات المتحدة. ثانياً: من الممكن أن يؤدي ذلك إلى الربط بين الولايات المتحدة والحملة الروسية «غير الإنسانية». ثالثاً: إن «ذلك من شأنه منح روسيا دوراً قيادياً غير مستحق داخل الشرق الأوسط» - وأعتقد من جانبي أن هذا كان السبب الأهم بالنسبة لإدارة أوباما. وفي فصل حمل عنوان «المخربون والمترددون»، جرى وصف اتصالات غير مرضية مع الجانب الروسي، ونضال كارتر لوقف وزارة الخارجية بقيادة جون كيري عن إبرام اتفاق مع بوتين يتضمن التنسيق العسكري، وليس مجرد تجنب الصدام. وبخلاف روسيا وإيران، يشير العنوان إلى عدد من الدول الأخرى منها تركيا - التي «تسببت في معظم التعقيدات أمام الحملة»، تبعا لما زعمه وزير الدفاع السابق - ودول الجوار العربي ودول خليجية وصفها كارتر بأنها «كانت نشطة على صعيد جهود الضغط والعلاقات العامة، لكن هذا الأمر بصورة ما لم يترجم قط داخل ميدان القتال».

باختصار، تشير المذكرة إلى أن المصالح الأميركية لم تكن متوافقة بوضوح مع مصالح أي من العراق أو إيران أو روسيا أو تركيا أو نظام الأسد في سوريا. وهنا يظهر التساؤل: هل كان ثمة داعمون متحمسون للنهج الأميركي؟

حسناً، كان هناك بعض المسلحين المعادين للأسد (فيما عدا أصحاب التوجهات الإسلامية)، وبالتأكيد الأكراد. في الواقع، يعتبر الدعم الأميركي للأكراد السبب الرئيسي وراء تحول تركيا من حليف إلى عنصر رافض. إلا أن الحقيقة تبقى في أنه كان هناك على الأقل طرف لديه رغبة حقيقية في مشاركة الولايات المتحدة داخل سوريا، وإن كانت هذه الرغبة لا علاقة لها بمحاربة «داعش» بقدر ما ترتبط بالحلم الكردي بإقامة دولة مستقلة ذات سيادة. الآن، صوت أكراد العراق لصالح الاستقلال، ما قدم تبريراً لكل شكوك العبادي إزاء الحملة الأميركية ضد «داعش».

في خضم محاربتها «داعش»، نجحت واشنطن في إثارة غضب الجميع داخل منطقة متوترة ويخالجها ارتياب بالفعل إزاء التدخل الأميركي في أعقاب مغامرتي العراق وليبيا. وتسلط المذكرة التي وضعها كارتر الضوء على كيف حدث ذلك بقدر ما تكشف كيف جرى إلحاق الهزيمة بـ«داعش». وتوضح هذه المذكرة لماذا لن يكون من السهل إحلال السلام بالمنطقة حتى بعد رحيل «داعش». من جانبه، أعرب كارتر ذاته عن قلقه من أن «جهود المجتمع الدولي على صعيدي تحقيق الاستقرار والحكم الرشيد ستكون أبطأ كثيراً عن وتيرة الحملة العسكرية».

أيضاً، تثير هذه المذكرة تساؤل ما إذا كان ثمة حل أكثر استدامة كان يمكن تحقيقه لو كانت واشنطن تركت الأسد وحلفاءه من جهة وتركيا من جهة أخرى يتولون التعامل مع مشكلة «داعش» دونما تدخل منها.

إلا أن هذه الافتراضات لم تعد ذات جدوى الآن. والحقيقة الثابتة اليوم أن التدخل الأميركي تكثف بعد رحيل إدارة أوباما، ويبدو الاستقرار الآن حلماً بعيد المنال بالنسبة لسوريا والعراق أكثر عن أي وقت مضى، في وقت تحاول فيه الدول والجماعات المسلحة في الشرق الأوسط التكيف مع مثلث القوة القائم بين الولايات المتحدة - روسيا - تركيا. في الحقيقة، باستطاعة كارتر التفاخر اليوم بأنه لعب دوراً في خلق هذا الوضع الجديد الذي يبدو عرضة للاشتعال في أي لحظة.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٧
في إعادة إعمار سوريا

لعله من المبكر الحديث عن إعادة إعمار سوريا، والسبب الواضح لهذا التقدير، أنه لا تتوفر بيئة لإعادة الإعمار لا بالمعنى السياسي ولا الميداني؛ فمن جهة أولى ليس هناك من حل سياسي متفق عليه بين الأطراف المنخرطة بأعماق مختلفة في القضية السورية، ومن الناحية الثانية، فإن عمليات الدمار والقتل والتهجير ما زالت مستمرة، بل إنها متصاعدة أيضاً، رغم ما يقال عن مناطق خفض التصعيد، التي جرى الاتفاق عليها، وتم الإعلان عن بدء العمل فيها.

وخطورة العمليات العسكرية، التي يشارك فيها الروس ونظام الأسد وإيران وميليشياتها إلى جانب التحالف الدولي، أنها تمتد في رقعة جغرافية واسعة من البلاد، ويقوم بها تحالف النظام وتمتد من الوسط في حمص نحو دير الزور وريفها في الشرق، ومن حمص باتجاه الشمال مروراً بحماة وإدلب وريف حلب، إضافة إلى عملياته في ريف دمشق، فيما تمتد عمليات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية من ريف حلب وصولاً إلى محافظتي الرقة والحسكة وبعض أرياف دير الزور، والدلالة الأساسية في خريطة العمليات العسكرية، أنها تضرب العصب البشري والاقتصادي لسوريا، وفيها أهم المناطق الزراعية ومناطق إنتاج النفط والغاز، وخزان المياه السوري، فأية إعادة إعمار يمكن أن تتم في سوريا في ظل هذه البيئة الراهنة؟

وسط البيئة الراهنة، يبدو الحديث عن إعادة الإعمار بعيداً عن الواقع، وهو في أحسن الأحوال، كلام سياسي يصب في أهداف، تؤكد أن القضية السورية وصلت إلى نهاياتها، وأن نظام الأسد انتصر وحقق أهدافه في إعادة السيطرة على البلاد، وأنه هزم قوى «التطرف والإرهاب» من معارضيه المدنيين والمسلحين، وأنه يفتح الباب أمام استعادة الحياة السورية إلى طبيعتها، وأن ثمة أطرافاً ولا سيما حلفاؤه من روس وإيرانيين ومن هم على علاقات مستورة معه، أصبحوا جاهزين للمشاركة في إعادة الإعمار بالتفاهم معه، وأن على الأطراف الأخرى الإقليمية والدولية، التي اختلفت مع النظام، واعترضت أو عارضت سياساته في القتل والتدمير والتهجير، أن تنضم إلى مسيرته في إعادة الإعمار للحصول على مكاسب، لكن بعد تصحيح مواقفها منه، وإعادة الاعتبار له عبر تطبيع علاقاتها معه، وهذا ما تكرر في مضامين كلمات رئيس النظام ووزير خارجيته وفي تصريحات الرئيس الروسي ووزير خارجيته في مرات كثيرة في الفترة الأخيرة.

وبالتوازي مع خط نظام الأسد وروسيا في الترويج السياسي لفكرة إعادة الإعمار، تواصلت خطوات إجرائية لتسويق الفكرة عبر إقامة ندوات ومؤتمرات لمناقشة الفكرة والبحث في احتمالاتها ومجالات الإعمار ومتطلباته، شاركت فيها دول ومؤسسات وشخصيات مقربة من نظام الأسد، برز منها لبنان وإيران، والتي كانت بين جهات شاركت رسمياً أو عبر شركات في معارض نظمتها دمشق خصصت لإعادة الإعمار، وفي دورة العام 2017 لمعرض دمشق الدولي الذي كانت دوراته قد توقفت منذ العام 2011.

وانتقالاً من الترويج السياسي والإجرائي للفكرة، لا بد من التوقف عند المعطيات الواقعية في موضوع إعمار سوريا، وباستثناء الظروف السياسية والميدانية التي تمت الإشارة إليها، فإن غياب الإمكانيات المادية لإعادة الإعمار، يمثل عقبة رئيسية ثالثة.

فتقديرات إعادة الإعمار، تؤكد الحاجة إلى ما بين 200 إلى 350 مليار دولار، ولا شك أن توفير هذا القدر من الأموال، يتجاوز قدرة النظام وروسيا وإيران والدول الراغبة في المشاركة مثل الأردن ولبنان والعراق، ويتطلب تعاوناً دولياً، لا تشارك فيه المؤسسات الدولية فقط، بل والدول الغنية وخاصة دول الخليج والولايات المتحدة وأوروبا، وكلها تتحفظ في موضوع إعادة الإعمار في ظل الوضع السوري الراهن، وتمتنع عن المشاركة في العملية، طالما لم يتم الوصول إلى حل سياسي، يضمن انتقالاً للسلطة، ذلك أن استمرار الأعمال العسكرية، سيؤدي إلى دمار الاستثمارات، وليس من أمان للاستثمارات، طالما بقي النظام الحالي.

كما أن إعادة الإعمار تتطلب قوة عمل تقوم بأعباء المشاريع، والواقع السوري، لا يوفر حالياً تلك القدرة، ليس بسبب انهماك معظم قوة العمل السورية في الأعمال العسكرية وشبه العسكرية في معظم المناطق فقط، بل لأن قسماً من السوريين، يتجاوز الخمسة ملايين نسمة لاجئون في بلدان الجوار والأبعد منها، ومعظمهم لا يمكنهم العودة في ظل الوضع الراهن، كما لا يمكن توفير قوة عمل أجنبية لمشروع إعادة الإعمار لأسباب متعددة بينها التكلفة العالية لقوة العمل الأجنبية.

والخلاصة المكثفة لفكرة إعادة الإعمار، كما يطرحها نظام الأسد وحلفاؤه والمقربون منه، أنها فكرة سياسية، لا تملك أي مقومات للتنفيذ، وهي واحدة من عمليات الكذب والتضليل، التي مارسوها، ويتابعونها للهرب من استحقاقات الواقع السوري، وضرورة سيره بخط مختلف في ثلاث نقاط أساسية؛ أولاها إيقاف العمليات العسكرية والأمنية استناداً إلى اتفاق له ضمانات دولية، والثانية التوصل إلى حل سياسي، يفضي إلى تغيير في طبيعة السلطة عبر مرحلة انتقالية، والثالثة إفساح المجال أمام عودة اللاجئين والمهجرين إلى بلدهم ومناطقهم لضمان مشاركتهم في تحمل أعباء إعادة إعمار سوريا.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٧
كَذب المنتصرون وإن انتصروا

من أعقد ما يمكن أن يواجه المرء أثناء تخيله مستقبل سورية في ضوء آخر ما أفضت إليه المعطيات الميدانية، هو تصور مستقبل النظام فيها، ذاك أن الأخير حقق بمساعدة ميدانية برية إيرانية وجوية روسية تقدماً في معظم خطوط القتال، وهذا يطرح على المرء احتمال استئنافه حكم سورية.

كيف سيحكم النظام في ظل هذه الحقيقة؟ وما هو شكل تقاسم النفوذ مع شركائه في النصر؟ ثم إن الشركاء، وحصتهم من النصر أكبر من حصته، ما هي حدود تأثيرهم في سورية في أعقاب استتباب الأمر لهم؟

المؤشرات كلها لا تساعد على التوقع. النظام لن يتمكن بأي حال من الأحوال من إدارة سورية بمفرده، وأن يكون له شركاء من خارجها، من أمثال موسكو وطهران، يطرح تساؤلات موازية، فهل يعني ذلك استمرار الوجود المباشر لطهران برياً ولموسكو جوياً؟ لا سابقة يمكن البناء عليها على هذا الصعيد، فلم يسبق لدولة أن حُكمت على هذا النحو لكي يتوقع المرء طبيعة السلطة المنبثقة من هذا النصر الإقليمي.

ثم إن قضايا سورية الرئيسة بعد إنجاز التحالف نصره ستكون قضايا من نوع إعادة الإعمار وعودة النازحين وترميم قاعدة السلطة ومراجعة مستويات الخسائر والمشكلة الكردية وخسائر العلويين... وكل هذه الهموم لا تنسجم مع الطبيعة التراكبية للسلطة المنعقدة في دمشق في أعقاب النصر، فإعادة الإعمار تعني عودة النازحين، وهذا ما لا يبدو أنه سيكون من هموم سلطة ما بعد النصر في ظل ما جاهر به بشار الأسد لجهة أن ما جرى مثل تنقية لـ «النسيج الاجتماعي»، وأن سورية ستكون لـ «من دافع عنها».

ثم إن النهاية ستكون أيضاً فرصة لإعادة توزيع الغنائم على أصحاب الدم. القاعدة العلوية للنظام دفعت أثماناً هائلة، وسيكون النظام في ظل شركائه الروس والإيرانيين أعجز من أن يدفع ما يترتب عليه. الحصص أصغر من «التضحيات» على كل المستويات. «حزب الله» مثلاً دفع أكثر من ألفي قتيل، فكيف يمكن النظام السوري أن يُكافئ حزباً لبنانياً؟ هل يصح أن تكون للحزب حصة في السلطة السورية؟ وإذا كانت حصة الحزب من نصيب إيران، فكيف سيترجم ذلك عملياً؟ أما موسكو، فستجد نفسها بعد الحرب أمام انحسار في دورها لن تقوى على تعويضه، فلا قوة ميدانية محلية يمكن أن تمثل النفوذ الروسي في ظل توقف وظيفة الغارات، ولا قدرة اقتصادية لموسكو تساعدها على حجز مكان في إعادة الإعمار.

ثم إن لإسرائيل حساباً لا يمكن الهروب منه أثناء التفكير بمستقبل سورية على رغم جعجعة الممانعين، فهذا المشهد يفترض نفوذاً إيرانياً على الحدود السورية الإسرائيلية. ومن غير المعروف عن تل أبيب أنها تستكين لمعادلة من هذا النوع. يمكن كثيرين القول إن حرب تموز (يوليو) 2006 غيرت هذه المعادلة، وإن على اسرائيل أن تقبل! الواقع الفعلي يقول إن إسرائيل انتصرت في حرب تموز، وإن معادلة ما بعد هذه الحرب لبت كل احتياجاتها، وحدودها مع لبنان أصبحت آمنة منذ يوم إعلان نهايتها وإلى يومنا هذا.

إذاً استبعاد الاعتبار الإسرائيلي عن مشهد سورية بعد اكتمال نصر حلفاء النظام سيكون غير واقعي، وفي الوقت ذاته لا يبدو أن المنتصرين قادرون على دفع جزء من الغنائم لتل أبيب.

كل هذه العوامل ستبقي نصر تحالف موسكو وطهران في سورية معلقاً، وستُبقي أبواب الحرب مفتوحة، خصوصاً أننا استبعدنا من هذه المحصلة اعتبارات كبرى هي أصلاً خارج خطاب المنتصرين، فالنصر في سورية هو نصر على السنة، وهؤلاء يمثلون أكثر من 80 في المئة من السكان. المنتصرون غير راغبين بشريك سني في نصرهم، وهذا ما يجعل النصر احتلالاً واستئنافاً لحروب بأشكال جديدة. وسنة سورية بدورهم ليسوا نسيجاً منسجماً ومبلوراً تمكن مخاطبته بعرض إذا ما توافرت نية مخاطبتهم.

ثم إن المنتصر سيجد نفسه أمام مسؤوليات يعتقد أنه تخفف منها. ثمة مليون ونصف مليون لاجئ سوري سني في لبنان مثلاً. حلفاء النصر من العونيين يحرضون عليهم ويطالبون بترحيلهم. عودتهم لا تنسجم مع معادلة «الانسجام الاجتماعي»، والتحريض العوني عليهم سيصطدم بحقيقة أن من يمنع عودتهم هم الحلفاء، ولن تُقابل خطب جبران باسيل سوى بابتسامة خبيثة مرتسمة على وجه وليد المعلم.

سورية محاصرة بأكثر من ثمانية ملايين لاجئ يقيمون تماماً خارج حدودها، ونظيرهم في داخلها. وبمدن تفوق كلفة إعادة إعمارها ثلاثمئة بليون دولار، وباحتلالين روسي وإيراني، وذلك بعد انكفاء الاحتلال التركي وانحساره في حدود إدلب، وبتحفز إسرائيلي للانقضاض على أي معادلة، وبقدرة أردنية على عدم البقاء خارج الحدود. هذا المشهد لا يُنشئ توازناً. إنه استئناف للحروب وتبديد للانتصارات واستمرار للموت.

اقرأ المزيد
١١ أكتوبر ٢٠١٧
مطار في دمشق وميناء في طرطوس يعجلان المواجهة بين إيران وإسرائيل

لايقع الإعلان الأمريكي عن جائزة بملايين الدولارات للوصول إلى رأس أبرز قياديين في حزب الله، ووصف حزب الله بأنه "تنظيم إرهابي من الألف إلى الياء" وفقاً لمنسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية، نايثن سيلز، لايقع كل ذلك خارج المشهد العام المنتظر لتواجد إيران ومليشياتها، في خارج حدودها الجغرافية و أنشطتها المتوقعة بعد انتهاء سنوات الحظر العشر التي يتضمنها الإتفاق النووي.

الأوضاع في سوريا تشهد اليوم الصراع النهائي على تثبيت النقاط و المكاسب، التثبيت الذي لن يكون مؤقتاً أو قصير المدى، و إنما سيغير الخارطة وتوزع القوى إلى أجل غير معلوم بدون أي عودة للوراء، لذا فإن المواجهات المؤجلة أو التي كانت تخاض من خلف ستار ستكون أكثر وضوحاً وعلانية.

"اليكس فيشمان" عميد المراسلين الحربيين باسرائيل في مقال "يديعوت احرونوت" أنهى نقطة العودة في الاشتباك الاسرائيلي - الايراني بسوريا، متوقعاً أن تكون أولى بوادر المواجهة بعد الأعياد اليهودية (أي بعد اسبوع).

الموعد الذي تحدث عنه المراسل المعروف عن عمق علاقاته في المؤسسات العسكرية الإسرائيلية، يتطابق مع الموعد المنتظر لظهور الرؤية الأمريكية الأخيرة حول الإتفاق النووي، الذي مدده على مضض دونالد ترامب لمرتين، ويبدو ان مخاض الثالثة سيكون مخالفاً تماماً، قد يصل حد الإلغاء، وفي الحقيقة حتى لو ألغى ترامب الإتفاق من الجهة الأمريكية، يبقى غير ذي أثر مع وجود شركاء خمس آخرين شاركوا في مفاوضات لوزان "5+1"، لا يتفقون ورؤية ترامب، لكنهم لن يكونوا ذوي قدرة على منع التبعيات التي قد تقدم عليها إسرائيل.

بعيداً عن الإتفاق النووي وما يعتريه من خلافات وصراعات، تسعى إسرائيل اليوم لإثبات عدم صوابيته و مع المحاولة في جمع الأصوات المؤيدة لها في هذا المجال عبر لقاءات مع أركان الحرب في كل من روسيا و أمريكيا، والتي تبحث من خلالها فتح الآفاق أمام عملية عسكرية جدية تمكنها من تقليم مخالب إيران في سوريا في المرحلة الأولى، تمهيداً لإبعادها عن المشهد عموماً.

المعركة في سوريا اليوم أقرب من اي وقت مضى، فالتهديدات الإيرانية التي تغير ميزان القوى في المنطقة، يجبر إسرائيل على التدخل الفعلي، سيما مع عجز أو عدم رغبة روسيا، من تخفيف حجم المكاسب الإيرانية التي تخطط لبناء مطار بالقرب من دمشق و ميناء في طرطوس، الأمران اللذان لا يقبلان أي نقاش سواء من أمريكا أو إسرائيل، ويدفع الأمر نحو المواجهة الفعلية، التي من ستكون وفق تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان شاملة لجبهتي سوريا ولبنان، كما سيكون الجيش اللبناني أيضاً من ضمن الأهداف، لأنه بات تحت هيمنة حزب الله.

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٧
الشباب السوري المعارض وظاهرة العزوف عن العمل السياسي

قامت الثورة السورية من أجل تحقيق مطالب عديدة، كان لغيابها أثرٌ سلبي في مختلف نواحي الحياة، ساهم إلى حدّ بعيد في بلورة حالة الفوضى والانقسام التي نعيشها اليوم، بل أدّى أيضًا إلى تعميق الشروخ المجتمعية والهوّات الثقافية، في أوساط المجتمع السوري. ولا نتحدث هنا عن المطالب العامة التي نادى بها الشارع السوري الثائر، كمطلبَي الحرية والكرامة، بل عن جزئية ترتبط وتنتمي إلى المصفوفة الفكرية التي قامت الثورة السورية بسببها، وهي استعادة الشارع السوري للعمل السياسي.

لطالما انطوت الثورات ضد الاستبداد عبر التاريخ على هذه القضية المهمة -وإن لم يعبّر عنها حرفيًا- ولطالما كان التهميش السياسي للشارع ومصادرة العمل به أحد أهم أسباب اندلاع الثورات التحررية من الطغم وأنظمة الحكم المستبدة، ولطالما اعتُبر إنجاز هذه القضية مؤشرًا على نجاح أو فشل هذه الثورة أو تلك.

في الحالة السورية، فشلت الثورة -حتى يومها هذا- في تنظيم ذاتها؛ وبالتالي فقد فشلت في إعادة الحراك والعمل السياسي إلى الشارع السوري، ولا يتسع الحديث -في هذا المقام- للتطرق إلى مقدّمات هذا الفشل وأسبابه، وعوامله الذاتية والموضوعية. وسنتناول عاملًا أساسيًا من عوامل هذا الفشل، يتركز على مقاربات لأسباب عزوف الشباب عن العمل السياسي، ومآلاته في تأجيل حسم الثورة لصالح أبنائها.

إذا ما أردنا أن نبتدئ بالعوامل الموضوعية لهذه الظاهرة؛ فسنجد أنّ معطيات الساحة السياسية -ما بعد الثورة- تنقسم إلى أربع: المعارضة التقليدية، الكيانات التي ادّعت التمثيل السياسي للثورة، الافتقار -أو شبه انعدام- إلى النخب السياسية المنخرطة عمليًا مع فئة الشباب، الأحزاب الناشئة خلال الثورة. وأعتقد بأن الاستقراء العقلاني لهذه الساحة سيُظهر لنا -إيجازًا- ما يلي:

1- أظهرت الثورة، منذ أيامها الأولى، عقم الأحزاب المعارضة التقليدية في سورية؛ إذ عجزت هذه المعارضة عن مواكبة الثورة، كما عجزت عن توحيد صفوفها، في المواقف والرؤى والاستراتيجيات، وحتى في الأهداف، ناهيك عن بنيتها الأيديولوجية التي أصبحت خارج التاريخ، ولن تجدَ فيها ما يغري الشباب السوري بالانضمام إلى صفوفها. ومن العقلانية -هنا- عدم التعويل على أي طرف من أطرافها، بأن يكون فاعلًا في الحد من هذه الظاهرة، أو مساهمًا في تحفيز الشباب على الخوض في غمار العمل السياسي.

2- أما الكيانات التي ادّعت تمثيل الثورة -سياسيًا- فقد رأينا مدى عجزها عن أداء هذه المهمة، وكيف تلاعبت بها الدول التي صنعتها؛ لتصبح مع الأيام مجرد طرف ثانوي يُملى عليه، دون أي فعل سياسي وازن، أو ثقل سياسي له صفة المؤثر. ومن بديهيات المنطق -هنا أيضًا- عدم التعويل عليها، بل يجب عدّها عائقًا أساسيًا يزيد من حجم ظاهرة العزوف الشبابي عن العمل السياسي، وسببًا أساسًا من أسباب استمرارها، لما رآه الشباب فيهم من مبددٍ لامتيازات، دُفع ثمنها دماء ودمار، بدل استثمارها بما يدعم ويقوي موقف الثورة السياسي.

3- إن إشكالية غياب النخب الفكرية والسياسية حالت دون تكوين مرجعيات لدى فئة الشباب؛ فغاب على أثرها -أيضًا- تعميم الخبرات، وحرق المراحل، وترتيب الأولويات، والخوض فيها. هذا الغياب شكّل فراغًا كبيرًا، عملت على ملئه مرجعيات دينية وأخرى شعبية، لا ناقة لها، بالفكر وبالسياسة، ولا جمل.

4- في السياق ذاته، إن من المُجدي والمهم معًا، توجيه النقد إلى الأحزاب الناشئة في خضم الثورة، والتي عجزت -حتى الآن- في استقطاب الشباب -سياسيًا- فقد اتضح عوزها لخطاب يتماشى مع ما طرأ من مستجدات في الساحة السورية، من قضايا ومفاهيم وأولويات أفرزتها الثورة، مع الأخذ بعين الموضوعية الوقت القصير -نسبيًا- الذي يفصل يوم تأسيسها عن يومنا هذا. وإذا أردنا التعويل على حوامل معنية بتقديم أجوبة ناجعة لهذه الظاهرة؛ فلن نجد أمامنا إلا هذا المعطى كي نعول عليه، وننتظر منه إنتاج خطاب قادر على خلخلة هذ الظاهرة، والبدء في تفعيل انخراط الشباب السوري، في أطر وتنظيمات سياسية لا أيديولوجية، ذات قوام وبنًى وطنية بصيغ برامجية.

أما عن العوامل الذاتية لهذه الظاهرة، فاعتقد بأنها تتلخص بـ:

1- الشباب السوري -بأغلبيته- لا ينسجم مع الحالة التنظيمية، “وكي لا يظهر هذا التقييم على أنه تهكمي أو غير موضوعي، ما علينا سوى سبر تجاربنا التنظيمية بشكلها العام خلال الثورة -على الأقل- سواء في المبادرات السياسية التي طُرحت، والتي طالما افتقرت إلى الجانب التنظيمي -حتى على المستوى النظري- أم في العمل المدني المنتظم، والذي سرعان ما يبدأ بالتململ وينتهي بالانشقاق والتشظي؛ أم على صعيد العمل السياسي المحض (من أحزاب وحركات وتيارات ومجموعات عمل وغيرها) والذي ترافق -ويترافق- مع الانسحاب السريع والمتعجّل، والاكتفاء بالنقد بدل المبادرة وتحفيز العمل”.

2- ما يحيط بصفة العمل السياسي من لغط، وما يعتريها من تصورات ذهنية سيئة. ونعزو هذا إلى بساطة الوعي السياسي، عند فئة ليست قليلة من الشباب، فكثيرًا ما نجد ترادفًا لصيقًا ما بين مفردة “سياسي” ومفردات أخرى: “انتهازي، وصولي، سارق الجهود الجماعية”، وغيرها، وهذا -بالضرورة- لن يشكل دافعًا للشباب لممارسة العمل السياسي.

3- غياب الثقة بين السوريين عمومًا، وبينهم وبين أشكال العمل السياسي، نتيجة الانتكاسات والإرهاصات التي عايشوها، خلال الثورة أو ما قبلها من جهة، وعدم امتلاكهم لقناعة راسخة، حول حتمية الدور السياسي في تتويج خلاصة شتى الجهود المبذولة في جميع قطاعات الثورة، من إعلامي وطبي وثقافي وفكري وصحّي، وغيرها.

4- الخبرة القليلة -إن لم نقل النادرة- في مضمار العمل السياسي، عند الشباب السوري، فالشباب السوري -اليوم- وُلد وترعرع في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية، لنظام أمني مجرم، جعل ممارسةَ العمل السياسي جريمةً لا تغتفر.

5- الضغوط الهائلة التي يتعرض لها الشباب السوري -وهذا ينطبق على الشباب السوري في الداخل والخارج- والتي تَحول دون جعل العمل السياسي من ضمن أولوياته، بل اعتباره -غالبًا- ضربًا من الرفاهية.

لا شكّ أن هناك عوامل أخرى تؤخذ في الحسبان، عند الوقوف على قضايا كهذي، تعود جذورها إلى الثقافة السائدة في المجتمع المعني، وتساهم إلى حد بعيد في إضفاء طابعها العام عليها، فثقافتنا السائدة لا ديمقراطية، وهي لا تقبل الآخر ولا تتقبّله، وغير معنية بنجاح هدف عام، يكون به “الشخصي” مغيبًا أو غير ظاهر، فتضخم “الأنا” الناتج عن عقود من الاستبداد والممارسات القمعية -بشقيها الثقافي والسياسي- سيشكل عائقًا أمام أي عمل جماعي منظم، ليست “التنسيقية” أولها، ولا “الحزب” آخرها. وعلى الشباب السوري قراءة هذا الواقع وتجاوزه، بهدف المشاركة الفعلية والجادة في العمل السياسي، والذي لا يمكن إتمام ما بدأه السوريون في آذار/ مارس 2011 من دونه، فالمشاركة في العمل والفعل السياسي ستسهم إسهامًا كبيرًا في وضع حد للمقتلة السورية، واستكمال تحقيق ما سعت الثورة السورية إلى تحقيقه.

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٧
بعد إدلب ... جنيف وخيارات صعبة أمام بوتين

بدأت معركة فرض «منطقة خفض التوتر» الرابعة في إدلب وريفها. كانت مقررة منتصف الشهر الماضي، لكنها تأخرت لأسباب كثيرة. تقررت ساعة الصفر في قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. وأعقبتها لقاءات بين وفد رسمي من دمشق مع مسؤولين أتراك برعاية السفارة الروسية في أنقرة. لم يعد بمقدور موسكو إهدار مزيد من الوقت. منيت قواتها في الأسابيع الأخيرة بخسائر لم تكن تتوقعها. وهي تخشى مزيداً من الانزلاق العسكري البري. لذلك ستقدم الدعم الجوي إلى فصائل «الجيش الحر» في مقابل دعم بري تقدمه تركيا لإنهاء سيطرة «هيئة تحرير الشام» على شمال غربي سورية. أي إنهاء سيطرة «جبهة النصرة» أكبر تنظيم في الهيئة. بعد ترسيخ «المناطق الأربع» تدخل الأزمة في بلاد الشام مرحلة جديدة عنوانها البحث عن تسوية سياسية انتقالية تتويجاً لوقف الحرب، بانتظار حل سياسي دائم.

لا جدال في أن موسكو رسّخت أقدام النظام في دمشق. لكنها بعد عامين على تدخلها العسكري انتزعت ورقة التصرّف في سورية. ولم يكن أمام جميع اللاعبين سوى الإقرار بهذا الواقع. وهكذا نجحت في فرض رؤيتها إلى التسوية. فرضت مفهومها للفصائل الإرهابية وتلك المعتدلة. وبعدما كانت تركز على ضرب مجاميع المقاتلين بلا تمييز في بداية انخراطها ميدانياً، اعترفت بـ «الجيش الحر» وفصائل أخرى «معتدلة». وكانت هذه طرفاً في اتفاقات إقامة المناطق الآمنة التي تقررت في آستانة. وانصرفت أخيراً إلى حرب «داعش» و «النصرة». لكنها لن تصل بعد إلى خاتمة تقيها التورط الميداني، بعد الجوي. أفلحت سياسياً في فرض نفسها حكماً في الاصطفافات المتناقضة في الأزمة السورية. عززت تحالفها مع إيران. واستمالت تركيا التي تحولت ورقة المعارضة بيدها «إشكالية». وتعمل على إعادة ما انقطع بينها وبين النظام في دمشق. وراع الرئيس بوتين في قمم متتالية بينه وبين الملك عبدالله الثاني هواجس الأردن. فعمان لم تشأ منذ اندلاع النار في بلاد الشام التورط المباشر. قدمت إلى الأميركيين وقوى محسوبة على «أصدقاء الشعب السوري» تسهيلات لتدريب فصائل معتدلة ساهمت في إبعاد المتطرفين والمتشددين عن حدودها. وهي تحاول اليوم مع سعيها إلى إعادة الحرارة إلى علاقاتها مع دمشق، إيجاد صيغة لتسليمها معبر نصيب الحيوي. مع علمها أن إقامة المنطقة الآمنة في جنوب سورية أنشئت بالاعتراف «الدولي» بالفصائل المقيمة في منطقة الحدود. وبالتالي لا يمكن تجاهلها وكفّ يدها عن هذا المعبر.

أما الدولة العبرية فواظبت على استهداف ما تسميه شحنات أسلحة من إيران إلى «حزب الله»، أو مواقع لتخزين أو صناعة صواريخ للحزب. ولم تعترض القيادة الروسية. أبدت استياءها لكن الخط المفتوح بين قوات البلدين من بدايات التدخل الروسي ظل مفتوحاً! مثلما ظل مفتوحاً باب اللقاءات بين المسؤولين الروس والإسرائيليين على أعلى المستويات. ولم تقف الديبلوماسية الروسية عند حدود دول الطوق السوري. دفعت مصر إلى أداء دور في التفاهم على بعض «مناطق خفض التوتر». وعولت ولا تزال تعول على دور المملكة العربية السعودية، خصوصاً بعد الزيارة التاريخية التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز لموسكو، في العمل على توحيد أطياف المعارضة لتكون جاهزة لجولة جديدة من المفاوضات في جنيف بعد أسابيع. أفادت من توجه القيادة السعودية خصوصاً نحو توسيع رقعة علاقاتها الإستراتيجية، نحو الشرق، من الصين إلى اليابان والدول الإسلامية الكبرى في آسيا، بعد النتائج الكارثية التي خلفتها سياسات الرئيس باراك أوباما في المنطقة العربية. وهكذا ضمنت إلى حين مروحة واسعة من التفاهمات التي أتاحت لها التحكم بورقة سورية.

لكن تحويل موسكو بلاد شام منطلقاً أو قاعدة نحو «الشرق الأوسط الكبير» دونه عقبات ومحطات صعبة. أولها السياسة الجديدة التي سيعلنها الرئيس دونالد ترامب بعد أيام، خصوصاً حيال إيران. فقد كرر اتهامها بعدم «احترام روحية» الاتفاق النووي، وبـ «دعم الإرهاب وتصدير العنف والدم والفوضى في الشرق الأوسط». وأكد وجوب «وضع حد لعدوانها المستمر». وأشار بعد عشاء مع جنرالاته إلى «هدوء يسبق العاصفة». ولا تزال واشنطن تصر على وجوب إقفال الحدود بين سورية والعراق، انطلاقاً من «المنطقة الجنوبية» وقاعدة التنف، إلى المناطق التي يسيطر عليها الكرد في الشمال الشرقي. وتسعى كل من موسكو وواشنطن إلى خفض منسوب التوتر بينهما انطلاقاً من الصراع الذي قد ينفجر بعد الانتهاء من تحرير الرقة ودير الزور من «داعش».

من العقبات أمام موسكو قضية إعادة الإعمار، إذ لا يمكن ترسيخ الهدوء في بلد دمرت الحرب حواضره وقراه وأريافه وشردت أهلها في الداخل والخارج. وقد بدأت قضية اللاجئين تطرح بشدة في كل من الأردن ولبنان. ومنذ بدأ الحديث عن مشاريع الإعمار وكلفتها التي تربو على 300 بليون دولار، راح النظام يلوح بأنه لن يسمح لـ «أصدقاء الشعب السوري» من الدول الغربية والعربية بالمساهمة في هذه الورشة الكبيرة. بل سيدعو «أصدقاءه» إلى تولي هذه المهمة! والواقع أن الصناديق الدولية وكل الدول المعنية تحجم حتى الآن عن التحرك. بل لا تضع في برامجها سورية. حتى «أصدقاء» النظام من الصين وغيرها. كأن إعادة الحياة إلى هذه المدن والقرى المدمرة مؤجلة. ويخشى أن تنضم إلى لاحقة «المدن المنسية» وقراها التي يبلغ تعدادها نحو 800. هذه «المدن الميتة» التي ازدهرت في القرون المسيحية الأولى، في أرياف حماة وإدلب وحلب، باتت اليوم من أهم المعالم السياحية في العالم. هجرها أهلها ودمر معظمها. ويعزو المؤرخون والباحثون الأسباب إلى جملة من العوامل. أهمها الغزوات الفارسية في القرنين السادس والسابع والزلالزل والأوبئة وغزو الأمويين القسطنطينية من البحر وانقطاع تجارة هذه المدن مع أوروبا. ثم جاء الصليبيون الذين حولوا مبانيها وكنائسها قلاعاً. كلها عوامل ساهمت في «نسيان» هذه المعالم التاريخية.

نجح الرئيس بوتين في الإمساك بالورقة السورية حتى الآن. لكن المهمة لن تكتمل بقيام «مناطق التهدئة». لن يستطيع تحريك ورشة الإعمار قبل البحث في مستقبل رأس النظام في دمشق، ومستقبل الوجود الإيراني في سورية. لقد ارتضى خصوم النظام بقاء الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. فضلوا مواجهة التنظيمات الإرهابية بعد استفحال فظائعها في الشرق والغرب. لكن أحداً من هؤلاء لن يكون مستعداً لفتح خزائنه وتمويل الإعمار والمساهمة في «تأبيد» بقاء النظام. كما أن السعودية وشريكاتها لن تستكين لنفوذ الجمهورية الإسلامية في المشرق العربي. ولا شك في أن نتائج زيارة الملك سلمان التاريخية موسكو وما أثمرت من اتفاقات وعقود في حقول شتى تنبىء بأن روسيا حريصة على علاقاتها بالعالم العربي، والمملكة خصوصاً لدورها المحوري والريادي في الإقليم كله. وثمة من يرى أنها قد تجد نفسها في نهاية المطاف مرغمة على تغليب خيار العالم العربي على إيران. بل لا بديل من تقليص نفوذ هذه والبحث في مستقبل الرئيس السوري، إذا كان على موسكو أن ترعى تسوية سياسية نهائية تسهّل عليها التفرغ لترسيخ نفوذها ودورها في المشرق العربي.

قسّمت روسيا حتى الآن سورية مناطق نفوذ للاعبين الرئيسيين في هذا البلد. مثلما قسّمتها مناطق بين النظام وخصومه. صحيح أن الرئيس الأسد ضمن بقاءه بعد النجاحات التي تحققت بدعم من حلفائه. ولا معنى للقول إنه استعاد السيطرة على البلاد. فالكرد عملياً يبنون بمساعدة الأميركيين حكمهم الذاتي في إطار فيديرالي. و «مناطق خفض التوتر» الأربع تتمتع باعتراف شبه دولي. أي أن ثمة اعترافاً بالفصائل التي ترعى الهدوء فيها والتي ستقيم إدارتها المدنية الخاصة بكل منطقة. ولعل هذه الخريطة ترجمة ميدانية لما نصّ عليه مشروع الدستور الذي اقترحته الديبلوماسية الروسية العام الماضي، وأثار حفيظة جميع الأطراف السوريين. لكن استعادة بعض ما تضمنه المشروع يؤشر إلى ما يمكن أن تذهب إليه موسكو بعد المرحلة الانتقالية. أدخل المشروع تعديلات جوهرية على الدستور الحالي: يسلب الرئيس جزءاً كبيراً من صلاحياته، لم تعد له سلطة اشتراعية. ويحرمه من حق تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا وحاكم المصرف المركزي. ويجعل ولايته سبع سنوات تجدّد مرة واحدة فقط. ويمنح جمعيات المناطق (الإدارات المحلية) ومجلس الوزراء سلطات واسعة. أي أنه ينص على «لا مركزية السلطات». ويوزع مناصب وزارية على كل الكيانات مع حفظ مواقع للأقليات. ويضع القوات العسكرية تحت رقابة المجتمع ولا يحق لها التدخل في السياسة أو أداء دور في عملية انتقال السلطة... خلاصة القول إن المشروع يشكل قطعاً كبيراً مع الدستور القائم. يغير شكل النظام كلياً.

المرحلة الجديدة بعد إدلب ستفرض على الرئيس بوتين إعادة النظر في حساباته. لن يكون بمقدوره إدارة سياسات متصارعين متخاصمين على سورية وترسيخ مشروعه في سورية. لا بد من صرف أثمان وتقديم تنازلات وسلوك خيارات مؤلمة على طريق التسوية النهائية المعقولة. فهل يقدم ويجازف؟ وهل يملك النظام وحليفه الإيراني قدرة الوقوف بوجه رغبة موسكو إذا اندفعت نحو فرض مسودة «دستورها» الجاهز؟ وهل يلبي هذا بعض طموحات المعارضة والشعب عموماً ويرضي الداعين إلى رحيل الأسد بعد المرحلة الانتقالية وتقليص نفوذ طهران؟

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٧
الألمان والسوريون بين قطارين

في أواخر الثلاثينات، وتحديداً بعد آذار (مارس) ١٩٣٨، شق قطار طريقه من ألمانيا والنمسا، باتجاه منافي الأرض كلها. قطار توالت رحلاته، وتزايدت فيه أعداد الفارين، الذين سيغدون لاجئين في شتى بقاع الأرض. ألمان يفرون من ألمانيا، ونمساويون يهربون من النمسا، وبولنديون من بولندا.

وكان من جملة هؤلاء أديب ألمانيا العظيم الألماني الكاثوليكي توماس مان، وأديب اللغة الألمانية الأبرز اليهودي النمساوي شتيفان تسفايغ الذي كتب: «ولما اجتاز القطار حدود النمسا عرفتُ، كما عرف لوط، في الكتاب المقدس، أن ما خلفته ورائي كان غباراً ورماداً ماضياً تحوّل إلى عمود من الملح».

وسيحدثنا كيف أنه بعد مغادرته بفترة وجيزة لن يُصدم، ولن يتفجع عندما سيبلغه خبر وفاة أمه، بل على العكس سيشعر بما يشبه السكينة، لأنها أصبحت في مأمن من المعاناة والخطر. ففي سنها المتقدمة (الرابعة والثمانين) كانت مضطربة السير، معتادة في تمشّيها اليومي المجهد أن ترتاح على مقعد في الشارع، أو في الحديقة كل بضع دقائق، غير أن النازيين أصدروا في فيينا قانوناً يمنع اليهود من الجلوس على المقاعد العامة، «ومن حسن الحظ أن أمي جُنّبت معاناة هذه القسوة والهوان إلى الأبد».

لقد وثّق لنا الأرشيف السينمائي، والنصوص الأدبية، والمذكرات والشهادات عن تلك الفترة حال ركّاب هذا القطار ومآلهم، وسبب ركوبهم إياه. ولن أجد أفضل من تسفايغ نفسه يقصّ علينا خبر هؤلاء الفارين، ويسرد لنا دواعي رحلتهم وبواعثها:

«أُرغم أساتذة الجامعات على تنظيف الشوارع بأيديهم العارية، وجُرّ متدينون يهود بيض اللحى إلى المعبد وسط صيحات الاستهزاء، وأجبروا على ممارسة تمارين الركبة، وعلا الهتاف معاً: «سلاماً هتلر». وفي الشوارع أُوقع الناس الأبرياء في الأشراك مثل الأرانب، وسيقوا كالقطيع لتنظيف مراحيض ثكنات وحدات العاصفة».

وهكذا بدأ الناس الأكثر رهافة باستشعار الخطر، وبحس تقدير الموقف بالهروب والفرار:

«كانت كل مجموعة تبدو تعيسة ومذعورة أكثر من سابقتها، فالمجموعات الأولى التي أسرعت في مغادرة ألمانيا والنمسا أفلحت في إنقاذ الملابس والأمتعة وأثاث المنزل، بل إن بعضها كان معه بعض المال، وأما الذين وضعوا ثقتهم في ألمانيا، وصعب عليهم انتزاع أنفسهم من وطنهم الحبيب، فقد عوقبوا أشد العقاب.

جُرّد اليهود أولاً من وظائفهم، ومنعوا من ارتياد المسارح ودور السينما والمتاحف، وحُرم الأساتذة من استعمال المكاتب، ومع ذلك لم يغادروا البلد إما إخلاصاً أو تراخياً، وإما جبناً أو كبرياء. لقد آثروا الذل في الوطن على ذل التسوّل خارجه، ومنعوا من استخدام أحد، وأخذت أجهزة الراديو والهواتف من منازلهم، ثم أخذت المنازل ذاتها، وفرضت عليهم نجمة داود علامة يعرفون بها، وجرى تجنبهم والهزء منهم كالمجذومين، ثم طُردوا وجُرّدوا من حقوقهم القانونية. لقد سحبت منهم الحقوق كلها، ومورست عليهم كل أنواع القسوة الروحية والجسدية بكل سادية عابثة (...) ومن لم يغادر ألقي به في معسكر اعتقال حيث كان الضابط الألماني يسحق حتى أشد الناس إباء، ثم كان يُدفع إلى الحدود بعد سلبه كل شيء سوى حقيبة ظهره، وعشرة ماركات في جيبه».

على أن هذه الحالة المفجعة ستشهد انحداراً مهولاً، في تسارع زمني ساحق، وسيغدو قطار الرحيل قطار ترحيل، ترحيل كائنات تشبه البشر، شاحبة السحنات، متسخة الوجوه، غائرة العيون، زائغة النظرات، مشقّقة الشفاه، مذعورة مقهورة، حائرة خائرة، تساق في أرتال، وهي بكامل الاستسلام والإحباط، كقطيع من البقر المهزول، إلى العربات... «.

وسينعم القدر على تسفايغ، كما أنعم على أمه، بألا يشهد هذا التحوّل الرهيب، وسيكتب التاريخ أن الأديب الأصدق والأروع بين أدباء عصره لم يحتمل العيش شريداً في المنافي، فانتحر هو وزوجته إليزابيث شارلوت تسفايغ في مدينة تبروبوليس البرازيلية في 23 شباط (فبراير) 1942.

أما الحزب النازي فكان في تلك الآونة يظن أنه يعيش لحظة من أهم لحظات الفكرة والتنفيذ، والخيار والقرار. لحظة إحلال «التجانس» الخالص الصافي بين أفراد المجتمع الألماني الطاهر، ذي الأرومة النقية المصفّاة تكويناً وتلويناً من بين كل الشعوب، وكرمى عيون هذا «التجانس» كان لا بدّ لـ «شعب الأرض المصطفى» أن يبيد «شعب الله المختار».

ولكن! هل كان المواطن الألماني في فترة «قطار هتلر»، يدرك، ولو تخيلاً، أنّ هذا القطار سيغدو قطاراً يحتضن المترقّب الخائف، المختلف ديناً وعرقاً ولساناً وهوية، القادم من خارج أوروبا إلى قلب ألمانيا، فيكون قطار أمل وبشرى؟

هذا ما حدث حين أوعزت المستشارة الألمانية مركل في 2015 لكل الدول المحيطة بألمانيا أن تسخّر قطاراتها في خدمة جموع هؤلاء الفارين من أتون بلدانهم، كما فرّ يهود ألمانيا في لحظة غفلة من الضمير الألماني، وفي لحظة عمى أخلاقي مطبِق.

ورصدت الكاميرات مرة أخرى ذلك القطار المكتظ بالأطفال والنساء والشيوخ والشباب القادمين من سورية، والطافح بالقادمين باسمهم من بقية الدول المحيطة بها.

كان هؤلاء الفارين منهكين، ملابسهم رثة، ملطخة، مبقّعة، أحذيتهم مثقّبة مشلّعة، وكان معظمهم يعرجون بأقدامهم الملتهبة المتقيحة، وكانت معظم الوجوه قد لفحتها الشمس وضربتها الرياح فغدت مسمرّة تعلوها غبرة وقترة، ولكن العيون فقط كانت ترسل بريقاً يشع أملاً، وإشعاعاً يلمع رجاء.

لقد فرّ هذا السوري للأسباب نفسها التي فر من أجلها الألماني قبلاً. فالنظام الأسدي البعثي لم يجد من بين كل القمصان أليق به من القميص النازي فتقمصه، ولا أجدر منه نسخة فتناسخ، بل تفاسخ، بل تواسخ من خلاله.

كلاهما مبني على حزب قومي اشتراكي. كلاهما يسعى إلى فرض «التجانس». كلاهما يملك محرقة. كلاهما مؤسس على عبادة الزعيم وتأليهه.

أما أتباع هتلر فكانوا يردّدون بالحرف الواحد: «هتلر أعظم من المسيح».

وأما أتباع حافظ فكانوا يدبكون وينشدون: «حيّدوا نحن البعثية حيّدوا/ حافظ أسد قبل ألله منعبدو». وأما أتباع الابن بشار فكانت حمائمهم تهدل: «الله... سورية... بشار وبس»، فيما كانت هراوات صقورهم تتكسر على أجساد ضحاياهم، وهم يزعقون بكل غضب الدنيا والآخرة: «مين ربك ولاك؟»، وكان يفترض بالضحية التي تعالج سكرات الموت أن تنطق شهادتها الأخيرة قبل أن تغادر الحياة: «بشار ربي، ولا أشرك به أحداً».

ومثلما فرّ المضطهدون الألمان من أمام غول النازية، فرّ المضطهدون السوريون من أمام ضبع الأسدية البعثية. ركبوا البحر، ولم يخشوا من الغرق، فما عاد أمامهم من خيار سوى الفرار، واستوى لديهم في شكل مطلق اليأس والأمل، الموت والحياة.

ركبوا البحر وهم موقنون أن فرصة النجاة والحياة لا تزيد عن فرصة الغرق والموت شروى نقير، ومع هذا رأوها قسمة عادلة، مقارنة ببقائهم تحت رحمة نظام لا يعرف الرحمة.

وإذا كان هتلر هو الرجل الذي أحدث في العالم من الشر ما لم يحدثه رجل آخر عبر العصور السابقة، فإن بشار الأسد هو الذي أحدث في سورية من الشر ما لم يحدثه رجل آخر عبر العصور السابقة واللاحقة.

وكما أن أوروبا راحت ضحية شهوة رجل فرد للسلطة، فإن سورية راحت ضحية شهوة رجل واحد للسلطة، وضحية شهوة أفراد عائلته لكل ما يتفرّع عن هذه السلطة بلا استثناء مهما بدا تافهاً أو حقيراً.

لقد كان الضمير الألماني في ذروة درجات صحوه، وكانت عينه الأخلاقية في أوج تفتحها وإبصارها يوم قدّرت أن هذا اللاجئ السوري الهارب من بطش نظامه هو صنو اللاجئ الألماني، وأنه لا يمحو عار ذلك القطار السابق الذي كان تابوتاً وقبراً، إلا قطار لاحق يغدو رحم حياة، وبوابة أمل ورجاء لفاقدي الأمل والرجاء. قطار عناق بين الشعوب، وتعارف وتعاضد ومواساة.

وهذا ما حصل. فعلى طول طريقه ومحطاته بين الدول والبلدان والبلدات كانت الجموع البشرية من المسعفين والمتطوعين في المنظمات الإنسانية والخيرية إضافة إلى عموم أفراد الشعب الأوروبيين ينثرون التحيات، والابتسامات، والعناق، والاحتضان، وعبوات المياه، ووجبات الطعام، والفواكه، والحلوى، والملابس، والأحذية، ولعب الأطفال، وكانت فرحة هؤلاء الأوروبيين تضاهي فرحة الأسرة بمولود قادم جديد! وكأن لسان حالهم يقول: لئن كانت الإنسانية تحشرج في مكان فإنها تتبرعم وتزدهر في مكان آخر.

لقد شهدت البشرية في زمنين متقاربين قطارين: قطار التياع، وقطار ارتياح. قطار هتلر، وقطار مركل، وعسى أن يمحو القطار الثاني عار الأول.

اقرأ المزيد
١٠ أكتوبر ٢٠١٧
تيلرسون في طريق الاستقالة؟

بأي مقياس، لا يعتبر يوم الأربعاء الفائت يوماً عادياً في وزارة الخارجية الأميركية، أن يظهر وزير الخارجية ريكس تيلرسون في إيجاز صحافي لتأكيد أنه وزير بالفعل، من دون أن ينفي وصفه الرئيسَ دونالد ترامب بـ «المغفل»، مخرباً بدل أن يصلح العلاقة المسمومة بين الرجلين.

إيجاز تيلرسون جاء رداً على تقرير لشبكة «أن. بي. سي» أن الوزير اقترب من الاستقالة في نهاية الصيف الفائت، وأنه وصف ترامب بـ ”المغفل” خلال اجتماع في وزارة الدفاع (البنتاغون) في ٢٠ تموز (يوليو) الفائت. تيلرسون أراد تهدئة العاصفة في مؤتمره، إنما لم ينجح وبفعل ارتباكه وعدم نفيه بأنه استخدم العبارة المهينة لترامب، أطلق أزمة جديدة مع البيت الأبيض.

ترامب الذي لم يعلم بمؤتمر تيلرسون وكان في جولة في لاس فيغاس بعد المجزرة الدموية، استشاط غضباً لدى عودته إلى واشنطن ولسببين. الأول أن إيجاز تيلرسون هيمن، بدل جولة الرئيس، على التغطية الإعلامية، وثانياً بسبب هفوة الوزير وعدم نفيه صراحة أنه وصف الرئيس بـ «المغفل». وعلى الرغم من تغريدات ترامب بوضع ثقته «الكاملة» في تيلرسون، فالتسريبات حول الأسماء المحتملة لخلافته بدأت في الإعلام الأميركي وتتمحور حول شخصيتين هما: سفيرة الأمم المتحدة نيكي هايلي ومدير وكالة الاستخبارات المركزية (سي.آي.أي) مايك بومبيو.

إقالة تيلرسون وهي مرجحة اليوم ولو انتظرت أول العام لحفظ ماء الوجه وعدم إثارة خضة كبيرة في الإدارة، ليست فقط بسبب غياب التجانس بين ترامب والوزير، بل مصدرها خلافات جذرية في الرؤية الخارجية وبتشعب من ملفات شرق أوسطية إلى كوريا الشمالية إلى المكسيك. فتيلرسون مثلاً عارض بشدة فكرة عدم المصادقة على الاتفاق النووي الإيراني في تموز (يوليو) الفائت، وهو اضطر الآن إلى تعديل موقفه مع حسم ترامب قراره بعدم المصادقة هذا الأسبوع. كما تضارب الرجلان في قضية الخلاف مع قطر، وإصدار بيانات مختلفة بين البيت الأبيض والخارجية قوضت الدور الأميركي وأفشلت الوساطة الديبلوماسية. وفي كوريا الشمالية، اختار ترامب أن يذل وزير خارجيته علناً الأسبوع الماضي بتأكيد أن أي محادثة لن تجدي نفعاً بعد ساعات من إعلان تيلرسون أن هناك قناة ديبلوماسية مفتوحة مع بيونغيانع.

الخلافات بين ترامب وتيلرسون تشمل أيضاً انسحاب ترامب من اتفاق باريس للمناخ، مواقف الرئيس حول التجارة الحرة والتبادل التجاري مع المكسيك، والعلاقة مع مصر حيث كان للوزير الدور الأساسي في قطع جزء من المساعدات الشهر الفائت وبسبب قضايا حقوق الإنسان وإغلاق منظمات غير حكومية.

كل هذه الخلافات كان يمكن أن تكون ضمن النطاق المعتاد والتقليدي بين البيت الأبيض والخارجية كما كانت بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون أو جورج بوش وكولن باول قبلاً. إلا أن إضافتها لأداء تيلرسون الميؤوس منه في الوزارة إدارياً ولوجيستياً بات يستعجل اليوم خروجه. فحتى الساعة تبقى مقاعد مساعد الشرق الأدنى ونائبي الوزير وسفارات حيوية فارغة. ديفيد ساترفيلد تمّ تعيينه في شكل موقت، ومايكل راتني يتولى اليوم حقائب سورية والعراق و«داعش» وعملية السلام ولبنان بسبب الفراغ الحاصل. أما الديبلوماسية الأميركية الفذة فهي غائبة في المنطقة وتيلرسون بعد جولته اليتيمة في الخليج، يفضل مزاولة مكتبه والتركيز على ملف واحد في آن فيما يتولى صهر الرئيس جاريد كوشنير ووزير الدفاع جايمس ماتيس الملفات الأخرى.

تسريب اسم بومبيو للمنصب يعكس جدية كبيرة لدى ترامب في استبدال تيلرسون. فمدير الـ «سي.آي.أي» مقرب من نائب الرئيس مايك بنس ومن النخبة الدفاعية وله خبرة طويلة تسهل المصادقة على تعيينه في الكونغرس. والأهم أن علاقته جيدة بترامب، وأقرب إلى وجهة نظر الرئيس الأميركي حول إيران وسورية والحرب ضد «داعش». أما تيلرسون، فالسؤال حول استقالته بات في خانة متى وليس هل، بعد تسعة أشهر من التهميش والفراغ في أروقة الديبلوماسية الأميركية.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع
فريق العمل
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى