أثارت صورة نشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمقاتلين في «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) يرفعون شارات وأعلاماً لما يعرف بأنه رموز وأعلام «المثليين»، ردود أفعال متباينة بين مؤيّد وشاجب. وبدورها سارعت «قسد» إلى نفي الموضوع واعتبار أن موضوع تشكيل كتيبة للمثليين هو برمته اختلاق، مع التزامها باحترام حقوق الإنسان بمن فيهم «المثليون»، فيما لم تتشكك بصحة الصورة.
تنهل «وحدات حماية الشعب» و «وحدات حماية المرأة»، وبالتالي «قسد»، من معين «حزب العمال الكردستاني» الإيديولوجي من دون تحرّج أو تهرب، فـ «العمال الكردستاني» الذي بدأ حزباً تحررياً كردستانياً، خاض في التحولات العميقة وتنقّل بين الفلسفات بانعطافات غيّرت فيه الكثير. فالحزب الذي بدأ ستالينياً لجهة التنظيم وبول بوتياً لجهة فرض الطقوس الطهرانية في ما يتعلق بمنع التدخين والكحول وتحريم العلاقة الجسدية وما إلى ذلك من حركاتٍ ترميزيّة في الكلام والتحية، تحوّل تدريجياً إلى صورة تحاكي الحركات اليسارية المعاصرة وأحزاب الخضر في الغرب، وتبدّل الحال هذه فرضته انعطافاتٌ جمّة ليس آخرها اعتقال أوجلان وتقديمه مراجعاتٍ فكرية ونصوصاً تدين الكثير من مسالك الحزب القديمة وممارساته، وتعديلاتٍ كبيرة في سياساته وإستراتيجيته. فالحزب كان الحزب الكردي الوحيد في حقبة التسعينات الذي ينادي بتحرير وتوحيد كردستان خلافاً للأحزاب الكردستانية الأخرى التي ترمي إلى انتزاع الحكم الذاتي، لكنه سرعان ما نحا إلى مطالبٍ مشابهةٍ لحركات الحكم الذاتي الكردية فألغى موضوعة التحرير والتوحيد واستبدلها بمشاريع من قبيل تآخي الشعوب، وذم النموذج القومي.
وراهناً تبدي المنظومة الفكرية للحركة الأوجلانية (الآبوجية) اهتماماً كبيراً بمسائل النسوية وتمكين المرأة، وقدراً مهماً من الاكتراث بحقوق الأقليات الاجتماعية كالمثليين والأناركيين واللادينيين وسواهم، فضلاً عن تحالف الأقليات الدينية والقومية.
هذه الصورة وجدت ضالتها خلال الانتخابات البرلمانية التركية الأخيرة عند «حزب الشعوب الديموقراطية» في تركيا، أي الحزب الذي يمثّل «العمال الكردستاني» في الحقل السياسي والانتخابي التركي، والذي نجح في تخطي عتبة العشرة في المئة بفضل تحالفاته تلك.
ففي بداية صعود «حزب العدالة والتنمية»، أبدى رجب طيب أردوغان في لقاءات إعلامية اهتماماً بالحريات العامة ومن ضمنها موضوع المثليين وحقوقهم، وكذا موقفه من دور البغاء وغيره من المواضيع التي قد تتحرّج منها الأحزاب المتدثرة بعباءة الدين. لكن انزياح الحزب نحو الخطاب الديني القارّ وتفضيله الخطاب الشعبوي وإهماله حقوق الأقليات الاجتماعية، دفع غريمه الكردي إلى تلقف المسألة وتبنيها حتى غدا «حزب الشعوب الديموقراطية» الحزب الوحيد في تركيا الذي يتبنى حقوق الأقليات الدينية والقومية والاجتماعية، ومن ضمنه الجماعات الاناركية والنسوية والمثليون.
تدأب «قسد» بما هي متأثرة بمعين الأوجلانية، إلى تقديم نفسها نقيضاً لـ «داعش» والحركات الإسلامية الراديكالية. فهي تقاتل في الرقة لا بقوتها العسكرية فحسب بل بعدةٍ تحاكي خيال الغرب، وهذا أمرٌ على رمزيته كفيلٌ باستحضار الدعم والتضامن اللازمين. فهناك الآن كتيبة الإيزيديات القادمات من سنجار واللواتي تعرّضت قريباتهن وصديقاتهن للاختطاف (السبي)، وهناك المقاتلون من الجنسيات المتعددة (المقاتلون الأمميون)، وعناصر من قوميات مختلفة من كرد وعرب وآشوريين سريان وتركمان. هذا التعدد المهول يقود خيال واحدنا إلى استذكار فكرة الجيوش الملحمية المتعددة الأقوام والعناصر والفئات كجيوش الإسكندر المقدوني أو هاني بعل!
في وقتٍ لاحق تناقل الإعلام الغربي صوراً بثتها مؤسسات داعش الإعلامية لمن قيل عنهم أنهم مثليون تم رميهم من علو شاهق في الموصل والرقة، وقد نعثر على صورة مماثلة في تراث بعث العراق حين أمر صدام حسين برمي بعثيين في البصرة من علٍ إذ قيل عنهم أيضاً أنهم مثليون، وهو سلوك قد يوجد مثيله في كتب العقاب في العصور الإسلامية الغابرة.
في الحالتين استُخدم المثليون مادة إعلامية تكشف مرةً عن غلظة يبديها «داعش» وعن تسامح مبالغ فيه عند «قسد». وفي مطلق الأحوال فإن الحرب في سورية تبيح استحضار تجارب الجوار الخشنة والناعمة وتبيح استخدام القضايا كلها لأجل تحقيق الفوز.
مع ذلك يصح القول إن «قسد» لن تكتفي بهزيمة داعش عسكرياً بل هي ترمي إلى تحقيق نصرٍ معنويٍ يجاري العسكري، عبر استنهاض الضحايا كلهم وتجميعهم ابتداءً بسبايا سنجار والنسوة المكلومات تحت ظلّ الخلافة وصولاً إلى آخر عناقيد الضحايا أي المثليين. ولمَ لا وهي تتكئ الآن على مفاهيم إيديولوجية جديدة تبيح لها ذلك.
لن يكفي إعلان هذا الانتصار أو ذاك ضد «داعش» أو «جبهة النصرة» أو أي من مشتقات «القاعدة» وأخواتها طالما يلفّ الغموض مصير المقاتلين في هذه التنظيمات كما سبق ولفّ ولادتها ونشأتها. هؤلاء الرجال لا يتبخّرون وانما يفرِّخون. سحق «دولة الخلافة» مثلاً، يتطلب إقناع الناس بمصير المقاتلين، جثثاً كانوا أو في إطار إعادة التأهيل أو حتى فارين إلى الكهوف والمدن التي صدّرتهم إلى سورية والعراق، يتطلب نشر صور الاستيلاء على دباباتهم وسياراتهم وآلاتهم الإعلامية التي بهرت العالم. فباسم مكافحة الإرهابيين تم تدمير العراق وتم استدعاء الإرهابيين إليه «كي لا نحاربهم في المدن الأميركية»، كما قال الرئيس الأميركي حينذاك جورج دبليو بوش. وتحت عنوان مكافحة الإرهاب تم تحويل سورية من ساحة عصيان مدني الى ساحة اجتذاب للإرهابيين من كل مكان للقضاء عليهم بعيداً من المدن الروسية والأميركية والإيرانية. الرئيس السوري بشار الأسد كان أول المستثمرين في «الشركة المساهمة» التي طوّرت صناعة الإرهاب العالمي في سورية، لكن المستثمرين والممولين كانوا منذ البداية متعددي الجنسيات والأهداف، منهم ما هو عربي، وشمال أفريقي، وما هو تركي وإيراني، على الصعيد الإقليمي. على الصعيد الدولي، أتى الأميركي والروسي والأوروبي مساهمَين أساسيين في ذلك الكوكتيل الاستخباراتي الغامض والفاعل في تأسيس «الشركة المساهمة» المسماة «داعش» التي تصدّرت الرعب والإرهاب إلى درجة نسيان تنظيم «القاعدة» وخلاياه النائمة قبل الانصباب على «جبهة النصرة» بمختلف أسمائها إنما بوضوح انضمامها إلى شبكة «القاعدة». إلى أين يذهب أولئك المتطوعون، الإرهابي منهم والعقائدي المتطرف وذلك الذي يعتبر نفسه مدافعاً عن حقوق السُنَّة في وجه الزحف الإيراني باسم الشيعة بالذات في العراق ولبنان. قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني بات بطلاً لدى الإيرانيين لأنه صوّر نفسه ذلك المقاتل الشرس الذي حارب «داعش» في العراق وسورية كي لا تحاربهم إيران في أراضيها، آخذاً بنموذج جورج دبليو بوش. في العراق بالذات، أتت صناعة «الحشد الشعبي» كجيش موازٍ للجيش العراقي موالٍ لطهران أكثر مما هو لبغداد، لتضاعف شعبية سليماني وبطولته في تصدير نموذج الحكم الإيراني إلى العراق. كذلك في لبنان، حيث الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله ينصّب نفسه أيضاً قائد نموذج الجيش الموازي الموالي لطهران، ثم رفع راية مكافحة الإرهاب ضد «النصرة» و «داعش» أينما كان تلبية للنداء الأميركي وللاستراتيجية الإيرانية في إطار التموضع قبل اقتسام النفوذ في سورية والعراق. هذا مع الاحتفاظ بأدوات السيطرة على لبنان وعلى أوتار الخلاف الشيعي– السنّي في كامل البقعة العربية. هنا بالذات تتداخل الانتصارات الحقيقية والمزعومة في الحرب على الإرهاب. هنا تبرز إما السذاجة الأميركية –كما يراها البعض– وإما الحنكة الاستراتيجية الأميركية التي قررت أن مصالحها ما زالت تقتضي الاستمرار في إشعال النزاع السنّي– الشيعي بشراكة مع روسيا.
تركيا لعبت دورها في إنماء الصراع السنّي– الشيعي بتبنيها وتصديرها مشروع «الإخوان المسلمين» للصعود إلى السلطة بنموذجٍ فرض الدين على الدولة سنّياً، كما يفعل نظام الحكم في إيران شيعياً. طهران نجحت في فرض «الثيوقراطية» على الدولة في نظام ديني يرفع راية قيادة الشيعة أينما كان في البقعة العربية، ليس فقط داخل إيران والبيئة الفارسية. أنقرة فشلت في مصر كما في سورية، مع اختلاف تجارب الفشل، ذلك لأن ما فعلته في سورية انطوى على صناعة الإرهاب بأسهم عالية في تلك «الشركة المساهمة» بشراكات خليجية عربية.
الصراع السني – الشيعي امتد من الخليج إلى العراق وسورية ولبنان واليمن وهو الآن يتخذ بعداً في العلاقات مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب بصورة تختلف عما كانت عليه في زمن الرئيس باراك أوباما. كلاهما عرض نفسه شريكاً جدّياً يمكن الاتكال عليه في مكافحة الإرهاب بدلاً من الآخر. أوباما اقتنع بالشراكة مع إيران وتبنى سياسة أجّجت النزاع السنّي– الشيعي عمداً. إنما هذا ليس جديداً على الاستراتيجية الأميركية البعيدة المدى إزاء المعادلة السنّية– الشيعية الممتدة من أفغانستان وباكستان إلى إيران والسعودية، فالإرهاب في التعريف والتصنيف الأميركي، كان يوماً شيعياً ويوماً آخر سنّياً، والشراكة كانت يوماً مع صدام حسين في حربه مع إيران، ويوماً آخر مع إيران وامتداداتها في العراق وسورية مع الحفاظ على التهادنية مع إسرائيل.
دونالد ترامب يبدو مقتنعاً أكثر بالشراكة مع السُنَّة للقضاء على الإرهاب بجميع مشتقاته، من «القاعدة» إلى «داعش»، لكن سياساته العملية الميدانية ليست مُقنِعَة، لا في العراق ولا في سورية ولا حتى في لبنان واليمن. حصل الرئيس الأميركي في قمة الرياض التي جمعته مع القيادات السنّية، على التزامات وتعهدات مالية وبشرية للقضاء على التنظيمات الإرهابية السنّية، إنما هذا الاستعداد السُنّي للاندفاع إلى الصف الأمامي من المعركة سيفقد الزخم إذا انحسرت الوعود والتعهدات الأميركية باحتواء التجاوزات والطموحات الإقليمية الإيرانية.
تسليم مصير «الحشد الشعبي» في العراق إلى رئيس الحكومة حيدر العبادي إنما هو هروب إلى الأمام، لأن ليس في قدرة العبادي الوقوف في وجه القيادة الإيرانية لـ «الحشد الشعبي». وهذا مثال على الخلل الجذري في مكافحة «داعش» وأمثاله، لأن «داعش» العراق وُلِدَ من رحم تفكيك الجيش العراقي بعد غزو العراق واحتلاله في زمن جورج دبليو بوش، و «داعش» استطاع أن ينمو ويتوسّع لأنه أتى رداً على التجاوزات الإيرانية والمكابرة الشيعية في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي قزّم السُنّة وتعمد إقصاءهم. ما لم تتم المعالجة الجذرية للمعادلة السنّية– الشيعية في العراق بعد تحرير الموصل بما يعالج مستقبل «الحشد الشعبي» والنفوذ الإيراني في العراق، ستترك هزيمة «داعش» بذوراً لولادة بديلة، وربما الأسوأ.
في سورية أيضاً، تبدو إدارة ترامب في تعثر بين شراكاتها حتى مع إيران وميليشياتها من أجل سحق «داعش»، وبين ميدانية الترتيبات لاستيعاب «النصرة» و «داعش» وأخواتهما وتمزيق المعارضة السورية المسلحة المعتدلة. وزير الدفاع جيمس ماتيس، الذي كان بالأمس القريب أكثر المشككين بإيران وميليشياتها والمتوعدين بقطع الطريق على مشروعها الإقليمي، يتحدث الآن بلغة لا توحي بالاعتراض على امتداد «الحرس الثوري» و «حزب الله» وميليشيات أخرى تابعة لإيران في الأراضي السورية التي يتم تحريرها من «داعش». مواقفه الحالية تتناقض ليس فقط مع مواقفه السابقة وإنما أيضاً مع المواقف المعلنة للرئيس ترامب.
كذلك الأمر مع مستشار الأمن القومي أتش. آر. ماكماستر الذي طالما هاجم إيران وانتقد سياساتها التي «تشعل حلقة النزاع المذهبي كي يبقى العالم العربي ضعيفاً دائماً»، فهو بدوره أوضح أن الولايات المتحدة لن تتدخل في سورية ولا في العراق لإيقاف إيران ومشروعها، «فسبب وجودنا في سورية هو تدمير داعش»، لا غير.
وفي الأيام القليلة الماضية، وللمزيد من التناقض في مواقف أركان إدارة ترامب، أطل علينا رئيس وكالة الاستخبارات المركزية CIA، مايك بومبيو، من منتدى آسبن Aspen ليقول بلسان إدارة ترامب «عندما نضع استراتيجية (نحو إيران)، أنا على ثقة بأننا سنكون قادرين على صدّ السياسات الإيرانية». مُطمئِنةٌ هذه المواقف! مطمئنة جداً! فليس لدى إدارة ترامب استراتيجية نحو إيران، على عكس التصريحات التي حملها ترامب إلى قمم الرياض وما تلاها من تهديد لإيران ولـ «حزب الله». هناك انحسار وتراجع في مواقف وتعهدات «محور الراشدين» –الذي يضم ماتيس وماكماستر وبومبيو وكذلك وزير الخارجية المسترخي ريكس تيلرسون– في انتظار تلك الاستراتيجية الأميركية الجديدة.
من المفيد للدول العربية توخي الحذر لأن في الاعتماد على الوعود الأميركية مقامرة ومغامرة. قمة الرياض أخذت وعوداً من ترامب وحشدت تعهدات بضمان تنفيذ الوعود. واقع الأمر الميداني يوحي بأن إدارة ترامب تبنّت فعلياً سياسة إدارة أوباما في سورية، وكذلك في العراق.
كلام الرئيس الأميركي يختلف عن سياسات إدارته الميدانية. الكونغرس يعاونه من خلال فرض عقوبات على إيران و «حزب الله»، إنما ما يعكف أركان إدارته على تنفيذه ينطلق من تلك الأولوية القاطعة لدونالد ترامب، وهي: زعم الانتصار في سحق «داعش»، بشراكة مع الشيطان –لو تطلب ذلك– وبسياسة قصيرة النظر عنوانها ذو شقين: أولاً، الاستعجال إلى انتصار ناقص لا يعالج الجذور التي أنتجت تلك التنظيمات المتطرفة السنّية التي سلكت الإرهاب، إما عقائدياً أو رداً على مشروع إيران الإقليمي، وهذا سيؤدي إلى تفريخ تلك التنظيمات، الناشئ منها والقابع في الخلايا النائمة، إلى جانب موجة انتقام من خذلان الأسرة الدولية برمتها المعارضة السورية. العنوان الثاني هو الاستثمار في التعالي الإيراني وتفاقم الثقة بالنفس لدى إيران وحلفائها بسبب انصياع إدارة ترامب لمشروع الهلال الإيراني، ما سيُنتج خريطة للتمدد الإيراني عبر العراق وسورية ولبنان باسم التواصل مع إسرائيل بالتهادنية المعهودة بين اليهود والفرس. هكذا يُنسف أيضاً ذلك الاستعداد الخفي لدى السُنّة للمصالحة مع إسرائيل على أسس جديدة غير تلك الواردة في المبادرة العربية للسلام والتي رفضتها إسرائيل.
أما إذا استعادت إدارة ترامب توازنها وكفَّت عن الإيحاء بشيء وتنفيذ نقيضه، فقد يكون وارداً الاعتماد على استراتيجية بنّاءة تدشن ابتعاد الولايات المتحدة من السياسة التقليدية القائمة على لعب أوتار المعركة المذهبية بين السُنّة والشيعة. عندئذ يمكن الوثوق ببدء العزم على القضاء على إرهاب هذا التنظيم أو ذاك. في غياب ذلك، يبدو أن الشركاء المستثمرين المتعددي الجنسيات في «الشركة المساهمة»، من الصناعات العسكرية إلى الاستراتيجيات النفطية والأمنية والاستخباراتية، ما زالوا متعطشين ولم يشبعوا بعد.
كما بات معتاداً في كلّ «خطبة نصر» يلقيها حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، طفحت البلاغة اللفظية التي تزعم التجرّد من المذهب الضيّق، وتتوجه إلى «كل المسيحيين بكل طوائفهم ومذاهبهم وكل المسلمين بطوائفهم ومذاهبهم»؛ وتنأى، في اللفظ وحده، عن مصالح الحزب ومَن يمثّل وبمَنْ يأتمر، لكي تغازل «جميع اللبنانيين وكل شعوب المنطقة التي تعاني من الإرهاب التكفيري»، وتهديهم «النصر» الأخير في عرسال. وبالطبع، كما في كلّ خطاب أيضاً، كانت فلسطين حاضرة (لأنها روح الحزب وجوهر نضالاته، غنيّ عن القولّ)، فتوجّه نصر الله بالتحية إلى «المرابطين في القدس». وإلى «أهل الضفة، وكلّ الفلسطينيين».
هذا ما طفا على السطح، أولاً، لكي يُخلي العمق سريعاً لخطاب آخر؛ مذهبيّ صريح، حزبيّ تعبوي ضيّق، لا تأتأة فيه ولا غمغمة: «أوجّه التحية إلى كلّ المضحين، إلى الشهداء والجرحى المجاهدين وعوائلهم، وأقول إنّ فيكم الحسين والعباس وزينب»، هكذا هتف نصر الله، و»غصّ بدموعه» حسب توصيف صحيفة «الأخبار» اللبنانية. كذلك أهدى نصر الله «نصر» حزبه إلى «ورثة أهل البيت، بكم أخرجَنا الله من ذلّ الاحتلال والهوان والضعف والخوف والهزيمة». وليس ذكر الجيش اللبناني، في خانة فريدة حقاً، هي «شريك وعمدة المعادلة الذهبية»؛ إلا من قبيل ذرّ الرماد في العيون، وإشراك جيش خانع أمام سلاح «حزب الله»، ذليل وتابع وذيلي، لم يعد يملك استقواءً إلا على النازح السوري في مخيماته.
والحال أنّ نبرة نصر الله تعيدنا إلى خطاب سابق، قبل ثلاث سنوات، كان أشدّ وضوحاً في تحديد الانتماء المذهبي الإقليمي والعالمي للحزب، وليس هويته المحلية وحدها؛ حين هتف نصر الله: «نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم»؛ و»نحن الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري». وبالطبع، كان ذلك الإعلان لا يأتي بجديد لا يعرفه العباد، ولا يعيد تعريف الحزب المعرّف جيداً لتوّه؛ بقدر ما يدخل في خصومة مذهبية علنية مع الآخرين، لجهة التشديد على الركنَيْن، «الإماميّ» و»الإثنا عشري»، تحديداً. وكان القصد، يومها كما في كلّ لجوء إلى هذا التشخيص المذهبي، هو التعبئة العقائدية والتحشيد الشعبي من جهة أولى؛ ثمّ التشديد، أكثر وأوضح، على أنّ الانتماء الإمامي والإثنا عشري لا يقتصر على الدين والمذهب، بل يشمل الدنيا والسياسة، وينتهي إلى طهران، حيث الوليّ الفقيه.
جديرة بالاستعادة، أيضاً، تلك الروحية التي امتاز بها نصر الله الشاب، قبيل صعوده السريع في سلّم قيادة الحزب؛ وحين كان الشحن المذهبي، دائماً وأوّلاً، ركيزة تنظيمة كبرى، قبل أن يكون خياراً في العقيدة. يُسأل الأمين العام عن شكل نظام الحكم الذي يريده الحزب في لبنان، فيقول (وننقل بالحرف): «بالنسبة لنا، ألخّص: في الوقت الحاضر ليس لدينا مشروع نظام في لبنان. نحن نعتقد بأنّ علينا أن نزيل الحالة الاستعمارية والإسرائيلية، وحينئذ يمكن أن يُنفّذ مشروع، ومشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنى غيره، كوننا مؤمنين عقائديين، هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان، ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه الإمام الخميني».
ثمّ يُسأل عن علاقة الحزب بإيران، فيقول: «هذه العلاقة، أيها الأخوة، بالنسبة لنا أنا واحد من هؤلاء الناس الذين يعملون في مسيرة ‘حزب الله’، وفي أجهزته العاملة، لا أبقى لحظة واحدة في أجهزته لو لم يكن لديّ يقين وقطع في أنّ هذه الأجهزة تتصل، عبر مراتب، إلى الولي الفقيه القائد المبرئ للذمة الملزم قراره. بالنسبة لنا هذا أمر مقطوع ومُطْمَأن به (…) وهذه المسيرة إنما ننتمي إليها ونضحي فيها ونعرّض أنفسنا للخطر لأننا واثقون ومطمئنون بأنّ هذا الدم يجري في مجرى ولاية الفقيه». ورغم أنه يعتب، خلال الجلسة ذاتها، على تصريح آية الله كروبي بأنّ الحزب «هنن جماعتنا في لبنان»؛ فإنّ نصر الله لا يجد عيباً في التصريح إلا من حيث المستوى الإعلامي: «هيدا مش صحيح، إعلامياً مش صحيح»!
ثالثاً، يسألونه مَن أعلم بالحالة السياسية ومتطلباتها في لبنان»، فيجيب نصر الله (نبرة جازمة وعصبية، بعد أن يلقي بورقة السائل على الطاولة أمامه، كما يُظهر الفيديو): «الأعلم هو الإمام الخميني! لماذا؟ لأنني سابقاً ذكرت بأنّ الحالة السياسية في لبنان ليست حالة معزولة عن حالة المنطقة. هي جزء من حالة الصراع في الأمّة، هي جزء من وضع الأمّة، فكما أنّ إمام الأمّة يعرف هذا الجزء، يعرف هذا الجزء (…) الإمام الذي يخطط، هو يخطط للأمّة. المجتهدون تأتي أدوارهم في كلّ بلد، مكمّل [كذا] لخطّ الإمام، ولمشروع الأمّة الإسلامية الواحد. فلا يجوز أن نجزئ صراع الأمّة مع أعدائها، ما دام الأعداء يخوضون صراعاً واحداً مع الأمّة، فيجب أن يكون [كذا] إدارة الأمّة في صراعها واحدة، وهي من خلال الإمام».
الأرجح أنّ أحداً، في أجهزة الحزب ومؤسساته الإعلامية تحديداً، لن يجد جسارة كافية للزعم بأنّ هذه الاطروحات لصيقة بسياقات محددة، وبالتالي لا يجوز إخراجها منها، ولا قراءة مواقف نصر الله وسياسات حزبه على ضوئها. ثمة استمرارية عضوية، أقرب إلى مبادئ كبرى ناظمة، حكمت علاقة الحزب بالمشهد اللبناني الداخلي ثمّ الجوار الفلسطيني والسوري والعراقي، واليمني لاحقاً (للتذكير فقط: في خطبته الأخيرة توجه نصر الله بالتحية إلى «السيد عبد الملك الحوثي، الذي أعلن بوضوح وقوفه مع اليمنيين إلى جانب لبنان في أي معركة مع العدو الإسرائيلي، وهذا تأكيد لمعادلة القوة التي تريد أمتنا أن تكرّسها»؛ رغم أنّ «نصر» نصر الله كان في جرود عرسال وليس في مواجهة أية «إسرائيل»، فعلية كانت أم متخيَّلة). وفي هذا كلّه، ثمة «الإمام الذي يخطط»، وهو الذي «يخطط للأمّة».
وفي كلّ حال، ليس للغطاء المذهبي العقائدي أن يحجب حقائق حروب «حزب الله» في عرسال، هذه وسواها التي سبقتها؛ وأنها، في أوّل المطاف وآخره، امتداد طبيعي لحروب الحزب إلى جانب نظام بشار الأسد، وضدّ الشعب السوري؛ قبل أن تكون ضدّ «النصرة» أو «داعش»… قبلها، وأقدم منها كثيراً في الواقع. ثمة، في البدء، ستراتيجية ركيكة للإيحاء بأنّ حروب الحزب في عرسال (حتى بذرائع أشدّ ركاكة، تتصل بحروب الجيش اللبناني العتيد) تبرر تدخل الحزب العسكري في دمشق ودرعا وحمص وحلب وحماة ودير الزور.
وثمة، بالتوازي التامّ، تعمية خبيثة على جرائم الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية ضدّ النزوح السوري، وعقاب لأهل عرسال اللبنانيين على تعاطفهم المبكر مع الانتفاضة السورية.
وتبقى خلاصة ثالثة، تخصّ التهويل العاطفي الذي تُغطى به مقولة «الالتفاف الوطني» حول الجيش اللبناني، وأنه «خطّ أحمر»… حين يتصل الأمر بالنزوح السوري، حصرياً. أمّا أنّ هذا الجيش منتهَك الكرامة، عسكرياً ومعنوياً، أما سلاح «حزب الله» أوّلاً، والميليشيات كافة ثانياً؛ وأنّ الجوهر الأقصى لوظائفه بات منحصراً في ترقية قائد إلى رتبة رئيس الجمهورية، حيث يسود الوئام الوطني ساعة، وتهيمن الانشطارات الطائفية والمذهبية والطبقية كلّ ساعة… فهذه اعتبارات لا يُسكَت عنها، فحسب؛ بل يُكمّ كلّ فم يتجاسر على تظهير حقائقها الساطعة.
وهكذا فإنّ «نصر» عرسال اليوم، مثل جميع «انتصارات» حزب الله» منذ تدخله العسكري في سوريا: ذرّ لرماد دامٍ في العيون، وهزيمة نكراء لبلد كان يسمى لبنان، وصار محض «جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى»
في استمرار لمسلسل العلاقة الملتبسة بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين كشفت وسائل الإعلام العالمية عن لقاء خفي جرى وراء كواليس قمة العشرين التي عقدت في ألمانيا مؤخرا وتكتم عليه الرئيسان إلى أن انفضح؛ وفي حين أصر الكرملين على أن اللقاء لم يحصل، فإن البيت الأبيض اضطر لتقديم تفسيرات متضاربة حوله.
ولو لم يكن ترامب ملاحقاً باللعنة الروسية منذ انتخابه حتى الآن لكان يمكن لهذا اللقاء أن يجد تفسيراً يمكن هضمه، لكن غرابته تزداد عندما نعلم أنه من النادر تاريخيا لرئيس أمريكي أن يلتقي بقادة آخرين، وخصوصا الخصوم منهم، وجها لوجه من دون تحضير مسبق ومن دون وجود دبلوماسي، أو حتى مترجم في الحالة الأخيرة، من الطرف الأمريكي، وبما أن الحال كذلك فمن الطبيعي جدا أن تثور الشبهات التي تزداد حلكة يوما بعد يوم.
صرح ترامب لاحقا أن الاجتماع دام 15 دقيقة لكن تقارير صحافية أكدت أنه استمر مدة ساعة، وكان قد سبقه لقاء معلن حضره وزيرا الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون والروسي سيرغي لافروف ومترجمان من الطرفين، فما الذي جعل ترامب، في الوقت الذي يجري التحقيق مع صهره وابنه وكبار مسؤوليه حول العلاقة مع روسيا، يضع رقبته مجددا تحت تصرف بوتين، الذي يمكن أن يدعي ما يشاء حول هذا اللقاء؟
حسب شون سبايسر، الناطق باسم البيت الأبيض الذي استقال مؤخرا، فإن اللقاء كان «لتبادل المجاملات»، في حين زعم ترامب في لقاء مع صحيفة «التايمز» إنه تحدث مع بوتين حول «تبني الأطفال الروسيين»، وهو ادعاء مضحك على طول الخط ولا يتناسب لا مع «قمة العشرين» ولا مع شخصيتي ترامب وبوتين، ولا مع درجة الاشتباه التي أججها كشف الموضوع.
المنطق يقول إن اللقاء تناول شؤونا تخص الرئيس ترامب شخصيا، من جهة، والشؤون الروسية في العالم، من جهة أخرى.
ما يمكن أن نلاحظه من تطورات بعد قمة العشرين، فيما يتعلق بشؤون عالمنا العربي، يمكن أن يعطينا بعض العلامات التي قد تفيدنا في قراءة كيف يرتسم مصيرنا على خارطة التفاهمات الأمريكية الروسية.
من ذلك، على سبيل المثال، إعلان الولايات المتحدة الأمريكية إيقاف برنامج دعمها لبعض فصائل المعارضة السورية، ثم إعلان روسيا خطة جديدة لما تسميه «مناطق خفض التوتر» تكون فيه موسكو الراعية الكبرى لهذه الخطة من دون ذكر للولايات المتحدة (مع إضافة لافتة للنظر وهي تطويب دخول مصر السيسي على خط الأزمة السورية بإعلان أن الاتفاق السوري تم في القاهرة)، كما شهدنا قيام الجيشين السوري واللبناني و»حزب الله» بمعركة منسقة ضد تنظيمات سورية مسلحة موجودة في لبنان.
على صعيد الأزمة الخليجية أعلنت روسيا أنها جاهزة للتوسط حين يطلب منها، وذلك بعد تراجع فرص التسوية رغم دخول أمريكا وأوروبا وتركيا على خط الوساطة، وهذه، ربما، إشارة أخرى تنتظر أن تتضح.
ما لاحظناه، على الضفة الأوروبية، أن ألمانيا، وهي المرتبطة عضويا بخط الغاز الروسي، طالبت، مؤخرا، بعقوبات جديدة على موسكو، وهو أمر يمكن أن يعكس خط التصدع الأوروبي الأمريكي على خلفية روسيا، لكن، من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل الانحناءة الفرنسية التي قدمها رئيسها الجديد ايمانويل ماكرون، باحتفائه الشديد بترامب بعد عزلته الأوروبية المقصودة خلال قمة العشرين، ولقائه قبل ذلك ببوتين وما أثمره، أيضاً، من تسليم فرنسا الملف السوري لروسيا.
أيا كانت الاتجاهات العالمية ستسير فالمؤكد أن الدول العربية الرئيسية، مشغولة حاليا بتركيع شعوبها، وحصار قطر أكثر من اهتمامها برد الاستكبار الإسرائيلي على الأقصى، أو الاجتياح الإيراني للمنطقة، أو حتى، باهتزاز الأرض من تحت أقدامها، وعلى كل الجبهات.
ليست صحيفة «واشنطن بوست» وحدها التي أبدت الخشية من أن يفقد لبنان حياديته في الصراع الإقليمي والدولي القائم في المنطقة، فالسؤال عن مدى قدرة بعض الطبقة السياسية اللبنانية على ضمان الحيادية مطروح يومياً.
ومن لا يقرّ من الساسة اللبنانيين بأن البلد في امتحان دائم على هذا الصعيد يكون كمن يضع رأسه في الرمال ويعتقد أن الآخرين جهلة. فهدف تحييد لبنان عن صراعات المنطقة شعار جميل قابل للتطبيق لو أن هناك اتفاقاً فعلياً لا لفظيًا بين المكوّنات الداخلية عليه.
السؤال عن قدرة لبنان على تحييد ذاته عن صراعات المنطقة تحوّل سؤالاً عن مدى احتمال قوى إقليمية رغبة فرقاء محليين باعتماد هذه السياسة في وقت تتوالد الأحداث وتجعله مسرحاً لوقائع خارجية.
والمسألة تتجاوز قدرة لبنان على تحييد نفسه على رغم اعتداد فرقاء كثر بهذا الطموح. أبسط الأمثلة أن «داعش» وحده قادر على إطاحة سياسة التحييد هذه، عبر العمليات الإرهابية التي نفذها سابقا أو سعى إلى تنفيذها، شأن العمليات التي حدثت في غير بلد بعيد أو قريب. وأكثرها وضوحا فتح «حزب الله» الحدود بين لبنان والمسرح الحربي السوري في شكل غير مسبوق للسيطرة على أجزاء منه.
وإذا كان هناك من يشك في التحدي اليومي لقدرة لبنان على تحييد نفسه، يكفي حدثان راهنان للدلالة على إلحاح هذا التحدي.
في المعركة لتحرير جرود عرسال كان صعباً التمييز بين البعد الإقليمي والأهداف اللبنانية الأكيدة لاندلاعها وهي أنها للتخلص من مجموعات إرهابية، مع أن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله قال إن قراراً ذاتياً كان وراءها لا دخل لإيران وسورية فيه، بينما تتغنى طهران بالانتصار المحقق. أما الحدث الثاني فكان رسالة الكويت إلى الحكومة اللبنانية مطالبة إياها بأجوبة واضحة وجدية عن إجراءات لبنان لردع الحزب عن تقويض أمنها بعد إدانة الحزب بتمويل خلية العبدلي التي نفذت عمليات إرهابية وتسليحها وتدريبها، وكانت تنوي القيام بعمليات غيرها، فائقة الخطورة، بدعم إيراني.
وللبنان تاريخ من ارتباط المعادلة فيه بمجريات الإقليم، وسوابق لا حصر لها من طموحات قواه الداخلية لفك هذا الارتباط. وكل المحاولات السابقة للفصل بين المسارين اللبناني والإقليمي للحروب الداخلية فيه وفي المنطقة، فشلت على مرّ التاريخ. هكذا حصل في مراحل الحرب اللبنانية التي اندلعت عام 1975 على رغم محاولات عربية ودولية لتحقيق هذا الفصل. وهو ما تكرّر عندما جرى ربط لبنان بالسياسات السورية إلى درجة أدخلت المخابرات السورية في حينها في أحشاء المؤسسات اللبنانية السياسية والإدارية والعسكرية وتفاصيل المشهد الداخلي. ومن يعرف تاريخ البلد يدرك أن الأمر لم يكن مختلفاً في الأزمات الداخلية السابقة، بما فيها التي وقعت في القرن التاسع عشر، بالتزامن مع تقاسم النفوذ الدولي في المنطقة، إذ استخدمته الدول منصة لترتيب هذا التقاسم.
المرة الوحيدة التي أخذت السياسة اللبنانية قدراً معقولاً من الاستقلالية عن الصراع الإقليمي كانت إبان عهد الرئيس جمال عبد الناصر حين اتفق مع الرئيس الراحل فؤاد شهاب، ما أتاح تجنيب البلد الالتحاق الكامل بتعقيدات هذا الصراع، فأسس الأخير بناء تحديثياً للمؤسسات اللبنانية. ومع ذلك لم تنج تلك المؤسسات من آثار الإجازة الخارجية للحاكم اللبناني أن يتصرف باستقلالية، فنشأ حكم «المكتب الثاني» (المخابرات).
ولا يختلف الأمر في حالة «حزب الله» كقوة إيرانية إقليمية، مهما جرت تغطية دوره بهويته الداخلية كمكوّن لبناني. ومثلما أن دوره الإقليمي في سورية والعراق واليمن والبحرين وسائر دول الخليج، هو بالتعريف إيراني، فإن وزنه في المؤسسات اللبنانية كافة انعكاس حتمي لكل ذلك.
مع صعوبة تكرار تجربة عبد الناصر- شهاب، لأن الرئاسة اللبنانية ترمز حتى إشعار آخر إلى الالتحاق بالمحور الذي ينتمي إليه الحزب، يكرّر رئيس الحكومة سعد الحريري شعار تحييد لبنان تارة، وشعار تحييد الخلافات الداخلية عن العمل الحكومي تارة أخرى، ويحيل إيجاد حل لمسالة «حزب الله» إلى «الإطار الإقليمي». فالتحدي الذي لا يحسد عليه في ظل اختلال ميزان القوى الإقليمي يجعل مهمته أصعب من أسلافه.
وتحييد لبنان مرتبط بقدرة نصرالله على ملاقاة الحريري، وهو امر مستحيل مع اضطرار ايران لمواجهة ضغوط أميركية وعربية جديدة، والحريري غير قادر أن يتقمص شخصية حيدر العبادي في العراق بتشريع دور الحزب، كما شرّع الأخير «الحشد الشعبي» ليفتح الحدود مع سورية. قد يكون الحريري لقي تفهماً في واشنطن، لكن الحزب قد لا يتيح لدول عربية ذلك بعد أن صبرت طويلاً.
تبحث الإرادات الدولية النافذة في الوضع السوري عن صيغ للحل تبتعد، وفقاً لما هو معلن، عن فكرة الدولة المركزية، لمصلحة تصدّر صيغاً من «الفدرلة» أو «اللامركزية الموسعة»، تستلهم، إلى حدود كبيرة، روح تجربة «التحاصّ الطوائفي» اللبناني.
أي أن تجربة «الدولة التسلطية» في سورية التي اعتقلت ممكنات الاندماج الوطني طيلة خمسة عقود، واشتغلت بعد قيام الثورة عام 2011 على تفكيك «الاجتماع الوطني» الرث أصلاً، واستقدام القسم المتأخر من «المجتمع السوري» بتعبيراته الفصائلية، لخنق القسم الأقل تأخراً بالتكامل موضوعياً مع نهجها الأمني الاستبدادي، تسيل حالياً باتجاه قيام نظام ينطوي على شكل من أشكال المحاصّة بين هويّات طائفية وإثنية، مقترباً من حيث المضمون من النموذج اللبناني. هذا فيما يعمد «حزب الله» داخل نظام المحاصّة الطائفي اللبناني إلى استلهام مضامين «الدولة التسلطية» في سورية، على خلفية تغيّر موازين القوى بين الطوائف اللبنانية، واحتكاره السلاح وقرارات السلم والحرب وتدخله العسكري في سورية، وانتفاخ دوره الإقليمي تحت الإشراف الإيراني. وهو يتّجه إلى تعميق انفصاله عن بقية الطوائف اللبنانية، وذلك بتعالي بنيته الأمنية / العسكرية وتضخمها وانفصالها عن «المجتمع اللبناني»، وتحوّلها إلى مصدر من مصادر استلاب اللبنانيين واغترابهم عن ذواتهم الإنسانية، فضلاً عن تحوّل الطوائف اللبنانية وتعبيراتها السياسية والاجتماعية إلى مجرد «أحزاب جبهة وطنية تقدمية» ملحقة طوعاً أو كرهاً بتلك «البنية الحزبية التسلطية»، وإحالة اعتراضات بعض الأطراف الداخلية اللبنانية على سياسات الحزب إلى مجال اللافاعلية واقعياً.
يشير هذا التحاكي في نتائج تجربتين مختلفتين طيلة عقود إلى تماثل في الماهية العُليا الحاكمة على مجريات الحياة الظاهرية التي تبدو مختلفة بينهما، ويقف تشابه الماهية تلك في خلفية تحول «نظام تسلطي» مغرق في المركزية والشمولية، بعد خمسين عاماً من التسلط، إلى تلمس شكل من أشكال التحاصّ الطائفي والإثني بعد انهيار «الاجتماع السوري»، الذي كان موضوعاً للاستبداد، ويقف أيضاً في خلفية ذاك النهج التسلطي السافر، الذي يستطرد «حزب الله» في فرضه على اللبنانيين، بعد سبعين عاماً من تجربة المحاصّة الطائفية، التي تسيل أيضاً باتجاه مقاربة النموذج التسلطي السوري.
ومن معاني تحاكي نتائج التجربتين أيضاً:
أولاً، انشغال الرأي العام في كلا البلدين طوال عقود بمسائل ذات طابع أيديولوجي، ما فوق وطنية أو ما دون وطنية، أدخلت «المجتمعين» في صراعات دافعة باتجاه انحداري معرفياً وأخلاقياً وثقافياً ومجتمعياً، فيما ظلت التناقضات الدافعة باتجاه التقدم التاريخي مركونة على الهوامش، كالتناقض بين الهويّة والحرية، أو بين الحداثة والـتأخر، حيث حجبها ضجيج اجترار الكلام الفاقد المعنى.
ثانياً، عمّم النظام السوري خلال اجتياحه لبنان أدلوجة «شعب واحد في دولتين»، كما يعمّم «حزب الله» حالياً أدلوجة «دخلنا إلى سورية لكي نحمي ظهر المقاومة». وفي مواجهة هذا الخلط الرديء في وصل البلدين القائم على مصالح فئوية وهوويّة، ينبغي تأكيد الفصل بين «الشعبين والمجتمعين والدولتين» من أجل وصل قائم على مبدأ الحرية. فالسوريون واللبنانيون شعبان مختلفان في دولتين مختلفتين، لكن قضاياهما المستقبلية المتصلة بتحررهما من الهويّات والتأخر هي قضايا مشتركة ومتصلة وواحدة، فهما «شعبان مختلفان وقضاياهما واحدة»، ويحتاجان إلى الحرية والديموقراطية والعلمانية والأمويّة (من أمّة) وإلى إقامة الحد على «أدلوجة المقاومة» وتفكيكها منطقياً وأخلاقياً ووطنياً، ويحتاجان أيضاً إلى نمو في حيثية الكلي في مواجهة تسلطن الفئوي والجزئي، وإلى الفكر الذي يرفع لواء الكليات، (إنسان، مساواة، عدالة، حرية، قانون، دولة، أمة، شعب...)، في مواجهة التخلّع المجتمعي و «الخلاعة الأيديولوجية».
ثالثاً، استقدمت التجربتان إلى بلديهما مختلف أنواع التدخلات الخارجية، بدوافع المصالح الحصرية المتعارضة مع المصلحة الوطنية العمومية، وبالتالي ساهمتا في انحدار البلدين إلى حضيض البلد- الساحة، فغدت سورية كلبنان ساحة صراع قوى دولية وإقليمية، وتراكبت تلك الصراعات مع الانقسامات المجتمعية الداخلية، فأصبح الخروج من هذا الحضيض مهمة تاريخية مشتركة بين الاستقلاليين اللبنانيين والسوريين.
رابعاً، إن التهديد الذي وجهته أوساط «حزب الله» إلى المثقفين اللبنانيين الذين وقّعوا مؤخراً على بيان التضامن مع اللاجئين السوريين في لبنان، يعيدنا بالذاكرة إلى إعلان «بيروت – دمشق» الذي وقّع عليه مثقفون لبنانيون وسوريون، وقامت السلطات السورية حينذاك باعتقال عدد من الموقّعين، وفصل عدد آخر من وظائفهم. وهذا يدلّل على أن قوى الاستبداد والتأخر في البلدين تعمل في اتجاه واحد، وقوى الحرية والحداثة تعمل في اتجاه معاكس وواحد أيضاً.
بكلام مختصر: إن هاتين التجربتين، على رغم اختلافهما ظاهرياً، قامتا على مبدأ الهوية غلبةً أو محاصّةً، وجرّتا كلا البلدين إلى نتائج متهاوية في كارثيتها، ولم يعد ممكناً إيقاف مسارات الانحدار الراهنة التي تعصف بأسس الحياة الآدمية في البلدين، إلا بالخروج مبدئياً ونهائياَ من سجون الهويّات إلى رحاب الحرية المرتبطة بفكرة الماهية الإنسانية كماهية كلية حاكمة على كل الانتماءات الأخرى.
منذ اجتماع هامبورغ بين الرئيسين الأمريكي ترامب والروسي بوتين، في السابع من الشهر الجاري، على هامش «مؤتمر العشرين»، والإعلان عن اتفاقهما على منطقة «خفض التصعيد» في جنوب سوريا، بمشاركة الأردن، وسيل التكهنات لا يتوقف حول مضمون الاجتماع فيما خص المشكلة السورية. هل هو اتفاق موضعي أم ينطوي على صفقة سياسية أوسع بصدد مستقبل سوريا؟ هل هو اتفاق قابل للحياة أم وقف هش لإطلاق النار سرعان ما سيتداعى أمام تناقض أجندات الفاعلين الدوليين والاقليميين؟ هل يطوي الاتفاق الجديد مسارات جنيف وآستانة أم يتحرك في مسار موازٍ لهما ومتكامل معهما؟
ويعود السبب في هذه الحيرة إلى أن مضمون التوافق الأمريكي ـ الروسي الجديد هذا غير معلن، إلا فيما خص بعض الجوانب الإجرائية من عملية «خفض التصعيد» وآليات مراقبتها وضبطها. وحتى هذه اصطدمت سريعاً بتصريحات متناقضة بشأنها من الأميركيين والروس، بما يوحي وكأن الاتفاق لن يتحقق على الأرض. ربما يمكننا تلمس بعض الإشارات من ردود فعل بعض الأطراف المعنية، وتحديداً إسرائيل وإيران. فبحكم الجوار الجغرافي المباشر للمنطقة المحددة المشمولة بالاتفاق، كان على إسرائيل أن تقول كلمتها. وقالتها، بعد تلكؤ، على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو الذي عبر عن عدم رضا تل أبيب. في حين جاء الموقف الإيراني سريعاً ومحيراً. فعلى لسان الناطق باسم الخارجية، لم تعلن طهران رفضها للاتفاق، ولا أبدت حماسةً له. بدا شيء من التحفظ غير الصريح في الموقف الإيراني الذي طالب بأن يشمل الاتفاق جميع الأراضي السورية! اتفاق أمريكي ـ روسي يستبعد أي دور لطهران، وتطالب هذه الأخيرة بتوسيعه ليشمل كل سوريا؟ هذا يعني أحد احتمالين: إما أنها حققت مكاسب ولا تريد التشويش على الاتفاق بإعلانها على الملأ، أو أنها خضعت لأمر واقع أكبر من قدرتها على المواجهة ولا تريد الظهور بمظهر الخاسر.
ينطبق الأمر نفسه على موقف إسرائيل المفاجئ. فقبل إعلان نتنياهو عدم رضى إسرائيل عن الاتفاق، كانت التخمينات تذهب إلى مشاركة إسرائيلية سرية في صياغته، إلى جانب الروس والأمريكيين والأردنيين. ذلك لأنه لا يمكن تصور استبعادها من تقرير مصير منطقة تعتبرها امتداداً لأمن كيانها، من قبل الروس والأمريكيين على حد سواء. لذلك بدت تصريحات نتنياهو مفاجئة، مما اضطر وزير الخارجية الروسي إلى التأكيد على حرص بلاده على مصالح إسرائيل وهواجسها الأمنية.
النظام الكيماوي، من جهته، فضل التزام الصمت الذي يعتبر علامة رضى، في حين فضل حسن نصر الله الاحتفال بتحرير الموصل والاستعداد لخوض معركة جرود عرسال، على التعليق على الاتفاق الأمريكي ـ الروسي الذي من المفترض أنه يعني بصورة مباشرة استراتيجية حزب الله في المنطقة الجنوبية من سوريا التي كان يعول على التمركز فيها تعويضاً عما فقده في جنوب لبنان بعد حرب العام 2006. الأمر الذي لا يمكن لإسرائيل أن تقبل به.
الأسابيع الثلاثة التي انقضت بعد إعلان الاتفاق الأمريكي ـ الروسي، شهدت جملة من التطورات قد تكون كاشفة جزئياً لبعض مضامينه:
توقفت أخبار حملات الميليشيات الشيعية التابعة لإيران باتجاه معبر التنف الحدودي، مقابل تصاعد تحضير حزب الله الأجواء اللبنانية لمعركة جرود عرسال، وكانت بدايتها مع مداهمة وحدات من الجيش اللبناني لمخيمات اللاجئين السوريين، في محاولة لكسب غطاء «وطني» للمعركة القادمة. وهو ما نجح حزب الله في تحقيقه بصورة ملحوظة ومؤسفة. فلأول مرة منذ انخراط حزب الله العسكري في الصراع السوري، يحقق إجماعاً سياسياً لم يحظ به إلا في العام 2000 حين انسحبت إسرائيل، بقرار أحادي، من الأراضي التي كانت تحتلها في جنوب لبنان. مؤسف هذا «الإجماع الوطني» لأنه في الحالتين قائم على أكاذيب: أكذوبة «التحرير» في الحالة الأولى، وأكذوبة محاربة الإرهاب في الحالة الثانية المدعمة بدور مزعوم للجيش اللبناني. لا بد من الإشارة، في هذا السياق، إلى أن «الإجماع» المذكور هو إجماع الطبقة السياسية الحاكمة، أي قادة الطوائف المتحالفة في إطار الحكومة، ولا يعبر بالضرورة عن حالة وطنية عامة. ذلك لأنه تم قمع محاولات التعبير عن رأي عام مخالف لهذا «الإجماع» بشدة بلغت التهديد بالقتل على لسان إبراهيم الأمين رئيس الكتيبة الإعلامية لحزب الله الإيراني في لبنان. فلا يمكن، في ظل هذه الشروط القاهرة، معرفة حجم المعارضة الاجتماعية للحزب الإيراني ودولته في لبنان.
إلى ذلك جاءت مفاجأة ثانية، هذه المرة من القاهرة: اتفاق خفض التوتر في الغوطة الشرقية بوساطة من أحمد الجربا! وذلك بعد مفاوضات في القاهرة بين الفصائل العسكرية المعنية وروسيا، مع غياب تام للنظام الكيماوي الذي «ضمنته» روسيا. يمكن أن نقرأ «دولة الإمارات» بدلاً من أحمد الجربا، بالنظر إلى علاقة متينة بينهما هي التي تمنح الرئيس السابق للائتلاف الوطني المعارض وزنه التمثيلي. ترى هل يمكن القول إن هذا الاتفاق بشأن خفض التصعيد في الغوطة الشرقية هو الحصة التي ارتأى الروسي تقديمها لمحور السعودية ـ الإمارات ـ مصر في بازار تقاسم النفوذ في سوريا المستباحة؟ وهل كان إعلان جيش الإسلام ـ أكبر فصيل عسكري في الغوطة الشرقية ـ عن حل نفسه تمهيداً للانضمام إلى «جيش وطني»، قبيل الإعلان عن اتفاق القاهرة، هو العربون الذي قدمه المحور المذكور لروسيا لإنجاح الاتفاق؟ أما في الشمال، فأبرز التطورات تمثل في حرب جبهة النصرة ضد أحرار الشام في محافظة إدلب ومناطق مجاورة في ريف حلب الغربي وريف حماه الشمالي.
حرب انتهت سريعاً لمصلحة «النصرة» فيما يذكر بسيطرة داعش على الرقة أوائل العام 2014، بعدما كانت حركة أحرار الشام تشاركها في السيطرة على المدينة. قد لا تكون هذه الحرب الفرعية على صلة بتطورات الجنوب، بل مرتبطة أكثر بمسار آستانة وما يحتمل من حصول تركيا، في إطاره، على «الحق» في السيطرة على محافظة إدلب بموافقة روسية.
فإذا أضفنا إلى ذلك، حرب التحالف الدولي ضد داعش في الرقة ومناطق أخرى، بقوات كردية في إطار «سوريا الديمقراطية»، لظهرت أمامنا لوحة من الصراعات المنفصلة بعضها عن بعض، تديرها قوى إقليمية ودولية مختلفة، في مناطق مختلفة مما كان يسمى سوريا. لوحة قاتمة لا مكان فيها لإرادة السوريين.
لكن خياراً آخر لاح كضوء في نهاية النفق المظلم والدامي: بلدة سراقب في الشمال، وسقبا في ريف دمشق، حيث تم انتخاب المجلسين المحليين باقتراع شعبي مباشر. نعم، هناك أمل ما زال.
في النهاية لم توضح الإدارة الأميركية أي سياسة جديدة لها في سورية، ومضى شهران على الموعد الذي حدّدته مبدئياً للإفصاح عن استراتيجيتها التي استُبقت بتصميم متكرّر على تقليص النفوذ الإيراني، وثلاثة شهور على الضربة الصاروخية لمطار الشعيرات التي بُنيت عليها حساباتٌ وتكهناتٌ كثيرة. كان يؤمل من أي استراتيجية جديدة بأن تقطع مع سلبية الإدارة السابقة، وأن تعيد شدّ عصب المعارضة سياسياً من دون أن يُتوقّع منها إنعاشها عسكرياً في المناطق القليلة التي بقيت في يدها. وبعدما ارتبكت روسيا لوهلة حيال التحركات الأميركية الأولى، فإنها ما لبثت أن تكيّفت معها وامتصّت انعكاساتها، ثم انتقلت مع أول لقاء بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هامبورغ إلى إبرام اتفاق مختلف نوعاً بالنسبة إلى درعا والقنيطرة في الجنوب الغربي، ما أعطى قوة دفع لترتيباتها مع إيران وتركيا في شأن منطقتين لـ «خفض التصعيد» وليس أربعاً، كما في الاتفاق الأوليّ. لكن الغوطة الشرقية لدمشق، وهي جزء من إحدى المنطقتين، شهدت أخيراً اتفاقاً على وقف النار أنجزته روسيا مع المعارضة، بوساطة مصرية، وألزمت به النظام السوري. أما المنطقة الرابعة، وهي إدلب، فتخضع لتنسيق روسي - تركي غير بعيد من الجانب الأميركي.
كان «مسار آستانة» تلكّأ بسبب خلافات أطرافه، لذا عمدت موسكو إلى تجزئته لتتمكّن من تسييره، في ما يُنظر إليه على أنه توزيع لمناطق النفوذ بشروط روسية. في الأساس، كانت إيران تفضّل شراكة ثنائية مع روسيا تشمل كل سورية، ثم قبلت على مضض إشراك تركيا في صيغة آستانة، لكنها تجد الآن أن مشاركتها تتقلّص لتقتصر على وسط سورية (من دمشق إلى حلب مروراً بحمص والقلمون) حيث تنتشر ميليشياتها إلى جانب وجود شكلي لقوات النظام. لذلك، تسعى طهران إلى تعزيز سيطرتها على هذه المنطقة، ومعركة جرود عرسال جزء من هذا التوجّه، لإبعاد أي فصائل مقاتلة عنها واستكمال مدّ السيطرة وتواصلها مع الحدود والأراضي اللبنانية. ويبدو الإيرانيون أنهم يستبقون على الأرض أي تنسيق أو ترتيبات قد يطلبها الروس لتحقيق نوع من الانسجام بين المسارات كافة، مع الأميركيين والمصريين والأردنيين والأتراك.
في هذا السياق، تلقّت موسكو «الأخبار الممتازة التي طال انتظارها»، وفقاً لقيادي برلماني روسي في وصفه قرار ترامب إلغاء برنامج تسليح لفصائل معارضة كانت ترعاه وكالة الاستخبارات الأميركية. وقيل أنه قرار يرمي إلى «تحسين الأجواء» في العلاقة مع روسيا، لكنه يذهب أبعد من ذلك بتأكيد التوافق الأميركي مع روسيا على تصفية المعارضة المسلحة، وهو توجّه أقرّته إدارة باراك أوباما من دون الجهر به إلا أنه أصبح الآن «رسمياً» مع إدارة ترامب. هذه الخطوة لا تغيّر معالم الخريطة العسكرية الحالية لسورية، إلا أنها تلبي هدفاً رئيسياً لروسيا، وهو إنهاء أي قتال ضد نظام بشار الأسد، إذ تعتبره موسكو شرطاً لازماً لتحريك أي مفاوضات سياسية لحل الأزمة. وبالطبع لم يلغِ ترامب برنامج البنتاغون لدعم «قوات سورية الديموقراطية» وقوات «جبهة الجنوب» وأي فصيل قد يعتمد عليه في الحرب على «داعش» في دير الزور وغيرها، ذاك أن هذه القوات دُرّبت وجهّزت وسلّحت بشرط عدم مقاتلة النظام.
هل ينطوي قرار ترامب، كما يقول ناقدوه الأميركيون، على اعتراف بمحدودية النفوذ الأميركي وبالهيمنة الروسية على سورية، وعلى قبول ببقاء الأسد في منصبه، وعلى «منح عاصمة عربية أخرى للإيرانيين»؟ ليست هناك مؤشّرات تنفي أيّاً من هذه الاستخلاصات، وهي منطقية في ما يتعلّق بالأفضلية التي تمتلكها روسيا في إدارة الملف السوري، فطالما أشارت واشنطن إلى أن لا مصالح لها داخل سورية، لكنها فرضت نفسها لاعباً وشريكاً سواء باستخدام المعارضة سابقاً أو باستخدام حلفائها الإقليميين دائماً، بل إن موسكو أصرّت في مختلف المراحل على التفاهم مع واشنطن في شأن سورية كجزء من تفاهمات أكثر شمولاً تتناول ملفات لا علاقة لها بسورية. أما بالنسبة إلى الأسد وإيران فتكثر الافتراضات، لكن قرار إنهاء دعم المعارضة بعد أسبوعين على قمة ترامب - بوتين يوحي على الأقل بأن الجانب الأميركي لم يعد يعطي أولوية لـ «مصير الأسد»، بل لدفع الخطط الروسية والتأثير فيها ولو في شكل غير مباشر، كما فعل لتعديل منهج آستانة رافضاً الاعتراف لإيران بشراكةٍ ودورٍ لا تستحقهما. ولعل واقعية هذا الموقف فرضت نفسها على روسيا، إذ يوضح بعض مصادرها أن وجود إيران في «مسار آستانة» حال دون تقدّمه، كما أن وجود ميليشياتها في ما يسمّى «قوات النظام» بات يحبط إصرار موسكو على استعادة النظام السيطرة على مناطق سورية كافةً.
على رغم أن هذه المعطيات تتكرّر في تحليل الإشكال الروسي - الإيراني، إلا أنه لا يمكن البناء عليها لاستنتاج سيناريوات مواجهة لا يريدها الطرفان ولا يسعيان إليها. لكن عوامل التعارض تتكاثر مع الوقت، ولا بد أن تبرز أكثر كلما توسّعت موسكو في توزيع المناطق والأدوار، وكلما اقتربت من وضع تعتقده «مستقرّاً» أمنياً ومساعداً على تحريك التفاوض السياسي، إذ إن طهران تملك ورقة تخريب الحلول، إمّا بالتوتير على الأرض أو بتحريض «جناحها» في النظام، وقد لعبت هذا الدور في مراحل عدّة لعل أحدثها غداة اتفاق وقف النار في الغوطة الشرقية وإعلان النظام التزامه بالتزامن مع هجمات جوية وبرية نُسبت إلى «قواته». وسبق أن حاول الإيرانيون إسقاط هدنة الجنوب الغربي قبل أن يتوصّل الأطراف إلى وضع آليات ثابتة لمراقبتها.
مع وجود أربعة أطراف، أميركا وتركيا ومصر والأردن، إضافة إلى أطراف أخرى يصعب تجاهلها، تحاول جميعاً العمل مع روسيا وعبرها لبلورة ظروف ميدانية جديدة ومنسجمة في مناطق القتال، تحديداً بضبط فصائل المعارضة وبفرض وقائع على النظام حتى لو أدّت إلى تحجيم طموحاته، لا بدّ لإيران من أن تتكيّف مع التطوّرات ومع ما يدعمه المجتمع الدولي، أو تنفرد بموقف يكشف سعيها إلى إدامة الصراع، ما لم تحصل على «ضمانات» مسبقة لمصالحها في سورية، وامتداداً في لبنان. عملياً لن تنجرّ روسيا إلى مواجهة مع إيران، بل تواصل التشاور الدوري معها، لكن الاتفاقات التي تعقدها مع كل تلك الأطراف تقود تلقائياً إلى تطويق الدور الإيراني ورسم حدود له. كما أن استكمال نهج «خفض التصعيد» والتوجّه إلى ترجمته سياسياً في رعاية روسية - أميركية، خلال شهري أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) المقبلَين، يثيران أيضاً توجّسات إيران التي ستجد شيئاً فشيئاً صعوبة في استخدام الأسد ونظامه للتأثير في ما سيُطرح من خيارات أو تعطيلها.
ثمة خللٌ دائم، جوهري وموضوعي، في الخطط الروسية كما في الأميركية، لكن مع بعض الفوارق الشكلية. فهي إذ تسعى إلى تصفية المعارضة المسلّحة تنحاز بوضوح إلى الطرف الآخر، أي نظام الأسد، ولا توازن انحيازها بتعامل جدّي مع المعارضة السياسية ومطالبها المعبّرة بنسبة كبيرة عن طموحات الشعب الذي انتفض ضد هذا النظام. في المقابل، تبدي دولٌ غربية عدة استعداداً براغماتياً لغضّ النظر عن استمرار الأسد في السلطة، وهي لا تبحث في موازنة الفظاعة التي ترتكبها بتشديد الشروط لبقائه أو بدعم الخيارات الصحيحة لتحقيق الانتقال السياسي، بل إنها تستخدم هذه الورقة في مقايضات تجارية أو سياسية مع روسيا وإيران من دون أي اعتبار لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ستبقى في سجل النظام مهما بذل من جهد لتلميعه وتعويمه. وإذا كان الجميع يتغطّى بضرورة وقف القتال للذهاب إلى حل سياسي، فإن أي حلّ مبني على هزيمة الشعب وانتصار النظام وتريد روسيا تمريره بالضغط والاحتيال، وبالتفاهم مع أميركا، سيكون محكوماً عليه بالفشل لأنه يضمر استخدام القوة لفرضه. ومن شأن ذلك أن يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل الانتفاضة الشعبية.
لا يتردد حزب الله أن يدخل البلد في أتون معاركه في كل مرة يريد أن يحقق مكاسب إقليمية أو داخلية، هو الحاكم بأمره لا يلتفت إلى شركاء الوطن، ومن سأله مرة!! فالفاسدون يهمهم أن يبقوا على تقاسم سرقاتهم، وأصحاب المصالح تسد وترضي مصالحهم، أما هو فعرف من أين تؤكل الكتف منذ انسل في الحياة السياسية اللبنانية عام 1992 إلى اليوم، واستولى على الدولة كالأخطبوط، مرة لا يشارك في الحكومة، ومرة يترفع عن الوزارات السيادية بحجة أنه حزب مقاوم، وكان يتغلغل في عمق هذا البلد المهترئ.
لا يفوّت حزب الله فرصة لإظهار فائض القوة عنده وهو بذلك تطور، إذ كان في السابق متواضعاً قليلا، ويحسب حساب شركائها على قطعة الأرض هذه المسماة لبنان.
أما ومن بعد التسوية الرئاسية الأخيرة أُطلقت يد حزب الله الحاكم بأمره الآمر الناهي، المايسترو، والكل يدور في فلكه، دولة رئيس الوزراء يريد أن يخرج البلد من أزمته الاقتصادية كيفما يكن، وهو بذلك يحاول بشتى الوسائل التي لم تعد تجدي نفعاً لهذا البلد الغارق في الإفلاس، ونتيجة لدخول سعد الحريري في بازار التسوية الرئاسية كانت انعكاساتها عليه سلبا وعلى البلد تخريبا، منذ سنة تقريبا، إذا ساوم من جهة طامعون في المناصب هواة سياسة أي التيار العوني ومن جهة حزب الله المنفذ لسياسة الأخطبوط الإيراني في المنطقة.
منذ عام 2000 وحزب الله يمنن اللبنانيين بانتصاره الجنوبي، ويقيم المربعات الأمنية كيفما وأينما يشاء دون حساب، ويكفي أن تمر شاحنة أو سيارة له على أي حاجز لبناني ويعرف سائقها بكلمة "مقاومة" حتى يستطيع أن يمر دون تفتيش، جاءت حرب 2006 ودفع لبنان ثمنها حجرا وبشرا، وكان التبرير "لو كنت أعلم" ومن ثم محاولة السيطرة على بيروت عام 2008.
جاءت الحرب السورية وأخذ حزب الله القرار بالتدخل دون مشاورة أحد مع أنه فريق سياسي على طاولة مجلس الوزراء وضمن طاولة الحوار اللبناني، ضرب بعرض الحائط كل مكونات البلد، ودخل الأراضي السورية كطرف ضد طرف، بغض النظر عن كل التبريرات التي أعطيت، ودفع لبنان ومازال يدفع وسوف يدفع في المستقبل ضريبة هذا التدخل.
إلى أن استفاق اللبنانيون على معارك جرود عرسال حدد حزب الله الساعة صفر لضرب المسلحين الذين يتحصنون منذ 3 سنوات في تلك الجرود وهو يعلم بوجودهم، فلماذا لم تشن هذه المعركة الدونكيشوتية على المسلحين يوم خطف العسكريون على الأقل كان هناك مبرر؟؟ ما سبب هذه الحرب المبالغ بها وتكبير "العدو" وتصوير "أبو مالك التلي" كأنه بنيامين نتنياهو يدير المعركة، واستعمال مصطلحات النصر وما إلى ذلك وكأنها معركة وجود الأمة تدار من جرود عرسال؟ وهذه التغطية الإعلامية الموسعة وهذا التوقيت بالذات، كما أن هذه "الحرب" على المسلحين كان الأجدى بالدولة اللبنانية القيام بها ومداهمة المسلحين منذ اختطاف جنودها وذلك بحث آخر.
علما أن هذه "الحرب" سبقتها حملة عنصرية قبيحة على النازحين السوريين هدفها تشويه صورة النازح المعدم وتحميله كل صفات الإرهاب والتطرف.
إذاً هل حزب الله يفتعل معركة هنا ليداري خيبة في مكان آخر؟ وهل صحيح ما حكي عن الاتفاق الروسي - الإيراني في الجنوب السوري والذي قام على إخراج إيران وحزب الله من تلك المناطق، حيث كشف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن البلدين "سيحرصان على أخذ مصالح إسرائيل في الاعتبار عند إقامة مناطق عدم تصعيد في سوريا"، في رد، غير مباشر على تصريح لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو وقوله للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إن هذه المناطق "تكرس الوجود الإيراني في سوريا"، وإنه أمر يقلق حكومته. وقال لافروف بالحرف "إن واشنطن وموسكو فعلتا كل ما في وسعهما لمراعاة مصالح إسرائيل"، وإن لقاءاتهما التمهيدية شملتها، فقام حزب الله بالارتداد إلى الداخل اللبناني وكي لا يعود خائبا أراد أن يعود منتصرا فعاد بالنصر ولو من جرود عرسال؟
الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة عن هذه الأسئلة مع الخريطة الجديدة لـ "سوريا المفيدة".
ذلك أن المنتصر لا ينقض على شركاء الوطن بلغة التخوين والتهديد والوعيد لكل من يخالف أسلوبه في إدارة البلد، حزب الله يريد من الناس كل الناس في هذا الوطن الصغير أن يطأطئوا الراس ويوافقوا في كل مرة أراد أن يدخل مشروعا، مشروعه هو أي مشروع إيران في المنطقة وليس مشروع الوطن.
والأجدى به إن كان يحمل هم الأمة كما يقول أن يمد يده إلى شركائه وليس الإصبع عند الشاردة والواردة وإرسال التهديدات عبر كتّابه وكأنه "أمر اليوم" بل ترك الناس تتنفس الصعداء طالما يقول إنه خلص البلد من "الإرهابيين"، أن يكون تخليص البلد من "الإرهاببين" في الجرود وإرهاب الناس في الداخل عبر إسكات حق التعبير وتكميم الأفواه.
وتلك المعزوفة وحملات التخوين بوجه من يخالف حزب الله أصبحت لغة ممجوجة آن لها أن تنتهي لأنها أصبحت مكشوفة، ولأن هذا البلد مازال دولة ويخضع للقوانين الدولية، معركة عرسال هي معركة لذر الرماد في العيون وأن الغد لناظره قريب.
في خطوة تمت قبل أيام، وقع مائتان وخمسون لبنانياً من الكتاب والصحافيين والفنانين والناشطين السياسيين وفي المجتمع المدني، بياناً ضد الممارسات التي تطال المدنيين السوريين في لبنان.
وقال بيان الناشطين اللبنانيين، إنه انطلاقاً «من موقع إيماننا بلبنان وطناً للحرية والتعدد واحترام حقوق الإنسان»، و«إن الجيش ينبغي أن يكون الطرف الوحيد المسلح في هذا البلد، نعلن رفضنا القاطع، واستنكارنا لبعض الممارسات المقززة بحق المدنيين السوريين، الذين اضطرتهم مأساتهم إلى اللجوء إلى بلدنا». وأضاف البيان، أن ما يرافق هذه الممارسات من حملات تحريض على السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض الصحف وشاشات التلفزيون، أو على ألسنة بعض السياسيين، لا يقل بشاعة عن الممارسات الإجرامية نفسها، وهذه مثل تلك، لا تسيء للسوريين الأبرياء فحسب، بل تسيء أولاً وأخيراً إلى صورة لبنان، كما تنقص من ضمائر اللبنانيين، فما يجري على هذا الصعيد، لا يمثلنا بتاتاً، بل يواجهنا بخيارات حادة، يتعلق بعضها بتنظيف وطنيتنا من شوفينيتها، ويجعل الموقف من اللاجئين، أحد هذه المعايير، التي نريدها صنواً للديمقراطية وحقوق إنسان.
لقد بدت هذه الخطوة متوقعة ومطلوبة. متوقعة لأن لبنان واللبنانيين، لا يمكن أن يكونا متوافقين على نسق من ممارسات عنصرية دموية تم ارتكابها بدم بارد ضد اللاجئين السوريين، وقد سبق وقامت فعاليات لبنانية في السنوات السبع الماضية بأنشطة متعددة، أظهرت مواقف لبنانية سياسية وضميرية حول ما جرى ويجري ضد السوريين، ليس في سوريا وحدها، بل في لبنان أيضاً. وكانت الخطوة متوقعة، ليس فقط، لأن لبنان واللبنانيين، لا يمكنهما السكوت عما جرى في عرسال ومخيماتها، وهو أمر يمكن أن يتكرر إلى مناطق لبنانية أخرى، ينتشر فيها أكثر من مليون لاجئ سوري، مما يعني تحويل لبنان إلى ساحات دم وعنف واضطهاد، ذاق اللبنانيون مرارته في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) ولا يرغبون في عودته كلياً أو جزئياً إلى حياتهم، بل إن الأهم في ضرورة إصدار البيان، إعادة تصويب النقاش حول وضع اللاجئين السوريين في لبنان، وتأثيراته الراهنة واللاحقة على مستقبل العلاقات السورية - اللبنانية، التي لا يمكن تجاوز قدريتها، ليس بحكم العلاقات التاريخية والاجتماعية فقط، بل بحكم المصالح التي تربط البلدين والشعبين، خصوصاً أن بعض الأوساط اللبنانية والسورية، ذهبت في نقاش القضية باتجاه تأسيس مرحلة من الصراع التناحري بين البلدين والشعبين، وهي خطوة ينبغي أن تتوقف، لأنها لا تخدم البلدين ولا الشعبين في الراهن ولا في المستقبل.
خطوات الضمير اللبناني في العلاقة مع السوريين، ليست طارئة، ولا ظرفية، إنما هي جزء من تاريخ العلاقات السورية - اللبنانية، وخصوصاً في الحالات التي كانت تجور فيها السلطات ضد مواطنيها أو ضد البلد الآخر ومواطنيه، وهو سلوك طبيعي، تكرر في الماضي البعيد، كما في العقود الماضية، وكلف أصحاب الضمير، ولا سيما السياسيين منهم أثماناً باهظة في بعض الأحيان. فبعد اندلاع الأحداث اللبنانية في عام 1975، سعى نظام الأسد في سوريا إلى إحكام قبضته على لبنان أرضاً وشعباً، ثم قرر أن يحول سيطرته في لبنان إلى احتلال مباشر، فدفع قواته للدخول إلى لبنان في صيف عام 1976، وقد قوبلت الخطة باعتراضات سياسية وأخلاقية من جانب قطاع واسع من السوريين، وشارك في الاعتراضات كتاب ومثقفون وفعاليات بينها أحزاب سورية، كان الجوهري في اعتراضاتها، حق اللبنانيين في تقرير مصيرهم ومعالجة شؤون بلدهم دون تدخلات خارجية، ويذكر الذين عاصروا تلك الفترة، أن اعتراضات السوريين ضد رغبة نظام الأسد في احتلال لبنان، كانت بين مقدمات الهجوم على القوى والشخصيات الوطنية والديمقراطية السورية المعارضة، فتم زج كثير من القيادات والكوادر في سجون ومعتقلات النظام، وجرى تشريد مئات منهم في بلدان الشتات وبينها لبنان.
قد يكون الأهم في علاقات الضمير السورية - اللبنانية الأقرب، ما حدث في مايو (أيار) من عام 2006، حيث وقع مئات من المثقفين السوريين واللبنانيين ما عرف باسم «إعلان دمشق - بيروت، بيروت - دمشق»، وطالبوا فيه بوقف تدخلات نظام الأسد في لبنان، ووقف عمليات اغتيال الناشطين والسياسيين في لبنان، وتصحيح العلاقات السورية - اللبنانية، بحيث تقوم على احترام استقلال لبنان وسيادته، وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، ومعالجة القضايا المشتركة بين البلدين بمستوى الندية.
إن أهمية تلك الخطوة، تنبع من توقيتها كما من مضمونها. ففي المضمون كانت أول نداء علني سوري - لبناني لإعادة صياغة العلاقات بين البلدين والشعبين خارج إطار السيطرة السورية والتبعية اللبنانية، التي كرسها نظام الأسد العسكري - الأمني ما بين 1976 و2005، وإعادة بنائها على أسس موضوعية ووفقاً للقانون الدولي والمصلحة المشتركة للشعبين والبلدين، وهذا من شأنه تعزيز العلاقات الخاصة متعددة الجوانب بين سوريا ولبنان.
وأهمية الخطوة من حيث توقيتها، أنها جاءت في فترة نهوض شعبي سوري - لبناني في مواجهة نظام الأسد في سوريا وامتداداته في لبنان، الأمر الذي كرسته تطورات ربيع دمشق السوري بحراكيه الثقافي والسياسي، وانتفاضة الاستقلال اللبنانية التي أعقبت اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
تعيد خطوة اللبنانيين في بيانهم الأخير الروح لتضامن اللبنانيين مع السوريين الذين لا يواجهون تداعيات سياسة نظام الأسد الدموية فقط، بل يصبحون فريسة سياسة امتداداته السياسية والأمنية في لبنان، وهي تعكس في الوقت ذاته طموح اللبنانيين إلى بلد حر ديمقراطي ومستقل، يؤمن بحقوق الإنسان ويحرص على العمل بها.
صباح الإثنين الفائت، ظنّ اللبنانيّون أنّهم سيفيقون على انتصار: «حزب الله» يهزم خصومه، وخصومنا، في جرود عرسال.
أفاقوا، في المقابل، على تهديد: كلّ من لا يوالي «حزب الله» عميل. جاسوس. خائن. عليه إمّا أن يشرب البحر أو أن يشربه البحر.
هذا كان سيُعتبر تفصيلاً قليل الأهميّة لولا أنّه صوت إعلاميّ، محسوب على حرّيّة الرأي والتعبير وعلى الحقّ في الاختلاف.
نضع الحرّيّات جانباً. فمع المتخمين بمعرفة الحقّ والصواب لا حاجة إلى الحرّيّات وإلى آراء أخرى.
لكنْ، يبقى أنّ من ينتصر يتعلّم الرحابة والثقة في النفس. يدعو خصومه، وقد انتصر، إلى طيّ صفحة الماضي. إلى فتح صفحة جديدة. قد يفتعل ذلك افتعالاً لكنّه سيكون افتعالاً ذا معنى يقتضيه العرف، بل السياسة، بل التمدّن. قد يقول، مثلاً، عبارات من نوع: عفّى الله عمّا مضى. قد يتذكّر الأوصاف القديمة التي نسبتها كتب الإنشاء إلى العرب: «العفو عند المقدرة».
لحظة الانتصار، في حالتنا هذه، كانت هي ذاتها لحظة التهديد والوعيد اللذين يُطلقهما في العادة المهزوم والمحتقن واليائس. والحال أنّ التهديد اكتمل قبل أن يكتمل الانتصار. لكنْ، إذا كان الإعلام يهدّد هكذا، فكيف، يا ترى، يهدّد الأمن؟
في هذا العالم الموحل، حين يأتي صوت التهديد أعلى من صوت الانتصار، وأشدّ اكتمالاً وأسبق ظهوراً، فهذا يعني شيئين متلازمين:
- الأوّل أنّ المنتصر المفترض يستعجل التهديد. يستعجل بناء النظام الأمنيّ المرجوّ. يستعجل الانتقام والثأر. يستعجل «إعادة الربط بين بيروت ودمشق»، أي تعبيد طريق ميشال سماحة وتوسيعها. وأنّه، بالأصل، لم يكن معنيّاً بـ «النصرة» أو «داعش» أو إسرائيل إلّا لأسباب أخرى من بينها... تهديدنا. هذا تقليد يكاد يغدو عريقاً: «الانتصار» في 2000 اكتمل بجرائم 2005. «الانتصار» في 2006 تحقّق عبر غزو بيروت في 2008. هكذا فقط يكون الانتصار الممكن.
- الشيء الآخر أنّ المنتصر غير واثق في انتصاره. لهذا يوضّبه بسرعة على شكل تهديد. تساوره الشكوك في ما خصّ قدرته على إدامة هذا الانتصار. تساوره الشكوك في نفسه. ينظر حوله فلا يجد إلّا صحراء من الهزال. لقد فاز بضربة كفّ سريعة وفرّ. لكنّه يخاف من مستقبل قد يتأخّر، إلّا أنّه يبقى كابوساً ماثلاً في الأفق.
إنّه يعرف أنّ المسألة، هذه المرّة، ليست عبوة تودي برفيق الحريري أو سمير قصير. «الانتصار» بالعبوة مضمون بالطبع. العالم كلّه يُقرّ بالأستاذيّة فيه. بالحرفة الرفيعة والصنعة الدقيقة.
إنّ «منتصراً» كهذا مخيف. قد يكون مخيفاً أكثر من المهزوم الذي يفوقه بشاعة. وفعلاً، المهزوم يبقى أبشع من المنتصر من دون أن يكون بالضرورة أخطر.
إنّه يخيف كثيراً لأنّه لا يكفّ عن الظهور على عكس ما هي عليه الحال. طريقه من غرفة نومه إلى مطبخه يزعمها طريقاً إلى القدس. إنّه مخيف أيضاً لأنّه يفعل ما لا يُفعل، بما في ذلك تحويل الإعلام إلى آلة تهديد للزملاء ولغير الزملاء. لكنّه، قبل ذلك وبعده، مخيف لأنّه يطرد سواه من «الشعب». لأنّه يعتبر أنّه ومن لفّوا لفّه هم وحدهم «الشعب». سواهم «أنصار الإرهاب»!
انتصار طرف كهذا – وليكن على «داعش» أو «النصرة» أو إسرائيل – هزيمة. لن يُبتزّ أحد بالطبيعة القبيحة للطرف الآخر، لكنّ أحداً ينبغي ألّا يُبتزّ بالطبيعة المثيرة للغثيان في هذا الطرف.
تمكنت هيئة تحرير الشام من فرض سيطرتها على محافظة إدلب بعد معارك مع حركة أحرار الشام التي كانت تسيطر على معظم مناطق المحافظة، حيث انتهى الاقتتال بين الطرفين إلى توقيع وثيقة صلح تضمنت انسحاب حركة أحرار الشام من معبر باب الهوى ومن مدينة إدلب مركز المحافظة.
وبذلك تصبح الهيئة بحكم المسيطرة فعلياً على كامل محافظة إدلب باستثناء بعض المناطق التي تخضع لسيطرة بعض الفصائل الصغيرة والتي تربطها بالهيئة معاهدات ومواثيق تدفع من خلالها الأخيرة ضرائب وإتاوات للهيئة مقابل ابقائها وعدم التعرض لها في أماكن تواجدها.
وقد فرضت الهيئة حصاراً خانقاً على فصيل صقور الشام المتواجد في القسم الشرقي من جبل الزاوية والذي يعتبر آخر الفصائل التي لم تخضع للهيئة، وأسفر الحصار المفروض عن توقيع اتفاق بين الطرفين يقضي بفض النزاع وعودة الأمور بينهما إلى ما كانت عليه قبل الاقتتال الأخير بحسب ما قال الشيخ بسام أبو عطا مسؤول لجنة التفاوض.
وأضاف الشيخ بسام أن الهيئة كلفت لجنة برئاسته لمتابعة الأمور العالقة بين صقور الشام وبين الهيئة والتي بدأت بتوقيع الاتفاق الذي ينص على وقف الأعمال العسكرية بين الطرفين والالتزام بهدنة كاملة ورفع الحواجز في المنطقة وعدم التعرض لأي شخص من الطرفين وإطلاق الأسرى ثم تشكيل محكمة لتفصل بالمسائل العالقة بين الطرفين وتعود الأمور إلى طبيعتها.
وعملت هيئة تحرير الشام على القضاء على أهم الفصائل العسكرية في الشمال السوري، حيث كانت البداية مع جبهة ثوار سوريا التي حاربتها بتهمة العمالة والفساد وتمكنت من دخول قرية دير سنبل مسقط رأس قائد الجبهة جمال معروف لتعلن بذلك عن سيطرتها على أخر معاقل الجبهة وتمكنها من القضاء عليها بشكل كامل.
وقد اعتمدت الهيئة سياسة تحييد الفصائل الأخرى وذلك لعدم تمكنها من محاربة الفصائل مجتمعة، حيث يرى الناشط الإعلامي الليث العاصي أن السياسة التي تتبعها جبهة النصرة تعتمد على دب الفتن والخلافات بين الفصائل من جهة وبين الفصائل والحاضنة الشعبية من جهة أخرى لأنها ليست قادرة على مواجهة الفصائل مجتمعة وغير قادرة على تنفيذ أعمالها في ظل الرفض الشعبي ولذلك فإنها تنجز كل أعمالها في الاعتماد على هاتين الخطوتين.
ويعتبر الليث أن هذه من سياسة النصرة العامة التي تقوم على فكرة التغلب وإحكام السيطرة على كافة المناطق التي تتواجد فيها وبالتالي فرض مشروعها الخاص بالقوة وفي ذلك دليل على عدم قبول الآخر وتهديد لاستمرارية المشاريع الأخرى ما يعني مصادرة حرية الآخرين والتدخل في شؤونهم العامة وهو ما يناقض أفكار الثورة.
في حين حمل الليث الفصائل العسكرية الثورية مسؤولية سيطرت النصرة على المحافظة مشيرا إلى أن الفشل الذريع الذي منيت به الفصائل العسكرية الثورية ولا سيما على صعيد التنظيم ووحدة الصفوف كان له الدور الأساسي في تمكن النصرة من فرض سيطرتها العسكرية على المنطقة.
ودعت هيئة تحرير الشام الفعاليات المدنية والخدمية العاملة في محافظة إدلب بعد سيطرتها على المنطقة إلى لقاء تشاوري تخلص منه إلى إدارة ذاتية مدنية تعمل على تسيير مؤسسات المحافظة والعمل على متابعة الشأن الخدمي العام من تعليم وصحة ومجالس محلية وغيرها.
وقال علي سلطان الناشط السياسي وعضو تجمع سوريا الثورة إن بقاء جهة واحدة هي المسيطرة على القرار في المحافظة قولاً واحداً يصب في المصلحة العاملة لأن كل المشاكل التنظيمية التي نشأت ولا تزال نتيجة تعدد الفصائل وعمليات المحاصصة التي طرأت على المؤسسات الخدمية والمدنية وما تبعها من مشاكل وعراقيل نأمل أن تنتهي في ظل توحيد القرار.
وعلى الرغم من التخوف الذي يبديه كثير من الناس من عملية سيطرت الهيئة واستئثارها في القرار وتضييقها على الناس والمؤسسات المدنية يرى سلطان أن الأمر لا يزال قيد التنبؤ والظاهر أن الهيئة تحاول أن تغير من سياستها لتكون أكثر انفتاحا على المجتمع وذلك من خلال دعوتها للحوار مع الهيئات والفعاليات المدنية وما صدر من تصريحات عنها برغبتها تسليم المؤسسات الخدمية إلى الجهات المدنية القادرة على تفعيلها بما فيه مصلحة المواطنين والبلد والأيام القليلة القادمة كفيلة ببيان صحة ما تقوله الهيئة.
ورأى سلطان أن الغاية المهمة في الموضوع أن تسير الأمور بسياقها الطبيعي وأن تتمكن المنظمات المدنية والمجالس المحلية من أخذ دورها الطبيعي في تأمين حاجات المنطقة التي تتزايد بشكل يومي نتيجة ظروف الحرب التي تمر بالبلد وازدياد أعداد النازحين في محافظة إدلب.