هذا وقد انتهت جولة المفاوضات الرابعة في جنيف، من دون تحقيق أي تقدم باتجاه حل سياسي في سورية، هذا هو المدخل الذي كان متوقعاً عند الإعلان عن عقد جولة المفاوضات هذه، وهذا هو المدخل الذي تم استخدامه بعد انتهائها، فما من أحدٍ في العالم كان يتوقع أن تصل هذه المفاوضات إلى شيء، حتى المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، مهّد لهذه النتيجة منذ البداية، وقال قبل انطلاق المفاوضات: "لا نتوقع تحقيق معجزات"، وكلمة معجزات في اللغة الدبلوماسية تعني "شيئاً"، ولا نتوقع تعني "نحن متأكدون"، والعبارة ترجمها السوريون إلى معناها الحقيقي وتعاملوا مع هذه الجولة أنها "نحن متأكدون أنه لن يحصل شيء"، فلم ينتظروا منها شيئاً، فلا مهجرين استعدوا للعودة إلى بيوتهم، ولا مهاجرين حزموا حقائب العودة إلى بيوتهم، ولا مقاتلين بدأوا بفك بنادقهم، والجميع تعامل مع المفاوضات على أنها أمر يجري لمجرّد أن يجري، ولا علاقة له بالواقع.
بات التكرار في هذه الجولة مملاً، فالكلمات نفسها والمواقف نفسها، وطريقة رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، في المماطلة والتسويف هي نفسها، فهو تابع إغراق المبعوث بالتفاصيل، وحرف النقاش عن مضمونه، ولم يفوّت مناسبة لإظهار عدم جديته، وعدم جدية النظام الذي يمثله في هذه المفاوضات، ومع أي مفاوضات أخرى. والجميع صار يعرف مفهوم النظام للمفاوضات ولعملية الانتقال السياسي، والتي تعني بالنسبة له "العودة إلى حضن الوطن"، أي الاستسلام والخضوع الكامل لإرادته والعودة إلى تحت حكمه.
وفد المعارضة الذي يتعرّض في كل جولة لبعض التغيير في الوجوه المشاركة يبدو أبهت في كل مرة، وأقل تأثيراً وفعالية وجدية، ووفد النظام يتكرّر بكل تفاصيله، والمبعوث الأممي يقوم بذلك كله، وكأنه موظف بيروقراطي في مؤسسة حكومية، ينفذ واجبه اليومي، من دون أدنى حماس أو تفكي ويطمحون لها فرصة لتغيير الظروف القاسية التي يعيشونها داخل البلاد وخارجها، وهذا التنبؤ المبكر، والذي يبدو ضرباً من الجنون، هو تعبير عن حقيقة الشعور التي أصابتنا، نحن السوريين، تجاه كل أنواع المفاوضات على اختلاف تسمياتها وأماكن إقامتها، ونوعية المشاركين فيها، فقد فقدنا أي أمل بتحقيق، ولو خطوة صغيرة، باتجاه السلام المنشود.
ليس لدى أحد من الأطراف المشاركة في هذه الجولة من المفاوضات (وسابقاتها) أدنى فكرة جدية للدخول في عملية تفاوض مثمرة، يمكن أن توقف شلال الدم المستمر منذ ست سنوات. ولعدم المبالغة في لغة التعميم، فإن من يملكون رغبةً حقيقيةً في الوصول إلى السلام هم من لا يملكون سلطة فعلية على الأرض قادرة على تحقيقه، بينما للقوى التي تملك هذه القدرة أجنداتها المتنوعة التي تجعل السلام عدواً لها، كما هي عدوٌّ له، وفي الحروب عادة ما تكون مفاتيح السلام بيد من يملك مفاتيح النار، ومن يملكون مفاتيح النار، اليوم، هم النظام والجماعات الإرهابية، ولا تفكير جدياً لدى كل من الطرفين في الوصول إلى نتائج، أما الثوار الحقيقيون الذين يسعون إلى بناء سورية جديدة، ويريدون وطناً جامعاً (سالماً منعماً وغانماً مكرماً) فهؤلاء يفقدون أوراق اللعبة شيئاً فشيئاً، ولم يبق في يدهم سوى النيات الطيبة التي لم تستطع يوماً أن توقف حرباً.
في الجولة التي انتهت من المفاوضات، أعطيت الفرصة لرئيس وفد النظام، بشار الجعفري، ليجدد اتهاماته للشعب السوري بالإرهاب، وهذه المرة من بوابة هجوم شنته جبهة النصرة على فرعين للأمن في حمص، فقد كان هذا الحدث فرصة له ليمارس تضليله، ويقول للعالم، إن الثورة السورية مجموعة من الإرهابيين، والمفارقة أن كلا الطرفين (من فجّر نفسه، ومن كان هدف التفجير) هما عدوان للشعب السوري، أذاق كل منهما السوريين مرّ العذاب، فجبهة النصرة، كما "داعش" تمارس في المناطق التي تسيطر عليها فنون الاضطهاد والتعذيب، لكل من لا يروقها، بينما تمثل فروع الأمن التي جرى استهدافها رموزاً للإرهاب والاضطهاد، حيث قتل فيها عشرات آلاف السوريين تحت التعذيب، وربما كانت هذه أهم نتائج هذه الجولة، بانتظار جولةٍ أخرى أكثر غرابة.
من المتوقع أن يتصاعد التهكم الشعبي السوري على متوالية مؤتمرات جنيف وأستانة، وفي كل ساعة يتأخر فيها الوصول إلى حل سياسي، يفارق الحياة عشرات الأشخاص. ومن المتوقع أيضاً أن يتصاعد استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، بعد أن منحت روسيا والصين ضمان عدم العقاب والملاحقة القانونية للنظام السوري عبر «الفيتو» الذي جعل مجلس الأمن معطلاً فاقد القدرة على تحقيق الأمن للشعوب المضطهدة.
وبعد أيام تدخل القضية السورية عامها السابع، ويتفاءل بعض السوريين بأن تنتهي السنون العجاف بحل إلهي، وأن يتلمسوا خطوة ولو كانت وئيدة نحو الحل السياسي، وهذا ما جعلنا نشعر بأن الموقف الروسي بدأ يتحرك قليلاً حين وافقت موسكو على بدء مفاوضات الجولة الرابعة من جنيف ببحث عملية الانتقال السياسي، ومارست ضغوطاً على النظام كي يقبل، مع توجسنا بأنه لن يكون جاداً، ولا يملك وفده المفاوض صلاحية التنازل عن سلطات النظام لسلطة جديدة هي هيئة الحكم الانتقالي، حتى لو كان نصفها من النظام نفسه، فكيف أمام إصرار المعارضة على ألا يكون للأسد دور في مستقبل سوريا.
سيعبث النظام بتفسيرات سفسطائية لبيان جنيف، تزعم أن الانتقال السياسي لا يعني التخلي عن الأسد، وقد يكرر الروس قولهم «لسنا متمسكين بالأسد، ولكن لا بديل عنه، والتخلي عنه سيقود البلاد إلى فوضى»، وكأن سوريا بقيادته اليوم تنعم بالاستقرار! وسيدافع بعض المعارضين الناعمين عن حق الأسد في الترشح للانتخابات الرئاسية وهم يعلمون أن الشعب السوري في الشتات لن يملك القدرة على مواجهة الموالين للأسد في انتخابات مهما كانت نزيهة.
ولا يغيب عن أحد أن الانتقال السياسي هو مغادرة عهد وحكم قائم، إلى عهد وحكم جديدين، ولئن كانت المعارضة قد قبلت بالتشاركية مع النظام، فهذا قبول بالحفاظ على المؤسسات والبنى التحتية التي لم تدمر بعد، ولكن بقاء من ارتكبوا المجازر وقتلوا وهدموا واعتقلوا وعذبوا الشعب، ومن أحرقوا البلد يناقض الانتقال الذي حدده بيان جنيف بوضوح.
والعقدة الكبرى في مسار الحل هي مستقبل الأسد، ورعاة الحل السياسي دولياً يدركون ذلك، ويعلمون جيداً أن تعثر مسار المفاوضات ليس في خلاف حول مستقبل سوريا الديموقراطية، وإنما هو حرصهم على مستقبل الأسد فقط، لأنه الضامن لبقاء روسيا، ولسلطة إيران وتوسعها الإمبراطوري في الشرق الأوسط، وهناك آخرون يخشون أن تنهض سوريا من مستنقع الموت والدمار، وأن تخرج عن السيطرة التقليدية.
وهم يدركون أن نهاية عهد الأسد تعني نهاية سريعة لكل تنظيمات الإرهاب التي أطلقها النظام من جحورها للتعمية على ثورة الشعب، ولكي يصل إلى هذا التوصيف الذي سعى إليه، بتقديم القضية السورية على أنها إرهاب يهدد الشرعية (الأسد أو الإرهاب)، وقد أسهمت جهات مخابراتية كبرى في جمع شتات الإرهابيين من مختلف دول العالم إلى ما سموه «مصيدة الذباب»، ونسيت الحكومات قضية شعب ثار من أجل الحرية وطالب بالكرامة وهدفه بناء دولة مدنية ديموقراطية تنهي مرحلة الدولة العسكرتارية الأمنية.
وحسبنا شاهداً على زيف ما يحدث من تمويه، لغز تنظيم «داعش» الذي تعجز ستون دولة ونيف عن محاربته والقضاء عليه، وها هو ذا في الجنوب السوري ببضع مئات من جنوده مستمر في عدوانه على الجيش الحر يساعده النظام بغطاء من القصف، فضلاً عن القصف الحليف على مناطق المعارضة الوطنية وعلى خطوط الإمداد في المنطقة الغربية من محافظة درعا، والأخطر تجاهل قوات التحالف الدولي لهجوم «داعش» وتقدمها نحو مزيريب وطفس والعجمي ودرعا المدينة وسواها من قرى المنطقة، وهذا كله يحدث اليوم، بعد أستانة وعهود الهدنة ووقف إطلاق النار.
لقد أقررنا بأن روسيا بدأت تقدماً طفيفاً نحو جدية في الحل السياسي عبر موافقتها على بحث قضية الانتقال السياسي، وإذا غضضنا الطرف عن فجيعة «الفيتو» الذي استنكره العالم، فسوف ننتظر من روسيا المتفردة بالشأن السوري جدية أقوى في غياب الولايات المتحدة عن مفاوضات جنيف، وإلا فسوف ينهار بنيان الحل السياسي، وستمتد المأساة السورية إلى عقود مقبلة، لا سمح الله.
بعد بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، سبتمبر/أيلول 2015، تناقلت وسائل إعلام عربية وعالمية تحليلاتٍ بشأن احتمال تطور الموقف في سورية إلى مواجهة روسية -غربية مباشرة، ووصل الأمر إلى الحديث عن حربٍ عالميةٍ ثالثة، تلوح في الأفق. تردّد تعبير "حرب عالمية ثالثة" على لسان متحدثين رسميين ومقربين من دوائر صنع القرار، في روسيا والغرب، وكذلك في المنطقة العربية، وأعادت وسائل إعلام عالمية نبش تصريحاتٍ قديمة لوزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، أطلقها عام 2011، عن حرب عظمى وشيكة قائلًا: "من لم يسمع طبول الحرب تدق فهو واهم... عندما تتحرك الصين وروسيا من غفوتهما سيكون الانفجار الكبير".
لم يأت الحديث عن صعود روسيا، وتحولها إلى قوة إمبريالية عالمية من فراغ، فالعالم اليوم يمر بمرحلةٍ انتقالية، بعد حقبةٍ خاطفة من هيمنة القطب الواحد، استمرت أقل من عقدين، وجاءت أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة، 2007، ثم الأزمة المالية العالمية، 2008، التي لم يتعاف منها الاقتصاد العالمي بعد، لتظهر أن النظام الأحادي غير قابل للاستمرار، فتلك الأزمة، بقدر ما هي عميقة وهيكلية؛ بيّنت أن الاقتصاد الأميركي لم يعد قادراً على تمويل الهيمنة الأميركية على العالم ودعمها. لذا؛ اتجهت إدارة أوباما، خصوصاً في ولايته الثانية، نحو كبح التدخل الإيجابي الأميركي المباشر في ملفاتٍ كثيرة، والانسحاب التدريجي المنظم من مناطق عدة في العالم، منها منطقتنا، والتركيز على أخرى أكثر حيويةً للولايات المتحدة، وهو اتجاه يُعبر عن إرادة الدولة وفكرها بمؤسساتها، وفي الغالب سيستمر على الرغم من كل جعجعة ترامب، وصقور إدارته.
في ظل هذا الواقع، كان طبيعيًا أن تتقدّم بعض القوى، وفي مقدمتها روسيا، لشغل الفراغ الذي خلفه أو من المتوقع أن يخلّفه الانسحاب الأميركي. لكن هل هذا يعبر عن بروز قوة بديلة أو منافسة للولايات المتحدة على الهيمنة العالمية؟ هل روسيا اليوم قوة عظمى عالمية؟ وإن لم تكن؛ هل تسعى إلى ذلك؟
كان وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم إيذانًا بانتهاء الفترة الانتقالية المؤلمة والقاسية التي عاشتها روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، والتي تدهور اقتصادها خلالها إلى أن أوشكت على إعلان الإفلاس، كما باتت وحدة أراضيها مهدّدة، خصوصاً بعد فشل حملتها العسكرية الأولى على الشيشان. كما فقدت الكثير من نفوذها في المحيط الحيوي لنظرية أمنها القومي، مع توغّل حلف شمال الأطلسي (الناتو) فيه، الذي لم يكتف بضم دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءًا من المنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، بل تعدّى ذلك إلى ضم دول البلطيق التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي، ووصل نفوذه إلى القفقاز وأوكرانيا.
في ظل ذلك الوضع؛ كان هدف بوتين ونظامه، في البدء، محصوراً في تجاوز مرحلة بوريس يلتسين الكارثية، والعمل على ترميم جدران الدولة الروسية المتصدّعة الآيلة للانهيار، وفق نظام اقتصادي يعتمد إلى حد بعيد على مبادئ "رأسمالية الدولة" على حساب "السوق الحر"، ونظرية أمن قومي ترى العمق الروسي في نطاق "أوراسيا" أو القسم السوفييتي من "أوراسيا"، بحيث تكون روسيا مركزًا لمزيج حضاري، يجمع الروس السلاف المسيحيين الأرثوذوكس بالأقليات القومية المسلمة من سكان روسيا ودول الجوار، كما نظّر، في تسعينات القرن الماضي، الفيلسوف ألكسندر دوغين ملهم النظام الروسي الحالي، لا بل حتى غالبية معارضيه، بمن فيهم الشيوعيون.
أزمات ومشكلات
وعلى الرغم من أن روسيا بوتين نجحت في تجاوز مرحلة الخطر التي كادت أن تعصف بها نهاية التسعينات، إلا أن تحدياتٍ مصيرية مازالت تواجهها، والفشل في أي منها سيكون كارثيًا على مستقبلها، وفي مقدمها الأزمة الديموغرافية، والنزعات الاستقلالية في ظل تعدّد قومي وعرقي وديني، وسعي الغرب إلى عزلها عن محيطها الحيوي غربًا، والخلل في هيكل الاقتصاد، المعتمد إلى حد كبير على الصناعات الاستخراجية، والقدرة على بناء جيش عصري قوي قادر على تحقيق توازن قوى مع الغرب.
أولاً- الأزمة الديموغرافية: تعاني روسيا من أزمة ديموغرافية مركبة، فمن جهة؛ تعداد السكان بشكل عام يتأرجح بين التناقص والثبات. وفي العام الماضي، كان معدل نمو السكان قريباً من الصفر (0.06%). وعلى الرغم من أن عدد سكانها يبلغ 144 مليون نسمة، إلا أنه يعتبر ضئيلًا، قياسًا إلى جغرافيتها الشاسعة التي تمتد على أكثر من 17 مليون كيلو متر مربع، بكثافة سكانية تزيد قليلًا على ثمانية أفراد في الكيلو متر المربع، وهي من بين أقل الدول من حيث الكثافة السكانية في العالم، فعلى سبيل المثال تبلغ الكثافة السكانية لجارتها الصين نحو 144 فردًا في الكيلو متر المربع، وفي الهند 395، والولايات المتحدة الأميركية 34، وجميعها دول تمتد أقاليمها على مساحةٍ جغرافية شاسعة. ومن جهة ثانية؛ هناك تزايد في نسبة الأقليات القومية المسلمة على حساب الغالبية السلافية.
ثانياً- الخلل الهيكلي في الاقتصاد، والأزمة الاقتصادية بفعل العقوبات الغربية، وتراجع أسعار النفط: تظهر البيانات الرسمية حجم التراجع في مؤشرات الاقتصاد الروسي منذ فرض العقوبات الغربية، والتي ترافقت مع التراجع الكبير في أسعار النفط العالمية، حيث بلغ الناتج المحلي الروسي 15.390 مليار دولار عام 2014، ليتراجع نهاية العام التالي إلى 8.18 مليارات دولار فقط، كما سجلت نسبة النمو الاقتصادي تراجعًا ملفتًا من 4.3% عام 2011 إلى 0.7% فقط عام 2014، لتهبط بشكل حاد بعد عام، وتصل إلى -3.4، وكان معدل الاستهلاك 7.4% عام 2012، ليتراجع بعد هبوط أسعار النفط والعقوبات الغربية على روسيا إلى -9.6%، كما تراجع معدل الاستثمار من 10.2% عام 2011 إلى -7.6% عام 2015، وانخفض النمو في الانتاج الصناعي إلى -4.3% عام 2015 بعد أن كان 5.1% عام 2011. ووصلت نسبة الدين العام من الناتج المحلي الإجمالي عام 2015 إلى 13.6% بعدما كانت 9.5% فقط عام 2011، وارتفع معدل التضخم من 6.1% عام 2011 إلى 12.9% نهاية عام 2015. وشهد عام 2015 انهيارًا كبيرًا في سعر صرف الروبل، حيث بلغ بالمتوسط 72.8 روبلاً مقابل الدولار الأميركي الواحد، بعد أن كان الدولار يعادل 32 روبلاً عام 2011.
ومن مراجعة الأرقام السابقة، يمكن القول إن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، لم يجانبه الصواب، حين اعتبر الاقتصاد الروسي في حالةٍ يُرثى لها، في خطاب حالة الاتحاد عام 2015.
صحيح أن اقتصاد روسيا لم ينهرْ كما توقعت دوائر غربية، وصمد حتى الآن في وجه العقوبات الغربية وأزمة أسعار النفط، إلا أنه ما زال بعيدًا عن التعافي.
ثالثاً- بناء جيش عصري يحقق التوازن مع الغرب: أطلقت الحكومة الروسية، مطلع عام 2011، خطة التطوير الشاملة للقوات المسلحة 2011-2020، بعد الأداء المخيب للجيش الروسي في حرب جورجيا، 2008، بميزانية إجمالية 20 ترليون روبل، أي ما يعادل 656 مليار دولار بأسعار ذلك الوقت، بحيث يتم إنفاق 80% من ميزانية الخطة على شراء أسلحة حديثة، و10% على البحوث العسكرية، ومن المفترض، وفق ما هو مخطط، أن تصل نسبة المعدات والعتاد الحديث لدى كل أفرع الجيش الروسي إلى 70%، نهاية عام 2020.
الجيش وتحديثه
أكد الرئيس بوتين، في حديث له مع وكالة أسوشييتد بريس نهاية العام المنصرم؛ أنه لن يتم خفض موازنة خطة تحديث الجيش تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، لكن هناك مؤشرات تقول العكس، منها أنه تم الإعلان عن خفض ميزانية وزارة الدفاع بنسبة 5% للعام الحالي، كما ألمح بوتين إلى احتمالية تمديد الموعد النهائي لخطة التحديث، حين قال، في الحديث نفسه، إن من المتوقع انتهاء الخطة بعد خمسة أعوام، ما يُفهم منه أنها ستمتد حتى نهاية عام 2021، أي بعد عام من الموعد المقرّر.
لم يكن إطلاق روسيا خطة التحديث الشامل للجيش بهدف تحقيق تفوق عسكري على الغرب، بل هي محاولة لمعالجة أوجه القصور الكبيرة التي كشفتها حرب جورجيا على الرغم من النصر الروسي فيها، وستبقى هناك فجوة كبيرة بين الإمكانات التقليدية للجيش الروسي وقوات بلدان "الناتو" الغربية، وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة، انعكاساً، في المقام الأول، للفجوة الاقتصادية الهائلة بين القوتين. فحين تم إطلاق خطة التحديث الشامل للجيش؛ كانت فقط 10% من أسلحة القوات التقليدية الروسية حديثة، و20% من أسلحة القوات النووية. وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي أوضح أن التحديث سيشمل الأسلحة الذكية الدقيقة، وأنظمة الاتصال، والاستطلاع، والتحكم والسيطرة، والحرب الإلكترونية؛ إلا أن مفهوم التحديث غير واضح، هل المقصود به أسلحة حديثة كليًا أم تطوير للتي في الخدمة؟ وعلى كل حال، إطلاق التصريحات المبهمة، والتي تحمل أكثر من معنى، وإعطاء أكثر من رقم حول الشيء نفسه، أمر مألوف في السياسة الروسية.
فعلى سبيل المثال؛ عندما عرضت روسيا المنصة القتالية المدرعة، أرماتا، التي من أبرز نماذجها الدبابة تي 14 وعربة القتال المدرعة تي 15، منتصف عام 2015، أعلنت أنه سيتم تزويد الجيش بـ2300 قطعة بحلول عام 2021، ثم تم تمديد الموعد إلى 2025. بعد ذلك، أُعلن عن تعاقد الجيش الروسي على شراء 100 دبابة للتجربة، في سبتمبر/ أيلول 2016، من دون تحديد عدد الوحدات التي تم تسليمها بالفعل.
وما زاد من الشكوك بشأن إمكانية إحلال "أرماتا" مكان الأجيال السابقة من المدرعات الروسية التي تعود إلى العهد السوفييتي، وما زالت في الخدمة؛ الإعلان قبل أشهر عن برنامج لتطوير 400 دبابة من طراز تي 90 إيه أس، إلى النسخة الأحدث تي 90 أم، وذلك بتزويدها بمزايا عديدة في "أرماتا"، ومن بينها المدفع الجديد، ونظام أفغانيت للحماية النشطة، كما جرى قبل سنوات إطلاق برنامج لتحديث الدبابة تي 72 التي تشكل اليوم نحو 70% من أسطول الدبابات الروسي، بينما خرجت فيه مجايلتها الأميركية أم 60 من الخدمة تمامًا قبل 12 عامًا.
ويبدو أن التوقعات الطموحة التي رافقت الإعلان عن "أرماتا" حول أنها ستكون الدبابة الرئيسية في الجيش الروسي خلال السنوات القريبة المقبلة غير واقعية، في ظل تكلفة إنتاجها العالية نسبيًا، وسينتظر الجيش الروسي طويلاً قبل استلام الـ2300 نسخة التي يحتاجها. وحتى ذلك الحين، سيتم تطوير الأجيال القديمة من الدبابات في الخدمة، واعتبار نتاج عملية التطوير تلك التحديث المخطط بنسبة 70%.
وفي سلاح الجو، تأخرت روسيا كثيرًا في إنتاج طائرات حديثة من الجيل الخامس، وما زالت تستثمر في طائرات الجيل (4++) كسوخوي 30 و35، وميج 31 و35، لعدم قدرتها اقتصاديًا على تبني مشروع إحلال طائرات الجيل الخامس مكان الأجيال القديمة، ناهيك عن العقبات التكنولوجية، لتلحق بالولايات المتحدة التي بدأت بهذه العملية منذ 12 عامًا، فبنت حتى اليوم 345 طائرة من هذا الجيل من طرز إف 22، وإف 35 إيه، وإف 35 بي، دخلت الخدمة فعليًا في أساطيل سلاح الجو وقوات البحرية والمارينز، بالإضافة إلى 20 طائرة تحت الاختبار من طراز إف 35 سي، في إطار برنامج طموح لإحلال طائرات الجيل الخامس، بطرزها المختلفة، مكان طائرات إف 15، وإف 16، وإف 18، وهاريير، بينما لم تنتج روسيا سوى ثماني طائرات تنتمي للجيل الخامس فقط من طراز سوخوي باك فا تي 50، مازالت تحت الاختبار، ومن المتوقع دخولها الخدمة العام المقبل.
ورثت روسيا عن العهد السوفييتي قاعدة بحثية وعلمية عسكرية قادرة على الخروج بابتكارات وتطوير تكنولوجيّات عسكرية مذهلة، وتضع مكاتب التصميم المختلفة مخططاتٍ لأسلحة تضاهي، وربما تتفوق، على كثير مما لدى الغرب، لكن محدودية القدرة الاقتصادية حالت بين تصنيع تلك المخططات والنماذج، أو تصنيع كميات كبيرة منها، وإحلالها بالسرعة المناسبة مكان القديمة.
سلوك تدخلي
منذ عودة بوتين إلى الكرملين عام 2012، أخذت روسيا بقوة تنتهج سلوكًا تدخُليًّا في إقليمها القريب وخارجه، لم تمارسه من قبل، إلا في حالة جورجيا، ما دفع كتابًا وسياسيين كثيرين إلى الحديث عن طموح إمبريالي عالمي لروسيا، خصوصاً وأنه جاء مع ما يمكن وصفها حالة سيولة في النظام الدولي، في ظل تراجع الهيمنة الأميركية العالمية، وأزمة وجود تعصف بالاتحاد الأوروبي، واستمرار التحفظ الذي تنتهجه الصين في سياستها الدولية، إلا أن القراءة في أوضاع روسيا الاقتصادية والديموغرافية والعسكرية لا تدعم مثل هذا الاستنتاج.
حتى التدخل الروسي في سورية كان مدروسًا بعناية، ولتحقيق أهداف محددة، ليس من بينها بسط السيطرة الروسية التامة على سورية، كما يتضح من سعي الروس إلى تسوية تعترف فيها بنفوذ أميركي وتركي في سورية، ناهيك عن تقاسمها النفوذ مع الإيرانيين في مناطق سيطرة النظام، انعكاسًا لتقاسم المجهود الحربي، هي من الجو وهم على الأرض. تدرك روسيا ما يمكن أن يكتشفه بسرعة أي مطالع لخريطة البحر الأبيض المتوسط، أنه بحرية أطلسية، وهي تريد أن تحتفظ بموطئ قدم فيه، لتعزيز موقفها الاستراتيجي تجاه الغرب، لا كقاعدة إمبريالية توسعية داخل ملعب خصومها.
الهدف المركزي للسياسة الروسية الخارجية هو الحفاظ على المحيط الحيوي الذي يحقق نظرية أمن روسيا القومي، في إقليمها، وهي سياسةٌ دفاعية إلى حد بعيد، وإن بدت غير ذلك.
الملفت في مفاوضات جنيف 4 السورية هو الخلاف حول المعارضة، التي سوف تحاور النظام، حيث ظهر أن هناك ثلاث معارضات، تتنافس على الجلوس لحوار النظام الذي لا يزال يرسل الشخص ذاته، والتي تعني مشاركته أنْ لا نتائج ممكنة، لأنه آتٍ ليكرّر الخطاب ذاته، الخطاب الذي يريد تكريس النظام، ولملمة بعض أطراف المعارضة للمشاركة في "حكومة وحدة وطنية"، كون أن منصب الرئيس غير مطروح للنقاش أو التفاوض، وحيث أن الأولوية للحرب على الإرهاب، الإرهاب الذي يصنعه النظام أصلاً.
هناك في جنيف وفد الهيئة العليا للمفاوضات، وهي التي تشكلت في الرياض انطلاقاً من مشاركة أطراف المعارضة كافة، وبالتالي، باتت تعبّر عنها، فهي تضم أكبر كتلتين معارضتين: هيئة التنسيق والائتلاف الوطني، وكذلك شخصيات عديدة. وهناك وفد مؤتمر القاهرة الذي من المفترض أن المؤتمر جرى تمثيله في الرياض، ومن ثم مؤتمر موسكو. وإذا كان وفد التفاوض الذي شكلته الهيئة العليا يعتبر "الممثل الشرعي"، بالضبط لأنه يضم أطياف المعارضة، فإن منصتي موسكو والقاهرة تعتبر كل منهما أنها تمثل المعارضة، وتريد وفداً موحداً مقسماً بالتساوي بينهما.
حين أخذت المؤتمرات تتوالى، وبات كل مؤتمر يعتبر أنه منصة للمعارضة، أشرت إلى الهدف من هذا التشتيت، حيث كان واضحاً أن روسيا تريد تشتيت المنصات، لكي تتحكم هي في تحديد من هي المعارضة، وبالتالي تهمّش المعارضات التي لا تريدها. كان هذا واضحاً حينها، لكن مع الأسف انساقت المعارضة وراء مؤتمراتٍ لم تعرف الهدف منها، وبات حينها عقد المؤتمر بعد الآخر موضة. وها هي تصطدم الآن بما "فعلت يداها"، حيث باتت في تنافس مع منصّات صنعتها هي. وعلى الرغم من أنها ممثلة في وفد التفاوض، إلا أن "خيالات مآته" التي اخترعتها باتت تنافسها، وتطالب بأن تكون لها حصة مساوية لها، فمؤتمر القاهرة الذي يطالب بحصته في وفد التفاوض شاركت فيه هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي، وجزء مهم من شخصيات الائتلاف الوطني، مع عدد محدود من الشخصيات المعارضة. وأصدر بيانات لا تختلف عن البيان الذي صدر عن اجتماع المعارضة في الرياض. لكن نلمس الآن أنه بات ورقةً لتقزيم وفد التفاوض، وبالتالي، باتت الشخصيات المعارضة المستقلة هي التي تستحوذ على منصة القاهرة، وتنافس الكتلة الأساسية التي قام عليها مؤتمر القاهرة. أخذت التسمية، واستحوذت على التمثيل، وباتت تريد المساواة مع كل المعارضة.
أما مؤتمر موسكو فيختلف قليلاً، على الرغم من أنه ضم هيئة التنسيق، لأنه يضم طرفا شارك في السلطة بعد الثورة، وسُحب لكي يوضع في وفد المعارضة، بناء على رغبة موسكو المباشرة، لكنه فشل. ولهذا، أخذ يدعو إلى مؤتمراتٍ في موسكو لكي يقول إنه المعارضة، أو إنه طرفٌ أساسي في المعارضة. هذا هو وضع الجبهة الشعبية للتحرير والتغيير، وهي الجبهة التي عارضت بخفةٍ، بعد أن كان بعض أطرافها يشير الى خطل السياسة الاقتصادية وآثارها المدمرة. وقد باتت تنشط ضمن محور موسكو، وبالتالي، ليس بعيداً عن النظام، ولا عن المنظور الروسي للحل الذي يكرّس الاحتلال الروسي لسورية.
هناك اختلاف بين هذه "المنصات" في فهم طبيعة الصراع وفي طبيعة الحل، والجوهري هنا قبول استمرار بشار الأسد أو رفضه، وكذلك دور بشار الأسد في الحل. لكن ما يهدف إليه الروس هو نشوء معارضةٍ "على مقاسها"، تقبل بما تريد هي، بعد أن ظلت مصرّةً على بقاء الأسد. وقد سمح "تخبيص" المعارضة بأن تلعب روسيا كما تريد، وأن تظل تناور إلى أن تصل إلى الحل الذي تريده بالشخصيات والهيئات التي تريدها. ولسوف تظل تقضم المعارضة على الأرض إلى أن تصل إلى ذلك. ما أظنه ضرورياً هو أن يُفسح المجال لمن يقبل "حكومة الوحدة الوطنية"، ليعود إلى "سقف الوطن"، فلا داعي للتنافس على "فطيسة".
لا حل لا في جنيف 4 ولا 5 ولا 6، ولا حل باستمرار وجود بشار الأسد ومجموعته.
بالتأكيد، لن يستسيغ «حزب الله» الذي يديره «الحرس الثوري» دعوة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى الضحك بدلاً من البكاء، فيما هو يرفع شعار «كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء»، في تعميم لحال «الإبكاء» التي يفرضها في مناطق نفوذه، لتسري على اللبنانيين أجمعين، وتوسيع نطاقها لتشمل ما تيسر له من أرض سورية.
روحاني تساءل في معرض انتقاده المحافظين الذين ينوون استبداله برئيس جديد في أيار (مايو) المقبل، لماذا يرفض منافسوه أن «يتمتع الإيرانيون بمباهج الحياة، وكيف أن البكاء مهما بلغت مستوياته حلال، فيما الضحك والنشاط حرام؟».
لكن للحزب رأياً آخر. فهو يعتقد، على غرار المتشددين كافة، أن الفرح والسرور لا يتناسبان مع فكرة «المقاومة والجهاد» التي لا يمكن أن تستقيم سوى في أجواء من الحزن والعبوس والحداد والموت والانتحار، لذا يحظر أي احتفال في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية بغير «أعياده» التي تقتصر على التذكير بالحروب والتهجير وسائر المآسي، مثل «يوم الشهيد» و «يوم المقاومة» و «عيد التحرير»، فيمنع الحفلات الغنائية، وينكر حتى على السكان المسيحيين في القرى الجنوبية الاحتفال بمناسباتهم خوف انتقال «عدوى السعادة» إلى جمهوره.
وقبل نحو ثلاثة أشهر، منعت هيئة «التعبئة التربوية» التابعة له طلاباً جامعيين في العاصمة بيروت كانوا يحتفلون بذكرى صديق لهم، من الاستماع إلى أغاني فيروز لما قد تسببه من «انشراح» قد يلهي مناصريه عن مهمتهم الجليلة: الندب الدائم تمهيداً لتحرير مزارع شبعا.
لكن «قيَم المقاومة» التي يقول الحزب إنه يدافع عنها ويحافظ عليها، لم تعد موجودة سوى في خطابات أمينه العام وتصريحات قادته ووزرائه ونوابه. فالحزب تحول عملياً في الجنوب اللبناني إلى حارس لحدود إسرائيل بموجب اتفاقات أبرمها وشكلت أساس قرار مجلس الأمن 1701، قبل أن تُسدى إليه وظيفة جديدة هي «تحرير» سورية من شعبها، لتظل ملائمة لحكم آل الأسد.
ولا تقنع أحداً التهديداتُ الأخيرة التي أطلقها نصرالله بقصف مفاعل ديمونا وخزانات كيماوية في حيفا، لأنها تندرج فقط في إطار التفاوض الإيراني مع الإدارة الأميركية الجديدة: التلويح بحرب مع إسرائيل للإبقاء على الوضع القائم، بما يتيح استمرار التنعّم بمكاسب الاتفاق النووي والتحايل على العقوبات المتبقية.
وإسرائيل نفسها تدرك مدى التزام «حزب الله» بالتفاهم الحدودي، ومدى مثالية الوضع في جنوب لبنان بالنسبة إليها، حتى أن رئيس وزرائها نتانياهو دعا قبل أيام إلى نقل هذه التجربة إلى قطاع غزة، مطالباً بنشر قوات دولية هناك لإرساء هدوء مماثل وإغلاق الجبهة مع حركة «حماس».
ذلك أن عداء إيران الصُوري لإسرائيل لا غرض له سوى المزايدة على العرب، بمن فيهم أصحاب القضية أنفسهم، وإقامة مهرجانات عن فلسطين معظم خطبائها ممن تلوثت أيديهم بالدم الفلسطيني.
ويذهب الحزب إلى أبعد مما ذهب إليه نتانياهو، فيدعو إلى إحياء نموذج «الشريط الحدودي» الذي كانت تقيمه إسرائيل إبان احتلال جنوب لبنان، وإنشاء شريط مماثل في سورية عند الحدود مع لبنان.
لكن ربما يكون روحاني مخطئاً. فلا شيء يُفرح في إيران التي يحكمها «الحرس» و «الباسيج» بالمعتقلات والترهيب، ولا في لبنان الذي صار رئيسه ناطقاً باسم «حزب الله»، يدافع عن سلاحه وشططه.
غير أنه في حال قرر المرشد تمديد فترة رضاه عن روحاني وإعادة «انتخابه» رئيساً، ربما يضطر «حزب الله» إلى مراعاة رغبته والنظر في دعوة الرئيس، وقد يجرب توزيع بعض «الحبوب» التي يتهم بتصنيعها وتهريبها إلى دول الخليج، على أعضائه وأنصاره ومريديه، لعلها تخفف عبوسهم قليلاً وتخفف عمّن يُبكونهم في طريقهم.
آفاق التفاهمات الأميركية – الروسية ما زالت مفتوحة على رغم تراجع الاندفاع لها في الآونة الأخيرة بسبب انحسار الثقة. جولة على الأجواء الروسية أثناء انعقاد مؤتمر «نادي فالدي» Valdai club هذا الأسبوع في موسكو أفادت بأن المقايضات واردة والرغبة في الصفقة الكبرى موجودة وإن سيناريوات الأخذ والعطاء تمتد من أوروبا إلى الشرق الأوسط. إنما لا أحد يهرول إلى التنازلات في موسكو. إنها مرحلة الإعداد للاستعداد والتلميح إلى مواقع الأخذ ومحطات العطاء مع رسم الخطوط الحمر وتحديد سقف التوقعات. وهنا جردة عن جغرافيا التفاهمات والتنازلات والصفقات، بناءً على أحاديث عدة مع مختلف المطلعين والمقربين من صنع القرار.
الصين فائقة الأهمية في التجاذبات الأميركية – الروسية. فلا موسكو جاهزة لفتح صفحة المساومات مع واشنطن، إذا كان في ذهن الولايات المتحدة خلق شرخ في العلاقات الروسية – الصينية الإستراتيجية في أكثر من مكان. ولا واشنطن مستعدة للعداء مع موسكو لدرجة دفعها كلياً وحصراً نحو بكين، تعزيزاً للتحالف الصيني – الروسي في محور ضد المصالح الأميركية. الرسالة التي يحرص الروس على إيصالها إلى الأميركيين هي أن الصين غير قابلة للأخذ والعطاء. وما يقوله الروس هو أنهم غير مستعدين للكشف عن مواقع المساومات مسبقاً، أو للإعراب عن جاهزية التنازلات خوفاً من «أن يطالبونا اليوم بإيران وغداً بالصين» في إشارة إلى نماذج المفاوضات الأميركية على التفاهمات. فالصين فوق الاعتبارات العادية في العلاقات الأميركية – الروسية.
أوروبا هي موقع المساومات حول أوكرانيا وحول حلف شمال الأطلسي (ناتو). القيادة الروسية رسمت خطاً أحمر اسمه القرم، وهي أوعزت إلى كل من يتحدّث عن شبه جزيرة القرم بأن لا عودة ولا تراجع عن ضمها إلى روسيا – أو استعادتها من أوكرانيا، كما يصر الروس – تحت أي ظرف كان، ومهما كان الثمن أو المكافأة. موسكو تصر في الوقت ذاته، على أن أي صفقة مع الولايات المتحدة يجب أن تنطوي على رفع العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا منذ أن قامت بضم القرم.
ما يلمح إليه الروس هو أن فسحة المساومة هي دانباس Donbass شرق أوكرانيا. هناك يمكن لموسكو أن تستغني عن نفوذها العميق جداً، والذي سبّب لها مضاعفة العقوبات ضدها، بتهمة توغلها عسكرياً في الأراضي الأوكرانية، في أعقاب غزوها وضمها القرم – كما تؤكد الدول الغربية وبالذات تلك التي أرادت لأوكرانيا أن تصبح عضواً في حلف شمال الأطلسي.
الرأي الروسي هو أن أكثرية العقوبات فُرضت بسبب دانباس وأن الاستغناء الروسي عن دانباس يجب أن يؤدي إلى رفع العقوبات الأميركية عن روسيا. الروس يريدون أيضاً ضمانات بألا تُستخدم الدول التي التحقت حديثاً بحلف «الناتو» من أجل نشر الأسلحة الغربية على الحدود مع روسيا في البلقان أو غيره. يريدون تحييد كييف عن «الناتو»، كي لا تكون هذه العاصمة الأوكرانية وكراً لحلف شمال الأطلسي.
لماذا يقتنع الروس بأن هذه الصفقة التي تبدو مختلّة ستكون مقبولة لدى الولايات المتحدة؟ «لأن أوكرانيا مكلفة جداً «مادياً»، يقول أحد المراقبين، ولأن مردود الكلفة الباهظة لا يستحق مثل ذلك الاستثمار، وفق التفكير الروسي. إنما هناك عوامل أخرى يريد الروس الترغيب فيها، بحيث يكون الأخذ أوروبياً والعطاء شرق أوسطياً. والكلام هو عن إيران.
تفهم القيادة الروسية حاجة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أن يكون حازماً وقاسياً مع إيران. لذلك تركت لنفسها أكثر من هامش للتأثير في طهران بالذات في سورية، إنما مع الإسراع إلى القول إنّ النفوذ الروسي مع إيران محدود.
مشهد العلاقات الروسية – الإيرانية معقّد وله تراكمات ميدانية وعسكرية وتطلعات إستراتيجية واقتصادية. أولاً، يرى الروس أنه لولا الطائرات الروسية في الأجواء السورية لتقديم الغطاء الجوي للمقاتلين التابعين لإيران، لكانت إيران وميليشياتها خسرت الحرب في سورية ودفعت ثمناً كبيراً. إذاً، يشعر الروس بالتفوق العسكري الذي حصد الانتصارات الميدانية وضمن محطات مصيرية في الحرب السورية مثل معركة حلب. وهم يشعرون أيضاً بأن سحب الغطاء الروسي الجوي للميليشيات الإيرانية في سورية سيعرّيها ويجعلهاعرضة للسحق في حال تم اتخاذ قرار سحقها أميركياً. وعليه إن لروسيا أدوات نفوذ حادة في إيران، إذا ارتأت استخدامها في إطار المساومات مع الولايات المتحدة.
إنما، مهلاً. هذا لا يعني أن روسيا جاهزة للاستغناء عن علاقتها التحالفية مع إيران أو لاستخدام ذلك النفوذ الكبير فيها، لإحداث تغيير جذري في مشروع إيران الإقليمي الممتد من العراق إلى سورية إلى لبنان وكذلك في اليمن. لذلك الكلام أن «للنفوذ حدوداً».
ففي سورية هناك شبه تنافس روسي – إيراني على اقتسامها إما ككل، أو كسورية مجزّأة عبر التقسيم. موسكو لن تتخلى عن إنجازاتها الشرق أوسطية عبر الحرب السورية وهي عازمة على توسيع قاعدة طرطوس وإنشاء قاعدة حميميم. موسكو تريد ضمانات لتواجد روسي دائم في سورية بلا قيود أو شروط، وهي بالتأكيد تريد أن تكون لها حصة كبرى في الاستثمارات وإعادة البناء في سورية. إنما موسكو تدرك أيضاً أن إيران التي حاربت في سورية وخسرت قادة عسكريين كباراً وليس فقط رجال الميليشيات غير الإيرانية، لن ترضى بالخروج من سورية بلا مقابل. بالعكس، إنها باقية، وروسيا راضية.
ما ذكرته التقارير عن اتفاقات أبرمتها الحكومة الإيرانية مع حكومة بشار الأسد مطلع هذه السنة لم تنحصر في الاستفادة الاقتصادية، إنما شملت ما سمي «استعمالات زراعية» في ضواحي دمشق. بكلام آخر، إنها لغة التغيير الديموغرافي والتقسيم عبر لغة «زراعية» على 50 مليون متر مربع في ضواحي العاصمة السورية. هذا بالطبع إلى جانب نحو 50 مليون متر مربع لإقامة ميناء نفطي في الساحل السوري الغربي، إضافةً إلى اتفاقات حول امتلاك إيران شركات الاتصالات والفوسفات في تدمر.
ظاهرياً، تبدو مسألة سحب الميليشيات التابعة لطهران من سورية في أعقاب الاتفاق على سحب جميع القوات الأجنبية موضع خلاف بين موسكو وطهران. عملياً، إن الفرز الديموغرافي والتواجد «الزراعي» يجعلان مسألة سحب القوى العسكرية التابعة لطهران واردة وسهلة، بعد ضمان الحصة الإيرانية في سورية الواحدة، أو سورية المتعددة والمجزّأة. أين التنازلات إذاً؟ إنها في ترتيب الدار بعد الدمار وفي ترتيبات الاستقرار القائم على اقتسام الكعكة السورية بين روسيا وإيران وتركيا. وماذا للولايات المتحدة، في الرأي الروسي؟ الجواب هو: القضاء على «داعش» والراديكالية الإسلامية (السنّية) أولاً، تحجيم إيران داخل سورية، بما لا يسمح لها بالامتداد إلى الحدود مع إسرائيل، ثانياً، نصب روسيا الضامن الأقوى والشريك للولايات المتحدة في سورية، بدلاً من ترك سورية بين المخالب الإيرانية وميليشياتها. وأخيراً، إذا رغبت الولايات المتحدة وأوروبا في الاستفادة من مشاريع إعادة بناء سورية، فهناك ما يكفي للجميع، وروسيا جاهزة لفتح الأبواب أمامها.
عنصر الكرد في الساحة السورية ما زال رهن المساومات والمقايضات بالذات مع تركيا وليس فقط مع الولايات المتحدة. واضح أن الأولوية التركية هي تنظيف حدودها من الكرد ومنع قيام دولة كردية مستقلة في سورية، لا سيما أن الدولة الكردية المستقلة في العراق باتت حتمية. هنا تتوافق المواقف التركية الرافضة تقسيم سورية – خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى دولة كردية – مع مزاعم روسيا بأنها هي أيضاً ضد التقسيم. إنما للواقع على الأرض قصة أخرى، ذلك أن إيران قد تكون الضامن وراء منع تواجد دولة كردية في سورية، بغض النظر عن التقاسم والاقتسام والتقسيم. فمن بين ما تقايض عليه الدول، منع دولة كردية مستقلة في غير العراق – لا في سورية ولا في تركيا ولا في إيران.
الكرد يقولون إنهم كانوا دائماً في الخط الأمامي للحرب على «داعش» والانتصار على التنظيم. إنهم «الأقدام على الأرض» التي دفعت الثمن واستحقت المكافأة. الدول العربية، لا سيما الخليجية، لم ترسل الجيوش لتكون «الأقدام على الأرض»، في العراق أو سورية، وبالتالي، خسرت المبادرة والزخم ووجدت نفسها خلف موازين المقايضات والصفقات واقتسام النفوذ والثروات.
إنها تأتي الآن إلى العراق كعنصر نفوذ مع السُنّة هناك، دعماً للمسعى الأميركي بألاّ تسقط المناطق المحررة من «داعش» في قبضة النفوذ الإيراني، أو في أيدي «الحشد الشعبي» العراقي وقيادة «فيلق القدس» وقائده قاسم سليماني في الموصل في العراق أو الرقة في سورية.
ماذا عن الرئيس السوري بشار الأسد في موازين المقايضات؟ البعض يقول إنه باقٍ لفترة ليست طويلة. آخرون يتحدثون عن ترتيبات بدأت لما بعد «تقاعده». وهناك كلام عن أسماء ومناصب وتفاهمات رهن إتمام الصفقات. وهناك من يقول إن كل الكلام عن مصير بشار الأسد من صنع المخيلات، لأن الصفقة الكبرى بعيدة، ولأن لا داعي لروسيا للاستغناء عن الأسد قبل أن تقتضي الصفقات ذلك – والمؤشرات في الولايات المتحدة لا تفيد بأن هناك استعجالاً إلى التخلص من الأسد، بل إن هناك استعداداً للقبول به كأمر واقع، مع اتخاذ إجراءات عزله عملياً.
الغائب عن صنع الصفقات بمعنى أن لا حديث عن ضغوط عليه في المعادلات الأميركية – الروسية هو إسرائيل إذ إن كلتيهما تريد إبعادها عن المساومات. فلسطين باتت في مرتبة ثانية وثالثة لكثير من العرب، لا سيما بعدما تربّعت إيران على صدارة قائمة الأولويات لدى الدول الخليجية، وبعدما بات اليمن أهم الأولويات.
أما في اليمن فروسيا ليست جاهزة لاستخدام أية أدوات ضغط ضد إيران، لتفرض عليها الكف عن التدخل هناك على الحدود مع السعودية، فهذه ليست أولوية روسية. هذه مسألة ربما تكون لاحقاً ضمن موازين الصفقة الكبرى التي لم يحن وقتها بعد. فهناك احتمال لتوتر في العلاقات الأميركية – الروسية وصعود محاور مضادة. فإذا كانت روسيا في محور مع إيران مقابل محور يضم الولايات المتحدة والسعودية، لن تتحمس موسكو مسبقاً وقبل الأوان إلى سحب الورقة الإيرانية المهمة من اليمن. فلا استعجال في الأمر بل إن الدول الخليجية تقدّر لروسيا مجرد عدم تعطيل مهماتها في اليمن.
«نادي فالداي» نظّم مؤتمراً مهماً تحت عنوان: أي غدٍ آتٍ إلى الشرق الأوسط؟ كان واضحاً أن روسيا تتموضع في ذلك الغد، وهي تضع الإستراتيجيات العملية لأي من السيناريوات إن كانت في ظل التفاهمات الأميركية – الروسية، أو في حال بروز تصادم المحاور. ما لم تكشف عنه جولة استنباض الأجواء هو تلك الأوراق الخفية الجاهزة للمقايضات السرية عشية الصفقة الكبرى. فهذا مبكر، ولم يحن الأوان.
في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 نشرت في هذه الصفحة من جريدة «الحياة» مقالاً بعنوان «لماذا على المعارضة السورية حضور مؤتمر جنيف؟». أثار المقال حينها الكثير من ردود الفعل المرحبة وربما لعب دوراً في إقناع المعارضة التي كانت مترددة وقتها في حضور أول مفاوضات غير مباشرة عقدت في جنيف برعاية الأمم المتحدة، وكان المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي يشرف وقتها على المفاوضات ويضع أجندتها.
في ذلك المقال حاججت بأنه «يجب أن تظهر المعارضة السياسية والعسكرية سواء ممثلة في الجيش الحر أو الائتلاف حساً بالمسؤولية تجاه الشعب السوري المهجر والمشرد، إذ لا يعقل أننا لا نستطيع أن نقدم أجوبة لملايين السوريين حول انتهاء الأزمة وأمل عودتهم إلى بيوتهم، حول مصير أبنائهم وبناتهم المعتقلين في سجون نظام الأسد، والخوف يزداد يوماً بعد يوم حول وفاتهم تحت التعذيب في ممارسة اعتادت سجون الاحتلال الأسدي على ممارستها بحق كل المعتقلين من دون تمييز بين سنهم أو جنسهم» .
وبالتالي قلت إنه يجب أن تظهر المعارضة نوعاً من الإحساس بالمسؤولية تجاه كل ذلك، وأن النصر العسكري عبر «الجيش الحر» لا يمكن تحقيقه من دون تدخل عسكري خارجي بدا بعيداً وقتها على رغم استخدام الأسد السلاح الكيماوي في الغوطة في ٢١ أب (اغسطس) 2013، حيث تجنب الأسد حينها الضربة العسكرية الأميركية عبر صفقة روسية قضت بتسليم أسلحته الكيماوية مقابل تجنب الضربة.
ولذلك أضفت بأنه يجب أن تكون أولويات المعارضة السورية في التحضير لمؤتمر جنيف كالتالي:
- تجنب أي معارك جانبية تزيد من خسارة المعارضة قيمتها وسمعتها في الشارع السوري حول من سيحضر اللقاء؟ ومن هو الوفد الذي سيمثل السوريين؟ وتركيز النقاش والحوار حول لماذا سنحضر إلى جنيف؟ وماذا يمكن أن نحققه من حضور المؤتمر؟
- ينص اتفاق جنيف الأول على ما يسمى «جسم انتقالي كامل الصلاحيات»، وبالتالي لا بد للمعارضة من الإصرار على تشكيل مجلس انتقالي لا دور للأسد فيه، يمتلك الصلاحيات الكاملة بما فيها الجيش والاستخبارات ويشرف على المرحلة الانتقالية، إلى حين إجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف الأمم المتحدة، تسبقها إجراءات شاملة تشمل عودة المهجرين والنازحين.
- يجب أن تصر المعارضة على تشكيل إجراءات ثقة ومسارات متابعة تشرف عليها الأمم المتحدة، وهي: مسار المعتقلين السياسيين بحيث يجري تسليم كل اللوائح إلى الأمم المتحدة لإجبار نظام الأسد على إطلاقهم من دون أي شروط، ومتابعة شؤونهم بحيث تستطيع المعارضة أن تكسب ثقة آلاف العائلات السورية التي لديها معتقلون في سجون الأسد، والمسار الثاني يتعلق بفك الحصار عن المناطق المحاصرة وعلى رأسها الغوطة الشرقية وحمص ومخيم اليرموك، وتكون مسؤولية الأمم المتحدة هي مراقبة وصول المساعدات الإنسانية في شكل كامل إلى هذه المناطق، أما المسار الثالث فهو التزام دولي ومن كل الدول الداعمة لمؤتمر جنيف بإعادة إعمار المناطق المتضررة والمنكوبة وإعطائها وأهلها تعويضات خاصة وسخية، فكل مناطق المعارضة أصابها الأسد بالدمار، وعلى المعارضة السياسية أن تعي ضرورة فتح كل الفرص لإعادة ملايين اللاجئين إلى بيوتهم بأمان وكرامة، فلم يذلّ السوري في عمره كما يخضع للإذلال اليوم في مخيمات اللجوء.
تلك إذن هي النقاط التي يجب أن يدور النقاش حولها بين المعارضة اليوم، ويجب عدم تحويل النقاش إلى نقاش حول الوطنية والخيانة. يجب أن تتصرف المعارضة بمسؤولية تجاه ملايين السوريين وبحنكة بحيث تتخلص من الأسد عبر مسار دولي يلتزم به المجتمع الدولي حول المرحلة الانتقالية.
للأسف لم يتحقق شيء من ذلك خلال السنوات الأربع الماضية وعقدت جولات تفاوضية عدة في جنيف أيضاً بلا معنى أو حتى مبرر لعقدها من دون تحضير من القائمين عليها في الأمم المتحدة.
وبالتالي وكما يقال المكتوب ظاهر من عنوانه: لن تقود المفاوضات المستأنفة مجدداً إلى أي حل، بل بالعكس تماماً ازداد الوضع على الأرض في سورية سوءاً وتدهوراً، فارتفع عدد الشهداء إلى ما يقارب النصف مليون، وزاد عدد اللاجئين إلى ما يعادل الستة ملايين أما النازحون في وطنهم ففاق عددهم 9 ملايين، وبالتالي تعرض أكثر من نصف السكان للقتل والتهجير والتشريد مع سياسات الأسد التي ازدادت شراسة وهمجية، والأسوأ من ذلك أن المعارضة السورية العسكرية تعرضت لهزيمة قاسية جداً بالخروج من مدينة داريا رمز الصمود والمقاومة في دمشق، وحلب التي كانت لوقت طويل رمز امتلاك المعارضة زمام المبادرة في الشمال السوري، وتتالت عمليات التهجير القسري بإشراف روسي – إيراني.
وحتى في الملف الذي يبدو لوهلة أولى أنه في غاية البساطة ولا يكلف النظام أي تكلفة سياسية أو عسكرية وهو الملف الإنساني، لم يفرج النظام عن المعتقلين وزاد عدد التقارير المروعة عن عمليات القتل والتصفية الجماعية داخل السجون وآخرها كان تقرير منظمة العفو الدولية عن سجن صيدنايا، أما المناطق المحاصرة فبدل أن تنتهي ازداد عددها وبات التجويع سياسة يومية لكسر المدنيين والمعارضة، وبات المجتمع الدولي يستمع إلى هذه الأخبار من دون اكتراث أو مسؤولية بأنه يجب القيام بشيء لوقف عمليات الإبادة هذه.
وفوق ذلك كله أتى فوز إدارة أميركية جديدة ترى الحل السوري في روسيا فجعل السوريين يترحمون ربما على أيام باراك أوباما وسلبيته الكارثية التي أوصلت سورية إلى دمار معمم على يد الأسد وحلفائه.
بالتالي ما هي نقاط القوة التي يمكن المعارضة أن ترتكز عليها في مفاوضاتها السياسية في جنيف؟ عصفت ذهني كثيراً فلم أجد ما يستحق عناء الذهاب إلى جنيف.
والأسوأ من ذلك كله أن المعارضة السياسة تشظت إلى معنى ضياع الهوية السورية تماماً، فتحالفاتها باتت هي التي تفرض عليها قرارها ولم يعد القرار الوطني موجهاً لها أو بوصلة لتحركاتها.
إذاً، ما الحل؟
الحل يكمن في عملية تعبئة جماعية للمعارضة بما أسميه عملية «التحشيد المدني» من أجل التغيير، وهذه تشمل المهجرين واللاجئين والسوريين في المناطق المحررة وحتى في مناطق النظام، إنهاء عهد ما يسمى الفصائل المسلحة والتوحد تحت راية وطنية واحدة، وفي الوقت نفسه خلق مناخ سياسي ضاغط دولي وإقليمي وداخلي باتجاه مطالب محددة وواضحة مثل الإفراج عن المعتقلين كلهم وإنهاء وصمة العار و «المسالخ» البشرية التي تستمر تحت أعيننا، والتركيز على المطالب الإنسانية في كسر الحصار عن المناطق المحاصرة.
يجب على المعارضة السياسية العمل على تشكيل قطب مواز مؤثر وفعال عبر تكثيف الاجتماعات الدورية والاتفاق على عدد من الخطوات السياسية ذات الأثر الجماهيري مثل الدعوة إلى عدد من الاعتصامات السلمية والعلنية في شكل مشترك داخل سورية وخارجها.
علينا أن نعتمد على الشباب كشريحة محورية في بناء التراكمات السياسية على أرض الواقع، ففعاليتهم في المشاركة تؤشر إلى الديمومة والاستمرارية والقدرة على الوصول إلى أكبر الشرائح تأثيراً في المجتمع السوري بحكم كونه مجتمعاً شاباً كما يدل على ذلك متوسط العمر في هذا المجتمع.
والجزء الأخير من عملية التحشيد يتعلق ببناء إستراتيجية واضحة ومحددة الخطوات والأهداف لعملية الانتهاء من الألم وإشاعة الأمل بأن التغيير في سورية ليس ممكناً فحسب بل مقبل بكل تأكيد
استبدل النظام السوري خلال السنوات الست الماضية المصطلحات الدولية في التعامل مع ثورة الشعب السوري، محولاً الأنظار عنها من صراع سياسي إلى قضايا متشابكة من إنسانية وإغاثية وحرب دامية على الإرهاب، ولاحقاً المشاركة في الإدارة وآليات الوصول إلى ذلك، وإعداد دستور جديد وقانون انتخابات، وكل ما من شأنه أن يغير معادلة أن الثورة تعني التغيير الكامل، لتصبح الثورة ومسألة التغيير السياسي في مكان، وطاولة المفاوضات في مكان آخر.
وفي مقاربة واضحة المعالم مع تعامل إسرائيل في المفاوضات الفلسطينية، بدءاً من طرق حصار المدن والمناطق وعزل بعضها عن بعض ومروراً بتهجير السكان وترهيبهم، ووصولاً إلى طاولة مفاوضات عقيمة أبدت إسرائيل رغبتها في استمرار العملية التفاوضية إلى ما لا نهاية، وفي تعبير آخر طاولة تفاوض لا تمنع بقاء الحال على ما هو عليه، ولا تفيد في إعادة الحقوق الأساسية لتكون فوق تفاوضية، كحق الإنسان في الحياة الآمنة في بيته وعلى أرضه مع حقوق مواطنة كاملة.
ورغم الفروقات الكبيرة بين ثورة شعب من أجل الحرية ونضال شعب ضد احتلال إسرائيلي لأرضه، وهذا الفرق الكبير بين القضيتين، لكن المدهش أيضاً وجود تشابه كبير بينهما، على الأقل في العمليتين التفاوضيتين السورية- السورية، والفلسطينية- الإسرائيلية، ففي الحالين مثلاً لا يوجد اعتراف بالشعب أو بحقوق هذا الشعب، فلا إسرائيل تعترف بوجود الشعب الفلسطيني بوصفه شعباً له حقوق، ولا النظام السوري يعترف بوجود شعب له حقوق، فالشعب الذي يعترف به النظام هو من يحمل السلاح معه ويدافع عن سورية الأسد، فهو يعتبر سورية ملكاً خاصاً له، وإرثا عائلياً، ما يفصح عنه شعار: سورية الأسد أو نحرق البلد، وما تبقى من السوريين هم مجموعة من الإرهابيين أو مرتبطين بمؤامرة خارجية أو لا لزوم لهم في «سورية المفيدة» أي «سورية الأسد» لا أكثر.
كل شيء مسموح به تحت سقف النظام الحاكم: تغيير وزارة، أو تغيير مجلس الشعب، وحريات اقتصادية وإعلامية، بشرط ألا تهدد سقف النظام، ولا تقترب من مناطق سيادته (السيطرة على الموارد والقرار والجيش والأمن)، والأمر نفسه في إسرائيل أيضاً، التي تسمح للفلسطينيين بحكم ذاتي، أو حتى بإقامة دولة منقوصة السيادة، لكن السيادة الفعلية على الأمن والسلطة والموارد تبقى لإسرائيل.
أيضاً، في المفاوضات عملت إسرائيل على تجزئة القضية الفلسطينية، بمعنى أن القضية لم تعد تتعلق بدولة تحتل أرض شعب آخر وتصادر حقوق مواطنيه، وإنما قضايا متعددة ومختلفة وكل قضية يفترض حلها بمعزل عن غيرها، إذ هناك قضية اللاجئين، والقدس، والحدود، والمستوطنات، والأمن، والمياه، والعلاقات الاقتصادية، والمعتقلين، وقضية مواجهة الإرهاب... إلخ، وهذا ما اشتغل عليه النظام بدعم كبير من روسيا وإيران، ولاحقاً مجموعة الدول التي وجدت مصالحها متقاطعة مع هذه الرؤية، فتشعبت القضية السورية وتجزأت لتصل إلى مسارات عديدة، كل مسار يحتاج إلى «جنيفات»، وكل جولة في جنيف تحتاج إلى قاموس لتفسير مضامينها، إذ يرفض النظام ومن يوافقونه بشكل مطلق اعتبار الثورة قضية سياسية، أو قضية شعب يريد التغيير السياسي من أجل الحرية والكرامة والديموقراطية والمواطنة، لأن كل ذلك يمس وجوده كنظام، ولذلك فهو عمل بكل جهوده على تحويلها قضية اعتداء خارجي، أو قضية إرهاب، أو قضية صراع بين الأقليات، أو قضية طائفية، أو قضية إنسانية أو إغاثية للاجئين والنازحين.
المتابع اليوم لتفاصيل ما يقدمه الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا لحل الصراع السوري- السوري، من اقتراحات للدخول في العملية التفاوضية التي لا تزال مستعصية على النظام والمعارضة، يستذكر ما حدث في اتفاق أوسلو عام 1993 وكيف عملت إسرائيل على مرحلة حل القضية الفلسطينية، ومن يراجع اتفاق أوسلو، يلاحظ وجود مرحلتين، انتقالية مدتها خمس سنوات تتعلق بإيجاد حلول موقتة وجزئية، ومرحلة نهائية تناقش القضايا الأساسية، لكن من دون تحديد أي جدول زمني، ومن دون أي ضمانات. في المفاوضات السورية توجد أيضاً مرحلة انتقالية، لكنها لا تهدد النظام، الذي يعمل، مع حلفائه، على اعتبارها مرحلة لإعادة تعويمه، بل يسعى خلالها النظام لتجنيد إمكانات خصمه المعارض في الحرب المزعومة على الإرهاب، وهي الحرب التي يمكن أن تمتد وتتمدد وفق المصلحة الدولية التي تتضمن أيضاً مصلحة النظام في «عدم الانتقال السياسي».
وعلى هدى إسرائيل بما فعلته من تقسيم للأراضي في الضفة الغربية التي لا يتنازع على ملكيتها الفلسطينية أحد، وتحويل المفاوضات إلى لعبة علاقات عامة، أو إلى مسار عبثي لا جدوى منه، يفعل النظام السوري الشيء ذاته كما لاحظنا من جنيف1 إلى جنيف4 إضافة إلى مسار آستانة، وما كان للنظام أن يفعل ذلك لولا أنه وجد إسرائيل مثله الأعلى في الضرب عرض الحائط بكل القرارات الدولية التي صدرت، وستصدر، لتبقى المفاوضات حفلات سمر يراق خلالها مزيد من الدم السوري.
هل هناك فعلا جدية روسية في الضغط على النظام السوري للبحث في الانتقال السياسي في نظام الحكم في سورية؟ وهل أخذت موسكو تعطي إشارات إلى استعدادها للافتراق عن الخطة الإيرانية في بلاد الشام والتي أساسها بقاء بشار الأسد في الرئاسة إلى ما شاء الله؟ وهل بلغ التمايز الروسي- الإيراني الذي برزت مظاهره الميدانية على الأرض السورية حد تحوله سياسة مناقضة لما تنويه طهران في تنافسها مع الدب الروسي على الإمساك بالقرار السياسي السوري في إطار مشروعها في الشرق الأوسط كلاً؟
تُطرح هذه الأسئلة، وغيرها كثير، لمناسبة التركيز الإعلامي على اعتبار الضغط الروسي على وفد نظام الأسد المفاوض في جنيف4 كي يقبل بند الانتقال السياسي على جدول التفاوض بينه وبين وفد المعارضة، «بدايةً طيبة» و «تقدماً»، كما قال رئيس وفد الأخيرة نصر الحريري أول من أمس.
قيل الكثير عن الخلاف بين الروس والإيرانيين، وبين هؤلاء والأتراك... بعد دخول قوات النظام والميليشيات المدعومة من طهران إلى حلب قبل شهرين، والذي مهد له القصف الروسي العنيف لأسابيع. إلا أن بعض الاستنتاجات في هذا المجال انطلق من بعض المؤشرات الواقعية، لتضخيم التوقعات حول هذا الخلاف. واستند التضخيم إلى افتراض أن العدائية «الترامبية» لدور إيران في سورية والمنطقة مقابل المراهنة الروسية على التفاهم مع الإدارة الجديدة في واشنطن، قد تقود إلى صفقة بين الجبارين على حساب إيران. لكن واشنطن تتمهل في توضيح توجهاتها. والميدان السوري يخضع للتقلبات المتناقضة، وكل أسبوع، بل كل يوم لا يشبه الذي سبقه في رسم خريطة الوقائع العسكرية في لعبة الأمم على الرقعة السورية، والدليل ما يحصل في منبج وغرب حلب، وهكذا على المستوى السياسي.
كان من الطبيعي أن تلجأ الديبلوماسية الروسية إلى الظهور بمظهر ممارسة الضغط على النظام لقبول بحث الانتقال السياسي بنداً أساسياً في جدول أعمال جنيف، بعد إحباطها بالفيتو مع الصين، مشروع قرار مجلس الأمن إدانة النظام لاستخدامه الأسلحة الكيماوية مجدداً، وبعد أن أفقدها خرق النظام وإيران وقف النار في كل أنحاء سورية، والذي ادعت موسكو النجاح في تثبيته في آستانة1 و2، صدقيتَها كراع للاتفاق. والأرجح أن القنبلة الدخانية التي اسمها «الضغط على النظام» حول الانتقال السياسي، جاءت للتغطية على التقريرين الدوليين اللذين أذيعا فور فشل تمرير قرار مجلس الأمن، عن استخدام قوات الأسد غاز الكلور في غاراته على حلب، وعن قصفه المتعمد لقوافل الإغاثة الإنسانية التي كانت مخصصة للمحاصرين شرق حلب قبل إسقاطها منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي... في وقت تأخذ المعارضة على الروس عدم ضغطهم على النظام و «حزب الله» لتنفيذ ما تقرر في آستانة من تمرير للمساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة وللإفراج عن معتقلات في السجون... إلخ.
لم يكد وفد المعارضة ينتهي من الحديث عن التقدم بفعل الضغط الروسي، حتى قال نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، الذي تولى المهمة، إن «الجديد هو أن أطراف جنيف وافقوا على البحث في كل المواضيع في شكل متواز»، ثم اتهمت الخارجية الروسية المعارضة بتقويض المحادثات لرفضها التعاون مع معارضتي القاهرة وموسكو المؤيدتين بقاء الأسد، فيما قال مسؤول في وفد النظام إن جدول الأعمال يتضمن 4 سلات هي الإرهاب والحكم والدستور والانتخابات، مستبعداً ضم الانتقال السياسي إلى النقاط الثلاث التي طرحها ستيفان دي ميستورا، ومصراً على تقديم بند الإرهاب الذي رفضت المعارضة مواصلة إلهاء الأسد العالم به.
ومع صحة القول إن المعارضة انتزعت للمرة الأولى بند «الانتقال السياسي» نظرياً، فإن الإصرار الروسي على «بحث متواز» لكل المواضيع يعني ربط أي تقدم في أحدها بالتقدم في غيره، لإطالة التفاوض في شأن الحكم الانتقالي الذي نص عليه القرار الدولي 2254 ، فما تضمنه الأخير من جدولة زمنية لآلية الانتقال (عملية سياسية لـ 6 أشهر تحدد جدولاً لصوغ دستور، ثم انتخابات في غضون 18 شهراً بإشراف دولي) تأخر زهاء 15 شهراً منذ صدور القرار في 18 كانون الأول (يناير) 2015.
قنبلة موسكو الدخانية إحدى المناورات المنفصلة المفاجئة، التي سرعان ما يظهر نقيضها كما عودتنا ديبلوماسيتها، والمتبقي يتكفل به وفد النظام بالاستناد إلى لغم في القرار الدولي هو أن قيام هيئة حكم انتقالية جامعة تخول سلطات تنفيذية كاملة تعتمد في تشكيلها على «الموافقة المتبادلة». وهذا باب للمماحكة غير المتناهية، في انتظار التوافق مع إدارة ترامب.
لن يتقدّم السوريون خطوة واحدة إلى الأمام في محادثات جنيف الرابعة، والتي سوف تنتهي كما انتهت مفاوضات جنيف 1 و2 و3، أي قبل أن تبدأ، وقبل أن تنهي مناقشة جدول الأعمال التي تحطمت على "صخرتها" جميع المؤتمرات التفاوضية السابقة. ربما، هذه المرة، بمنسوبٍ أقل من التهم والشتائم التي يتقنها وفد النظام، احتراما للحليف الروسي الذي وقعت عليه، للمرة الأولى، رعاية "تمثيلية" المفاوضات السورية. والسبب بسيط جدا، وأقل تعقيدا بكثير مما تدّعي الدبلوماسية الدولية، وما يريد كبارها أن يقنعوا الرأي العام السوري به، وهو لا يختلف عن السبب الذي أفشل مفاوضات الحل السياسي في فلسطين، منذ مؤتمر مدريد الشهير في 1991. نظام الأسد وحلفاؤه الأساسيون في طهران يرفضون التخلي عن السيطرة على كامل السلطة والبلاد، مهما كانت الظروف، ولأي طرفٍ كان، لأنهم يريدون، بكل بساطة، الاحتفاظ بها، تماما كما رفض نظام الاحتلال الإسرائيلي "التنازل" عن أي شبرٍ من فلسطين، وأراد ولا يزال السيطرة على جميع الأراضي الفلسطينية، وضمها بالتدريج وحرمان الفلسطينيين من أي أمل بإقامة دولة على حدود "إسرائيل".
كما كان عليه الحال في المسألة الفلسطينية، لم يكن لدى القيادة الفلسطينية بكل أجنحتها، ولا لدى الرأي العام الفلسطيني، على تعدّد اتجاهاته، أي شك في أن الولايات المتحدة هي الراعي الرئيسي لإسرائيل، والضامن لمصالحها وأمنها، وتفوّقها على عموم المنطقة العربية وغير العربية في الشرق الأوسط كله، وأن واشنطن لا يمكن أن تفعل، في أي ظرف، ما يمكن أن يسيء إلى مصالح الاحتلال الإسرائيلي. لكن، لهذا السبب بالذات، وفي ظرفٍ تضاءلت فيه الخيارات إلى حدود العدم، راهن الفلسطينيون على العلاقة الوجودية بين واشنطن وتل أبيب، من أجل تحقيق تسويةٍ تحفظ ماء الوجه، وتقبل بجزءٍ لا يكاد يذكر من فلسطين، يرضي طموح النخبة الفلسطينية، ويبرّر استمرارها ووجودها على رأس شعبٍ لا يزال أغلبه يعيش في المخيمات. ما يعني أن من مصلحة إسرائيل إيجاد حل للقضية الفلسطينية بأرخص الأثمان، ومن مصلحة الولايات المتحدة الضغط على حكومات إسرائيل، من أجل تسهيل التوصل إلى هذا الحل الذي لا يعدو أن يكون مبادرةً لحفظ ماء الوجه للسلطة الفلسطينية التي يعترفون بفائدتها في منع بروز حركات متطرّفة فلسطينية.
ويكاد الوهم ذاته الذي ربط مصير الحركة الفلسطينية بالتفاهم مع الولايات المتحدة والرهان على تماهيها مع إسرائيل، من أجل إقناعها باتباع سياسة أكثر عقلانيةً حتى بالنسبة لحفظ مصالحها ذاتها، يعود بالصورة نفسها في ما يتعلق بمراهنة سوريين كثيرين وقادة المعارضة أيضا على موسكو، وعلاقتها القوية مع نظام الأسد، والتي تريد، في نظري، أن تحولها إلى علاقاتٍ وثيقة ونهائية، لا تنافسها أي علاقات أخرى، بما يناظر الترابط الوثيق في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، للضغط على نظام الأسد وطهران، وحثهما على قبول تسويةٍ تحفظ ماء وجه معارضةٍ فقدت، كما حصل للفلسطينيين، كثيراً من حماس حلفائها السابقين ودعمهم، وغيّب أصدقاءها اليأس والخوف من التورّط معها.
في الحالتين، كانت الحصيلة صفرا. وبدل أن تكون المفاوضات وسيلةً للتوصل إلى حل للنزاع أو الصراع القائم، صارت هي المشكلة، وصار الهدف الذي يسعى إليه الأطراف، حلفاء المعارضة وأصدقاء الشعب السوري، أو من يتّسمون باسمهم، هو الجري وراء اجتماعاتٍ لا معنى ولا قيمة لها، والتأكيد على أهمية محادثاتٍ تبعد الأطراف عن القضية المطروحة للنقاش أكثر مما تقربها من إيجاد حل لها. والحال أن ما يحصل هو بالضبط تقويض أسس أي مفاوضاتٍ جدية، ووضع السوريين ومعارضتهم، كما وضع الفلسطينيون وقادتهم منذ ربع قرن، أمام خيار واحد: قبول الأمر الواقع. كل ما هنالك أن استمرار الحديث عن مفاوضاتٍ قادمة، ومؤتمرات محتملة، يفتح إمكانية تمرير فرض الأمر الواقع بالتدريج، ومن دون أن يشعر الطرف المعني، أو بالأحرى تهريب الحل العسكري الذي يتقدم وحده على الأرض، وتحويل المفاوضات إلى مخدّر من أرخص الأثمان.
لم يكن السوريون بحاجة إلى وساطة موسكو، إذا كان الهدف من المفاوضات التي تدفع إليها وتتوسط لإنجاحها، هو إعادة هيكلة النظام السوري، وإعادة الشرعية والاستقرار إليه، كما صرح مبعوث روسيا للقضية السورية ميخائيل بوغدانوف، الاثنين الماضي، في مداخلته في منتدى فالداي للحوار الاستراتيجي في موسكو، عندما انتقد "الثورات التي تسعى إلى إطاحة أنظمةٍ بدعم خارجي"، وقال إن الاحتجاجات تسمح بتقويم مشاعر المواطنين، وتتيح الفرصة لتحسين الدستور، إلا أن ذلك لا يعني ضرورة إلغاء الدستور والمطالبة برحيل السلطات الشرعية عن طريق القوة أو الثورات أو الانتفاضات، من دون انتظار إجراء انتخابات جديدة، وهذا يعني تكليف النظام الشرعي بالإصلاحات، وتنظيمه الانتخابات، أي ببساطة إلغاء جوهر المفاوضات في جنيف.
وليس هناك أي سببٍ لكي تعطي المعارضة السورية، مهما وصلت من الضعف، ولا الشعب الذي قاتل ست سنوات وحيدا، بركتهما لتعيين ممثلي منصة موسكو أو غيرها أعضاء في حكومة مشتركة مع النظام، فهؤلاء أحرار، وبإمكانهم في أي وقت أن ينضموا إلى حكومةٍ واحدة، يسمونها كما يشاؤون، حكومة وحدة وطنية أو حكومة روسية سورية، أم أي شيء آخر. ولن يقف أحد ضد خياراتهم، لكن هذه ليست الحكومة التي تمثل موقف الشعب الذي تريد أن تعبر عنه المعارضة، ولا موقع معارضةٍ قدمت آلاف الضحايا، من أجل تغيير النظام القائم، وتحرير الشعب من القهر والذل والاضطهاد. ومن الأفضل، في هذه الحالة، أن تبقى المعارضة معارضة، وتترك الروس والإيرانيين يشكلون حكومتهم الخاصة، ويضعوا على رأسها أيا من الدمى التي يثقون بها، ويستطيعون التلاعب بقراراتها، كما يشاؤون. قد يمثل هذا حلا لبقاء الأسد، وبقاء طهران ومصالحهما الفائقة، ولتوسيع نفوذ الروس وتكريس انتدابهم على سورية، لكنه لن يكون اتفاقا، ولا حلا للمسألة، ولا إنهاءً لأي نزاع.
لا ينبغي أن يخدع الروس أنفسهم، ولا أن تخدع الحكومات العربية وغير العربية التي تراهن على الروس، في مثل هذا الحل، باسم الحفاظ على إمكانية الحرب على الإرهاب، نفسها أيضا. لن يكون هناك حل، مهما حصل، وحتى لو وقّعت المعارضة على صك الاستسلام، ولن توقع، مع نظامٍ شنّ الحرب على شعبه، وقام بتدمير وطنه، وتشريد أبنائه في مختلف بقاع الأرض، ولن تكون هناك تسويةٌ ممكنةٌ مع نظامٍ قبل بأن يكون غطاء للاحتلال.
في نظري، ستستمر المفاوضات مع النظام السوري، وأولياء أمره من الإيرانيين، عقيمة، مهما تعدّدت المؤتمرات، وأعيد صياغة المبادرات لتمريرها على الرأي العام السوري. والمستفيد الوحيد من هذا العقم والفشل والتأجيل الدائم للحل قوى التطرّف التي يمقتها الجميع، لكنه يعمل على تغذيتها في كل خطوةٍ يسعى فيها إلى الإبقاء على أصل المأساة ومصدرها، وهو نظام القهر والإذلال والتعذيب والمعتقلات.
وسيخطئ أيضا الذين يسوقون من بين الحكومات العربية حلا رخيصا على طريقة المحاصصة الطائفية، يغطي على الإبقاء على نظام العبودية، أو تقاسما للسلطة مع مجرمي الحرب وأبطال الإبادة الجماعية، لأن الأغلبية الساحقة من السوريين لن تقبل، وسوف ترفض تحويلها إلى طائفةٍ وطوائف متنازعة على سلطاتٍ ومناصب وهمية. ما يريده السوريون هو الحرية.
والتسوية السياسية الوحيدة التي تقود إليها، وتفتح الطريق أمام مفاوضاتٍ حقيقية ومثمرة، ترضي تطلع السوريين إلى الحرية، هي وقف الحديث عن جميع المواضع الثانوية، وتركيز الأطراف كافة، وفي مقدمتها الدول الكبرى التي تريد الخلاص، أو على الأقل تخفيف عواقب الكارثة السورية التي لم تنته بعد، على نقطةٍ وحيدة واحدة: توفير الشروط الأمنية والسياسية التي تسمح للشعب السوري، من دون تمييز بين الطوائف والقوميات والطبقات، بتقرير مصيره من خلال انتخاباتٍ عامةٍ نزيهة وحرة وتحت إشراف دولي. وإذا كان التوصل إلى هيئةٍ انتقاليةٍ تقوم بالإعداد لهذه الانتخابات، وتضمن استمرار الدولة، وإدارة الشؤون العامة خلال سنة أو أكثر، مستحيلا بين الحكم والمعارضة، أي إذا أصر الحكم القائم على عرقلة التوصل إلى حلٍّ يفضي إلى عملية تقرير مصير، فعلى الأمم المتحدة والدول الكبرى الخمس في مجلس الأمن أن تتحمل مسؤولياتها إزاء السوريين المنكوبين، وتأخذ على عاتقها تحقيق هذه المهمة، قبل تسليم السلطة لحكومة سوريةٍ ديمقراطيةٍ، منبثقةٍ من الشعب ومعبرة عن إرادته. أمام رفض النظام وشركائه التراجع، وتردّد الدول الكبرى في مواجهة حلفاء النظام، وتفاقم الأزمة الإنسانية، وتنامي مخاطر التطرف الجديد النابع من الإحباط والبؤس والهوان، لا أعتقد أن هناك، ما لم تتغير المعطيات الدولية، أي حلّ آخر قابل للحياة.
كلما تعرفَ الرأي العام في العالم (إن صحت التسمية) على فظاعات جديدة للنظام السوري، كالتقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية عن ضحايا سجن صيدنايا، زادت قناعتي بأننا نعيش عصراً مختلاً تماماً، لا سيما لجهة حالة الشلل والتفرج التام على مأساة الشعب السوري المستمرة من قبل المجتمع الدولي.
ضمن السياق نفسه ولتعرية كل أوراق التوت عن أعنف نظام عرفه التاريخ المعاصر، عرضت قناة «العربية» أخيراً فيلماً وثائقياً عن سجن تدمر، فيلماً رهيباً، قام بتأدية الأدوار فيه سجناء لبنانيون سابقون قضوا فيه سنوات عدة.
تدمر السجن، أو سجن تدمر، لا فرق، حيث المعتقلون أرقام فقط، والسجّان هو الجلاد والحاكم والقاضي.
من فتحة صغيرة في باب المهجع يتلصص أحد المعتقلين على سلوك أحد الحراس. كان التاريخ يشير إلى 8 آذار (مارس) أي إلى «عيد» وصول البعث إلى السلطة. فقط في هذا النهار رأى المعتقل أن الطعام هو رزّ وفروج وصنوبر، بينما في بقية الأيام يحصل سجناء كثيرون على حبة بطاطا. من تلك الفتحة رأى السجين المتلصص كيف أن الحارس وقد التهم بعض لحم الفروج، تبوّل على بقية طعام السجناء.
توثيق هذه الجرائم بالمعنى الحقوقي أمر في غاية الأهمية، ولكن متى تُترجم تلك الوثائق الحقوقية إلى فعل سياسي قانوني، كي تأخذ العدالة مجراها؟ فبمقدار الرعب الذي عاشه المعتقلون يكون السؤال الموجع، الذي أراه بلا جواب بسبب الصمت عن تلك الجرائم، فكأن هذا العالم يمشي مقلوباً مع السوريين، بلا رأس قانوني أو أخلاقي.
نظامٌ مروع تاريخه مسلسل من المجازر، وبمقدار الضياع الذي يراه السوريون في سياسة أنظمة العالم المؤثرة، هناك أيضاً وجه آخر قبيح ما زال السوريون بعيدين عن فضحه وتعريته، هو أن كل هذا القمع العاري والمديد الذي مارسه النظام كان بأيدي سوريين: فالحارس الذي تبول على طعام سجناء لبنانيين في سجن تدمر سوري.
سوريون مع النظام وجدوا في بوط بشار الأسد قبلتهم، سوريون يعتقلون سوريين، يعذبون سوريين، يقتلون سوريين.
هي حقيقة عارية نتجاهلها من شدة فظاعتها. الجلادون والقناصون ورماة المدفعية والطيارون درسنا معهم في المدارس نفسها، لكنهم هم أنفسهم بعد حين رأيناهم يعملون على تثبيت ركائز استبداد النظام، فصاروا ضباطاً وعساكر ومخبرين يخدمون نظامهم المروع ويهتفون بحياة قائده.
مروعٌ حال العالم إذاً، ولكن حالنا السوري الاجتماعي والنفسي أيضاً مروع أكثر. فالانقسام الاجتماعي، الطائفي والأخلاقي يأخذ شكل التشظي.
لذلك فإن من يعّول على أي تغيير سياسي عبر المفاوضات مع هذا النظام واهم، حتى لو رغبت موسكو بوتين بذلك. فليس النظام الإيراني وحده من يعيق أي اقتراب جدي من حل سياسي، إنما أيضاً النظام وبنيته الأمنية الصارمة. فهو لا يمكن تغييره إلا عبر الكسر والإزاحة.
صدى صوت السجان في سجن تدمر ما زال يروع حياة سجناء خرجوا أحياء من هناك، وما زال صراخ سجاني صيدنايا مروعاً أيضاً.
الثورة السورية وصفت باليتيمة، ولكن من وصفها بذلك لم يشاهد هذا الخراب والإجرام الهائل الباقي في نفوس السوريين الواقفين مع النظام. ثورة يتيمة، نعم، لأن بوط النظام العسكري والأمني بوط سوري قبل أن يتدخل البوط الإيراني والروسي.
في الأدبيات السياسية عادة ما يستخدم الكتاب والصحافيون عبارات كثيرة التلخيص والدقة حين يدرسون الظواهر السياسية لأي نظام سياسي، لكن في حالة النظام السوري لا بدَ من استعارة الكثير من مصطلحات الطب النفسي. وفي العمق الجارح هذا لا بدّ أن يدرك السوريون مأساتهم الذاتية مع جلاديهم السوريين، قبل أن يبدأوا بتفقد خرائط السياسة ونقدها في محيطهم العالمي.
«لا نرغب في استمرار هذا الخطاب بين البلدين، سوف نصبر على تركيا، إلا أن للصبر حدوداً أيضاً». بهذا التصريح الذي أدلى به المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيراني يمكن أن نستشف مدى التجاذب والتصريحات النارية المتبادلة بين كل من تركيا وإيران.
نسير مع القارئ في السطور القادمة لمحاولة الكشف عن مآلات تلك التجاذبات وإسقاطاتها على علاقات البلدين مستقبلاً.
بدايةً لاشك أن هناك قوالب حاكمة لطبيعة العلاقة بين أي بلدين، تؤثر بدورها على طبيعة تلك العلاقة وهامش حركتها. وإسقاط ما تقدم على الحالة التركية الإيرانية يفضي إلى الوصول للقوالب الحاكمة التالية:
1- قوتان إقليميتان في منطقة الشرق الأوسط تمتد مصالحهما وتأثيرهما إلى خارج حدودهما الجغرافية.
2- تشابك مناطق النفوذ والمصالح، ما يؤدي إما إلى تقارب، أو نشوب خلاف (سوريا -شمال العراق).
3- علاقات ومصالح اقتصادية ترى للمستوى الاستراتيجي، وتمتد لفضاء مستقبلي رحب.
4- خلفية تاريخية ما تلبث أن تستدعي نفسها بين فينة وأخرى، لترخي بظلالها على طبيعة العلاقة بين البلدين.
القوالب الحاكمة سابقة الذكر ظلت على الدوام تؤطر لطبيعة تلك العلاقة وتجاذباتها. وبعيداً عن السير طويلاً في تاريخ العلاقة بين البلدين، يمكن الإشارة هنا إلى الفترة الأخيرة، وتحديداً السنوات العشر المنصرمة، فقد لعب الجانب الاقتصادي دوراً كبيراً في تحسين العلاقة بين البلدين يعززه هدوء ملموس في فترة من الفترات في مناطق المصالح المتشابكة مثل سوريا وشمال العراق.
وفي مقابل العقوبات الاقتصادية التي تعرض لها النظام الإيراني، بسبب البرنامج النووي، جاءت تركيا بوصفها متنفساً مهماً للنظام الإيراني لتخفيف وطأة تلك العقوبات، فزاد عدد الشركات الإيرانية العاملة في تركيا، وأصبحت البنوك التركية مساراً مهماً للتحويلات المالية الإيرانية.
انعكس ذلك على التحركات التركية سياسياً لصالح النظام الإيراني ولتحقيق تقارب بين إيران والولايات المتحدة، حيث توصلت فيما يطلق عليه بالاتفاق الثلاثي (تركيا، إيران، البرازيل) في 2010، رغبة في تعزيز المسار الاقتصادي الذي ما انفك البلدان يتطلعان لوصول التبادل التجاري فيه إلى 30 مليار دولار، والتطلع إلى أن تكون تركيا المسار الرئيس للغاز الإيراني إلى أوروبا.
ذات القالب الاقتصادي الحاكم بين البلدين ساهم ولا يزال في إدارته لتخفيف وطأة قالب التنافس الإقليمي. فبالرغم من التباين الجلي فيما يتعلق بالأزمة السورية، ظل النظام الإيراني وحاجته للمتنفس الاقتصادي التركي تدفع للتخفيف من وطأة ذلك التباين.
يتساءل القارئ، وإذا كان الأمر كذلك فما الذي طرأ في الفترة الحالية لتتصاعد نبرة التصريحات بين البلدين، وهل القالب الاقتصادي سيعود من جديد لاحتواء سباق التنافس الإقليمي؟
أستذكر مع القارئ موقفاً مشابهاً لما يحدث الآن بين كل من تركيا وإيران، كان ذلك مع بداية عمليات عاصفة الحزم للتحالف العربي في اليمن، حيث أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريح قال فيه: «على إيران والمنظمات الإرهابية الأخرى التي تدعم الحوثيين أن تنسحب». قابله تصريح من قبل وزير الخارجية الإيراني ومطالبات من أعضاء البرلمان الإيراني بإلغاء الزيارة المرتقبة في ذلك الوقت للرئيس التركي إلى طهران. فجاءت النتيجة أن تحققت تلك الزيارة وتبعتها زيارات أخرى اهتمت كثيراً بالشأن الاقتصادي وتجاوز للخلاف السياسي.
التصريحات النارية الأخيرة بين البلدين وتصاعدها لا يمكن فصلها عن السياق الزمني والظروف المصاحبة له. فبعد الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، لُوحظ سياق مختلف في السياسة التركية التي عادت بعلاقاتها مع روسيا إلى المسار الصحيح وانفراجه مع الجانب الإسرائيلي وتخفيف لحدة الموقف بشأن مصير بشار الأسد وتنسيق أكبر مع روسيا وإيران بشأن سوريا. شجع على ذلك موقف الإدارة الأميركية السابقة، ورسائل الرئيس الأميركي الحالي حول رؤيته للشأن السوري، باعتبار أن هناك حرباً على الإرهابيين دون تمييز بينهم وبين المعارضة السورية.
ما الذي تغير إذن؟
لعل الموقف الأميركي الحالي من النظام الإيراني، وقراءته للأزمة السورية الجديدة، قد عاد بالقالب التنافسي الحاكم بين البلدين من جديد إلى السطح. فتصريح نائب الرئيس الأميركي بأن أميركا لن تتعاون مع روسيا طالما أن هذه الأخيرة تصنف جميع المعارضة السورية على أنهم إرهابيون، والحديث عن المناطق الآمنة في سوريا، مضاف إليه الزيارة الأخيرة للرئيس التركي لعدد من دول الخليج، كل ذلك دفع بالنظام الإيراني إلى تصعيد حدة التصريحات، مقارنة بالتصريحات السابقة لأردوغان.
وبغض النظر عن مآلات مع ما ستفرزه التصريحات المتبادلة بين كل من إيران وتركيا، فإن ما جاء به وزير الخارجية التركي في توصيفه للسلوك الإيراني في المنطقة، وما قاله أردوغان عند زيارته للبحرين بأن إيران تسعى إلى تقسيم العراق وسوريا وتتصرف من منطلقات قومية، هي حقائق واقعية تدفع باتجاه مزيد من التوتر في المنطقة، وبالرغم من القالب الاقتصادي الحاكم في كثير من المسائل فإنه لابد أن تكون لدول المنطقة قراءة واضحة حيال سياسة النظام الإيراني وسلوكه في المنطقة.
فمن دون أمن واستقرار لا يمكن أن تكون للاقتصاد والتنمية بيئة جاذبة.