اليوم، هناك أربعة أقطاب من شيعة العراق لا يسرّهم نفوذ إيران الكاسح في بلدهم. وأغلب الظنّ أنّهم، وبغضّ النظر عمّا يقولون، لا يمانعون في نفوذ آخر يوازن النفوذ الإيرانيّ، متيحاً للوطنيّة العراقيّة أرضاً أوسع للمناورة.
حيدر العبادي، كرئيس حكومة، يعرف أنّ الدولة التي يقف على رأسها ستبقى بلا رأس في ظلّ هذا التضخّم الإيرانيّ. السيّد علي السيستاني، المرجع الشيعيّ الأعلى والأوّل، يعرف أنّ عمائم قم ستبقى قيداً على عمامته. السيّدان مقتدى الصدر وعمّار الحكيم، ممثّلا العائلتين الأوثق صلة بـ «الشيعيّة العربيّة» في العراق، يعرفان أنّ قدرة الشيعيّة الإيرانيّة على القضم أقوى من أن يعيقها اعتداد العشائر الشيعيّة العربيّة بأصلها وفصلها.
هؤلاء الأربعة يعبّرون عن ذلك، كلّ بطريقته. حيدر العبادي قد ينشئ «تكتّلاً انتخابيّاً جديداً»، وقد يؤسّس حزباً جديداً يسمّيه «الحرّيّة وإعادة البناء» ينشقّ به عن «حزب الدعوة» الذي تقيم زعامته الفعليّة في يد نوري المالكي. والأخير، كما نعلم، مُعتَمد إيران الأوّل في بغداد والرقيب المباشر على العبادي. السيستاني يحتجب وينكفئ في الملمّات إلى خطوط دفاعه الخلفيّة: إلى الصلاة والتضرّع، وربّما إلى تمنّيات لا يُهمَس بها إلى أقرب المقرّبين. الصدر يزور الرياض للمرّة الأولى منذ عقد ونيّف. عمّار الحكيم هو آخر الأخبار: ينشقّ عن حزبه وحزب أهله «المجلس الإسلاميّ الأعلى» أو يشقّ حزب أهله عنه. يؤسّس «تيّار الحكمة الوطنيّ». يتذرّع بـ «صراع الأجيال» الذي يفصل الشبّان عن جيل مؤسّسي «المجلس» من ذوي الهوى الإيرانيّ، والذين أسّسوه، مع عمّ عمّار، في طهران. يستذكر، على الأرجح، أنّ الإيرانيّين سبق لهم أن شقّوا «منظّمة بدر» عن آل الحكيم ومجلسهم.
الأربعة يعرفون، كلٌّ بطريقته، أنّ إيران سبق لها أن أدمتهم واحداً واحداً، كما يعرفون أنّ القواعد الشيعيّة العريضة صارت، بخليط من ترغيب وترهيب، ومن إفساد وتوظيف وسلاح وإيديولوجيا، تقبل من طهران ما لم تكن تقبله في السابق، وقد ترفض منهم ما لم تكن ترفضه في السابق. لكنّ أهمّ ما يعرفونه أنّ حكّام إيران... يقتلون. يفعلون هذا، كمثل أيّ نظام إيديولوجيّ وتوسّعيّ، بلا رحمة وبلا تردّد. وأن واحداً من أهداف «الحرب المقدّسة» التي تخاض في الشمال السنّيّ تأبيد هذه القدرة الإيرانيّة على القتل وعلى التحكّم.
أمّا من أراد إجراء حساب صارم، فلن تفوته مسؤوليّة الأقطاب الأربعة، ولو بتفاوت، عمّا وصلت إليه الأحوال. آخر تعابير تلك المسؤوليّة أنّ العبادي حسم الجدال المتعلّق بمشاركة «الحشد الشعبيّ» في معركة تلّعفر المرتقبة. لقد قرّر، بعد طول تمعّن، تأييد المشاركة.
لكنْ من دون التقليل من أهميّة التطوّرات الجديدة، ومن خطورتها، فإنّ قائمة طويلة من المهمّات تنتظر القادة الأربعة كي ينجزوا ما يتوقون إلى إنجازه: درجة أعلى في بلورة فكرة المعارضة ولغتها تواكبها درجة أعلى من التقارب والتنسيق بين الأربعة أنفسهم. ديمومة وتماسك في المواقف التي تُتّخذ بحيث لا تنقلب، بفعل المزاج، إلى شيء آخر في اليوم التالي. فرز ما هو ممكن اليوم عمّا لا بدّ من تأجيله إلى الغد. مدّ جسور أقوى وأوضح إلى شركاء الوطنيّة العراقيّة، أي السنّة العرب والأكراد...
والحال أنّ الهجمة الإيرانيّة الراهنة على المنطقة ليست بسيطة، وهي في بغداد تكلّل انتصاراتها، وفي بغداد تبدأ هزيمتها. وليس متاحاً للعراقيّين، والشيعة العرب منهم خصوصاً، أن يتمتّعوا بكماليّات الجمع بين تلك الهجمة وبقاء العراق: فإمّا توسّع إيرانيّ يوالي قضم العراق، وقضم المنطقة انطلاقاً منه، وإمّا عراق سيّد خارج النفوذ الإيرانيّ. وسيادة العراق هي، بالتعريف والضرورة، تداعٍ في نفوذ إيران. المسألة إمّا وإمّا.
لقد كان من نتائج ذاك النفوذ أنّ مفهوم المقاومة بات لا يعني للشيعة العراقيّين إلاّ «ثورة العشرين» ضدّ الإنكليز! أغلب الظنّ أنّ هناك معاني أخرى للمفهوم أشدّ راهنيّة وإلحاحاً بكثير.
أخفق «حزب الله» في حسم معركته مع فلول «جبهة النصرة» في جرود عرسال. فتدخلت «الدولة» لإنقاذ «الدويلة». تمكن اللواء عباس إبراهيم مدير جهاز «الأمن العام» الرسمي، من عقد صفقة هشة مع «جبهة فتح الشام» أحد فصائل «النصرة» المعسكرة في الجرود، لوقف القتال مع الحزب.
شكراً للدولة. فمصداقية اللواء عباس أقوى من مصداقية «حزب الله». وعليه أن يستكمل الصفقة، بإقناع فصائل «النصرة» بالهجرة إلى محافظة إدلب في شمال غربي سوريا التي باتت ملجأ للفصائل الدينية المتزمتة والمعتدلة.
لكن يتعين على «حزب الله» أن يشرب أولاً كأس الهزيمة حتى الثمالة. فيتوسل بشار للسماح بتمرير فلول «النصرة» إلى إدلب. ثم عليه أن يسمح للجيش اللبناني بتصفية الجيب الحدودي الذي تحتله «داعش» في جرود «رأس بعلبك».
هل يستطيع الجيش الحسم مع «داعش»؟ أم يجب على اللواء عباس التوسط لوقف القتال. والتفاوض مع الدواعش للمغادرة... إلى أين؟ لم تعد هناك ديار «للدولة الداعشية». وعلى «داعش» أن يقبل بخيارين أحلاهما مر: الاستسلام، أو القتال حتى الموت.
لماذا باتت الحرب التي أشعلها الحزب والجيش صعبة الحسم للغاية؟ السبب كون الحدود اللبنانية/ السورية غير مرسومة بدقة. هناك من يقول إن عرسال ورأس بعلبك أرض سورية. السبب الآخر غياب تأييد الشارع الإسلامي/ المسيحي لحروب «حزب الله». فما الفائدة التي يجنيها لبنان، من إحلال مرتزقة إيران محل فلول «داعش» و«القاعدة» على الحدود السورية/ اللبنانية؟
السبب الثالث مسايرة الجيش اللبناني لـ«حزب الله». فقد غض الجيش النظر عن توريط إيران للحزب في الحرب السورية. وعن تسليحها للحزب بالصواريخ والأسلحة الثقيلة، بحيث بات أقوى من «جيش الوطن». ثم عن هيمنة «دولة» الحزب على مؤسسات «الدولة الشرعية». ووصلت هذه الهيمنة إلى صيدا وبيروت الغربية (السنية) التي اجتاحها الحزب قبل تسع سنوات.
هناك أكثر من شاهد على هذه الهيمنة الكريهة. فقد ترافقت حرب «حزب الله» بحملة عنصرية على السوريين اللاجئين. وباجتياح الجيش لمخيماتهم المجاورة لعرسال. ووفاة أربعة إلى عشرة من المعتقلين تحت التعذيب. ونحج اللواء عباس في الإفراج عن أسرى الحزب لدى «جبهة النصرة»، فيما بقي مصير جنود الجيش الأسرى مجهولاً: هل قتلوا أم جرحوا بنيران «حزب الله» الصديقة؟ هل أقدمت «النصرة» على إعدامهم انتقاماً من الحزب؟ أم هل أفلتوا فعادوا إلى أهاليهم سراً؟
لا يعني التذمر السياسي والشعبي من «حزب الله» أن اللبنانيين منحازون أو متعاطفون مع التنظيمات المتزمتة المتسللة إلى الأراضي اللبنانية. فقد فقدت هذه التنظيمات ذرائع وجودها، لتعاملها بقسوة وصلت إلى حد الوحشية مع المدنيين العرب في سوريا والعراق. وكان تفسيرها الضيق للدين، وتطبيقها المتشدد لأحكام الشريعة غير مقبولين لدى سائر المذاهب الفقهية الإسلامية.
ربما كان من الأفضل تأجيل زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى واشنطن. فقد قال إنه ذاهب للدفاع عن «المؤسسات الشرعية» للدولة اللبنانية، بما فيها المؤسسة العسكرية. غير أن الزيارة ترافقت مع شن «حزب الله» حربه الجديدة داخل لبنان. ففسرت الزيارة لدى دوائر العاصمة الأميركية بأنها جاءت للدفاع عن «حزب الله». وعن هيمنته على الدولة اللبنانية.
أجّل الرئيس دونالد ترمب استقبال الحريري إلى اليوم الخامس من الزيارة. ثم فاجأه خلال المؤتمر الصحافي المشترك بشن حملة عارمة على إيران و«حزب الله». ووصف الحزب بأنه يهدد الاستقرار والأمن في المنطقة.
كان على الدبلوماسية اللبنانية التمهيد جيداً لزيارة الحريري. وتبصيره بالمطبات التي قد يواجهها في واشنطن. فقد سبق الزيارة تخفيض إدارة ترمب ولجان الكونغرس الدعم العسكري الأميركي للجيش اللبناني بمعدل 82 في المائة. واتهام أطراف داخله بتسريب أسلحته الأميركية إلى «حزب الله». فعزز الحزب هيمنته على لبنان. وحربه إلى جانب بشار ضد المدنيين السوريين.
الجيش اللبناني ينفي بشدة هذه الاتهامات. وعلى الرغم من ازدياد مصداقيته الأمنية لدى اللبنانيين عموماً، فإنه لا يستطيع إنكار حمايته لجحافل الحزب. وتأمين وصولها إلى الحدود السورية. وفيما يتم اعتقال مسلح (سني) يحمل مدية أو مسدساً، فالجيش لا يستطيع مصادرة 55 ألف صاروخ كدستها إيران في طيات الحزب العسكرية، ومستودعات الذخيرة الخطيرة في مناطق مدنية آهلة بالسكان الشيعة.
ملابسات الزيارة الحريرية للعاصمة الأميركية انعكست فوراً على الموقف السياسي والشعبي المتوتر في لبنان. استغرب «حزب الله» حملة الحريري عليه وهو شريك له في الحكومة التي يترأسها، فيما اعتبرت قطاعات وتيارات في الشارعين الإسلامي والمسيحي مواقف الحريري، أنها تضمنت تقديم «تنازلات» للحزب ولحلفائه ممثلين بـ«التيار الوطني الحر» الذي يتزعمه الرئيس ميشال عون. ويديره صهره وزير الخارجية. وبالداهية نبيه بري الرئيس المزمن لمجلس النواب، والحليف الأول لنظام بشار في لبنان.
لكن تحركات الساسة السنة كانت أصرح. وأقوى من موقف الشارع الشعبي. أقول هنا إن الزعامات السنية المتعاقبة منذ أجيال، تعيش دائماً في انتظار ضعف وارتباك موقف زميلهم رئيس الحكومة، للتحرك ضده أملاً في الحلول محله.
ولذلك جاء موقف الحكومة السعودية حكيماً، في إسناد رئيس الحكومة، لتعزيز الصلاحيات والمسؤوليات التنفيذية لمجلس الوزراء اللبناني، حفظاً للتوازن بين الطوائف الرئيسية الثلاث (الموارنة. السنة. الشيعة) وتأميناً لاستقرار «الدولة الشرعية» في مواجهة شغب «الدويلات».
لم يعد سراً أن هناك اليوم زعامات سنية لبنانية قد فرغ صبرها وهي في انتظار دورها لتولي منصب رئاسة الحكومة. لكنها لا تعارض مباشرة سعد الحريري. هذه الزعامات توَّاقة لإثبات جدارتها. وكفاءتها في الحكم. والحفاظ على استقرار لبنان.
وأستطيع هنا أن أسمي أسماء متداولة كمرشحة لتولي منصب رئاسة الحكومة: اللواء المتقاعد أشرف ريفي المدير السابق لجهاز «قوى الأمن الداخلي» الذي كشف قسم العمليات فيه عدة «مؤامرات» على أمن لبنان. وكافح حلقات التجسس الإسرائيلي. ونبّه القوات السورية و«حزب الله» إلى الاختراقات الإسرائيلية لها. وقبل ريفي هناك «صائم الدهر» المستمسك بالله عبد الرحيم مراد. ولا أنسى أيضاً الملياردير نجيب ميقاتي الذي يعرف أكثر من الحريري كيف يتنسم هبوب رياح التغيير، تلك القادمة من الخليج. أو عبر الحدود مع سوريا الأسد.
لم يسبق أن كانت القيادة الإيرانية وامتدادات فيلق القدس التابع للحرس الثوري شديدة “التهذيب” حيال الإجراءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، كما شهدنا خلال الأسابيع القليلة الماضية، والحديث عن “التهذيب” هنا يفرضه منطق الأيديولوجيا الإيرانية التي طالما بررت تمددها ودعمها لمجموعات تابعة لها في معظم الدول العربية، في سياق ما تسميه تحرير القدس أو إنهاء إسرائيل من الوجود إلى الإدعاء بالقدرة على تدمير إسرائيل خلال سبع دقائق ونصف الدقيقة، فالقضية الفلسطينية هي الذريعة التي بها نجحت قيادة ولاية الفقيه في اختراق المجتمعات العربية ودولها، وأظهرت قدرة على العرقلة والتدمير من دون أن تستطيع هذه “القيادة الإلهية” أن تقدم نموذجا سياسيا ودنيويا يظهر مدى قدرتها على تقديم مثال حي وجذاب لإطار إنساني أو إلهي أو دستوري يفضح النماذج السياسية القائمة في الدول العربية.
الأيديولوجيا الإيرانية قدمت أسوأ النماذج على صعيد الاجتماع السياسي في المنطقة العربية، ليس بسبب الدمار الذي رافق سيطرتها الجزئية أو الكلية في بعض الدول العربية، بل في تلازم هذه السيطرة مع الانقسام داخل هذه الدول وتفتت مجتمعاتها وبرز المثال الإيراني عربيا متفوقا على كل أعداء المنطقة في أدلجة الانقسام باسم الدين أو المذهب وترسيخه.
رفعت هذه الأيديولوجيا شعار وحدة المسلمين كسبيل لنهوض الأمة العربية والإسلامية من كبوتها، وطريقا للتخلص من النفوذ الغربي في المنطقة، لكنّها فعليا كانت في العقد الأخير أكثر من تفوق في الاستثمار في تفتت الأمة وانقسامها، وأكثر من نأى عن مواجهة من يفترض أنّهم أعداء هذه الأمة بحسب ما روجت القيادات الإيرانية منذ نحو أربعة عقود، فأكبر صفقة أنجزتها إيران مع الغرب، أي المشروع النووي الإيراني، تمّ بقوة طاقة مشاركتها عمليا في تدمير العديد من الدول العربية، وهنا لسنا في إطار تبرئة النظام العربي من مسؤولياته على هذا الصعيد، لكن ما لا يجب أن يغيب عن بال المراقب وهو يقيم السياسة الإيرانية في المنطقة العربية، أنّها كانت من الأساس تصف الأنظمة العربية على أنّها أنظمة لا تمثل شعوبها، بل خانت دولها والأمة، وهذا خطاب مستمر ولا يزال منذ عقود.
وبالتالي لأن الأيديولوجيا الإيرانية تنطلق في مشروعها في المنطقة العربية من هذا الأساس وتضيف إليه أنّها تفضح تآمر العرب على فلسطين، فإن الحصيلة الأولية التي يمكن تلمسها لهذا المشروع على امتداد نفوذه هو أن فيلق القدس كان شديد الاحترام للمصالح الأميركية والإسرائيلية. لم يطلق يوما رصاصة واحدة في وجه إسرائيل، كما كان ولا يزال يفعل حيال العديد من القوى التي تهدد نفوذ إيران وأذرعها في العراق أو سوريا، بل إنّ السياسة الإيرانية الإسلامية أو القومية تتناغم مع أيّ اقتراح يعيد بلورة المجتمعات على أساس مذهبي أو طائفي، إذ تتهاوى كل الشعارات عن وحدة المسلمين أمام أطماع السيطرة والنفوذ، أو في سبيل المصالح المباشرة للسلطة الإيرانية، ودائما على حساب وحدة المجتمعات الوطنية أو وحدة المسلمين.
في المقلب اللبناني وهو البلد الوحيد الذي يمكن أن نقول إنّ إيران من خلال حزب الله تسيطر على مفاصل الدولة فيه، لم يتح لحزب الله أن يتعامل مع هذه الدولة باعتبارها وطنا ودولة يحق له أن يكون موجودا بكل ما تقتضيه شروط الدولة الطبيعية.
فحزب الله طالما ميّز نفسه عن بقية اللبنانيين باعتباره قوة مقاومة تواجه الخطر الإسرائيلي، وتروج دائما للقضاء على الكيان الصهيوني وتحرير القدس، هو دخل إلى سوريا وفي إحدى الذرائع التي روج لها لتبرير قمع الثورة السورية ، أنّه يريد أن يواجه المشروع الأميركي الصهيوني في هذا البلد، فكانت الحصيلة أنّ المحترم في سوريا من قبل إيران هو المشروع الأميركي الصهيوني، وهذا ما أكده اتفاق الجنوب السوري الذي طرد إيران وأتباعها من جنوب سوريا من دون أيّ اعتراض إيراني، رغم أن وظيفة هذا الاتفاق ضمان أمن إسرائيل، وهذا ما تؤكده القواعد الأميركية التي تقام في سوريا من دون أن تتلقى أي تهديد إيراني أو من قبل حزب الله. ما أنجزته إيران في سوريا قمع المعارضين السوريين أما العدو الإسرائيلي بحسب التنظير الإيراني فلا رصاصة وجهت لجندي إسرائيلي أو أميركي.
بحجّة مقاتلة إسرائيل احتفظ حزب الله بالسلاح في لبنان، لكنّه استقوى على اللبنانيين والسوريين، وبحجّة القدس دخلت إيران إلى العديد من الدول العربية، لكن حينما قامت إسرائيل بتهديد المسجد الأقصى بإجراءات عدوانية، كان حزب الله كما إيران منهمكا في حرب أخرى عنوانها قتال الإرهابيين في جرود عرسال اللبنانية والقيام بحملة تطويع للبنانيين باعتباره ينوب عن جيشهم في مواجهة هذا الخطر الذي كان هو أحد مسبباته، وأول من استثمر هذا الوجود لمصالح إيرانية ولحماية سلاحه الذي لا ينافس إلا سلاح الشرعية اللبنانية ولا يهدد فعليا إلا قيام دولة لبنانية ذات سيادة.
أوراق التوت تتساقط عن عورة المشروع الإيراني لتكشف أنه مشروع رفع شعار المقاومة والغاية هي السلطة والتحكم باللبنانيين والسوريين وعدم المس بالمصالح الإسرائيلية والغربية في هذين البلدين، رفع شعار وحدة المسلمين وأفضل من استثمر في الشروخ المذهبية التي قسمت المنطقة وقزمتها فيما حزب الله يعلن عن انتصار وراء انتصار. تتدمر المنطقة وحزب الله منتصر، وإيران تبتهج بانتصارها، تُحاصَرُ القدس فلا نسمع أيّ تهديد إيراني شبيه بما دفع حزب الله قبل خمس سنوات إلى الزج بالآلاف من مقاتليه في سوريا لأنّه اعتبر أنّ مقامات شيعية مهددة في سوريا، أولى القبلتين لم تهز وجدان حزب الله، وإذا أحسنا الظن بنوايا حزب الله وإجراءاته فإنّ القدس ليست على وزن دمشق، ولا المسجد الأقصى بأهمية مقام السيدة زينب في دمشق، وإذا أسأنا الظن فليست الشعارات الدينية إلا وسيلة يجري استخدامها وقت الحاجة.
ما عاد الحزب الإيراني يُحْسنُ إخفاء نياته ومقاصده منذ سنواتٍ طويلة. وقد كان هناك من قال من المراقبين منذ عام 2008 إنّ صوت الأمين العام للحزب هو من ضمن العُدَّة الإيرانية للتخويف وللإنذار، ولذلك فإنّ الإعلان عن الحرب مقصود، بل والمقصود أيضاً التهديدات بالقتل التي صدرت عن بعض أبواق الحزب ومشايعيه في لبنان في الأيام الأخيرة.
إنّ المحيِّر في هذه التهديدات أنها تصطنع أجواء حربٍ على خصومٍ ما عادوا موجودين، وإن كانوا موجودين بأشخاصهم، فإنهم لا يُعالنون الحزبَ وميليشياته العداء. ولذا فالمرجح أنّ تكونَ المعركة كلها معركةَ الصوت العالي، ولا شيء غير. إنما الخَطرُ فيها إرادة الوصول إلى أهداف مُشابهة لتلك الأهداف المتحققة من وراء مقاتلة إسرائيل!
العنوان الحالي في الحرب على عرسال وجرودها أنها معركةٌ هائلةٌ ضد الإرهاب، ولحماية لبنان منه. وكان الحزب قد مضى إلى سوريا أواخر عام 2012 ليقاتل التكفيريين والإرهابيين للحيلولة دون دخولهم إلى لبنان. ولأنّ حركة 14 آذار كان لا يزال فيها حياة وقوة، فقد تمكنت أواخر عام 2011 رغم الانقلاب على حكومة الحريري، من جمع سائر القوى السياسية اللبنانية عند رئيس الجمهورية ميشال سليمان، حيث صدر إعلان النأي بالنفس عن المجريات السورية. إنما بعد شهور تجاوز نصر الله ذلك ومضى للقتال في سوريا بدءاً ببلدة القصير على الحدود، ولماذا؟ لأن التكفيريين الإرهابيين يوشكون أن يزيلوا التشيُّع ومزارات آل البيت من سوريا ولبنان!
وقد انقضى عامٌ أو أكثر على تدخل الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة في سوريا قبل أن «يظبط» خطاب الحملة على الإرهاب. وكان الذي سبق لاستعماله النظام السوري الذي اعتبر كل خصومه إرهابيين. أما حسن نصر الله فقد ظلَّ لسنتين (2013 - 2015) يستخدم مصطلح التكفيريين، إشعاراً للأنصار قبل الخصوم أنّ المعركة طائفية. كان يريد حشد الشيعة بالزعم أنّ التفكيريين السنة يريدون إبادتهم وهدم رموزهم الدينية. وقد بلغ من ثورانه التحشيدي القول للكوادر: إن لم تقاتلوهم في سوريا، فستضطرون لقتالهم في النجف وقم! وفي هذه الفترة كان الجدال بلبنان حول تدخله في سوريا ذا شقين؛ الأول أنّ الحزب بسلاحه غير الشرعي ليس من حقه القتال بداخل الحدود، فكيف بما وراء الحدود، لأن معنى ذلك أنه لا سيادة للدولة، وأنّ هذه الميليشيا هي التي تقرر الحرب والسلم. والثاني أنّ الوطنيين اللبنانيين مسلمين ومسيحيين لا يريدون ولا يقبلون قَتْلَ الشعب السوري وتهجيره بأي ذريعة، لأن ذلك حرام وجريمة من الناحية القومية والأخرى الدينية. وكان نصر الله ومعه التيار الوطني الحر يجيب بأنّ المستنكرين للتدخل في سوريا هم حلفاء للتكفيريين والإرهابيين. وتحدانا نصر الله أن نندفع وراءه لنقاتل كتائبه على أرض سوريا ما دمنا حريصين على الدفاع عن التكفيريين!
ومع ظهور «داعش»، وتجدد وتمدد حرب التحالف الدولي على الإرهاب بعد عام 2014، استمات الإيرانيون، واستماتت ميليشياتهم المتجمعة والمتحشدة في سوريا والعراق، في الانضمام إلى تلك الحرب للإفادة من القوة الأميركية والأخرى الروسية، في مكافحة الإرهاب الداعشي من جهة، وفي التنافس فيما بينهما من جهةٍ أخرى. وما واجه الإيرانيون وميليشياتهم «داعش» مباشرةً لا في سوريا ولا في العراق. وفي كل مرةٍ تدنو فيها الجبهات، كان يمكن أن يحصل اشتباك مع «النصرة» وحلفائها، وإن لم يكن ذلك غالباً؛ أما «داعش» فقد كان ينسحب من وجه قوات النظام السوري أو العكس بمعنى أن ينسحب النظام والإيرانيون والمتأيرنون من وجه «داعش» كما حصل في تدمر وفي البادية، وفي دير الزور ونواحي حمص، وهو يحصل الآن في الجرود الشمالية الغربية للبنان مع سوريا!
ما حقيقة المعركة «الهائلة» التي تحصل الآن في جرود عرسال على الحدود الشرقية للبنان مع سوريا؟ المنتشرون هناك من المسلحين السوريين، هم في الأصل من سكان القصير وقراها، والقلمون السوري، وقراه. وقد شردهم النظام مع عائلاتهم، وشردهم الحزب مع عائلاتهم. ولا شك أنه مع الألوف المؤلَّفة من النازحين القسريين من النساء والأطفال والشيوخ، كان هناك مئات من الشبان الذين كانوا مسلحين وتشردوا في الجبال، أو تسللوا بين النازحين إلى المخيمات العشوائية، أو أنهم وهم المشردون في الجبال كانوا يأتون إلى عائلاتهم أو لاستمداد الغذاء والدواء. أما «النصرة» و«داعش» فهي تسميات لاحقة على تشردهم في الجبال، واستناداً إلى التقسيمات القروية والجهوية؛ إذ تظهر بينهم شخصيات قيادية عندها قدرات تنظيمية، وهمها الرئيسي تأمين الغذاء والدواء وبعض السلاح في تلك الشخاريب والجبال العالية والوديان السحيقة. ومن طريق هذه التسميات دخلت عليهم الجهات المموِّلة، وظهر بينهم المفاوضون والمورِّدون والمصدِّرون والخاطفون والمخطوفون. بل وقد تبين نتيجة القتال الأخير مع الحزب أنّ عندهم في تلك الشواهق والسواحق التي لا يسكنها الإنسان ولا الحيوان مئات من العائلات التي عمل الصليب الأحمر على إجلائها إلى عرسال، بينما كان الهدف المعلن للحزب إجلاءهم عنها! وقد قال كاتب شيعي من المناهضين للحزب: إنّ الأولى بالحزب كان لا أن يرسل لقتال هؤلاء البائسين مقاتلي نخبته، بل مهرِّب المخدِّرات الشيعي الأبرز في المنطقة واسمه نوح زعيتر!
بدأت هذه الحرب إعداداً للنصر الإلهي الجديد قبل ثلاثة أشهر عندما تصاعدت حملات جبران باسيل على اللاجئين من جهة، وحملات نصر الله على إرهابيي عرسال والجرود من جهةٍ ثانية. ورغم أن نصر الله أعلن عن انسحابه من الجرود وترْكها للجيش؛ فإنه وفي خطاباتٍ متتالية كان يطلب من المسلحين وقد خسروا المعركة أن ينسحبوا، ويطلب في الوقت نفسه من الجيش اللبناني أن يقاتلهم أو أنه سيقوم بذلك بنفسه. ولأنّ الجيش تردد بعد سوء تصرفه بعرسال، وغضب السنة، والأميركيين، فقد اكتفى بتطويق البلدة والمخيمات والحيلولة دون نزول المسلحين إذا تضايقوا إليها؛ فاندفعت ميليشيات نصر الله لتحقيق النصر المؤزر على أولئك البائسين المشردين تحت اسم الإرهاب. وبالفعل وخلال ثلاثة أيام لا أكثر انتهى كل شيء مع «النصرة»، وهي هناك اسم دون مسمى. فقسم تحت اسم «سرايا أهل الشام» انقسم واستسلم، وقسم انضمّ إلى «داعش»، أما مجموعة التلّي فقد تقبل أخيراً الذهاب إلى إدلب. الملف الآخر المجهول هو للمسمى «داعش» على الجانب الشمالي الغربي لتلك الجرود. وإذا راعينا السوابق التي تحدثنا عنها، فسينسحب «داعش» إلى شمال سوريا دون قتال، إن لم يكن قد فعل!
لماذا كانت المعركة الوهمية إذن؟ لثلاثة أسباب: إيجاد خط آمِن شيعي لبناني فيما بين القلمون وحمص واللاذقية بالمشاركة مع النظام السوري (سوريا المفيدة) - السيطرة على حدود لبنان الشرقية بغطاء الجيش اللبناني أو دون غطاء - والصراع لكي يحصل في لبنان ما حصل بالعراق من شرعنةٍ لجيشين: الجيش الرسمي، وميليشيا حزب الله، التي تناظر الحشد الشعبي بالعراق!
إنها عودةٌ للصراع على لبنان والتحكم فيه داخلياً وخارجياً. أما التهديدات بالقتل، وبعظمة الانتصار على أبو مالك التلي من جبهةٍ أخرى، فالمقصود بها إخضاع المعارضة الخفية والتي يمكن أن تظهر في أي لحظة. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
فور انتهاء العشاء السري بين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في هامبورغ، تدفقت الإعلانات الروسية عن إقامة مناطق «خفض التوتر»، التي كان قد اتفق عليها في آستانة في شهر مايو (أيار) الماضي، ثم تطور الحديث عن «خفض التوتر» إلى إعلانات لوقف النار، لتتدفق بعدها قوات المراقبة الروسية إلى سوريا!
في أقل من أسبوعين أعلنت موسكو عن اتفاق لوقف النار في جنوب غربي سوريا، يشمل محافظات درعا والقنيطرة والسويداء، ثم عن اتفاق مشابه في الغوطة الشرقية، يفترض في الأساس أن يتوسع ليشمل محافظة حمص، وفي نهاية الأسبوع لمحت إلى أن محافظة إدلب ستكون المنطقة الثالثة، وكان إبراهيم كالين، المتحدث باسم إردوغان، قد أعلن أن تركيا ستكون حاضرة بقوة في إدلب إلى جانب روسيا لضبط خفض التصعيد، لكن سيطرة «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) على كامل إدلب فرملت مرحلياً الحديث عن هذه المنطقة.
هل حصل الاتفاق بين ترمب وبوتين على كل هذا في خلال اجتماعهما مرتين في هامبورغ؟ وهل كانت الساعات الثلاث في الاجتماعين كافية للتفاهم ولو على طريقة افتح يا سمسم؟ طبعاً لا، لهذا يبدو أن كل شيء كان يجري على خطين موازيين لمحادثات آستانة؛ خط المحادثات المكمِّلة بين عسكريين أميركيين وروس بمشاركة أردنية في عمان، وخط تنسيقي يربط محادثات عمان وآستانة بمشاورات تفصيلية مع واشنطن!
الكشف عن مشاورات حثيثة بين موسكو وتل أبيب حول اتفاق وقف النار من القنيطرة إلى الحدود الأردنية، الذي أبعد إيران و«حزب الله» مسافة 30 كيلومتراً عن الجولان، توازى مع الكشف عن مشاورات روسية إيرانية، لترتيب صفقة موافقة طهران على اتفاق جنوب غربي سوريا، لقاء احتمالات إمساكها بالممرات بين العراق وصولاً إلى لبنان، عبر المعابر التي تخترق محافظة حمص من محيط دير الزور إلى امتدادات الغوطة الشرقية وتلال عرسال والقلمون، حيث تندلع الآن معارك النظام السوري و«حزب الله»، للسيطرة على هذه المناطق الجبلية المهمة.
كانت الدبلوماسية السرية ناشطة منذ أشهر بين واشنطن وموسكو. الروس نشطوا عبر كلمتهم المسموعة في إيران، والأميركيون تحركوا عبر كلمتهم النافذة في دمشق والمسموعة في تل أبيب، أما تركيا الشريك في آستانة فقد غرقت في الغيظ إلى درجة السعي للتزود بصواريخ «إس-400» الروسية، نكاية بالأميركيين الذين يواصلون دعمهم القوي لـ«قوات سوريا الديمقراطية» ذات الأرجحية الكردية التي باتت تسيطر على نصف الرقة!
وسط هذه التطورات كان مفاجئاً أن تؤكد تقارير دبلوماسية صحة ما نشرته «واشنطن بوست»، من أن ترمب أوقف برنامج «CIA» لدعم المعارضة السورية، ووصفه بأنه مُكلف وخطير وغير فعّال، على خلفية توسيع إطار التعاون مع موسكو، الذي تقول الصحيفة إنه بات نقطة أساسية في استراتيجية ترمب حيال الأزمة السورية. رغم تغريدات النفي التي بثها ترمب، تؤكد التقارير المذكورة أن كل شيء كان يُعَد سلفاً قبل قمة هامبورغ، وأن ترمب قرر إلغاء البرنامج منذ شهر خلال اجتماع مع مدير المخابرات المركزية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، وفي حين يؤكد مسؤولون في الإدارة الأميركية، أن قرار ترمب لم يأتِ استجابة لشروط تتصل بـ«مفاوضات الأقنية المتصلة» بين آستانة وعمان وواشنطن، يرى الذين يدعمون البرنامج أن «قرار ترمب شكّل تنازلاً كبيراً، وأن بوتين هو الفائز في سوريا»!
ورغم أن الجنرال طوني توماس قائد القوات الخاصة الأميركية هو الذي كان قد أعلن عن وقف البرنامج، مؤكداً أنه لم يُتخَذ إرضاء لموسكو، بهدف التوصل إلى تسوية معها للنزاع في سوريا، سارع مسؤولون في إدارة ترمب إلى انتقاد القرار، معتبرين أنه يخدم رؤية روسيا وإيران والنظام السوري، وثمة من يتحدث هنا عن مقايضة أعطت لروسيا السيطرة على جنوب ووسط سوريا، في مقابل ضمان سيطرة الأميركيين على الشمال الشرقي وتحديداً في الحرب على «داعش»!
هذه الصفقة جرت وراء أبواب مغلقة تحضيراً لقمة هامبورغ، لكن سيرغي لافروف كعادته يرسم صورة زهرية تخلع على بوتين أجنحة الملائكة بالقول إنه ينطلق دائماً من تطابق الأهداف الأميركية الروسية فيما يخصّ تحقيق المهمات الرئيسية، التي تكمن في محاربة الإرهاب واجتثاث تنظيمي «داعش» و«النصرة»، إضافة إلى تنفيذ الاتفاقات حول التسوية السياسية على أساس القرار «2254».
وإذا كان الاتفاق على إعلان مناطق وقف النار جاء كما يقول لافروف، نتيجة اجتماعين في هامبورغ بين ترمب وبوتين، سبقتهما ثلاث مكالمات هاتفية، وأن «في إمكانهما العمل معاً وإيجاد حلول تصب في مصلحة التسوية الإقليمية والتسوية العالمية الواسعة لمختلف المشكلات»، فإن هذا الكلام يشكّل مؤشراً على رغبة موسكو في تأكيد ما سعى إليه بوتين دائماً، وهو ليس إعادة الحضور الروسي على خريطة السياسة الدولية، بل العودة حتى إلى نظرية «الاستقطاب الثنائي» من دون الانزلاق بالضرورة إلى مناخات الحرب الباردة!
بالعودة إلى التطورات السورية، تجري عمليات وقف النار من الجنوب الغربي إلى غوطة دمشق الشرقية، في انتظار ريف حمص الغربي، وانقشاع الوضع في إدلب وأجزاء من ريفي حلب واللاذقية، بطريقة تؤكد أن بوتين يتصرف بذهنية الأمر لي، فقد صادق مجلس الاتحاد الروسي يوم 19 الجاري على البروتوكول الذي أقره مجلس الدوما يوم 23 الجاري، والذي يعطي موسكو حق استخدام مطار حميميم وقاعدتها الجوية كقاعدة روسية مطلقة السلطة ودون مقابل، لمدة 49 عاماً قابلة للتمديد التلقائي 25 عاماً.
على خط موازٍ توسّع موسكو نقاط سيطرتها من درعا إلى الغوطة الشرقية عبر إقامة بوابات للدخول والتفتيش ونقاط وقواعد عسكرية، وتعلن أن واشنطن حاولت قدر الإمكان ضمان أمن إسرائيل خلال مفاوضات مع موسكو لكنها فشلت، بمعنى أنها تمكنت من إبعاد النظام السوري وحلفائه عن الجولان، عبر الاتفاق على إبعاد النظام وحلفائه مسافة 30 كيلومتراً عن الجولان، ولكنها فشلت في الإمساك بالحدود العراقية السورية، وهذا يكفي لنقل إيران الأسلحة والذخيرة إلى لبنان عبر العراق وسوريا!
هذا تخريج مضحك طبعاً، لأن تلك الحدود مرتبطة بمحافظة حمص، التي لم يتضح موقعها من اتفاقات وقف النار، وهو مضحك في ظل حرص بوتين ولافروف على التأكيد أن اتفاق الجنوب هو لمصلحة إسرائيل، والمضحك ثالثاً أن تولي روسيا تنفيذ الاتفاق جعلها تنوب عن أميركا في تأمين المصالح الإسرائيلية!
قبل أيام انهمك النظام السوري في إزالة إلغام زرعها «حزب الله» في منطقة دير البلح شمال درعا، بإشراف خبراء روس، ثم قام بإخلاء كتيبة الإشارة في مقر الفرقة التاسعة في مدينة الصنمين، ثم وصلت قوات الفصل الروسية وأقامت قاعدتين عسكريتين واحدة شمال درعا والثانية في بلدة موثبين، في حين أقيمت بوابات للدخول و10 نقاط تفتيش من درعا إلى السويداء، وانتشرت نقاط المراقبة والتدقيق على مداخل الغوطة... وبوتين يقول بعد هامبورغ الأمر لي في سوريا!
ما قيمة الوطن بلا مواطن يتمتع بكل ميزات المواطنة؟ أليس الوطن هو مجموع المواطنين الذين يعيشون فيه، أم إنه قطعة أرض؟ ألا يجب أن نتعامل مع مفهوم الوطن بموضوعية وعقلانية بعيداً عن التقديس الأجوف؟ لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها بدل التغني بالوطن حتى لو داسنا وشردنا وجعلنا نهيم على وجوهنا في بلاد الله الواسعة بحثاً عن وطن حقيقي؟ لماذا ؟ لماذا يتميز العرب عن بقية شعوب الأرض بتلذذهم بالظلم والألم والعذاب والجور والاستغلال الذي يعانونه على أيدي أنظمتهم وحكوماتهم وجلاديهم؟ إنه نوع غريب من المازوخية العجيبة التي تحتاج إلى معالجة نفسية فورية. ولعل شعراءنا وفقهاءنا وبعض أدبائنا ساهموا بطريقة أو بأخرى في ترسيخ هذا الاستمتاع المرضي بالبطش والاضطهاد من باب أن الإنسان يجب أن يتحمل كل أنواع التنكيل التي ينزلها الوطن بساكنيه، حتى لو داسهم ليل نهار، وسامهم سوء العذاب. فالوطن في ثقافتنا العربية المريضة يتقدم على المواطن، والأرض العربية القاحلة الجرداء أهم من الإنسانية، ومسقط الرأس غال حتى لو أطار رؤوسنا، وقدمنا طعاماً مفروماً للكلاب والقطط وأسماك البحر!
أما آن الأوان لتلك الجوقة العربية الزاعقة التي ترفع سيف الوطنية الصدئ في وجه كل من يحاول أن ينتقد الوطن وحكامه، ويكشف عورات الأوطان وسرطاناتها المتقيحة أن تبلع ألسنتها، وتكف عن المتاجرة بالمشاعر الوطنية «عمّال على بطـّال»؟ أليس هناك من لديه الشجاعة لأن يقول لهؤلاء الغوغائيين الذين ينصرون الوطن ظالماً أو مظلوماً: إن «الوطنية هي الملاذ الأخير للسفلة والأنذال» كما صاح الأديب الإنكليزي صامويل جونسون ذات مرة؟
إلى متى نتشدق ببيت الشعر السخيف: «بلادي وإن جارت علي عزيزةٌ وأهلي وإن ضنوا علي كرامُ»؟ أليس مثل هذا الكلام الفارغ هو الذي ساهم في وجود الدولة التسلطية، ومنع تحقيق المواطنة بمفهومها الحديث في العالم العربي، وأعاق تقنين حقوق المواطن وتحديد واجبات الوطن وحكامه؟ إلى متى نردد العبارة المهترئة: «ما أجمل أن يموت الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا لا نقول: «ما أجمل أن يحيا الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا ترتكز ثقافتنا العربية المازوخية على الموت والعذاب لا الحياة والمتعة في جنبات الوطن؟ هل أخطأ أحد الساخرين عندما أعاد كتابة البيت الشهير المذكور آنفاً ليصبح: «بلادي وإن جارت علي حقيرةٌ… وأهلي وإن جنوا علي لئامُ»؟
متى نتعلم من الأمم الحية التي وضعت الوطن عند حدوده، ولم تعامله كإله يجب تقديسه حتى لو أهانك وأذلك صبح مساء؟ هناك مثل انكليزي شهير يقول: «إن الوطن حيث القلب». فإذا كنت تعيش وتحب بلداً ما حتى لو لم تولد به فهو وطنك الحقيقي، وليس مسقط رأسك الذي أخذ على عاتقه تجريدك من آدميتك منذ اللحظة التعيسة الأولى التي خرجت بها من رحم أمك. ما الفائدة أن تعيش في وطنك غريباً؟ أليست الغربة الداخلية أصعب وأقسى عشرات المرات من الغربة الخارجية؟ لماذا أدرك الغربيون هذه الحقيقة، بينما ما زال بعض مثقفينا الموتورين يؤنبون، ويتطاولون على كل من ينبس ببنت شفة ضد أوطاننا المزعومة؟ إن المواطنة والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان الحديثة هي التي جعلت المواطن الغربي يعتبر المكان الذي يعشقه هو وطنه الأصلي غير عابئ بالعواطف الوطنية التقليدية السخيفة.
للأسف الشديد لقد استطاعت الأيديولوجيات «القومجية» العربية أن تضحك علينا بشعاراتها الكاذبة على مدى أكثر من خمسين عاماً، وأرغمتنا على التظاهر بحب الوطن رغماً عن أنوفنا، بالرغم من أن أفئدة الملايين في هذا «الوطن العربي» الجريح كانت دائماً تتوق إلى أوطان خارج «الوطن» لعلها تحقق شيئاً من آدميتها المسلوبة. ليت الشعوب العربية تنبهت إلى مقولة الإمام علي بن أبي طالب «كرّم الله وجهه» عندما قال في عبارته المأثورة الشهيرة: «ليس هناك بلد أحب بك من بلد، خير البلاد ما حملك». ليتها تمسكت بتلك النصيحة العظيمة في وجه حملات المكارثية القومية العربية التي حاولت دائماً أن تجرّم كل من يتذمر من سياطها «الوطنية» متهمة إياه بالخيانة القومية، مع العلم أن أكثر من خان الأوطان وسلمها للأعداء على أطباق من ذهب هم رافعو الشعارات الوطنية والقومجية البائسة. وكما يقولون: الأمور دائماً بخواتيمها. ألم تصبح البلدان التي تشدقت على مر الزمان بالوطنية والقومجية الساحقة الماحقة، رمزاً للانهيار سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً؟ سوريا والعراق وليبيا مثالاً؟
لم تعد العبارات الوطنية «البايخة» تنطلي على أحد. لقد غدت المشاعر الوطنية في «وطننا» العربي، وللأسف الشديد، كالمنتجات الوطنية التي تُعتبر عادة رديئة النوعية. ثم ألم يصبح عدد الذين يريدون هجرة «الوطن» العربي أكبر بعشرات المرات من الذين يريدون البقاء فيه؟ لماذا أصبحت كلمة «وطن» بالنسبة للكثيرين من العرب مفردة بالية؟
لماذا زال البعض يردد مقولة المعتمد بن عباد الشهيرة: «لأن أكون راعي جمال في صحراء أفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة»؟ بينما نرى آخرين يتسلحون بالقول الشعبي: «زيوان بلدك ولا قمح الغريب». والزيوان هو نوع من الحبوب السوداء التي تمتزج بحبوب القمح ولا بد من إزالتها عند الطحين. ولا أدري لماذا يُطلب من هذه الملايين العربية المضطهدة والجائعة أن تقبل بزيوان الوطن بينما تستأثر الطبقات الحاكمة والمتحكمة ومن لف لفها بقمح الأوطان وحتى زيوانه؟ أي مازوخية أسوأ من هذه المازوخية العروبية القبيحة التي تحاول تغطية عين الشمس بغربال؟
ألم ينقطع نتاج أدباء المهجر الذي كان مفعماً بحب الوطن؟ أين أمثال إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وشفيق المعلوف وفوزي المعلوف وبدوي الجبل ونسيب عريضة؟ هل مات الأدب المهجري بسبب العولمة وسهولة الاتصال والسفر بين الدول فقط، أم بعدما أصبح العديد من الأوطان العربية طارداً لمواطنيه؟ لماذا أصبح شعار المغترب العربي «أنا مهاجر يا نيّالي»؟ لماذا «تغرورق» عينا الإنسان العربي بدموع الحزن والأسى عندما يريد أن يعود إلى أرض الوطن ؟ ربما لأن المنفى تحول إلى وطن حقيقي والوطن إلى منفى!
صدق من قال: بلادنا كريمة إذا أكرمتنا، ولئيمة إذا أهانتنا.
ولدت في مدينة دمشق غريباً، لأبوين غريبين تقاذفتهما نكبة فلسطين ليجدا نفسيهما مع خمسة أطفال في مدينة دمشق. لم يتعلم أبي درس النكبة ويتوقف عن الإنجاب، استمر في الإنجاب، وأضاف أربعة أولاد إلى العائلة، كنت آخرهم في الترتيب. لم أشعر يوماً أن دمشق مدينتي، ولطالما شعرت بجدار يفصلني عنها. كان حسد أصدقائي السوريين يُهوّن عليّ غربتي، فأعرف أنهم غرباء في بلدهم أكثر مني. كانت ذروة الحسد، في الأيام الكابوسية لاستفتاءات الرئاسة، حيث يقاد الجميع كقطيع لإعلان الإذعان للرجل الأول الذي امتهن إذلال البلد بكل الطرق التي يمكن عقلاً مريضاً أن يخترعها. أما في مسيرات التأييد للرجل «المعجزة» فكنا جزءاً من القطيع.
بعيداً من السياسة، كان أصدقائي السوريون يشفقون عليّ بوصفي الغريب الدائم في بلد يدعي أنه يُبقيني غريباً من أجل مصلحتي الشخصية والوطنية، حفاظاً على حقي بالعودة إلى بلدي التي يعرف أنها مستحيلة، لكنها تصلح كشعار لتوغل في سحق البلد وإخراسه.
«إذا خربت حياتك في هذه الزاوية من العالم... فأينما حللت ستكون خراباً»... منذ غادرت دمشق قبل خمس سنوات وكلمات الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي تدق في رأسي طوال الوقت. نعم، لقد كانت حياتي خربة من قبل أن أولد. لم أعرف الطبيعي حتى أقيس عليه: كيف يعيش الإنسان العادي والطبيعي في وطنه في ظل شروط عادية وطبيعية؟ هذا ترف لم أعرفه. كنت واهماً عندما اعتقدت أن الآخرين (السوريين) يعرفون ما هو العادي والطبيعي. كان الطبيعي في ظل حكم البعث، أن يكون الاستثناء هو القاعدة، وكانت غربة السوريين في وطنهم أقسى من غربتي فيه. أنا والسوري الذي يجايلني، ممن ولدنا بعد حكم البعث وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في آذار (مارس) 1963، لم نعرف الطبيعي ولا العادي، عشنا حياتنا كلها في ظل الاستثنائي، لدرجة لم يعد أحد يذكر ما كان عليه البلد قبل البعث، وقبل الأسد الأب. لا تاريخ لسورية قبله، يبدأ التاريخ وينتهي بالعائلة بعد توريث الابن. وحد القمع الجميع في سورية، «مواطنين» وغرباء. لم ينل السوريون والفلسطينيون وحدهم حصتهم من القمع، فقد وسع ووزع النظام قمعه وشمل آلاف اللبنانيين والكثير من العراقيين والأردنيين وغيرهم أيضاً.
في كل مكان في سورية لم يكد أحد ينجو من مساءلة المخابرات، وزج مئات آلاف المعتقلين في السجون زمن الأسد الأب، ومجزرة بشعة في مدينة حماة العام 1982، نجح الأسد الأب من خلالها في إخراس البلد وتعميم الخوف على الجميع. أي وطن هذا الذي أولد فيه خائفاً؟! ما معنى أن أكون سورياً في زمن البعث والأسد، سوى أن أكون خائفاً من كل شيء؟! أفكر أحياناً، كم من العائلات ستهدم، إضافة لتلك التي هدمتها وحشية الأسد الابن، إذا سقط النظام وفُتحت ملفات المخابرات للعموم؟! كم من الأبناء والآباء والزوجات والأزواج والإخوة، الذين أجبرهم النظام على كتابة تقارير بعضهم عن بعض ستدمر مكانتهم عند بعضهم؟! ستبقى آثار النظام المدمرة فعّالة حتى في حال سقوطه، الخيال الإجرامي في أوسع حدوده. هذه الـ«سورية» التي عرفناها وخبرناها، شوهتني وشوهت كل السوريين، وحولتنا إلى معطوبين ومخصيين. هناك الكثير الذي دمر في سورية قبل سقوط البراميل المتفجرة التي أرسلها الأسد الابن لتسقط على رؤوس السوريين في المدن والقرى السورية، متمماً مهمة والده. هذه الـ«سورية» لا يضربني الحنين إليها على الإطلاق، ذكراها تشعرني بالخوف. ولا أحنّ إلى التاريخ التافه للبلد ولا إلى عمارة البلد القبيحة. أحنّ إلى الأصدقاء الذين هناك كانوا أجمل ما في تجربتي السورية، واليوم تكاد سورية تفرغ منهم تماماً، فهم ينقصون كل يوم، وتزداد سماء دمشق ظلمة.
قام «حزب الله» بالوظيفة التي كانت مطلوبة منه. مشاركة الحزب في الحرب على السوريين لم تكن في حاجة إلى «انتصاره» في جرود عرسال لتزداد رسوخاً في الأذهان. وظيفة الحزب في سورية نابعة من مصالح متعددة تلتقي: حماية نظام بشار الأسد، والدفاع عن النفوذ الإيراني في عاصمة الأمويين، وتأكيد دور الحزب في لبنان كقوة عسكرية (ميليشياوية) تقوم بما لا يقوم به الجيش اللبناني، أو بما لا يُسمح له القيام به.
في جرود عرسال، ظهرت هذه الأدوار بأبرز صورها، وبأكثر ما يمكن أن تكون عليه من وضوح:
حماية نظام الأسد، من خلال توسيع مناطق نفوذه لتمتد وتشمل الآن كامل الحدود السورية- اللبنانية. ولا يحمي هذا التوسع نظام الأسد فقط، من خلال ربط منطقة القلمون بالجرود اللبنانية، بل يمهّد لمنطقة آمنة لـ «حزب الله» في منطقة الحدود. من هنا، معنى ما تضمنه الاتفاق الذي أوقف المعارك، وقضى بنقل المسلحين وعائلاتهم إلى منطقة إدلب التي أصبحت منطقة «استضافة» للمهجرين السنّة الذين يتم «تنظيفهم» من مختلف المناطق المحاصرة، كما حصل عند تهجير أهالي حلب وحمص وحماة ومضايا والزبداني وداريا ومعضمية الشام وسواها.
يضاف إلى هذه النتيجة أن ترابط مناطق الحدود السورية- اللبنانية، في الشكل الذي يتيح لطرف مسلّح لبناني (حزب الله) أن يدخل للقتال في الأراضي السورية، كما يتيح لطيران النظام السوري ومدفعيته أن يقصفا مواقع من تصنّفهم «إرهابيين» في الأراضي اللبنانية، هذا الترابط يعيد إلى الذاكرة الشعار الشهير «شعب واحد في بلدين»، والذي لا يُستبعد أن يكون شعار المرحلة المقبلة في علاقات البلدين، عندما يطمئن بشار الأسد إلى اشتداد عود نظامه وعودة سطوته الكاملة على الجزء السوري من «الشعب الواحد».
وعند الحديث عن القوة المستجدّة لنظام الأسد، فإن معركة «حزب الله»، بنتائجها المفضية إلى دعم هذا النظام، تأتي في السياق الدولي ذاته الذي يميل إلى اعتبار نظام الأسد أقل خطراً من ذلك الذي يشكله الإرهابيون، عملاً بالمثل: شيطان تعرفه أفضل من شيطان تتعرف إليه.
أما حماية النفوذ الإيراني في دمشق فلا يؤكدها أكثر من «حزب الله» نفسه، وخطب أمينه العام الذي كرر في أكثر من مناسبة، في مجال دفاعه عن تدخل عناصره في الحرب السورية، أن الدافع إلى ذلك كان ضرورة حماية «محور الممانعة» من السقوط. والمقصود به طبعاً ذلك التكتل المذهبي الذي ترعاه إيران وتفاخر بسيطرتها على أربع عواصم عربية، بيروت واحدة منها. وعندما اطمأنت طهران إلى حماية هذا المحور، في دمشق وبيروت على الأقل، كان لا بد من غطاء آخر للتدخل في سورية، فظهر الهدف المعلن الآخر، وهو محاربة التنظيمات الإرهابية، باعتبار أن هذا الهدف هو الآن أكثر قابلية للتوظيف في عواصم القرار. هكذا، صارت معارك جرود عرسال ضد «النصرة» معارك «دولية» بامتياز، طالما أن الحرب على الإرهاب هي دولية كذلك. وما دام «حزب الله» في مقدم الصفوف في هذه الحرب، فإنه يعتبر أن من حقه بالتالي أن يوظف هذا الانتصار في خدمة نفوذه ودوره على الساحة اللبنانية، حيث يتم تسويق معركة عرسال بواسطة إعلام الحزب على أنها أنقذت لبنان من أخطار الهجمات الإرهابية التي يقال أنها كانت تنطلق من تلك المنطقة البقاعية إلى معقل الحزب في الضاحية الجنوبية لبيروت، كما إلى مناطق لبنانية أخرى.
وهنا نصل إلى توظيف «حزب الله» معركة عرسال لدعم نفوذه على الساحة اللبنانية، وهو نفوذ لم يكن يحتاج إلى «انتصار» عرسال، إذ لا يوجد أصلاً من هو مستعد أو قادر على مواجهته حالياً. فالحزب الذي قام بالدور الذي كان يؤمل أن يقوم به الجيش اللبناني في حماية حدود بلاده، أو الرد على أي تهديد تتعرض له هذه الحدود من أي جهة كانت، وهي حجة الحزب في مواجهة «جبهة النصرة» في تلك الجرود، يفرض نفسه الآن الجهة المسلحة الأقوى التي تمكنت وحدها من ردّ الإرهاب عن لبنان، مثلما تمكن في السابق من حمايته من إسرائيل. وها هو الحزب الآن يوسع ساحة كَرَمه فيعرض على الجيش اللبناني «تسلّم» المناطق التي سيطر عليها «عندما يطلب الجيش ذلك»!
أمام مقاومة «قوية» كهذه، يصح السؤال عن المكان الباقي لـ «الجيش والشعب» في هذه المعادلة المثلّثة المفروضة على اللبنانيين.
تنتزع روسيا سلاح فصائل المعارضة السورية بهدوء، ووفق برنامج توثيقي، تعيد من خلاله خريطة توزّع نفوذها داخل الأراضي السورية. وفي المناطق منزوعة السلاح المعادية لها، وذلك عبر وسيلتين أساسيتين: اتفاقات الهدن المحلية التي طوّرتها على شكل مناطق خفض التصعيد، وقرارات الإدارة الأميركية بوقف التسليح التي أعلنتها وكالة الاستخبارات "سي آي إيه".
وباتفاق الغوطة الشرقية الذي وقع في 22 يوليو/ تموز الجاري تكون موسكو التي أعلنت تفاصيل الاتفاق، أنهت ما تعتبره تأمين حزام جناح دمشق الجنوبي، لتلتفت إلى منطقة وسط سورية، وذلك قبل الانتقال إلى شمالها، لتعطي مزيدا من الوقت للقوات المدعومة من الإدارة الأميركية، لمتابعة خط سيرها باتجاه إنهاء وجود "داعش" من الرّقة، حيث تشهد المعركة حالة جمود واضحة، بينما يستقر القرار الأميركي، ربما، حول هوية من سيحرّر دير الزور من "داعش"! وفي السياق نفسه، تمارس الفصائل دورها في تنفيذ الرغبة الروسية تلك، عبر الانخراط في معارك بينية طاحنة، تستخدم فيها كامل عتادها من السلاح والبشر، حيث شهدنا أعنف المعارك خلال الأشهر السابقة في الغوطة بين الفصائل، وكان عدد الضحايا فيها من مقاتلي هذه الفصائل، المحسوبة على المعارضة، يتجاوز 400 ضحية، كل طرف منهم اعتبر من لقي حتفه من جهته شهداء لأسباب خاصة به، بعيداً عن المتعارف عليه في ما يتعلق بهذا المفهوم "المقدّس".
كذلك شهدت إدلب معارك طاحنة، أوقعت عشرات الصحايا بين "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) من جهة، و "أحرار الشام" وفصائل مؤيدة لها من جهة أخرى، لتكون النتيجة نهاية عملية إسباغ اللون الأسود على كامل إدلب، ما يفتح الباب على مصراعيه للتدخل الدولي، لاسيما التركي، من خلال التحالف الذي سيخوض معركته هناك تحت بند محاربة الإرهاب، وبالتالي التخلص من كل سلاح المعارضة، سواء التي تقف بوجه "النصرة" أو المساندة لها، والانتقال إلى المرحلة اللاحقة من صناعة مناطق النفوذ الدولية، تحت مسمّى مناطق منخفضة التوتر. وعليه، ترسم روسيا مسارات عديدة تؤدي إلى حقيقة واحدة، هي على الأغلب إجبار المعارضة، وخصوصا المسلحة، على رفع راية الاستسلام، في مقابل جزء من سلطةٍ في تلك المناطق، بحماية الشرطة الروسية، كما الحال في جنوب غرب سورية والغوطة الشرقية، وفي إدلب، وإن بالشراكة مع الشرطة التركية، أو تلك التي صنعت في تركيا. إذاً، يتمثل ما تسعى إليه روسيا ببسط سيطرتها على كامل مناطق سورية مع مراعاة المصالح الأميركية والإسرائيلية من جهة ومصالح النظام الذي يوفر لها شرعية احتلالها القرار السوري من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه، تسعى روسيا إلى تحويل الكتلة البشرية للمعارضة من عدوٍّ يواجهها إلى أدوات شرطية، تعمل بمبدأ الحماية مقابل السلطة، وهو المبدأ نفسه الذي سلم به النظام مفاتيح سورية لكل من إيران وروسيا، وكل قوى الظلام الطائفية التي تقاتل باسم زينب وفاطمة والحسين. على ذلك، تستنفد قوى المعارضة آخر ما تبقى لها من ذخيرة حية، لتخوض معاركها ضد بعضها، وفي مواجهة من كانت تتحالف معهم ضد النظام، لتعيد انتشارها من جديد، وتصطفّ مع النظام ضد كل من لا يرى الشمس تشرق ما بين موسكو والقاهرة.
وعليه، فإن هكذا مسار سيكشف إلى العلن، بين فترة وأخرى ربما، ما تبقى من قصص انقلابات في العلاقات بين شخوص المعارضة التي كانت على طرفي نقيض، وأصبحت اليوم في معركة واحدة ضد حلفاء سابقين، ومنهم "جبهة النصرة" وما تسمى "أخوة المنهج" جميعاً. بعد "أستانة 6"، وخلال الرتوشات الأخيرة لاتفاقات ما فوق "أستانة" و"جنيف" (الجنوب السوري والغوطة الشرقية ولاحقاً المنطقة الوسطى)، لم يعد هناك تقريبا، كما تتوقع موسكو وكما عملت بجد عليه، ما تسمى معارضة مسلحة، وإنما شرطة معارضة لا تختلف كثيراً عن فروع الأمن التي كانت سبباً مباشراً لثورة 18 مارس/ آذار 2011.
في المحصلة، قد يفضي الواقع الناشئ اليوم إلى مسارات مختلفة في الصراع السوري، من أهم علاماتها ضمور المعارضة العسكرية، وانحسار النفوذ الإيراني، بالإضافة إلى تعزيز الجهد الدولي لإيجاد نوع من تسويةٍ، ربما تمهد لتغيير سياسي في سورية، لكن ليس إلى الحد الذي كان يطمح إليه، أو يأمله، أغلبية السوريين، حينما انطلقوا بثورتهم في 2011، وليس إلى الحد الذي يجعل النظام منتصراً، حتى ولو بفكرة سيطرته على مناطقه التي ستكون تحت الوصاية الروسية في أحسن الأحوال. أيضاً وداع ما تسمى معارضة مسلحة لا يعني أن الثورة انتهت، فهي ربما لم تبدأ بالشكل المطلوب لثورات الشعوب التي تقودها نخبة وطنية، تتشارك فيها مر التجربة، وليس مالها السياسي.
تحوّلت معركة جرود عرسال، شرقي لبنان، بإفرازاتها السياسية والاجتماعية والأمنية، إلى محطةٍ فاصلة في الحياة المجتمعية اللبنانية. ما يفسح المجال أمام مستقبلٍ غامض، يبقى عنوانه الأساسي "التعايش بين الدولة اللبنانية وحزب الله"، بشروط حزب الله. ميدانياً، للبنان حق حماية أراضيه، والدفاع عنها في وجه أي محتلّ، سواء في السلسلة الشرقية أو في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. على ألا يكون حقاً مرتبطاً بإرادةٍ غير لبنانية، إقليمية كانت أو دولية.
تفاصيل معركة جرود عرسال، وعدم قيام الجيش بها، سواء منذ ثلاث سنوات أو الآن، بغطاء سياسي أو عدمه، كلها أمور باتت من الماضي. الواقع، أن عليك في لبنان أن تكون صاحب القوة كي تفرض الغطاء السياسي، لا العكس. فلو فرض الجيش غطاءه السياسي في جرود عرسال أو في الداخل، لكان الوضع تغيّر حالياً، لكن حزب الله نفذ من ثغرة "الغطاء السياسي" التي لم يتمكّن الجيش اللبناني من النفاذ منها، فارضاً غطاءه الخاص، والمعركة، في توقيتٍ يلائمه. بتعبير أدق "سأسير وأنتم تلحقونني".
في هذه الوضعية، رسّخ حزب الله ثلاثية "الشعب، الجيش، المقاومة"، والتي يرى فيها بأنه والجيش مدججان بالرجال والعتاد، شركاء أمنيين على أرضٍ واحدة، "لن يتصادما" في مرحلة لاحقة، عكس كل الحتميات العسكرية التي يفرضها وجود قوتين عسكريتين على أرض صغيرة. أساساً أدوار الجيش اللبناني سابقاً، والقيود المفروضة عليه لناحية مزاولة دوره في حفظ الأمن في البلاد، انكسرت مع الرصاصة الأولى في حرب لبنان (1975 ـ 1990)، مع تحوّل الجيش، بفعل ضعضعة القرار السياسي، إلى أجزاء متباعدة وغير متّحدة، قاتلت إلى جانب المليشيات في بعض الأحيان، على حساب فكرة "لبنان أولاً".
أيضاً، حملت معركة الجرود رسالة، عمداً أو عن غير قصد، إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي أجرى مناوراتٍ عسكرية في قبرص، الشهر الماضي. مناورات أراد من خلالها الإسرائيليون، التدرّب على تضاريس مشابهة للجبال والوديان اللبنانية. في معركة الجرود، أظهر حزب الله للإسرائيليين أنه "قادر على خوض معركة هجومية في جرد غير مغطى بغابات". وذلك للإيحاء بأن الغطاء الحرجي الذي كان جزءاً من سلاحه الاستراتيجي، في المواجهات السابقة في جنوبي لبنان، بات غير أساسي في أي معركةٍ مقبلة.
الطبقة السياسية اللبنانية، بأكثريتها الساحقة، وكما فعلت على مدار عشرات السنوات، ستتعايش مع حزب الله، على قاعدة "تأمين الاستمرارية السياسية". بالطبع، لو أن مثل هذه الطبقة غير موجودة، بكل ما فيها من ترسّبات فاسدة وطائفية ومذهبية وفساد، لما كان لا حزب الله، ولا غيره، موجوداً، بدءاً من محاربة حرمان ما قبل عام 1975، وصولاً إلى الدفاع عن حدود لبنان الجنوبية ضد الإسرائيليين. تهدف هذه الطبقة إلى التعايش مع حزب الله، طالما أنها قادرة على حماية فسادها وعدم معالجتها الملفات الحياتية اليومية، من النفايات إلى الكهرباء والمدارس والمستشفيات والنقل العام وغيره.
ومن الأشياء اللافتة أخيراً، كمية الغضب المتفجر على مواقع التواصل الاجتماعي بين اللبنانيين، خصوصاً لدى أنصار من يفترض أنهم انتصروا. السائد هو منطق التخوين والشعور بفائض القوة، المعزّز بنظرية "القدرة على احتلال لبنان بساعتين"، كما قال أحدهم، فضلاً عن الاستنفار لترقّب أي حركةٍ لأي شخص، لرجمه في حال لم يقدّم فيها الطاعة لهم. منطق يصنّف اللبنانيين "مع وضد"، من دون أي اعتبار آخر. بالتأكيد، إن من معظم من يصنّف يضع في ذهنه أنه يهاجم شخصاً أو أشخاصاً محدّدين في بيئته الحقيقية أو الافتراضية لحساباتٍ شخصية، لبناء غضبه. وبالتالي، لا يفكر في أي بعد آخر. لكن للتاريخ، لو كان حزب الله مسيحياً أو سنياً أو درزياً، لكانت الآية انقلبت، ولكانت تلك المجتمعات تقوم بما يقوم به أنصار حزب الله، طالما أن مفهوم "الدولة"، المدنية تحديداً، غائب.
هناك جوانب في اتفاق الجنوب السوري بين الدولتين العظميين يعتبر إغفالها خطأ قاتلاً بالنسبة لقضية الشعب السوري ومصالحه وثورته المجيدة.
أول الجوانب أن كل واحدة من الدولتين تتموضع في مناطق خاصة بها من وطننا، عدا الجنوب بمحافظاته الثلاث، حيث سترابط قواتهما معاً، وستقوم بمهام مشتركة أقرتها قياداتهما السياسية والعسكرية. وستنفذها شاء من شاء وأبى من أبى، في إيران ودمشق وبيروت. بذلك، تكون منطقة الجنوب المكان الوحيد في بلادنا الذي أنهى الجانبان صراعهما عليه فيه، وتعهدا بنقله إلى أوضاع تشبه، من بعض الجوانب الحقبة ما بعد الأسدية، سواء بإقرارهما باستقلال الجنوب عن النظام، أم بإبعاده عن حملات روسية/ إيرانية فرضت بالأمس القريب هدناً أعادت مناطق عديدة إلى "حضن الوطن"، بينما ستتدبر شؤون هذه المناطق إدارة ذاتية منتخبة تحت إشراف دولي، ستمثلهم في إطار المعارضة عموماً و"الائتلاف" خصوصاً، فإن دعمت وتوحدت أسست لأول مرة منذ اندلاع الثورة كياناً داخلياً معترفاً به دولياً. يضاف إلى كيان خارجي معترف به دولياً هو "الائتلاف". في هذا السياق، سنتذكّر دوماً أن تفاهم الدولتين كان مطلبنا الدائم، وأننا عزونا عدم تطبيق وثيقة جنيف والقرار 2118 إلى خلافاتهما التي وضع تفاهمهما في الجنوب حداً لها.
ـ أخرج التفاهم الأميركي/ الروسي على الجنوب القوتين الإقليميتين منه: إيران، على الرغم من تبجّح رئيس برلمانها بأنها غدت جزءاً من سيادة الدولة الإيرانية، والمحافظة 35 من محافظاتها. وتركيا التي لم تعد القضية السورية في حساباتها غير ورقةٍ تخدم مصالحها. أخرج العرب بدورهم من الاتفاق الذي يمكن أن يساعدنا على إخراجهم من الصراع على سورية، لما له من إيجابيات بالنسبة إلى قضيتنا، كالحد، ولو جزئياً، من حضورهم الكارثي، في ثورة ادّعوا دعمها، لكنهم أرسوا سياساتهم على التحكّم فيها، وإفشالها، بإفساد المنخرطين فيها، وتحويل كثيرين منهم إلى تجار دم وسرّاق مال سياسي. بالاتفاق، تكوّنت لدينا لأول مرة فرصة لممارسة تأثير في دور الدولتين الإقليميتين والدول العربية، يخدم مصالح شعبنا وقراره المستقل الذي يجب أن نستعيده.
ـ بما أن الاتفاق سياسي، والدور الذي يمنحه لنا سياسي، سيكون علينا أن نستعيد من جديد مكانة السياسة وغلبتها في تحديد مواقفنا وقضيتنا، بعد أن غيبتها حساباتٌ وهميةٌ ارتبطت بعمل عسكري متقطع وعشوائي، وقوّضها العجز عن الفعل، وسط بحر من مزايدات ومناقصات طمست الوطنية السورية، كحاضنة استراتيجية للعمل الثوري والمعارض، واعتمدت بدلاً منها ولاءات دنيا على قدر استثنائي من العداء لوحدة الشعب وحريته، ولقيم الحرية والعدالة والمساواة التي طالبت الثورة بتحقيقها في سورية الجديدة.
في ظل اتفاق سيفضي إلى تراجع دور العمل العسكري، سيتوقف، من الآن، تحقيق أي هدف من أهداف الشعب على تعظيم دور السياسة وترجيحه على ما عداه، وعلى ضبطه، بحيث يتفق مع حرية السوريين ووحدتهم ، ويرد الاعتبار إلى العمل السلمي والعام والعاملين في حقله، بعد سقوط حقبةٍ نشر عبدة السلاح خلالها أجواء هستيرية، جعلت السياسة خيانة موصوفة، لن تنتج ممارستها غير منع انتصارهم الموهوم الذي عطلوا باعتماده مشاركة السوريين في الثورة، وعجزوا عن وقف انهيار فصائلهم خلال المعارك التي خاضتها طوال العام الماضي، باستثناء التي خاضتها بعضها ضد البعض الآخر، وانتهت بحصيلة وافرة جداً من قتل السوريات والسوريين، وتدمير بيوتهم ومناطقهم.
يعظّم الاتفاق فرص السياسة، بدءاً باختيار السوريين الحر ممثليهم، ويفسح المجال لاستعادة دورها فاعلية حاكمة. لذلك، ستمس منذ اليوم حاجة الثورة إلى مراجعةٍ شاملةٍ للممارسات السياسية التي تمت، خلال السنوات الست المنصرمة، وإلى بلورة جوانب كانت غائبة أو مغيبة عنها، وفاعلين لديهم الرغبة في والقدرة على خوض معاركها بصراحة وجرأة، انطلاقاً من التمسّك بوثيقة جنيف والقرارات الدولية التي تخدم مصالح شعبنا، لا بد أن نخوض المعارك التي يتطلبها تطبيقها.
في الماضي، فوّتنا على أنفسنا فرصة تولي الحرب بقوانا الذاتية ضد "داعش"، فهل نفوّت على شعبنا اليوم فرصة اتفاق الدولتين العظميين على بداية حل سياسي، ستزيد إدارتنا الحكيمة له من قدرتنا على إطاحة قاتل شعبنا ونظامه الفاسد والطائفي.
حققت جبهة النصرة نقلة جديدة في سيطرتها على منطقة إدلب، وهو أهم دور لها في سياق ما تقوم به منذ تأسّست، حيث سيطرت على إدلب ومعظم ريفها حتى باب الهوى. ولا شك في أن كثيرين ممن يعتبرون مع الثورة السورية فوجئوا بما جرى، وما زالت "نخب" كثيرة تدافع عن الجبهة كذلك. لكن ربما تكون الأمور قد اتضحت الآن بشكلٍ لا يسمح بأي دفاع عنها، على الرغم من أن هناك من يغرف في هوس أصولي سلفي، بالتالي يرى في الجبهة قوة معادية للنظام، على الرغم من "أخطائها" كما يظن.
لا شك في أن الهوس الطائفي يغطي على العقل، بما لا يسمح برؤية شيء، ولا بالتفكير المنطقي حتى. وأمام أزمة الثورة، غرق رهط من "النخب" في هذا الهوس. ولهذا، دافع ويدافع عن جبهة النصرة إلى الآن.
منذ البدء، أشرت إلى ضرورة سحق تمظهراتها الأولى، لأنها آتية لكي تفعل بالثورة السورية ما فعل تنظيمها الأصلي (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين وهو فرع للقاعدة في العراق) بالمقاومة العراقية، وأشرت إلى أنها أتت للتخريب، وليس لـ "نصرة أهل الشام"، لكن عتاولة المعارضة تصدّت لذلك، وأخذت تلقي قصائد المديح للجبهة، ما هيأ لها "قاعدة شعبية". بات الآن واضحاً أنها قامت بدورها بكل جدارة، وأنها صفَّت كثيرا من كتائب "الجيش الحر"، ومن القادة والشباب الناشط، وكبرت بحيث تستطيع السيطرة، وسحق حتى الكتائب السلفية "أخوة المنهج".
وعلى الرغم من أنها، في منظورها المعلن، ليست مع الثورة، بل مع مسار مضادّ لها، فإن الأمر يتعلق هنا بمنظورها الديني، على الرغم من أصوليته ووحشيته، بل في أنها "صناعة مخابراتية"، على الرغم من انخراط كثير من الشباب السوري، ومن جماعة الإخوان المسلمين فيها. ودورها مخابراتي بامتياز، ولا علاقة له بالدين. هذا هو أساس فهمها وفهم دورها، وغير ذلك تضليلٌ وجنونٌ وأوهام. فقد كان لـ "والدها" (تنظيم قاعدة الجهاد) دور كبير في افتعال الصراع الطائفي خدمةً للمحتل الأميركي للعراق، ولإيران التي كانت تريد تخويف "الشيعة العرب"، لكي تهيمن عليهم، ومن ثم لسحق "السنة" خدمةً للمحتل وإيران معاً. ولقد صُدِّرت لسورية لتكمل المهمة بعد اندلاع الثورة. هذا ما حذَرت منه، منذ إعلان تشكيلها، وما وصلنا إليه الآن، مع الألم الذي ينتج عن ذلك.
جبهة النصرة هي أخت "داعش"، وكان لكل منهما دور محدَّد، كما شرحت، في مقالات سابقة، وكتبت أن مهمة "النصرة" السيطرة على منطقة إدلب، لكي تعود إلى "حضن الوطن"، أي لكي تسلمها لـ "حضن الوطن". لكن في السياسة السذاجة مدمرة، والصراع الغريزي مدمِّر، ولا أشك في أن أطيافا كثيرة في المعارضة كانت تنطلق من صراع غريزي. بالتالي، كانت تقبل كل من تتوهم أنه يقاتل النظام، بغض النظر عن ماهيته. ولهذا، وقعت في سقطاتٍ تفرض عليها أن "تشنق"، فقد سهّلت الوصول إلى هذه الهاوية بغباءٍ لا يبرّر لها. والمأساة أن هؤلاء الذين "احتضنوا" ودافعوا عن "النصرة" ما زالوا يعتبرون ذواتهم قياداتٍ في المعارضة، بدل أن يسحقوا بالأقدام. لن أسمي، فهؤلاء معروفون بالاسم. لكن، لا بد يوماً من المحاسبة، ليس لعصابات النظام فقط، بل كذلك لعصابات المعارضة وجهلتها، فكلاهما أوصل الثورة إلى هذا الحضيض.
أقول من جديد ليست "النصرة" تنظيماً أصولياً، على الرغم من خطابها الأصولي الوهابي، بل هي افتعال مخابراتي، وقادتها هم عناصر مخابرات، ربما من بلدان متعدّدة. لكن، بالتأكيد للمخابرات السورية عدد وازن فيها. هي كما "داعش" شركة أمنية خاصة، تخدم سياسات دول، وباتت تلعب دوراً مهماً في تدمير الثورات، بعد أن باتت النظم ترتعب من الثورة. وأشير الى أن ذلك يعني أن تكفّ الدول التي تدّعي دعم الشعب السوري عن دعم هذا التنظيم، فعديد منها يمدّه بالمال، وتسهيل الوصول في سياق لعبة إقليمية، تتصارع فيها دولٌ لتحقيق مصالحها.