قصة تروى وتنطبق على كل من أراد الشهرة وخاصة في عصرنا وبوجه أخص في ثورتنا.
فبعض الاعلاميين من المحسوبين على الثورة وللأسف، يتكلم بسفاهة وطعن ولعن ليس لشيء إلا أن يكون مادة دسمة تتناولها وسائل الاعلام.
ولا يخفى على أحد أن أغلب وسائل الاعلام تبحث عن فانوس سحري من تحت الأنقاض، لتنفض عنه التراب وتلمعه ويخرج منه المارد، الذي يستطيع ان يحقق مالم تستطع كل القوى والجحافل التي تحارب هذا الشعب تحقيقه.
هذا المارد هو إعلامي او شخص يدعي الوعي السياسي، ليطل علينا بمنظر بهي فيشتم هذا ويلعن ذاك ويخون ويطعن ليرسم صورة جديدة للثورة في أذهان الناس عن الثورة.
فالنظام دأب أن يرسم لوحة الثورة بلونين معروفين فإما النظام بشرعيته ولونه الزاهي أو الارهاب بلونه القاتم.
أما مدعي الانتساب للثورة والذين سبق وصفهم، فهم يقومون بمهمة أخرى، وهي أن يرموا بظلال حقدهم ويدلوا بقبيح قولهم على الفضائيات والصفحات، ليكونوا بذلك صبغوا بقايا اللون المشرق للثورة، باللون القاتم نفسه الذي يروج له نظام الإجرام.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم سبعين خريف"
وفي حالنا اليوم فالكلمة تخرج من أفواه هؤلاء فإما أن يتلقفها النظام وأعوانه ويطير بها، أو تقع في أذان الناس فتدخل الخور والإحباط إلى قلوبهم أو تقع بين طرفين فتثير خلافا ونارا بينهما.
وعلى صعيد آخر لا يقل خطورة فإن تناقل الأخبار وروايتها في ثورتنا لا يعدو أن يكون من باب ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع))، فلا تثبت من الخبر ولا دليل عليه ولا حتى مصدر موثوق له، بل أن بعضهم ربما يأخذ الأخبار من مصادر العدو ويبني عليها كلامه وتحليلاته.
وإن إحسان الظن بأمثال هؤلاء قد مللنا منه، فإن أفعالهم مدمرة وأقوالهم مهلكة وما يروجونه أخطر مما نتخيل، فكم من دولة وكيان أسقطه مرجفون كهؤلاء سواء كانوا يعلمون أو لا يعلمون فإنا لسنا مطالبين بالحكم على النوايا وإنما حكمنا يكون على الأفعال.
ولا يهمنا شخص المتكلم، بل يهمنا ماذا قال والفارق يكمن فيمن سمع هذا الطرح فراجع أقواله فإن أصر عليها فهو يعلم ماذا يفعل، ويجب علينا وكما كنا صفا واحدا في وجه عدونا فإنه من الأهم أن نكون صفا واحدا في مواجهة هذه الحرب الإعلامية المسيسة التي تختتم بها ثورات الشعوب عادة ويسدل عليها الستار، فالأمر خطير وليس بتنظير ومواجهته ضرورة ثورية بامتياز والله من وراء القصد.
قد يكون الامتناع وسيلة مقاومة أجدى من الفعل، وهو بعد أقل كلفةً، ولا يدفعك إلى الارتهان لممولٍ، أو ضامنٍ، أو مسلحٍ أو غيرهم. لا أحد يمكن أن يمنعك من الامتناع عن شيء. لا حواجز، ولا رقابة، ولا تجسس، ولا أي نوعٍ من الاحتياطات يمكن أن تمنع سجيناً أو أسيراً عن الامتناع عن الأكل. يمكن للسلطات أن تتوقّى الفعل، وأن تحتاط له وتحبطه، لكنها سوف تقف عاجزةً أمام الامتناع، مثل الامتناع الاحتجاجي عن الطعام، كما يفعل الأسرى الفلسطينيون اليوم، ويبرهنون مجدّداً أنه عندما تتوفر إردة المقاومة يصبح أي شيء قابلاً لأن يكون أداةً مناسبة، بما في ذلك الجوع و"الأمعاء الخاوية".
على مدى عشرات السنين، كرّس الفلسطينيون الإضراب عن الطعام وسيلةً فعالة للمقاومة، سواء الإضراب الفردي أو الجماعي، من إضرابات سجن عسقلان في 1976 و1977، إلى إضراب سجن نفحة 1980 وإضراب سجن جنيد 1984. وباتت أسماء شهداء الإضرابات توازي أسماء شهداء العمليات الفدائية. من الواضح للمتابع أن صوت الأسرى المضربين أعلى من صوت الأحزاب والجبهات والحركات، وأدنى إلى ضمير العالم. تماماً كما كان الحجر أشد فتكاً بالدبابة من الآر بي جي. الإرادة تبتكر الوسيلة، والتجربة تصطفي الأنسب، ما يجعل المقاومة الحقيقية عصيةً على الاحتواء.
يمكن تحويل السجون، وهي في الأصل وسيلة لشل فاعلية الحركة الخارجية للمسجونين، إلى مكانٍ للمقاومة والتأثير. السجن يقرّب المسافات السياسية بين المسجونين الذين تفرّقهم سياسات الخارج وتنظيماته، ويفعل السجن ذلك أكثر كلما كان وحشياً أكثر. النضال في الداخل الفلسطيني تفوّق، في مفعوله، على النضال الخارجي، الانتفاضات الفلسطينية سندت نضال الخارج، بما لا يقل عن العكس، وربما أكثر. والنضال في داخل الداخل (في السجون) يفتح باباً فاعلاً للمقاومة، وربما يفتح باباً لوحدةٍ فعليةٍ للنضال الفلسطيني، خصوصا أن ثمة تواصلاً في سلسلة النضال الفلسطيني، ما يجعل لحركة الإضراب في السجون الاسرائيلية ممراتٍ تصل عبرها إلى الشارع الفلسطيني، وتنعكس على سياسة المؤسسات الفلسطينية جميعاً.
يضاف إلى ذلك، إذا ما حاولنا المقارنة مع المأساة السورية، أن للنضال الوطني الفلسطيني، على ما ينطوي عليه من وعورةٍ وظلمٍ وانحيازاتٍ مضادة، قبولاً واعترافاً عالمياً، لا يتوفر للنضال السوري، في عالمٍ لا يزال يرى الاستبداد شأناً داخلياً، لا يقف على درجةٍ واحدةٍ مع الاستعمار، ولا يستوجب رفضاً مماثلاً. في وعي عالمي مكرّسٍ على هذا الفهم، وهذا الحس الأخلاقي الباهت إنسانياً، لا يكون جوع المرء أو موته في سجون بلاده "قضية"، مثل موته في سجون احتلال. هذه المعايير العامة المستقلة عن "حقوق الإنسان"، والمضادة لها في الواقع، تحكم نضالات شعوب العالم، وتحيل الاستبداد إلى شأنٍ داخليٍّ قليل الأهمية، فيما أظهرت لنا الأيام أنه، في حالاتٍ كثيرة، يكون أكثر سوءاً من الاستعمار، على ما يؤكّد نظام الأسد بثبات.
تجعل المعايير العالمية السائدة، ومدونة القيم المستقرّة في المجال السياسي، وفي الوعي العام العالمي أيضاً، من قصف مدينة حلبجة العراقية بالسلاح الكيميائي في مارس/ آذار 1988، (راح ضحية القصف حوالى خمسة آلاف وخمسمائة من المدنيين الكرد) شأناً تافهاً أمام احتلال الكويت، مثلاً. والمعايير نفسها لم تجد حاجةً للتدخل في مجازر راوندا التي راح ضحيتها، حسب الإعلام الغربي (العالمي) حوالى مليون ضحية، في غضون حوالى ثلاثة أشهر بين (أبريل/ نيسان ويوليو/ تموز 1994) وبالسلاح الأبيض الذي جرى تأمينه وتوزيعه على نحو واسع في استعداد علني للمجزرة. والأمثلة التي تذهب في الاتجاه عينه، كثيرة.
لا شك في أن هذه المعايير تُحبط السجين السوري، وأمثاله، وتُقعده عن التفكير باحتجاجٍ مشابهٍ لاحتجاج الأسرى الفلسطينيين. لا يخشى النظام السوري من موت سجنائه، إنه يقتلهم بالأحرى. لا قيمة لموت سجينٍ في بلده. لهذا، لا نستغرب احتجاج أحد الصحافيين الإسرائيليين بالقول إنه لو فعلت إسرائيل ما فعله الأسد لما سكت العالم كما هو الآن. هكذا إذن، كما يطالب المحكومون بشكلٍ من الحماية العالمية ضد قتلهم وسجنهم، يتبارى الحاكمون في مطالبة العالم، من دون خجل، بالسكوت حيال جرائمهم.
حتى لو توفرت الإرادة لدى السجين السوري، سيجد أن الأجدى أن يحافظ على نفسه، إن استطاع، من أن يدخل معركةً، خسارتها شبه مضمونة. الشروط المحيطة بالسجين السوري لا ترجّح أن يعتمد سلاح الإضراب عن الطعام. العزلة التامة للسجناء واستحالة إيجاد قضيةٍ من الإضراب حتى لو حصل، تلغي فاعلية الإضراب الأساسية المتمثلة في أنه وسيلة ضغطٍ مادتها الرأي العام. والعزلة تعني إمكانية ترك المضرب عن الطعام للموت من دون أي تبعات، فضلاً عن الوحشية المتوقعة حيال أي سلوك احتجاجي، ومن دون أي تبعاتٍ أيضاً.
التواصل النضالي الفلسطيني والقدرة على إيجاد قضية من إضراب الأسرى، قضية تترك صدىً سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً في الوعي العام العالمي، هو ما يميز النضال داخل السجون الإسرائيلية عنه داخل السجون السورية. هذا الفارق يجعل نضال السجين السوري يتركّز في ابتكار سبل الحفاظ على النفس، هذا الطريق الذي سار عليه السجين السوري طويلاً في سجن تدمر سيىء الذكر، والذي لنا كل الأسباب لنعتقد أن مراكز الاعتقال الخفية الحالية قد أسقطته عن عرشه، باعتباره السجن السوري الأفظع.
أما في ما يخص السجناء السوريين في السجون "العادية"، مثل سجن عدرا في دمشق، فإن شبح السجون الخفية والمعتزلات كافٍ لردع أي فكرة تمرّد سلمية، كالامتناع عن الأكل. لذلك تتخذ التمرّدات في السجون السورية شكلاً عنيفاً، هو في الواقع خيار انتحاري يولده اليأس لا الأمل، فالسجين السوري، يعلم كما يعلم أمثاله في كل مكان من العالم، أنه في أحسن الأحوال مدعاة للأسف، وليس للتضامن.
تمخضت اجتماعات «الائتلاف الوطني السوري» أخيراً عن انتخاب هيئة رئاسية جديدة، يترأسها السيد رياض سيف، وهو شخصية مجربة معروفة بصدقيتها السياسية والأخلاقية في معارضة النظام الاستبدادي.
ومعلوم أن سيف كان أحد الشخصيات التي أدركت قصور الائتلاف عن التحول إلى كيان سياسي جمعي للسوريين، في ظل قياداته السابقة، وتحوله إلى كيان مغلق، يفتقد الفاعلية، كما عرف عنه دعواته الجادة لإصلاح هذا الكيان وتطويره.
ولعل ذلك يحمّل الشخصيات التي دعت طوال الفترة السابقة، من أعضاء الائتلاف، إلى مواجهة مشاريع اختطاف هذا الكيان، واختزاله لمصلحة فئات معينة، وتغييبه عن كثير من نشاطات الثورة، لمصلحة محاصصات أو ارتهانات خارجية، غيبت دوره الوطني، مسؤولية المشاركة في البحث عن حلول واقعية لتطوير هذا الكيان، بعد أن أدرك الجميع عمق الأزمة التي يعاني منها هذا الجسم، بعد ما يقارب خمسة أعوام على تأسيسه.
ولا بد أن ينطلق الجميع بداية من مبدأ الاعتراف بأن هذا الكيان لم ينجح في المهمات التي قام من أجلها، ولم يرسخ تقاليد عمل سياسية تجمعه مع السوريين في الداخل والخارج، ومع المجتمع الدولي، ككيان معترف به ممثل للمعارضة السورية، بشقيها التقليدي، من جانب، والمنضوي في إطار الثورة التي قامت من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية للسوريين، من الجانب الآخر.
لا يأتي التعويل على القيادة الجديدة من تسلم شخصية وطنية كرياض سيف لمنصب الرئاسة فحسب، بل لأن الهيئة العامة الناخبة عندما اختارت مواجهة أخطاء الماضي وسلوكياته، فإن ذلك يعني أنها استجابت لأجراس الإنذار التي أطلقتها الشخصيات والكتل المنسحبة منه، خلال دورته السابقة، والتي كانت حذرت من أن بعض الأشخاص والكتل تأخذ الائتلاف إلى مكان يبعده أو يعزله عن مشروعه الوطني، ويحوله إلى شركة خاصة مستولى عليها.
وهكذا فقد أدركت الهيئة الناخبة مسؤولياتها تجاه المقبل من الأيام، بأن الإصلاح يجب أن يبدأ من خيارات الهيئة العامة، ومواجهتها أخطاء الماضي التي كانت ركنت إليها، عبر أكثر من دورة في لحظات يأس أو تسليم بالواقع، ما يمهد الطريق أمام الهيئة الرئاسية وكذلك الهيئة السياسية، لأداء ليس تحت المحاسبة، فقط، بل وخاضع لها، ولرقابة المجتمع السوري كاملاً، لمعرفتي بأن الكثير من الزملاء المنتخبين يحملون هذا الهم الوطني، بل ويحرصون على استعادة الدور الحقيقي للائتلاف، ما يعيدني إلى التذكير بأن مسؤوليات الائتلاف اليوم كبيرة في ما لو أريد له أن يستعيد اعتباره ككيان وطني يمثل كل السوريين، ولعل هذا يتطلب:
أولاً: تعزيز العمل الجماعي المؤسسي والديموقراطي، ما يؤدي فعلياً إلى تكامل الأدوار داخل الهيئتين الرئاسية والسياسية من جهة، والهيئة العامة من جهة ثانية، الأمر الذي غاب كلياً خلال الدورتين السابقتين، مما سمح بالتلاعب بالأدوار، وإزاحة بعض الشخصيات الوطنية من واجهة العمل.
ثانياً: المطابقة بين الدور المناط بالائتلاف وبنيته، حيث من المفترض أنه يشكل الكيان الرئيس للمعارضة، تجاه السوريين والعالم، مما يوجب إعادة النظر بممثلي الكتل والتيارات داخله، بإلغاء حالة الانغلاق على مكوناته، مع إقرارنا أن بعضها فرضه واقع تأسيس الائتلاف ومرجعياته الدولية والإقليمية، لينفتح على ما أفرزته سنوات الثورة الست من كيانات معارضة، وتيارات شبابية عاملة على الأرض داخل سورية وخارجها، ومن شخصيات وطنية مجربة وذات صدقية من شأنها إغناء الائتلاف وتعزيز صدقيته في مختلف المجالات.
ثالثاً: مراجعة خطابات الائتلاف، أو استعادة الخطابات الأساسية للثورة، المتعلقة بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مواطنين أحرار متساوين، دولة مدنية ديموقراطية، دولة تعددية قومياً وثقافياً ودينياً ومذهبياً، بحسب ألوان السوريين، والنأي عن الخطابات الطائفية والدينية والإقصائية المتشنجة والمتطرفة.
رابعاً: إعادة الاعتبار للمصلحة الوطنية السورية لتتغلب على أي مصلحة حزبية أو فئوية أخرى، وذلك بتقويم صريح لعلاقاتنا الخارجية، وتوافقاتنا مع الدول «الصديقة»، ذلك أن أي معارضة يفترض أن تنطلق في علاقاتها من مصالح شعبها، وهذه المصالح تتقاطع في كثير أو قليل مع مصالح دول صديقة أو شقيقة، مما يتوجب تنميتها بما لا يخالف مصلحة الشعب السوري التي هي الأساس للكيان الذي يمثل الثورة.
خامساً: بينت نتائج الانتخابات الجديدة للهيئة السياسية في الائتلاف أن المعايير التي تم اعتمادها في اختيار ما سمي «بالتوسعة النسائية»، أي زيادة تمثيل النساء داخل الائتلاف، لم ترقَ إلى مستوى المكانة التي تطمح لها المرأة السورية، من حضور فاعل في كيانات الثورة ومنها الائتلاف، مما يجعله أمام مسؤولية إعادة النظر من جديد بضم سيدات فاعلات في العمل الثوري والمجتمعي، بعيداً عن المحسوبيات، التي أسقطتها «بوعي يحترم» الهيئة العامة خلال تصويتها الأخير, وهذا لا يعني الرضوخ لعدم تمثيل المرأة في هذه الهيئة، مع أهمية تأجيل ذلك لما بعد العمل على زيادة جدية في نسب تمثيل المرأة؛ كما تقول وثائق المعارضة.
ومن هنا ومن واقع الحديث عن المرأة ودورها الفاعل في الثورة السورية، لا يمكن تجاوز تذكير الائتلاف بمسؤوليته تجاه كل المعتقلات في سجون النظام السوري، وفي الوقت ذاته تجاه أيقونتين للثورة: رزان زيتونة وسميرة الخليل، المغيبتين قسراً في مناطق سيطرة المعارضة، والإسراع كما اقترحت سابقاً، وأنا في موقع نائب الرئيس، قبل انسحابي من الائتلاف، بإحالة الملف إلى لجنة قضائية تبحث في القرائن الموجودة لدى المنظمات الحقوقية وفي دفوعات «جيش الإسلام» المتهم باختطافهما.
البدايات الجيدة عادة تبدأ من دراسة النهايات، وتحليل أسبابها، لا بتجاوزها والمرور عليها، كأنها مرت بلقاء عابر، فالسنوات الماضية حملت كثيراً من الانتكاسات وخيبات الأمل، وحتى نتجاوزها على القيادة الجديدة أن تتوجع بوضع إصبعها على الجرح لتشفيه لا كي تخفيه.
هذه العودة للحديث عن الائتلاف غايتها التأكيد دوماً أن الأمل متاح عندما تتوافر الإرادة للعمل، ومن بين الأسماء المنتخبة ما يمكن أن يوفر هذا المقدار الضئيل من الأمل للعمل هذه المرة حقاً من أجل سورية ومن أجل السوريين.
احتمالات نجاح الاتفاق البدعة "مناطق تخفيف التوتر" بين موسكو وأنقرة وطهران فوق جزء من الأراضي السورية كبيرة، لكن أسباب التوقعات بالفشل كثيرة أيضا.
شراكة ثلاثية بين لاعبين من المفترض أن مصالحهم متضاربة متباعدة في الملف السوري تظهر إلى العلن بقدرة قادر على هامش اجتماعات أستانة، لتتحول إلى شركة مساهمة ضامنة محدودة المسؤولية، بغاية غير ربحية، هدفها تقديم خدمات أمنية وسياسية وإنسانية مجانية للشعب السوري، رغما عنه، وبالمعايير والمواصفات التي حدّدتها رؤى الفرقاء الثلاثة، تحت غطاء لا خيار آخر أمامكم، وثقوا بما نقول، وحقل التجارب السوري قادر على استيعاب مزيد من الاختبارات بعد.
فجأة، تعلن روسيا وتركيا وإيران عن قرار تبديل القبعات إلى زرقاء هذه المرة. كان الشريك الأممي ستيفان دي ميستورا حاضرا للترحيب بالخطة الروسية، ووصفها بأنها تحرك في الاتجاه الصحيح لوقف حقيقي للقتال. والخارجية الأميركية، على الرغم من تحفظها وتشكيكها في مشاركة إيران دولة ضامنة فيما هي متهمة بقتل الشعب السوري "تقدّر جهود التهدئة التي بذلتها الدولتان الضامنتان، روسيا وتركيا، باتجاه المساهمة في تخفيف التصعيد، ووقف معاناة الشعب السوري والتمهيد لحل سياسي للنزاع". أوروبا أيضا تريد الخروج بأسرع ما يكون من تهديد موجات اللجوء التي يحرّكها المشهد السوري، ولذلك رجحت التأييد الخجول. كثير من دول المنطقة، وكعادتها، متردّدة أو منقسمة، حيال ما يجري، وهو أكبر ما يمكن أن تقدمه للإخوة السوريين الذين ورّطوا الجميع بثورتهم على النظام قبل ست سنوات.
سؤال: لماذا لم تحمل موسكو مشروعها السوري إلى مجلس الأمن، ليناقش هناك، ويحظى بالدعم والتأييد والإجماع الدولي؟ هل كانت تخاف الفيتو الأميركي الأوروبي، أم هي أرادت عدم إشراك بعضهم في خطتها لتحصن مواقعها الإقليمية، وتثبت أقدامها في المنطقة، عبر تكريس نفوذها في سورية؟
ماذا عن إيران؟ لا مشكلة عندها، هي جاهزة للحوار مع كل من يحمي حصتها، وهي آخر ما فعلته كان قبول اتفاقية التفاهم النووي مع أميركا، والدخول في حلقة من المساومات الإقليمية مع عدوها اللدود في كل مكان.
لماذا قبلت تركيا توقيع اتفاقيةٍ، ليس مع روسيا التي لم يعد لها خلافات معها سوى حول توقيت تصدير سلعة البندورة وتسعيرها، وتحديد نوعها، وجنسها المناسب، للمتذوق الروسي، بل مع إيران التي كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، يتهمها باتباع "سياسة توسعية فارسية في المنطقة ستقود إلى توتر العلاقات وتراجعها، وتتسبب بانفجار أمني وسياسي بين البلدين"؟ هل لأن طهران نجحت، وبسرعة البرق، في إقناع أنقرة بأنها تخلت عن مواقفها التي تقلق الرئيس التركي، أم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هو الذي استطاع إقناع أنقرة بفوائد تأسيس هذه الشراكة الثلاثية؟ أم هي البراغماتية اللعينة من حمى عدم انقطاع الخيط الرفيع الجامع بين تركيا وإيران؟
ربما وصلت أنقرة إلى قناعة بأن التفاهم مع إيران هو الحل الوحيد لإضعافها في سورية، وتقليص نفوذها، وتجنب ارتدادات أحلامها التي بدأت تقترب من مناطق الحدود التركية السورية في خط الساحل وإدلب نفسها. وما دفع أنقرة إلى توقيع اتفاقية أستانة أيضا هو اكتشافها نقاط الضعف الروسية في الملف السوري، وحاجة موسكو إلى قفزة سياسية إلى الأمام تقطع الطريق على العودة الأميركية، وتخفف عنها عبء التحالف مع النظام وإيران، وبالتالي، حاجة الكرملين لتركيا لإطلاق خطة تحرّك جديد من هذا النوع في سورية.
تقول الخارجية التركية إن الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في كازاخستان سيشمل كل إدلب وأجزاء من حلب واللاذقية وحمص. وسيحظر استخدام جميع الأسلحة في تلك المناطق، ويحظر تحليق الطيران السوري، وسيسمح بإدخال المساعدات. احتمال أن يكون بين ما دفع السفير التركي، سدات أونال، لتوقيع الاتفاق في أستانة قناعته أنه سيوفر لأنقرة فرصة التقاط الأنفاس على جبهة شمال غرب سورية، والتركيز على مناطق شمال شرق البلاد، حيث تستعد واشنطن، مع حليفها الكردي هناك، لإعلان منطقة نفوذها الجديد ومحاصرة تركيا بالجغرافيا الكردية، وكان الحقيقة هي غير ذلك، تماما كما فعلت في شمال العراق.
الاتفاق بالنسبة لتركيا ربما هو أيضا فرصة لتخفيف التوتر على الجبهات السورية – السورية، والالتفات أكثر إلى معركة القضاء على "داعش"، بالتنسيق مع روسيا، هذه المرة، طالما أن واشنطن لا تريد أن تراها إلى جانبها في الرقة، فهل حصل التفاهم التركي الروسي على تحرّك سريع بهذا الاتجاه؟ وهل تكون المفاجأة الروسية المقبلة هي إعلان خطة التنسيق العسكري مع تركيا لمحاربة "داعش"، والقضاء عليه في سورية؟
بدأ الإعلام الكردي، المقرب من حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، يشن هجماتٍ عنيفةً على تفاهم أستانة، ويصفه بالتآمر الثلاثي على سورية وشعبها. ردة الفعل الكردية هذه لا يمكن أن تكون عن عبث، أو تتم إرضاء لواشنطن. هناك قلق كردي أميركي من احتمالات حدوث تفاهم تركي روسي على المشاركة بالقوة، ورغما عن التحالف الأميركي الكردي في الحرب ضد "داعش"، وربما هذا هو بين الأسباب التي دفعت أنقرة لقبول الجلوس أمام طاولةٍ واحدة مع روسيا وإيران.
كانت رسائل الرئيس التركي من روسيا، قبيل لقائه بوتين، باتجاه واشنطن التي يستعد لزيارتها خلال أيام "أنقرة وموسكو قادرتان على تغيير مصير الشرق الأوسط في حال اتخاذهما قرارات جادة.. أنا مقتنع اليوم بأن الرئيس الروسي يريد إنهاء المأساة في سورية".
ربما غياب واشنطن، الحليف المفترض لتركيا، عن تحركها الحقيقي أمام الطاولة الثلاثية في لقاءات أستانة هو الذي دفع أنقرة أكثر نحو بوتين وموسكو. قبول الاتفاق الثلاثي بالنسبة لتركيا مرتبط أيضا بإصرار واشنطن على تحالفها المعلن مع "قوات سورية الديمقراطية"، وتمسّكها بلعب الورقة الكردية في سورية ضدها، كما فعلت في شمال العراق .
كان السؤال، قبل أسابيع، بشأن حظوظ وفـرَص اتفـاق أنقرة التركي الروسي لوقف القتال في سورية من دون مشـاركة ودور فاعـل لطهران وواشنطن، فكبرَ حجمه أكثر هذه المرّة إلى محاولة معرفة ما الذي يبحث عنه الأتراك والروس ليس في أستانة، بل في سورية؟ تفهم أنقرة الطرح الروسي حول ضرورة التنبه إلى الموقف الأميركي المرتقب في شمال سورية المتمسك بتكرار ما جرى على حدودها العراقية رافقته ضمانات روسية حول أن نظام الأسد لم يعد شرطا أساسيا في مستقبل سورية الجديدة، طالما أن أنقرة لن تعارض الدور والنفوذ الروسي في سورية.
وقد قبلت أنقرة المغامرة والتحدّي في التوقيع على اتفاقية أمنية عسكرية، نفترض أن الحلقة الأمنية والعسكرية الثانية فيها، وشقها السياسي لم يعلن بعد، وأنها ستطيح الحلم الإيراني السوري، عبر حمل طهران إلى الطاولة والتوقيع، لكنّها تعرف أيضاً أنّها تغامر بخسارة ما تملكه من فرص متبقية لها في سورية، وأهمّها خسارة رهان المعارضة السورية عليها، من دون التوقف مطولا عند احتمال التقارب الأميركي الروسي، في اللحظة الأخيرة حين يبعدها هي عن الطاولة.
آخِر ما ردّدته قوى المعارضة السورية في لقاء أستانة الثالث كان أنّ اللقاء سيبدأ بمادة الالتزام بتنفيذ شروط اتّفاقية أنقرة المخترقة إيرانياً، وبعدها ستتمّ عملية الانتقال إلى جدول الأعمال، وأنّها لن تدخل في أيّ حوار سياسي مباشر من دون ذلك. الصوت السوري الرافض الذي التقطته العدسات في أستانة الرابع لحظة تقدّم رئيس الوفد الإيراني للتوقيع على الاتفاق الثلاثي كان يردّد هذه المرة "مجرمون، قاتلون، أنتم تقتلون الشعب السوري". التهم والإدانة هي لإيران، لكن الرسالة تعني تركيا الضامن باسم المعارضة في الاجتماعات أيضا.
هل بدأ وضع سورية تحت إشراف دولي عليها، بحضور روسي وموافقة أميركية؟ وهل ستنجح موسكو في الحصول على تفويضٍ من مجلس الأمن، أو الأمم المتحدة، يشرعن قيام المناطق الأربع الخاصة بما يسمى "خفض التوتر"؟ أم سيكون هناك اليوم، أو بعد حين، تفاهم بين الدولتين العظميين يمهّد لنجاح التفويض الذي لا توافق واشنطن على مشاركة إيران في تطبيقه، بيد أنها قد تغير موقفها مقابل ثمن عراقي كبير، قد تجد طهران نفسها مجبرةً على دفعه، لأن علاقاتها مع موسكو قد تتحول، في أي تفاهم مع أميركا، إلى عبء على الكرملين، خصوصا إذا أصر ترامب على إخراج الملالي من سورية؟ وهل ستتمسك موسكو بطهران إن تفاهمت واشنطن معها على دور تركي موسع، ستتقاطع عنده سياسات الدولتين، بينما سيعطل خلافهما حول دور إيران وأهدافها تفاهمهما الضروري لحل المعضلة السورية؟ أخيرا، هل ستمهد إدارة المناطق لإنجاح الإشراف الدولي عليها، قبل نقله إلى غيرها؟ وما مصير الجغرافيا الخاضعة لتنظيم داعش، وتبلغ قرابة نصف سورية؟
يبدو أننا أمام خطواتٍ موضوعها إخراج سورية من وضعها الراهن، بمبادرة روسية تكسر الاحتجاز الدولي الذي يغلق منافذ الحل في سورية، ويصعد التعارض بين مصالح طرفيه الروسي والأميركي، ويعزّز التضارب بين تموضعهما في مناطق سورية وتعاملهما معها، ويربط موسكو بقوىً ليس من السهل تهميشها، قبل تسريع الحل، ويوسع أخيرا الهوة بين مشاريع الحلول المختلفة ووثيقة جنيف وقرارات مجلس الأمن، فضلا عن زيادة مخاطر انعكاس الحدث السوري على الأوضاع الداخلية للبلدان المنخرطة فيه، الانعكاس الذي لم يعد شأنا خارجيا بالنسبة لها، وإنما تتشابك آثاره مع صراعات الأجنحة فيها، كما يبدو بوضوح في إيران، حيث تطالب قطاعات شعبية واسعة بوقف انخراطها في حرب بشار الأسد ضد شعبه الأعزل والمسالم.
بتقديم مشروع قرار روسي إلى مجلس الأمن حول المناطق الأربع، تفتح موسكو باب الحوار مع واشنطن على أعلى مستوى، بعد أن تفاهمت مع إيران وتقاربت مع تركيا، ودخلت على خط الكرد، وزادت دعمها الأسد زيادة مفاجئة، وأوصلت جيشه إلى مشارف منطقة الانتشار الأميركي شمال سورية وجنوبها، فهل سينجح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في إقناع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بخطة بلاده، أم أن الأخير سيرفض التعاون معه في الظروف الراهنة، بينما يبني عسكره موقعا استراتيجيا وطيدا يطل على الشرق الأوسط بأكمله، يضم شمال سورية والعراق، هو في أحد المعاني تعويضٌ عن فشل جورج بوش في تحويل بلاد الرافدين إلى قاعدةٍ له، يتحكم عبرها بالمجال الأوراسي، وينشط جنده جنوب سورية، قرب إسرائيل، بالتزامن مع خطوة روسيا حيال المناطق الأربع، كأن الدولتين تتسابقان على ترجيح كفة كل منهما على الأخرى في سورية، بدل تهيئة ظروفٍ تمكّنهما من وضع بعض مناطقه اليوم تحت إشراف دولي، لن ينجح الروس في فرضه ميدانيا وإقراره دوليا من دون تفاهم مع واشنطن على مستقبل سورية وعلاقاتهما، فإن فشلا وقع تصعيد غير مسبوقٍ لجميع حروب الشرق الأوسط، وانتشار سريع لنيرانها إلى مختلف دول المنطقة، بالتلازم مع الحرب ضد الإرهاب، والصراع بينهما على إرثه الأرضي.
هل الخطوة الروسية التي أعلنت وزارة الدفاع الأميركية أنها تدرسها بعناية، لأن "الشيطان يكمن في التفاصيل"، نهائية، أم أن تنفيذها سيرتبط بنجاح مفاوضات موسكو الحالية مع واشنطن؟ وهل يعقل أن تؤيد أميركا إشراف روسيا وإيران على المناطق الأربع وتلك التي يحتلها جيشها، وحراس إيران، وشبيحة الأسد خارجها، أم أن مفاوضات الدولتين ستفشل، ولن تتوصل إلي صياغة أسس مشتركة للتعامل بينهما ومع المأزق السوري/ الإقليمي، لأن البيت الأبيض ليس راغبا بالضرورة في رفع الضغط عن روسيا، أو متلهفاً على حل سريع للمعضلة السورية، يعطل ترتيباتهم بعيدة المدى التي يصحّحون من خلالها أخطاء غزو العراق، ويستدركون ما عجزت أميركا عن تحقيقه بعده؟
يطلق موضوع المناطق حوارا روسيا/ أميركيا واسعا حول سورية وعلاقاتهما الدولية، ليس واضح النتائج، لكنه يرجح أن يستمر إلى ما بعد طرد "داعش" من الموصل والرقة، وتطبيق خطة الروس الخاصة باحتجاز فصائل كبيرة من الجيش الحر وجبهة النصرة في المناطق الأربع، فهل سيغريهما وضعهما، عندئذٍ، بالتفاهم من موقع متوازن، ينهي خلافاتهما ويشجعهما على إصدار قرار دولي، يضع سورية تحت إشرافهما، أم يفلت صراعهما من أية رقابة، فتكون سورية الموحدة ضحيته الرئيسة؟
لم ينته اجتماع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى نتائج واضحة تتبنى فيها واشنطن الخطة الروسية لإقامة مناطق تخفيف التصعيد الأربع في سورية، والتي اعتمدت في اجتماع آستانة. بدلاً من التبني الأميركي لهذه الخطة التي أقل ما يقال فيها إنها غامضة، طالب ترامب شريكه الروسي بأن "يكبح نظام بشار الأسد وإيران ووكلاءها".
ولم يتحقق لموسكو ما دأبت على القيام به مع الإدارة الأميركية منذ أيام باراك أوباما: اتفاقات لوقف النار منذ نهاية عام 2015 كانت تخرق بأبشع أنواع القصف التدميري من الطيران الروسي وطائرات النظام الذي خلف مجازر وإخراج مستشفيات من الخدمة عن سابق تصور وتصميم، تحت عنوان استهداف "داعش" و "جبهة النصرة" (هيئة تحرير الشام)، من أجل القضاء على المعارضة المعتدلة كي لا تشكل بديلاً من رأس النظام الحاكم، وجلبها ضعيفة إلى التفاوض وفق شروطه.
ومنذ بداية عام 2016 نظم الروس أكثر من اتفاق لوقف النار والأعمال القتالية (26 شباط/ فبراير) وجروا وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري إلى الموافقة عليه في شكل ثنائي وكي تساهم واشنطن في الضغط على المعارضة لتنفيذه بشتى الوسائل مع تسليم كامل للجيش الروسي بأن يواصل عملياته، ومن دون اشتراط ضبطه إيران على الساحة السورية، في إطار تفاهم غير مكتوب بين إدارة أوباما وبين طهران على عدم معاكسة سياستها في سورية والمنطقة، حرصاً على استمرار حسن تنفيذ الاتفاق على النووي. والمعلومات المسربة عن الخطوات التي تزامنت مع "النووي" أشارت إلى الإفراج عن سجناء إيرانيين دينوا بأعمال إرهابية أو بخرق الحظر على توريد معدات للبرنامج النووي وصرف أموال محتجزة.
أما في شأن اتفاق آستانة الأخير، فإن سعي موسكو إلى نيل غطاء مجلس الأمن لتطبيقه، كما فعلت حين وافقها أوباما على استصدار قرار "وقف النار" المسخرة في شباط 2016، فإنه يواجه تحفظ الدول الغربية في مجلس الأمن نظراً إلى التجارب السابقة. فمنذ صدور القرار 2254 آخر 2015 (والذي أطلق ما يفترض أنه العملية السياسية في جنيف) حتى الآن، اقتصرت القرارات الدولية الصادرة على معالجات أمنية جاءت كلها نتيجة العمليات العسكرية الروسية- الإيرانية- الأسدية، لا أكثر. وآخرها احتلال حلب (القرار 2328)، ففي كل مرة ترعى موسكو ترتيبات أمنية كانت تتبعها هزيمة للمعارضة.
من الطبيعي أن ترتفع علامات الاستفهام بعد اتفاق آستانة الأسبوع الماضي حول المناطق الأربع. بل أن الأدهى هذه المرة أن تكون القيادة الروسية تهدف إلى تحويل إطار آستانة الأمني إلى بديل لإطار جنيف السياسي الذي يستند إلى بيان جنيف الشهير (عام 2012) وصلبه بحث الانتقال السياسي.
لو كان الجانب الروسي جدياً في الحلول للأزمة السورية لما استخدم عناوين ملتبسة للاتفاقات التي يرعاها. فالقادر على التهدئة يمكنه فرض وقف النار الدائم.
التشكيك بالنوايا هنا ليس صعباً. فكيف ترعى روسيا اتفاقاً لتهجير أهالي بلدة برزة في دمشق، غداة مذكرة آستانة التي تنص بين بنودها على "تهيئة ظروف العودة الآمنة والطوعية للاجئين"؟ وكيف يستوي ذلك مع تحضيرات لتهجير أهالي القابون (تقع في إحدى المناطق الأربع)، التي أعلن مسؤولو النظام أنها ستكون الخطوة التالية؟ تحت مظلة آستانة يقضم النظام مناطق التهدئة المفترضة، بتشجيع من إيران، والتهاء تركيا عن ممارسة دورها، بخوض معركة الاحتجاج على تسليح الولايات المتحدة الأكراد في الشمال، على رغم أنها واحد من رعاة الاتفاق الثلاثة. وبشار الأسد يكرر أنه مصمم على بسط سيطرته على سورية وأنه سيعيد النازحين، بعد إعادة الإعمار! وهو ما يعزز الاعتقاد السائد بأن موسكو وأنقرة وطهران تتقاسم مناطق النفوذ عبر المناطق الأربع، ما يؤسس لحروب مفتوحة بين هذه المناطق.
كانت حجة موسكو سابقا أن إدارة أوباما غير جدية في الاتفاق معها على سورية، وأنها تصوغ اتفاقات مرحلية مع جون كيري في انتظار الإدارة الجديدة، وإذ بها تتعاطى مع ترامب بالأسلوب ذاته. أما حجتها الآن، فهي العمل على إقناع ترامب بدورها الوسيط بينه وبين القيادة الإيرانية، فيما الرئيس الأميركي يتهيأ لزيارة المملكة العربية السعودية للتنسيق معها في ضرب الإرهاب و "داعش" ومواجهة تمدد إيران الإقليمي.
محاولة القيصر التوسط بين طهران وخصومها سبق أن فشلت حين تنطح لهذا الدور بالعلاقة مع دول الخليج، التي أبلغته أنها لن تلدغ من الجحر مرة أخرى. هل باتت موسكو عاجزة في سورية، فتبقي أزمتها معلقة، ونزيفها مستمراً، باعتمادها نوعاً من الجمباز السياسي؟
لم يمض شهران على رفض بشار الأسد اقتراح المناطق الآمنة الذي تحدث عنه دونالد ترامب بغموض قبيل تسلمه سلطاته، حتى أعلنت دمشق أنها تؤيد الاقتراح نفسه، بعدما جاء هذه المرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبتأييد من إيران.
ففي العاشر من شباط (فبراير) الماضي رفض الأسد في مقابلة مع «ياهو نيوز» الفكرة واعتبر أنها «غير واقعية، وغير ممكنة قبل تحقيق الأمن والاستقرار في سورية والقضاء على الإرهابيين». وقبل ثلاثة أيام فقط قال وزير خارجيته وليد المعلم إن حكومته تلتزم اتفاق آستانة بإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد بضمانة كل من موسكو وأنقرة وطهران، لكنه شدد على أن ذلك «لن يوقف الحرب على المجموعات الإرهابية».
ومع أن حاكم دمشق لا يملك أي قدرة على رفض ما يقبل به رعاته الروس والإيرانيون، إلا أن هؤلاء يحرصون على أن يعلن شكلياً موقفه ليمنحهم ذرائع قد يحتاجونها لاحقاً للتملص.
ليس معروفاً من أين جاء اقتراح ترامب. فهو قال إن الأوروبيين ارتكبوا خطأ فادحاً عندما وافقوا على استقبال ملايين اللاجئين من سورية والشرق الأوسط. ومع أن الولايات المتحدة لم تكن معنية مباشرة بأزمة اللاجئين التي هزت أوروبا، بسبب بعدها الجغرافي.
من الواضح أن بوتين تلقف الفكرة الأميركية أو ربما كان وراءها منذ البداية. غير انه قدم صيغة مختلفة تطالب واشنطن بتعديلها، مبدية تخوفاً من «شيطان التفاصيل».
لكن، إضافة الى الموقف الأميركي الذي قد يتغير بعد لقاءات لافروف في واشنطن، تبدو دوافع روسيا وتركيا وإيران موقتة، ومرشحة لتقلبات تفرضها الحسابات الخاصة بكل منها.
فموسكو تعتقد أن الاتفاق سيمكنها من انتزاع قيادة الحل العسكري- السياسي في سورية، بما يضمن دورها ومصالحها، ومن تعقيد المهمة الأميركية في طرد «داعش» من معقله في الرقة، حيث لا تجني الولايات المتحدة وحدها الفضل في طرده، بعدما منعتها من المشاركة في الحرب على التنظيم في العراق. ولهذا سرّب الروس معلومات عن حظر طيران التحالف الدولي ضد «داعش» ثم تراجعوا بعدما زمجر الأميركيون.
ويرى الروس أن خطتهم تمنح قوات الأسد الفرصة لإعادة ترتيب أوضاعها في مناطق سيطرتها «المفيدة»، بما يكرس التفوق الذي حققته حتى الآن بمساعدتهم، كما تطلق يدها في مواصلة استهداف مناطق بعينها بحجة أن فيها «إرهابيين».
وتعرف موسكو أن مفاوضات الحل السياسي ستطول بما يكفي لتغيير الأدوار وتعديل الأوضاع على الأرض، مع احتمالات نشوب قتال بين المعارضة والمتطرفين. وربما ينشغل الأميركيون بقضايا أكثر أهمية من البحث عن ترتيبات للحكم في سورية.
وبالنسبة الى تركيا التي تدعم بعض فصائل المعارضة، فهي ترى أن تدخلها وتأثيرها سيكونان أسهل بكثير في شمال سورية، لأن لديها حوالى ثلاثة ملايين لاجئ سوري يفترض أن ينتقل معظمهم الى المنطقة الآمنة هناك عبر الشريط الذي يحتله جيشها، ما يعني تشكيل غالبية عربية مستجدة في مناطق الأكراد المحاذية للحدود التركية، تقضي على أي فكرة للحكم الذاتي.
وتقرّبُ أنقرة من موسكو مرده الى استيائها الشديد من دعم واشنطن «وحدات حماية الشعب» الكردية التي تتهمها بأنها امتداد لـ «حزب العمال الكردستاني». وزاد هذا الاستياء بعدما وافق ترامب أول من أمس على تسليح «الوحدات» واعتمادها قوة رئيسية في الهجوم المزمع على الرقة.
أما إيران المتخوفة من خطوة أميركية لقطع طريق الإمداد البري من أراضيها الى «حزب الله» عبر العراق وسورية، فهي بحاجة الى تعزيز تحالفها مع الروس لاستيعاب هجمة ترامب وعزمه على تقليص دورها في سورية، وفي حاجة ايضاً الى تهدئة جبهات القتال التي ينخرط فيها الحزب لمنحه فرصة لالتقاط انفاسه، لا سيما في ظل التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة والغارات التي تستهدف مخازن سلاحه في الاراضي السورية. ولهذا فهي تقبل موقتاً بالاحتفاظ بما يمكن الحفاظ عليه بانتظار تغير الموازين.
واذا كانت أهداف كل من أطراف اتفاق آستانة مختلفة عن الآخر، فهذا يعني أن نجاح تطبيقه رهن باستمرار خدمته هذه الأهداف المتباينة، وأن تغيرها بالنسبة الى أي منهم سيؤدي الى تقويضه، وهو أمر قد لا يتأخر اذا نجح الأميركيون في «تحييد» أحدهم.
لم تقبل أكثرية السوريين اتفاقية أستانة التي طرحت تحفيف التوتر، لأن السوريين جميعاً ينتظرون وقفاً شاملاً لإطلاق النار، وهذا ما نصت عليه القرارات الدولية بوصفه أحد بنود بناء الثقة التي ينبغي أن تستند إليها مفاوضات جنيف، ولم تكن ثمة حاجة لاتفاقيات جديدة فهناك اتفاقيات سابقة لم ينفذها الروس إحداها اتفاقية وقف الأعمال العدائية الموقعة مع الولايات المتحدة، وكذلك اتفاقا أستانة 1 و2 اللذان بحثا آليات مراقبة وقف إطلاق النار، وباءت كل هذه الاتفاقيات بالفشل لأن من وقع عليها سارع إلى اختراقها، وكان من المفارقات أن يسارع النظام إلى خرق اتفاق أستانة الأخير لحظة دخوله حيز التنفيذ في هجوم على ريف حمص وحماة.
ويعلم الروس أن فقدان الثقة هو الذي يجعل السوريين يعيشون حالة الريبة والشك والقلق من أية مبادرة يحملها لهم داعمو النظام، وقد كان مثيراً أن تسمى إيران ضامناً وهي الدولة التي تحتل سوريا وتفتك بالسوريين، كما أن موقف روسيا التي تحلق طائراتها في سماء سوريا لا يقنع السوريين بكونها راعية جادة للسلام ما لم تغير سياستها وتتحول إلى موقف محايد على الأقل.
وقد رأى السوريون في اتفاق أستانة ملامح خطة لتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، وإلى خلق واقع جديد تترسخ فيه حدود جغرافية بين المحافظات. وإلى خطة تجعل هذه المناطق التي يضمنها الإيرانيون والروس مناطق يحكمها النظام، حيث تريد روسيا أن تصنع بيئة جديدة تسهل عملية المصالحات التي يعتبرها النظام حلاً وحيداً يستسلم الشعب فيه للاستبداد مذعناً. ويعلن انتهاء الثورة عبر كبح جماح الفصائل المعارضة المعتدلة التي قد يطلب منها لاحقاً مشاركة النظام في محاربة الإرهاب، ومن يرفض يعتبر إرهابياً، ثم يتم تشكيل مجالس حكم محلي يسيطر عليها الموالون للنظام ويمكن أن يعرض لاحقاً إنشاء مجلس عسكري مشترك يضم بعض المعارضات عبر ترهيب أو ترغيب! وهذه الخطة المحتملة (المنسجمة مع رؤية روسيا لدستور سوري مناطقي وطائفي) تحل محل مفاوضات جنيف وتلغي الحاجة إليها، وتحيل الملف كله إلى أستانة برعاية روسية إيرانية، مستغلة الظرف التركي الراهن الذي يواجه خطر قيام دويلة كردية على الحدود الجنوبية لتركيا قابلة للتوسع.
وقد جاء الرفض لاتفاقية أستانة فور توقيعها من الفصائل العسكرية التي دعيت واستنكرت أن تكون إيران ضامناً وهي الدولة المعتدية، وأصدرت قوى الثورة (الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات) بيانات تعبر فيها عن رفضها لهذا الاتفاق المشبوه الذي يستبعد دور الأمم المتحدة، ويستبق رؤية الولايات المتحدة التي يترقب الجميع ظهورها، وقد عبرت الهيئة العليا للمفاوضات عن رفضها لأي مساس بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وحذرت من أي تفسير للاتفاقية حول ما سمي مناطق «خفض التصعيد» يجعلها بداية لتمرير مشروع تقسيم لسوريا، ورأت في هذا الاتفاق غموضاً حتى في المصطلحات التي تم استخدامها.
وقد أكدت المعارضة حرصها على وقف إطلاق النار، وعلى نشر الأمن في كل أرجاء سوريا، مطالبة بما أقره مجلس الأمن في القرار 2254 في مواده الشهيرة التي تعتبر وقف إطلاق النار وفك الحصار وإطلاق سراح المعتقلين ووصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين إليها حقوقاً تسبق التفاوض وتؤسس له.
كما رفضت المعارضة أي دور أو حضور للنظام في المناطق التي يشملها الاتفاق، فلن تمنحه قوى الثورة والمعارضة المسلحة عبر اتفاقيات من طرف واحد ما عجز عن الحصول عليه في الواقع.
ونستغرب أن تخلو مناقشات أستانة من أية إشارة لجرائم النظام باستخدام الأسلحة الكيماوية مع أن المؤتمر ينعقد فور ظهور تقرير منظمة هيومان «رايتس ووتش» الذي قدم الأدلة على استخدام النظام السلاح الكيماوي، ولا نستبعد إزاء هذا التغاضي أن يقوم النظام مرة أخرى باستخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري ما دام يرى تهاوناً دولياً في محاسبته.
ونرى دعوة دي مستورا السريعة إلى جولة جديدة من المفاوضات في جنيف تأكيداً على رعاية الأمم المتحدة وأصدقاء سوريا للعملية السياسية، ومع أننا نفهم أن هذه الجولة لن تحقق الأهداف المرجوة، إلا أن استمرار التفاوض هو رد على من يريدون نسف أسس العملية السياسية من أساسها، ومن ألمحوا إلى أن أستانة هي بديل لجنيف.
ونأمل أن نجد في جولة جنيف السادسة دعماً دولياً جاداً لمناقشة موضوع الانتقال السياسي، وهو جوهر الحل السياسي الذي لن يتحقق ما لم يحدث توازن دولي في دعم المفاوضات.
أعطى الظهور الأميركي في اجتماع «آستانة» الأخير، انطباعاً بأنَّ قرار سوريا لا يزال في يد فلاديمير بوتين، وأنَّ ما جرى في هذا الاجتماع هو أن كل شيء لا يزال على ما هو عليه، وأن مصير الشرق الأوسط كله لا تزال تتحكم فيه روسيا الاتحادية، هذا إن لمْ يكن هناك تدارك سريع للأمور بعد زيارة لافروف الأخيرة إلى واشنطن.
كان هذا مفهوماً في زمن إدارة أوباما البائسة، ولكن الروس قد تمادوا كثيراً عندما فرضوا في هذا الاجتماع الأخير كل ما يريدونه.
المفترض حسب ما قاله الرئيس ترمب أنْ تخرج إيران من المعادلة السورية، ومن معادلة هذه المنطقة الشرق أوسطية نهائياً، لكن ها هي دولة الولي الفقيه قد تم تكرسيها مجدداً من قبل روسيا الاتحادية، في اجتماع «آستانة» في هذه المعادلة التي بقي الخصم فيها هو الحكم، وبقي «حاميها حراميها»، وبقي الضامنون حتى بالنسبة لهذه الاتفاقيات الجديدة هم الإيرانيون والروس، «وكأنك يا أبا زيد ما غزيت»!!.
حسب ما قيل وما تردد في الإعلام، وعلى ألسنة كبار المسؤولين الأميركيين، فإنَّ تنفيذ مذكرة المناطق الأربعة التي تم الاتفاق على أن تكون مناطق عدم تصعيد قليلة التوتر، سيكون بضمانة دول محايدة، لكن ما جرى في اجتماع «آستانة» الأخير أن كل شيء بقي على ما هو عليه، وأنَّ إيران قد تم تكريسها كدولة ضامنة، أي كدولة «محايدة»، وأنَّ روسيا بقيت تمسك بكل أوراق هذه الأزمة التي من المفترض أنها أصبحت أزمة دولية، كل هذا وقد أُعطي لتركيا دور ثانوي «ديكوري»، في حين أن المتوقع أن يفرضها الأميركيون دولة «ضامنة» رئيسية، من حقها أن تتدخل حتى عسكرياً لضبط الأمور في مناطق «تخفيض التوتر» الأربعة إنْ استلزمت مستجدات الأمور ذلك.
والسؤال هنا هو: كيف من الممكن يا ترى أن تلعب إيران دور الخصم والحكم في الوقت نفسه؟ والتي هي سبب المشكلات والإشكالات التي تشهدها سوريا ويشهدها الشرق الأوسط كله؟.
كان يجب إخراج إيران من هذه المعادلة نهائياً، والمفترض أن تكون الدول الضامنة لمناطق «التهدئة» الأربعة دولاً محايدة بالفعل، وذلك لأن الإيرانيين ولأن الروس أيضاً لا يمكن أن يكونوا محايدين، ولأنهم سيبقون يتلاعبون بعامل الوقت لإبعاد استحقاق: «المرحلة الانتقالية»، حسب «جنيف 1» وقرار مجلس الأمن رقم 2254، ولأنهم سيستغلون «ضمانهم» هذا الذي أقره اجتماع «آستانة» الأخير للإبقاء على بشار الأسد حتى نهاية رئاسته الحالية، بل وإنه غير مستبعد أن يضمنوا له ولاية جديدة وبانتخابات شكلية، ككل الانتخابات الرئاسية التي جرت في سوريا خلال نصف القرن الأخير كله.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه هو أن وزير خارجية نظام بشار الأسد لم يلمّح فقط في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين الماضي، بل أعلن وبكل وضوح أن صيغة المناطق الأربعة الآنفة الذكر لن تكون تحت رقابة الأمم المتحدة، وإنما تحت الرقابة الروسية، وأنها ستكون البديل لـ«حل جنيف والمرحلة الانتقالية»، وهذا يعني، إنْ لم يكن هناك تدخل أميركي ودولي عاجل لتصحيح المسار ووضع الأمور في أنصبتها الصحيحة، أنَّ الروس والإيرانيين قد حققوا انتصاراً كاسحاً، وأنَّ الأمور قد عادت إلى ما كانت عليه لدى انفجار الأزمة السورية، وكأن كل هذا الدمار لم يكن، وكأن مئات الألوف من الأرواح البريئة لم تزهق، وكأن الملايين من السوريين لم يتحولوا إلى لاجئين ومشردين، سواء داخل وطنهم أو في كثير من دول العالم القريبة والبعيدة.
إنَّ المفترض أن يكون وضع الولايات المتحدة في اجتماع «آستانة» الأخير ليس بصيغة «مراقب»، فهذا كان في عهد الإدارة السابقة التي هي المسؤولة عن وصول الأزمة السورية إلى ما وصلت إليه، أمّا في عهد هذه الإدارة الجديدة فإن المفترض أن تكون الدول الضامنة لـ«المناطق الأربعة» دولاً محايدة بالفعل، وأن تُفْرض على الإيرانيين فرضاً مغادرة سوريا سياسياً وعسكرياً، ووفقاً لجدول زمني محدد قصير المدى، وبكفالة دولية فاعلة، وألا يتم تأجيل المباشرة بالمرحلة الانتقالية وفقاً لـ«جنيف1» وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ولا للحظة واحدة.
ولعل الأخطر في هذا كله أنَّ هناك من يتحدث عن أنَّ ما تم الاتفاق عليه في «آستانة» الأخير سيكون بالنتيجة هو الحل النهائي، وأن فترة تطبيقه لن تقف عند مجرد الشهور الستة المتفق عليها، بل قد تمتد لسنوات طويلة، مما يعني أن عملية التلاعب والتسويف التي سيلجأ إليها الروس حتماً وبكل تأكيد ستسفر عن مستجدات كثيرة، وأن هذا النظام الاستبدادي المتهالك الذي على رأسه بشار الأسد، قد يستمر لسنوات طويلة، وتكون النتيجة أن كل هذه المذابح وكل هذه الدماء التي نزفت، ستكون نتيجتها كنتيجة مذابح حماة الشهيرة التي ارتكبها الأسد الأب وشقيقه رفعت، قائد سرايا الدفاع، في عام 1982.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من الإشارة إلى أن الذين يراهنون على فراق روسي – إيراني قريب أو بعيد، يقعون في خطأ فادح، وأنهم لا يعرفون حقائق الأمور، فالمصالح الاستراتيجية المشتركة بين الدولتين تفرض عليهما تحالفاً طويل المدى وبلا نهاية قريبة، فالروس الذين ذاقوا مرارة العزلة الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكن أنْ يفرطوا في هذا الحليف الذي لا حليف فعلياً لهم غيره، ذلك بينما الإيرانيون الذين كابدوا ويلات عزلة استدامت لنحو أربعة عقود لا يمكن أن يفكروا حتى مجرد تفكير بإنهاء زواجهم السياسي «الكاثوليكي» مع إمبراطورية فلاديمير بوتين، التي مكنتهم من أن يسيطروا على العراق وعلى سوريا، والتي تساندهم للسيطرة على بعض الدول العربية الأخرى.
إن ما يريده ويسعى إليه بوتين هو أن يكون هناك عالم جديد هو عالمه، كما قالت مارين لوبان، وهو إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على هذا العالم الأحادي القطبية، ولذلك فإنه مضطر للحفاظ على هذا الحليف الإيراني، وكل هذا بينما تخلى الإيرانيون عن كل خلافاتهم التاريخية مع روسيا الاتحادية من أجل ضمان مساندة موسكو لكل تطلعاتهم التمددية في المنطقة العربية. ولذلك فإن على العرب أن يكفوا عن الاستمرار في محاولات دق الأسافين في العلاقات الروسية – الإيرانية؛ لأن هذا غير ممكن في المدى المنظور على الأقل، ولأن «القيصر الروسي» لا يرى أي جدوى من تعزيز علاقات بلاده مع الدول العربية على حساب علاقاتها مع «الإمبراطورية» الخمينية!
شغلت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية مختلف أوساط الرأي العام الفرنسي، وحظيت بمتابعةٍ عربيةٍ وعالميةٍ غير مسبوقة، نظراً إلى انحسار التنافس بين مشروعين، الأول ليبرالي شعبي، يركّز على فرنسا الوطنية التعدّدية، وعلى الوحدة الأوروبية والانفتاح العولمي، بزعامة إيمانويل ماكرون، القادم من خارج المنظومة الحزبية التقليدية الفرنسية، والثاني يميني شعبوي متطرّف وعنصري، يركّز على القومية الفرنسية والانغلاق والهوس بالآخر ومعاداته، بزعامة مارين لوبان، رئيسة حزب الجبهة الوطنية.
وإن كان فوز ماكرون بمثابة انتصار لتيار شعبي متمرّد على الحزبية الفرنسية، إلا أنه شكل أيضاً هزيمةً للتيار الشعبوي اليميني المتطرّف، والأهم أنه أعاد تشكيل المشهد السياسي الفرنسي من جديد، إذ تراجع وزن (وتأثير) حركات وتيارات وأحزاب اليمين واليسار على حدّ سواء، مقابل ازدياد وزن اليمين المتطرّف، الممثل بحزب الجبهة الوطنية.
ويبدو أن الناخبين الفرنسيين أرادوا القطع مع المنظومة الحزبية التقليدية، بيسارها ويمينها، ومعاقبة أحزابها على سياساتها التي لم تنقذهم من البطالة، ولم توفر لهم الأمن والأمان، إلى جانب استيائهم من العمليات التي قاموا بها، من أجل حماية أصحاب رؤوس الأموال، وإنقاذهم من أزماتهم، والمحافظة على رواتب المسؤولين التنفيذيين، الأمر الذي أفضى إلى هبوط شعبيتها. وعلى الرغم من التحذيرات الواضحة التي وجهها الفرنسيون إلى أحزاب اليسار واليمين، في أكثر من مناسبة انتخابية سابقة، إلا أن من كان يصل إلى مركز صنع القرار من اليمين واليسار يواصل انتهاج السياسات والتوجهات نفسها، الأمر الذي أفضى إلى إحجام المواطن الفرنسي وتململه من الماراثونات الانتخابية، وفضّل أن ينهي مفارقاتٍ طويلةً من الصراع بإيصال كل من إيمانويل ماكرون ومارين لوبان للتنافس على رئاسة الجمهورية الفرنسية.
وجاء فوز ماكرون بعد حملةٍ انتخابية، تميّزت بحدّتها وبخروجها عن المألوف والتقليدي، استخدمت فيها كل الوسائل المتاحة والممكنة لدى كل من ماري لوبان، المرأة اليمينية المهووسة برمي كل الشرور على عالم الغير وشيطنة الآخر، والتي تنافست على أمل أن تصبح أول سيدةٍ تصل إلى قصر الإليزيه، وإيمانويل ماكرون الشاب القادم من عالم الاقتصاد، والبعيد عن مزاولة السياسة بشكلها الحزبي التقليدي، الأمر الذي كشف خللاً كبيراً في الحزبية الفرنسية، فيما بدت العملية الانتخابية كأنها صراع محموم، وصلت فيه حمّى المنافسة إلى حدّ جعلت كلاً منهما يستند إلى رؤيةٍ تسعى إلى الانتصار بأي ثمن.
ويجسّد وصول ماري لوبان إلى الجولة الثانية من المنافسة على كرسي الرئاسة الفرنسية، وحصولها على ثلث عدد أصوات الناخبين الفرنسيين، ظاهرة، ويثير مخاوف وتوجسات لدى غالبية مكونات الشعب الفرنسي، وسيكون له أثره الواسع على الداخل الفرنسي، بما قد يغير المستقبل السياسي لفرنسا وتوازناتها الاجتماعية، لأنه جاء وسط انقساماتٍ اجتماعيةٍ مهمةٍ، بنيت على نزعاتٍ عنصريةٍ وطبقية، وأسهمت في إحداث تغيراتٍ في الخريطة الانتخابية التقليدية، إلى جانب لجوء لوبان إلى حركاتٍ بهلوانية، أساسها مبنيٌّ على كراهية الآخر والعنصرية حيال المسلمين والمهاجرين، وتحميلهم مسؤولية فشل السياسات والأزمات، مع أن نموذج لوبان ليس وحيداً في العالم، لكنه الأكثر صفاقةً، مقارنة بالنموذج الذي ينمو منذ مدة، وينتشر بسرعة في بلدان الاتحاد الأوروبي وأميركا، حيث باتت أحزاب اليمين فيها تعتاش على خطاب العداء للآخر، وخصوصا العربي والإسلامي، وراحت تراكم مكاسبها الانتخابية على حساب معاناته، ليبلغ هذا الخطاب ذروته في خطاب ترامب العدائي في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي فاز فيها.
وتمثل مارين لوبان، وقبلها والدها جون ماري لوبان، ظاهرة نامية في الغرب الأوروبي والأميركي، تمثل الرجل الأبيض الذي بنى خطابه على كراهية الآخر والاحتجاج على الوضع الراهن. وهي، وإن تلقت هزيمةً في هذه الانتخابات الرئاسية الفرنسية، إلا أنها تمثل ظاهرةً صاعدة، قد تعود في أي استحقاق مقبل، وعلى حساب تراجع الطبقة السياسية الفرنسية، ما يتطلب إعادة النظر في بنى الجمهورية الفرنسية الدستورية والسياسية والإدارية.
والحاصل أن فوز ماكرون لن يشكل قطيعةً مع اليمين المتطرّف، ولن يوقف حماس هذا اليمين في الوصول إلى حكم فرنسا، ولعل الاستحاق المهم المقبل، المتمثل في الانتخابات التشريعية، التي ستفضي إلى اختيار أعضاء البرلمان، سيلقي أثره على تحرّكات الرئيس الجديد وسياساته، كونه سيؤثر على طبيعة مؤسسات الحكم والسلطات والتشريع وتركيبتها وعملها، وعلى الإصلاحات التي يريد ماكرون القيام بها، من أجل تطوير البنى الاقتصادية والسياسية والإدارية، وبما يدعم الداخل الفرنسي، وجذب الفرنسيين المحبطين واللامبالين إلى المعسكر المناهض لأفكار اليمين المتطرّف الاستئصالية، واستعادة ريادة الدور الفرنسي في الاتحاد الأوروبي، والوقوف أمام محاولات اليمين الشعبوي في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وسواهما، الرامية إلى ضرب النادي الأوروبي، إضافة إلى مجابهة عدوانية فلاديمير بوتين حيال أوروبا الموحّدة، وتدخلاته لصالح اليمين الشعبوي، واتجاهاته المتطرّفة.
ولم يكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومعه معسكر إيران والنظام السوري وسائر رصفائه وحلفائه، سعداء بوصول ماكرون إلى كرسي الرئاسة الفرنسية، ولعل ما يهم أبناء الشعب السوري أن ماكرون ينظر إلى الأسد على أنه مجرم حربٍ تجب معاقبته، حيث أعلن أنه في حال انتخابه رئيساً لفرنسا، فإن إدارته ستعمل، مع الشركاء الدوليين، لوضع حد للأزمة السورية، وإنهاء حكم الأسد. وصرح عقب أزمة استخدام نظام الأسد الأسلحة الكيميائية في خان شيخون "علينا أن نتدخل ضد من يستخدمون الأسلحة الكيميائية لقتل المدنيين في سورية، ووضع حد لجرائم الأسد بحق الأبرياء، بعدما شكل الصمت الدولي عن تلك المجازر مبرراً لقتل مزيدٍ من الأطفال والنساء من دون ذنب، وهو ما لن يستمر"، الأمر الذي يشير إلى أن ماكرون سيؤكد استمرارية السياسة الفرنسية إزاء الملف السوري، المرتبطة بقيم الجمهورية الفرنسية، وفي طليعتها حقوق الإنسان التي لطخها نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس، بإمعانهم في قتل السوريين وتحطيم تطلعاتهم في الخلاص من الاستبداد.
حفلت الأزمة السورية، على امتداد السنوات الست ونيف من عمرها، بمفارقات عديدة، وتناقضات شديدة، بلغ بعضها حد الغرابة، وإن كانت مفهومةً تمامًا بلغة المصالح، من ذلك مثلاً أن دولاً "محافظة" دعمت الثورة في سورية، وأنظمة "ثورية" وقفت في وجهها، لا بل سعت إلى وأدها. ومن ذلك تغير مواقف بعض الدول والأحزاب وانقلاب أدوار بعضها الآخر بصورة حادّة، بحيث غدا بعض الحلفاء خصوماً، وأصبح بعض الخصوم حلفاء، ووقف بعض اليسار الثوري في وجه الثورة، ورفع بعض اليمين المحافظ السلاح دفاعاً عنها، هذا من بين أمثلةٍ كثيرة يمكن ذكرها.
المفارقة التي شهدنا بعض فصولها أخيرا، في سلسلة مفارقات الأزمة السورية، تمثلت باتفاق أستانة، الذي توصلت إليه الدول الراعية للحرب في سورية لإنشاء مناطق تهدئة أو خفض للتصعيد (De-escalation Zones). أصل الاتفاق مبادرةٌ روسية، تلقفتها تركيا خلال اجتماع القمة، أخيرا، بين الرئيسين بوتين وأردوغان في منتجع سوتشي الروسي على البحر الأسود، ومثلت محاولةً جديدة لاستعادة زمام المبادرة على الأرض، وفي السياسة، بعد فشل الاتفاق الروسي-التركي لوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أنقرة أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
واقع الأمر أن المبادرة الروسية جاءت إشكالية وغير مفهومة، لجهة دوافعها، وانقلاب موقف الكرملين فيها، فمن جهةٍ طرحت روسيا فكرةً تركية ظلت تقاومها منذ بداية الأزمة، وهي إقامة مناطق آمنة (Safe Zones)، دع جانباً مسألة إنشاء مناطق لحظر الطيران (No Fly Zones) أرادتها أنقرة لتأمين إقامة اللاجئين داخل الأراضي السورية، وحماية جيوب المعارضة من القصف الجوي الذي نكّل بالمدنيين والثوار. لا بل استخدمت روسيا، وبشكل متعمد، القصف الجوي استراتيجيةً لاقتلاع أكبر عدد ممكن من المدنيين من أراضيهم ودفعهم في موجات هجرة ولجوء كبيرة باتجاه أوروبا، بهدف تفكيك الاتحاد الأوروبي، ومعاقبة الأوروبيين، خصوصا الألمان، على مواقفهم من الأزمة الأوكرانية، فكيف تطرح روسيا الآن مبادرة حظر الطيران إذاً؟
وتغدو المفارقة أكبر، إذا لاحظنا أن الطيران الروسي هو الطيران الوحيد (إلى جانب طيران النظام) الذي يحلق ويقصف في المناطق الأربع التي تمت الإشارة إليها في اتفاق أستانة، وكأن روسيا تفرض حظرًا على نفسها، ما يجعل الأمر أكثر صعوبة لجهة التفسير، إذ كان في وسع روسيا، ببساطة، أن توقف طيرانها عن القصف في هذه المناطق، من دون الحاجة إلى إعلان حظر طيران. فلماذا تفعل ذلك؟
يبدو صعباً فهم المبادرة الروسية خارج سياق العودة الأميركية القوية إلى الساحة السورية، فمبادرة تخفيض التصعيد جاءت بعد استهداف قاعدة الشعيرات، ما عزّز مخاوف روسيا من احتمال حصول تغيرٍ في المقاربة الأميركية تجاه الصراع في سورية، في ضوء توجه إدارة ترامب المعلن نحو "قصقصة" النفوذ الإيراني في المنطقة، ابتداء من سورية. وقد بدا واضحاً، منذ اللحظة الأولى لإعلانه، مدى اهتمام روسيا بالحصول على التزامٍ من واشنطن بدعم اتفاق أستانة والعمل به. إذ صرح المبعوث الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتيف، بأن بلاده تتوقع من الولايات المتحدة احترام مناطق الحظر في الاتفاق، وهذا ما دفع الروس أيضاً إلى الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرارٍ يرحب باتفاق أستانة، ما يعني أن المبادرة لم تكن سوى محاولةٍ لتثبيت الوقائع التي حققتها روسيا على الأرض خلال العامين الماضيين، ومنع أي تغيير جذريٍّ عليها، من خلال تقييد حركة واشنطن في الأجواء السورية، وهو أمرٌ ما كان ليمرّ على البنتاغون الذي رفض صراحةً الالتزام بمناطق الحظر الروسية.
يبقى سؤالٌ مهم، متصلٌ بموقف إسرائيل من الاتفاق، وما إذا كانت ستلتزم به في ضوء التفاهم الذي أبرمه نتنياهو مع بوتين، خلال زيارته الأولى إلى موسكو بعد التدخل الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، وسمح لإسرائيل بحرية الحركة في الأجواء السورية، بناء على مقتضيات مصلحتها الأمنية. فهل يقبل نتنياهو تقييد حركة الطيران الإسرائيلي في سوريةـ من دون أن يكون جزءاً من اتفاق أستانة؟ هذا السؤال برسم الروس والإيرانيين وكل "محور المقاومة" الملحق بهما للإجابة عليه.
على الرغم من أن ماكينة الدعاية الإسرائيلية تحرق وقوداً كثيراً في سعيها إلى شيطنة تدخلات إيران في دول الإقليم، ولا سيما في سورية؛ إلا أن نظرةً متفحصةً سرعان ما تقود إلى استنتاج أن الحرائق التي أشعلتها إيران في المنطقة قد حسّنت المكانة الاستراتيجية للكيان الصهيوني، ووسّعت بيئته الإقليمية، ومنحته هامش مناورة أكبر لتحقيق مصالحه الأمنية، فالتورّط في سورية منح إسرائيل الفرصة لاستنزاف إيران وأدواتها، ولا سيما حزب الله، وضمن تحسين مكانتها في أية مواجهة مستقبلية مع الطرفين، فقد استغلت إسرائيل استنفار حزب الله لصالح نظام الأسد، بناء على توجيهات إيران، وعمدت إلى تقليص قدرة الحزب على تعزيز قوته العسكرية وتعاظمها من خلال الحيلولة دون وصول السلاح إليه، عبر شن الغارات الجوية على مخازن وإرساليات سلاح تعود إليه؛ إلى جانب تبرير تصفية قياداتٍ عسكرية للحزب والحرس الثوري الإيراني في قلب الأراضي السورية، فقد كان حزب الله يحصل على السلاح الإيراني عبر سورية، طوال الفترة التي سبقت الثورة، ولم يحدث أن تم استهدافها إرساليات السلاح على هذا النحو، وبتلك الوتيرة.
ومما فاقم أوضاع إيران سوءاً أن إسرائيل تحظى بهامش حرية شبه مطلق بدعمٍ صامتٍ من روسيا التي يفترض أنها حليفٌ لطهران، فحاجة إيران للدور الروسي الحاسم في ضمان استقرار نظام بشار الأسد اضطرّها إلى ابتلاع التنسيق الروسي الإسرائيلي الهادف، بشكل أساس، إلى توفير بيئةٍ مناسبةٍ لمواصلة استنزافها وحزب الله. وقد تذرّعت إسرائيل بـ "المخاوف" من حصول إيران على موطئ قدم بعد انتهاء الصراع في سورية للمطالبة بأخذ مصالحها الاستراتيجية في أية تسوية سياسية لهذا الصراع؛ من خلال ترويج مشاريع تسوية، تهدف إلى تقسيم سورية. ليس هذا فحسب، بل تتذرّع إسرائيل بالوجود الإيراني في شن حملةٍ دبلوماسية ودعائية، تهدف إلى إضفاء شرعية دولية على قرارها فرض سيادتها على هضبة الجولان. ومن المفترض أن يبلغ هذا التحرك أوجه خلال الزيارة المتوقع أن يقوم بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لتل أبيب نهاية مايو/ أيار الجاري، حيث يفترض أن تعرض إسرائيل عليه خطةً تفصيليةً بهذا الشأن، أعدها وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس. ومما لا شك فيه أن تجلد إيران وحزب الله وتسليمهما بالغارات التي تشنها إسرائيل في قلب سورية وعدم الرد عليها يمسّ الانطباع الذي يحاولان تكريسه عن دورهما باعتبارهما "قوتي ممانعة" للمشروع الصهيوني.
في الوقت نفسه، سمح التدخل الإيراني في سورية والدول العربية الأخرى لإسرائيل بمحاولة تحقيق جملةٍ من المكاسب، فشلت في تضمينها في الاتفاق النووي مع القوى العظمى، ولا سيما إلزام طهران بالتخلص من ترسانتها الصاروخية، من خلال الادعاء أن تفكيك الصواريخ الباليستية يقلّص من خطورة توسع طهران الإقليمي. وها هم قادة الأغلبية الجمهورية في الكونغرس يتذرّعون بتدخلات إيران في المنطقة وترسانتها الصاروخية، لتبرير تقديم مشاريع قوانين، تنظم فرض عقوباتٍ مالية جديدة على إيران؛ مع العلم أن مشاريع هذه القوانين تحظى بدعم عدد من كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية الجديدة. وقد أفضى التدخل الإيراني في دول المنطقة إلى تحسين البيئة الإقليمية لإسرائيل، بشكل واضح، من خلال إسهامه في توفير المسوّغات لدى قوى إقليمية كثيرة للتقارب مع تل أبيب، والتعاون معها. وقد تطوّر التعاون بين إسرائيل وتلك القوى إلى درجة أن وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، قد تحدث، خلال زيارته إسرائيل أخيرا، صراحة عن "تحالف إقليمي يضم إسرائيل ودولاً عربية بهدف مواجهة إيران والقوى الإسلامية المتطرفة" (مجلة الدفاع الإسرائيلي، 29-4). ويتحدث الإسرائيليون بوضوح عن توفر الظروف لنشوء "حلف ناتو شرق أوسطي"، بذريعة مواجهة إيران (مجلة الدفاع الإسرائيلي، 29-4)، فالحكومة الإسرائيلية الحالية التي تعد الأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الصهيوني مدينةٌ لإيران بتوفير البيئة التي سمحت لرئيسها، بنيامين نتنياهو، عرض تصوّره لحل الصراع مع الشعب الفلسطيني، من خلال صيغة التسوية الإقليمية التي تهدف عمليا إلى تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، فبنيامين نتنياهو يعرض عمليا على الدول العربية صفقةً تقوم على تعاون إسرائيل مع الدول العربية في مواجهة "الخطر الإيراني" في مقابل مساعدة الدول العربية في حل الصراع مع الشعب الفلسطيني، من دون أن تتحمل إسرائيل أعباء هذا الحل.
"إسرائيل تحظى بهامش حرية شبه مطلق بدعمٍ صامتٍ من روسيا التي يفترض أنها حليفٌ لطهران"
في الوقت نفسه، يحسّن تقاربٌ مع الدول العربية من قدرة إسرائيل على مواجهة قوى المقاومة الفلسطينية، ويوفّر بيئةً أكثر ملاءمة لاستهدافها، مع العلم أن طهران تدّعي أن هذه القوى محسوبةٌ على المحور الذي تقوده. ومن الأهمية التأكيد، هنا، أن التذرّع بالحاجة إلى مواجهة إيران لا يبرّر تعاون بعض الدول العربية مع إسرائيل، ولا يسوّغ نسج الشراكات معها، فهذا التبرير غير متماسكٍ من ناحية أخلاقية، كما أن الرهانات العربية على عوائد التعاون مع إسرائيل غير موضوعية، وغير واقعية.
في كل الأحوال، يتبين أن الحريق الهائل الذي أشعلته إيران في المنطقة يصب في صالح إسرائيل، ويساعد الأخيرة على تحقيق مصالحها الاستراتيجية والأمنية، من دون أن تكون مطالبةً بتقديم تنازلاتٍ كبيرة، أو بذل كثير من مواردها الذاتية. ناهيك عن أن هذه التدخلات أصبحت مركبا أساسيا من ضمن مركبات البيئة التي تسمح بالمسّ بفلسطين، وقضيتها ومقاومتها.
وسيتبين لإيران، عاجلا أم آجلا، أنها لم تساعد إسرائيل على تحقيق مصالحها فقط، بل أيضا أن أياً من رهاناتها على التدخل في شؤون المنطقة لن يتحقّق.