لا يضيف القرار الاتهامي الصادر في شأن جريمة تفجيري مسجدي السلام والتقوى في طرابلس اللبنانية الشيء الكثير إلى الصورة الراسخة لآليات عمل نظام حافظ وبشار الأسد وسلوكه وقيمه ونظرته إلى أسلوب التعامل مع خصومه في الداخل والخارج.
اللبنانيون الذين تعرّفوا إلى هذا النظام عن كثب منذ أربعين عاماً عندما تدخلت قواته في حربهم الأهلية قبل أن يمنح العرب حافظ الأسد تفويضاً سياسياً وعسكرياً شاملاً، لم يفاجأوا بالقرار الظني الصادر قبل يومين والذي أكد لهم المؤكد، من أن أجهزة الاستخبارات السورية خططت ونفذت التفجيرين اللذين ذهب ضحيتهما اكثر من خمسين قتيلاً مدنياً إضافة الى مئات الجرحى، لدى خروجهم من المسجدين عقب صلاة الجمعة في 23 آب (أغسطس) 2013. أصابع الاتهام وُجّهت إلى النظام السوري قبل أن تجف دماء الضحايا وكان الاتهام صائباً.
ذريعة الجريمة، «الانتقام من خصوم النظام»، لا تشكل بدورها تبدّلاً في أساليب القتل المعتمدة، حيث لا قيمة لحياة المدنيين ولا أهمية لمدى انحيازهم إلى الخصوم، ناهيك عن استسهال اللجوء إلى سفك الدماء سواء بالتفجير أو بالاغتيال ضد أي معارض أو خصم.
الجديد في القرار الاتهامي الذي يفصّل أدوار الضباط السوريين وعملائهم اللبنانيين، هو الصمت الذي قوبل به في لبنان. وباستثناء بعض التعليقات من السياسيين الطرابلسيين ومن الخصوم المعروفين لنظام بشار الأسد، ساد صمت المقابر ضفة «الممانعين» اللبنانيين الذين أعلنوا بصمتهم موافقتهم على ارتكاب أجهزة الاستخبارات السورية الجرائم المتمادية ضد مواطنيهم.
يقول «منطق» الممانعين اللبنانيين إنهم يعرفون سوء نظام الأسد وإجرامه وكل موبقاته ومثالبه، لكنهم لا يجدون مفراً من تأييده ودعمه. لماذا؟ «لأنه أفضل من داعش». هكذا يدفع الممانعون وأشباههم انفسهم الى الثنائية العدمية في حصر الخيار بين تنظيم ديني متطرف يقتل ويفجر الناس في الأسواق والشوارع وبين نظام «وطني وتقدمي»... يقتل ويفجر الناس في الأسواق والشوارع. وهذا واحد من جملة طويلة من التشابهات بين الأسد و «داعش».
بيد أن الممانعين ليسوا على قدر السذاجة التي يريدون أن يتصورها الآخرون عنهم. بل إنهم يعلمون تمام العلم المآلات الكارثية التي يسيرون بعيون مفتوحة على اتساعها صوبها. ويعلمون ان انخراطهم في حرب النظام السوري على شعبه وعلى معارضيه من اللبنانيين، لا يقل عن فتح أبواب جهنم لألف عام من الحروب الأهلية والطائفية والجهوية التي دمرت مجتمعات المنطقة. ويعلمون أن التغيير الديموغرافي الذي ينفذونه جهاراً نهاراً في دمشق ومحيطها، على نحو لم يعد في حاجة إلى إثبات، لا يمكن أن يمر إلا على بحور من الدماء.
هؤلاء الممانعون الذين لا تنقصهم الوقاحة لاستغلال اسم فلسطين (الضابط المخطط لتفجيري طرابلس من «فرع فلسطين» في الاستخبارات السورية)، وادعاءات العلمانية وحماية الأقليات والتنوير ومحاربة الإمبريالية، مقابل اتهام خصومهم بالظلامية والتكفير والعمالة للغرب، لم يقولوا كلمة واحدة في الاعتراض على سلوك حليفهم الممعن في اغتيال وقتل وتفجير مواطنيهم.
بصمتهم هذا يعلنون منظومة جديدة من الأولويات، حيث تقع مصلحة لبنان كدولة واللبنانيين كمجتمع في اسفل القائمة، وتسبقها ولاءات خارجية وطائفية تكرس انقسام هذه البلاد انقساماً لا عودة عنه.
لولا تخاذل إدارة الرئيس الاميركي باراك اوباما في قضية إستخدام نظام بشار الاسد السلاح الكيميائي بحق الشعب السوري قبل أعوام لكان الاسد اليوم خلف قضبان سجن العدالة الدولية. وحتى هذه اللحظة لا يزال هذا النظام متورطا في جرائم موصوفة كان آخرها قبل أيام عندما دعت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الى فرض عقوبات على دمشق بعدما أكد التحقيق أن جيش الاسد شنّ هجومين كيميائيين في عاميّ 2014 و2015 على بلدتين في محافظة إدلب هما تلمنس وسرمين. وكالعادة برز الفيتو الروسي في مجلس الامن ليحمي القاتل.
في الساعات الماضية، أصدر القاضي آلاء الخطيب القرار الإتهامي في قضية تفجير مسجدي التقوى والسلام في طرابلس وقد تضمن القرار تسمية ضابطين في المخابرات السورية المخططين والمشرفين على عملية التفجير وهما النقيب في فرع فلسطين في المخابرات السورية محمد علي علي والمسؤول في فرع الامن السياسي في المخابرات السورية ناصر جوبان. وليس هناك من حاجة للتفتيش عمن يجب أن يوجه اليه الاتهام لإصداره الامر بتنفيذ الجريمة المزدوجة والتي أدت الى إستشهاد أكثر من 45 وجرح 500 آخرين في 23 آب 2013 على رغم ان القرار الاتهامي للقاضي الخطيب يقول "ان الامر قد صدر عن منظومة امنية رفيعة المستوى والموقع في المخابرات السورية".
في السجن يقبع الوزير السابق ميشال سماحة في قضية نقل متفجرات لتنفيذ مخطط أرهابي في الشمال أيضا. أما البطل الحقيقي للمخطط فهو اللواء السوري علي المملوك الذي يداوم خلف مكتبه في دمشق. لكن في كلتا قضيتيّ المسجدين وسماحة نحن امام الاسد الذي يتحمّل المسؤولية مباشرة.
في تغريدته امس عبر حسابه على تويتر قال الرئيس سعد الحريري: "... سنتابع جهود القاء القبض على المتهمين من أدنى قتلتهم إلى رأس نظامهم المجرم". والطريق الى هذا القصاص العادل معروف في كل الشرائع الدولية. ولنا شاهد هنا، هو المطالبة المستمرة بالاقتصاص من الرئيس الليبي معمّر القذافي جراء إرتكاب أجهزته إخفاء الامام موسى الصدر ورفيقيه قبل 38 عاما على رغم ان القذافي أصبح تحت التراب.
قبل أيام كشف النائب مروان حمادة أن وزير الاشغال السوري حسين عرنوس بعث اليه ببطاقة دعوة لحضور معرض إعادة إعمار سوريا في 7 أيلول الحالي بدمشق في حين كان حمادة يتلقى سابقا مذكرات جلب بحقه من النظام السوري. لا ضير في أن يخطو القضاء اللبناني خطوة في إتجاه إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحق الاسد. وإذا كان هناك من وسيلة لتنفيذ المذكرة فلتكن على شاكلة بطاقة دعوة الى حضور جلسة إنتخاب رئيس جديد للجمهورية على ان يكون القضاء اللبناني في إنتظار الاسد لتوقيفه. قد يكون هذا الكلام ضربا من الخيال، لكن الواقع هو ان الطغاة يتساقطون والاسد لن يكون إستثناء وهو من دمّر سوريا.
يتساءل سوريون كثيرون ومناصروهم عن سبب هذا الموقف المتردّد، والمتشكك أحياناً، من المجتمع المدني والرأي العام الأوروبي والأميركي تجاه ثورة الشعب السوري وحقه في التخلص من حكم مافيوي عائلي، حكمه بالحديد والنار أكثر من خمسة وأربعين عاماً، ويستغربون غياب الدور الذي لعبه المجتمع المدني الغربي إلى جانب حق شعب فيتنام في التخلص من الهيمنة الأميركية، أو في دعم مسعى شعب جنوب إفريقيا للتحرّر من نظام الفصل العنصري. ولماذا لم تستطع كل المظالم والدماء في سورية دفع النخب الثقافية الغربية إلى الشعور بالذنب تجاه تقصير حكوماتها بحق قضية السوريين العادلة، كما حصل عندما تظاهرت هذه النخب في شوارع مدن الغرب، دعماً لتطلعات الأفارقة الجنوبيين نحو الحرية والمساواة والعدالة، أو تلك النزعة لدى النخب الأوروبية التي ناصرت، بكل قوة، حقوق دول أميركا اللاتينية في التحرّر من الدكتاتوريات الموالية للغرب التي حكمتها، وتحكّمت بمصيرها عقوداً، أو الحماس الغربي للوقوف إلى جانب دول أوروبا الشرقية، عندما خرجت شعوبها بالملايين في رومانيا وألمانيا الشرقية وتشيكيا وهنغاريا، مطالبة بإسقاط مستبديها الشيوعيين الذين أذاقوها الأمرّين عقوداً من الحقبة الشيوعية.
من حقنا أن نتساءل، ومن واجبنا أن نبحث عن الأسباب. وعلينا التوقف عن القول إن القصة كلها مؤامرةٌ تحاك ضدنا، نحن العرب والمسلمين، لأن خسارة معركة الرأي العام العالمي هي أحد أسباب تأخر انتصار القضايا العادلة للشعوب التي تواجه طغاةً بقسوة الذي نواجهه ووحشيته.
على الرغم من أن الحكومات الغربية تعتبر أن مصالح حكوماتها ورضا شعوبها، وليس العواطف والمشاعر الإنسانية هي الأسس التي تضمن كسب معاركها الانتخابية ضد خصومها السياسيين، إلا أن التاريخ يعلِّمنا أن نجاح أنصار أي قضيةٍ في تحويل قضاياهم ومظالمهم إلى قضايا رأي عام في الدول الديمقراطية كان دائماً مقدّمة لانتصار هذه القضايا، ولو أنه شرط لازم غير كاف.
خصّصت، أخيراً، وقتاً لمتابعة وسائل الإعلام والصحافة الأوروبية وبعض الأميركية، وللحديث إلى مطلعين نسبياً على ما يجري في سورية، في الوسط الثقافي الأوروبي وبعض الدبلوماسيين المتقاعدين الذين عملوا، قبل تقاعدهم، في دول الربيع العربي، وفي سورية خصوصاً. وحاولت متابعة مقالات بعض كتاب الرأي المختصين بالشرق الأوسط في أوروبا الغربية ولقاءاتهم مع محطات التلفزة الغربية، وراقبت تصريحات وتحليلات محللين غربيين كثيرين لوسائل إعلام ناطقة بالعربية. كما كنت أحاول أن أتلمّس نظرة المواطن الأوروبي إلى ما يجري في سورية. من ذلك كله، أستطيع أن ألخص مواقف صنّاع الرأي في أوروبا والغرب من الثورة السورية كالتالي:
أولاً، الأسد مستبد وفاسد ودكتاتور، ورث السلطة عن أبيه المستبد والدكتاتور والفاسد أيضاً. والاثنان قادا ما يشبه مجموعة عائلية، ارتكبت جرائم كثيرة بحق السوريين الذين من حقهم المطالبة بالتخلص من هذه المجموعة، ونيل حريتهم واستعادة قدرتهم على انتخاب حكوماتٍ تحترم حقوقهم ومحاسبتها، لكن البديل التي أفرزته الثورة السورية (هم يعتقدون أن القوى التي تقاتل الأسد هي "داعش" وتنظيمات شبيهة تختلف مع "داعش" على أحقية حكم سورية وإدارة الخلافة الإسلامية فيها) سيكون أكثر استبداداً ودمويةً، وقد يقضي على بعض الحريات الاجتماعية التي أتاحها نظام الأسد العلماني (لا أوافق أن نظام عائلة الأسد علماني، هو مافيوي لا يعنيه لا الدين ولا الشريعة ولا العلمانية، بل يستخدمها جميعاً لاستمرار سلطته)، وبعض مبادئ "البعث" الخاصة بحقوق المرأة والأقليات الدينية.
ثانياً، في البداية، كان هناك تعاطف كبير مع الثورة والمعارضة السورية، لأن معظم الوسط الثقافي والصحافي المهتم بالشرق الأوسط كان يكتب عمّا يجري في سورية ودول الربيع العربي أنه شبيه بالثورات المطالبة بالانفتاح والديمقراطية في أوروبا الوسطى والشرقية، عند سقوط الاتحاد السوفييتي. وبمراجعة مقالات كتبها مهتمون بالشأن السوري، قبل أربعة أعوام، كانت تعتبر التظاهرات السلمية ومشاركة جميع أطياف الشعب السوري فيها، إضافة إلى دور المرأة السورية الواضح فيها، أمراً إيجابياً ومبشراً. غير أن مقالات هؤلاء أنفسهم اليوم، بعد ظهور "داعش" وجبهة النصرة والرايات السود، وهيمنتها على المشهد المعارض السوري، سنجد حجم التغيير الذي حصل، وخصوصاً بعد ظهور صور قطع الرؤوس والرجم والجلد وسبي النساء والرايات السود والعمليات الإرهابية في أوروبا.
أصبح كثيرون من صناع الرأي في أوروبا يفضّلون بقاء ما يعتقدون أنهم مستبدون علمانيون حداثيون على وصول المتطرفين الإسلاميين لحكم تلك الدول والمجتمعات، حيث لم تستطع هذه الثورات، حسب رأيهم، تقديم بديل مقنع آخر، يجعلهم ينزلون إلى الشارع لمناصرته.
لا تقل معركة الرأي العام أهميةً إطلاقاً عن أي معركة أخرى، يخوضها الشعب السوري في سبيل حريته ومستقبل أبنائه، وأن غياب إعلام معارض واع ومدرك مستلزمات هذه المعركة ساهم أيضاً في هذه الخسارة، حيث تُركت الساحة لآلة النظام الإعلامية، لكي تنقل ما يحدث في سورية بالشكل الذي يخدم صورة طاغيتها. وقد ساعد وجود "داعش" و"النصرة" والتنظيمات الإسلامية الأخرى، وما ارتكبته من جرائم بحق السوريين، وما تطرحه من أفكار ظلامية في تأكيد الصورة التي أراد هذا الإعلام طبعها في الرأي العام العربي والعالمي، عن الثورة السورية ومآلاتها.
هل لا تزال هناك فرصة لعمل شيء؟ نعم، لو خلُصت النيات.
من الصعب القول إنّ هنالك توافقاً، أو صفقة دولية منجزة، حول سورية، بين الروس ومعهم الإيرانيون والأتراك والأميركان، وتفسير ما يجري من تطوراتٍ تشي بترتيباتٍ على الأرض وفصل المناطق المتنازعة، بوصفه تنفيذاً لهذه الصفقة الكلية، بقدر ما يعكس تسوياتٍ وصفقاتٍ وتفاهماتٍ جزئيةٍ مرتبطةٍ بمصالح الدول الإقليمية، وانعكاسات التحول في ميزان القوى على الأرض.
على صعيد النظام والروس، هم في الطريق إلى استكمال مشروع "سورية المفيدة"، عبر عمليات هندسةٍ ديمغرافيةٍ طائفيةٍ سافرة، يتم خلالها تهجير سكان أحياء دمشق، وريفها، من كل معارضي النظام، ما يعني تحجيم "الكتلة السنية" هناك، بدايةً من الزبداني، مروراً بعين الفيجة ووادي بردى، ثم الحجر الأسود والقدم ومخيم اليرموك، وصولاً إلى داريا والمعضمية، والحبل على الجرار.
في الأثناء، تجري عملية إنهاء "ملف حيّ الوعر" لتصفية حمص، والتفرّغ لجيوبٍ أخرى من المقاومة في المناطق الممتدة بين دمشق والساحل وحمص وحلب واللاذقية، وشريط الحدود السورية اللبنانية، فيما ارتفع سقف طموح النظام لضم حلب إلى الكيان الجديد.
في المقابل، تسعى تركيا جاهدةً إلى إنهاء "حلم الكيان الكردي"، عبر التدخل العسكري عبر الفرات، ودفع القوات الكردية إلى شرق النهر، ويشي الموقف الدولي الرمادي تجاه هذا التدخل بوجود تفاهماتٍ مسبقةٍ عليه مع الأميركان، وربما الروس، إذ توقف الأتراك عن الإلحاح في المطالبة بتسليم فتح الله غولن، بعد زيارة نائب الرئيس الأميركي أنقرة. في المقابل، أعطى الأميركيون ضوءاً أخضر ضمنياً لتدخل الأتراك في مواجهة التمدّد الكردي في شمال سورية.
في المناطق الجنوبية، محافظة درعا، يبدو أن الأمر متروك، مؤقتاً، للهدنة والستيتس كيو، أي الأمر الواقع، بتفاهماتٍ بين الأردن ومعه غرفة الموك والروس، فيما تتكثف جهود الأردن والحلفاء على مواجهة تنظيم داعش، عبر الجيش الحرّ، في درعا الجبهة الجنوبية، وفي المناطق الريفية الشرقية- الجنوبية جيش سورية الجديد.
تبقى، إذا، حلب البؤرة الساخنة حالياً، والمنطقة المتنازع عليها، لكن مصيرها، هي الأخرى، مرتبط بما يجري من مفاوضات ونقاشات تركية وإيرانية وروسية، إذ تحاول وسائل الإعلام المقرّبة من طهران والنظام السوري التبشير بأن هنالك تفاهماتٍ بين تركيا وإيران حول حلب مقابل التدخل التركي. وتشير تلك المصادر إلى اجتماعات سرية تجري في العراق ودول عربية أخرى، واجتماعات على مستويات عليا منتظرة، لا يمكن التأكد من صحتها، لكن تلك الأخبار والتسريبات تكشف عن الأهداف والأفكار التي تحكم رؤية النظام السوري، في محاولته تجيير الاستدارة التركية لصالحه إلى أوسع مدى.
ضمن هذه المعطيات، نجد أنفسنا أمام ما كنّا نتحدث عنه سابقاً، وما كشفته دراسة خطيرة منشورة لمؤسسة راند قبل شهور حول معالم الحل المطلوب في سورية، والتي تقوم، ابتداءً، على تحديد مناطق النفوذ وترسيمها، وعقد هدنات عسكرية، خطوة أولى نحو الحل السياسي.
ويبدو أن هذه الصورة تكاد تكون جاهزةً في مناطق كثيرة. في إدلب شبكة النصرة وأحرار الشام. في غرب الفرات وريف حلب الشمالي، وجود للجيش الحر المدعوم من الأتراك. في الحسكة الأكراد. سورية المفيدة تحت سيطرة النظام، درعا والمناطق الجنوبية للجيش الحرّ بإدارة أردنية وأميركية وغربية غير مباشرة، فيما دير الزور ما تزال مقتسمة بين داعش والنظام.
بالضرورة، تبقى المشكلة الأخرى المتمثلة في داعش، ومصير الرقة بعد انتهاء التنظيم، وهي أيضاً مسألةٌ خاضعةٌ للتفاهمات الدولية والإقليمية، وإن كانت المقالات والتحليلات الغربية تشي اليوم بإعادة تفكير غربية في تسارع عملية القضاء على داعش، لطرح تساؤلات ونقاشات مسبقة حول تداعيات سقوط التنظيم، أو اليوم التالي لذلك.
يعكس هذا وذاك من التحولات والترتيبات تغيراً جذرياً يحدث في ديناميكيات الصراع في سورية أو عليها، وعلى الأغلب، أننا نتحدّث عن اتفاقات جزئية ومرحلية، إلى أن يتم التفاهم على الكعكة الكبيرة؛ أي المشهد الأخير لهذه الدراما الدموية.
بتحوّل حرب النظام الأسدي ضد الشعب السوري إلى حدثٍ تتخطى مجرياته وأهميته دائرته الوطنية المباشرة، وبتطاير شرر هذه الحرب إلى بلدان مجاورة، عربية وغير عربية، وبتدخل إيران المبكر الذي نقلها إلى الإقليم، وبصراع أميركا وروسيا الذي أدخلها إلى المجال الدولي، شهدت المعضلة السورية تحولين مفصليين، هما:
أولاً، انضواء ثورة السوريين من أجل حريتهم في صراعٍ حدّه الأول نضال شعبي/ وطني، من أجل نظام جديد يبنى على مفردات إنسانية وثورية، يؤسّس على الحرية، مبدأ احتضن دوماً الحداثة والعدالة والتقدم. وحدّه الثاني شمولية استبدادية تجسّدها سياسياً الأسدية، ومذهبياً نظم عديدة: عربية وإقليمية. هذا التناقض، بالاصطفافات المتناقضة عربياً وإقليمياً ودولياً، التي ترتبت عليه، أضفى أهمية مفصلية، تتخطى المكان السوري على ثورةٍ بدأت محض سورية، وأكسبها سماتٍ تشبه التي عرفها صراع تاريخي/ كوني، محوره الإنسان ككائن يتعيّن بالحرية: مقصد شعب يريد نمطاً من العيش، ركيزته المواطنة المتساوية والعدالة، منفتح على أعظم قدر من التجدّد الإنساني الذي يعينه على فك أغلال عبوديةٍ تجسّدها زمر استبدادية متحكّمة، تستند على تكويناتٍ دنيا وما قبل مجتمعية، هي الطوائف التي حدّثتها أمنياً، وفرضت من خلالها قيمها وممارساتها المعادية للإنسان، وواجهت أمنياً وطائفياً ثورة الحرية بثورةٍ مضادةٍ، أخضعت جميع السوريات والسوريين لأنواع شتى من العنف، وعملت لجرّهم إلى صراع هوياتٍ مذهبي، يبطل ما بينهم من أواصر وطنية وإنسانية، تاريخية وراهنة، ويحول شعبهم الواحد إلى اقلياتٍ مقتتلة، يمهد صراعها لتفجير حروبٍ عربيةٍ/ إقليمية، من الضروري أن تنتشر من سورية إلى المنطقة، ويحفز إنشاء (وصعود) تنظيمات إرهابية معادية للحرية وللمقاتلين من أجلها، تقضي من جانبها على التطلعات الثورية لدى شعوب المنطقة، وتحرقها بنيران اقتتالٍ مذهبيٍّ بين هوياتٍ متنافية، لا يوفر مواطناً أو جماعة أو دولة.
بهذه الأبعاد، تلزم ثورة الحرية كل عدو للاستبداد السياسي والاقتتال المذهبي بالانتماء الطوعي إليها، وبالانخراط فيها، وإن لم يكن سوري المولد، ما دام أن انتصار الثورة المضادة الأمنية والمذهبية لن يقضي على تطلعاته وحدها، بل سيقضي، أيضاً، على حقه في الحياة والكرامة، حتى إن وقف، كشخص، على الحياد، وامتنع عن تأييد ثورة الحرية في سورية، مع أن عائدها الإيجابي لن يقتصر على السوريين، بل سيطاول كل مواطنٍ على امتداد المنطقة. لذلك، لا بد أن يعتبر كل محبٍّ للحرية نفسه سورياً، وأن ينضم إلى الثورة، ويدافع عنها كأي واحدٍ من أبنائها، داخل ميدانها السوري المباشر وخارجه، ويواجه الثورة المضادة مناطقياً وإقليمياً ودولياً، كعدو يلزمه واجبه تجاه نفسه وشعبه بالنضال ضده، ليكون انتصار الحرية في سورية انتصاراً شخصياً له ولشعبه، ولكل رافض للذل والمهانة.
ثانياً: بتركيز قوى الثورة المضادة جهودها على سورية، وبقتالها لإنزال هزيمةٍ بثورتها، تكون، في الوقت نفسه، هزيمة للحرية في كل مكان، يستطيع أنصار الحرية خوض معركتها في البلدان التي حولها تدخل حكامها في سورية إلى ساحةٍ أخرى للمعركة ضد الاستبداد التي يعني خوضها مواجهة الثورة المضادة الموحدة، وتشتيت قواها من خلال وحدة الثوار العابرة للحدود، وتركيز جهودهم على تبديل علاقات القوة بينهم وبين قوى الثورة المضادة، وخصوصاً في إيران، مركز الثورة المضادّة الإقليمية ومحركها المذهبي والطائفي.
تستوطن الحرية قلوب الأحرار وعقولهم، قبل أن تقيم، بتضحياتهم والتزامهم الثوري/ الإنساني، وطناً للحرية، يكون وطناً لكل طالب لها، وثائر من أجلها، ولكل عدو للاستبداد والظلم يربط مصيره بمصير مركزها السوري، ويؤمن أن من يقصر في الدفاع عن سورية وشعبها اليوم، يخون شعبه ونفسه، اليوم وغداً.
“أنا حريص للغاية على سماع أفكاركم و ملاحظاتكم حول مضمون هذه الرسالة .. سنعود للاتصال بكم قريباً لتزويدكم بتفاصيل أكثر دقة”، هي الخاتمة التي حملتها رسالة المبعوث الأمريكي إلى سوريا ما يكل راتني إلى الفصائل العاملة في حلب، سبقها أربعة صفحات من الحديث عن أمور تتعلق بمبادئ الهدنة و ميزاتها الفنية و التعبوية ، كأنها سلاح جديد يتم منحه للثوار ، فهل هي سلاح له أم عليه ..!؟
الاتفاق الأمريكي - الروسي ، لا يمكن أن يكون ملخص في رقعة جغرافية واحدة تمتد على بضع كيلومترات ، وترك الملايين الأخرى من الكيلو مترات خارج الاتفاق ، أي لاتقصف في الكاستلو و احرق ما تبقى ، وكأن القضية السورية باتت ملخصة في طريق امداد لمنطقة بعينها و ترك قرابة ٥٠ منطقة أخرى في مواجهة الحصار المفضي للتهجير، اذ تلخيص الأمر بهذا الشكل يشير إلى تثبيت الأمور في بقية المناطق و اعتبارها أمراً واقعاً .
القراءة في رسالة المبعوث الأمريكي تحتاج لنفس طويل ، اذ الكلام المنمق الذي يشير إلى وجود مشكلة مع مكون أساسي موجود في صفوف الثوار (النصرة - فتح الشام) وقائمة تطول لتشمل الكثير من الفصائل ، وترك كل الجحافل التي تدعم الأسد و تسانده ، ارهابها يفوق أي ارهاب عرفته البشرية ، سواء أكان المستند على أساس ديني أم عرقي (فارسي)، أم حقد تاريخي، و تجاهلها يجعل عدم التساوي في الكفة واضحاً جداً .
استند “راتني”على أمر غاية في الخطورة، وتمثل بوصف أن روسيا تدعم الأسد و امريكا تدعم المعارضة ،وهو أمر غير واقعي مطلقاً ، فلا وجود لأمريكا على الأرض أو في الجو في المواجهة مع الأسد ، الذي يحظى بدعم يفوق العقل من قبل روسيا ، في الأرض و الجو و السياسة ، وحديث كهذا يصدر من الممثل الأمريكي في الشأن السوري يمنح بلاده سك البراءة من كل ما ارتكبته أمريكا بحق الشعب السوري من خذلان وصل حد المواجهة الفعلية على الأرض.
رسالة “راتني” لم توضح أي شيء عن فحوي الاتفاق الأمريكي الروسي ، و إلى أين يصل وما الهدف منه ، و مدى تطابق أهدافه مع رؤية الشعب السوري، أو على أقل تقدير رأي العناصر الفاعلة على الأرض ، الأمر الذي يعتبر بمثابة تهميش حقيقي ، يضاف إلى انذار باقتراب المواجهة ، عند الحديث عن وجود تنسيق بين الدولتين “روسيا - أمريكا” لاضعاف القاعدة ، في اشارة فعلية إلى جبهة فتح الشام التي تتقاسم مع الثوار المناطق انتشاراً و ادارة، في المقابل لا ذكر لأي مليشيا شيعية تدنس أرض سوريا و ترتكب من الفظائع ما لايعد و لا يحصى ، اضافة للحرس الثوري الذي تدعي امريكا أن قائد جناحها الخارجي “فيلق قدس” قاسم سليماني على قوائم المطلوبين و المدرجين تحت مسمى الارهاب، وهو الارهاب ذاته الذي ستضرب جبهة فتح الشام لأجله.
و كشفت الرسالة التي بعثها بتاريخ الأمس “راتني” إلى الفصائل، أن وصف الحليف لـ”أمريكا” غير صحيح مطلقاً ، فهذه التفاصيل التي تم تدارسها على مدى أسابيع طويلة ، كان يعلم بأدق تفاصيلها الأسد و حلفاءه من كبيرهم وحتى صغيرهم ، و الحملات الجنونية على المناطق التي تم تحريرها ضمن “ملحمة حلب الكبرى” ، خير دليل على نوعية المعلومات التي يمتلكونها ، وحتى التوقيت ، اذ مقتل المئات بحملات مسعورة و انتحارية ، كانت تهدف لاخراج “الراموسة” من المعادلة ، الأمر الذي يعيد للأسد و حلفائه قدراتهم على التلاعب بأي اتفاق سيتم تنفيذه على الأرض ، في الوقت الذي سحب سلاح الثوار الفعال و المواجهة له من خلال اعادة اغلاق طريق “الحياة” الجديد لحلب.
قد لا يكفي بضع سطور للحديث عن رسالة من بضع صفحات تخفي مفاوضات امتدت على مدى ساعات طويلة و جولات ماراثونية من المباحثات ، و لكن الخطوط العريضة التي تكشفها الرسالة أن الاتفاق هو سلاح جديد للأسد ضد الشعب السوري، وكما سبق و أن تحدثت في مقال سابق “الاتفاق الأمريكي - الروسي .. لا تنتظر من “قاتل” أن ينقذك”.
منذ خمس سنوات و نيف و الحال على ماهو عليه ، ليس ثباتاً بل تصاعداً بحجم القتل و شدته، ضد الشعب السوري ، و كلما كثرت الاجتماعات و اقتربت الاتفاقات من التمام ، يكثر معها الموت و يتنوع بأشكال لم نعهدها ، لتكون مفاوضات من يقتل أكثر و بطريقة أشد شناعة.
اليوم نقف على أعتاب الاتفاق الأمريكي الروسي ، الذي امتدت مفاوضاته قرابة التسعة أشهر ، من الزيارات وجولات المفاوضات الماراثونية ، المعلن منها و المخفي ، السياسي و العسكري و طبعا المخابراتي، و لم يتمخض عن هذا المناكفات إلا شيء واحد ، ارتفاع معدل الموت و اشتداد حملة التدمير و الأخطر تضيق الخناق على المتواجدين في سوريا مساحةً و معيشتة ً و حياة.
ما ظهر من مسودة الاتفاق قبل قرابة الشهر و النيف في آخر زيارات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى روسيا ، عبارة عن بنود فضفاضة، لاتؤثر بشيء على الوضع في سوريا ، الوضع الذي يتميز بشائكته لحد الادماء لنفسه و لكل من يعمل به ، صراعات لا تعرف حدود ولا مسار، ولا أفق لأي حل ، مع اختلاط عجيب بالتركيبة العاملة على الأرض.
يلخص مايكل راتني المبعوث الأمريكي إلى سوريا الحل بنقاط أساسية ثلاث ، تترتكز في أساسها على منطقة جغرافية واحدة تكون بمثابة حقل التجارب لتعتمد كالاستراتيجية فيما تبقى ، ويقوم الاتفاق وفق راتني على اقامة منطقة منزوعة السلاح في شمال حلب و من ضمنه الكاستلو ، وفق ما يؤكده البند الثاني من الاتفاق و المتمثل بسحب قوات الأسد من هذا الطريق و جعله طريقاً ذو صبغة عمومية ، فيما يتضمن النص الثالث الذي كُشف عنه هو توقف روسيا عن قصف المعارضة السورية ، توقفٌ لا معنى له في ظل نص الاتفاق الأساسي (بين روسيا و أمريكا) على استهداف مشترك لـ”جبهة النصرة” أو “فتح الشام” ، اذ لافرق بين الاسمين فالتغيير لم يحدث أي أثر له في النظرة لهذا الفصيل ، الذي تتشابك مناطق نفوذه مع بقية الفصائل السورية لحد كبير ، و قد تصل للتشارك في منزل واحد ، و بالتالي عملية وقف القصف تكون عبارة عن “وهم” جديد ، تضعه الادارة الأمريكية في أعين الجميع و لاسيما السوريين أنها تسعى لحقن الدم ، في حين أنها تتجه إلى المشاركة في “اسالته”.
و قد يكون من الخطئ الذي يواصل الثوار بشقيهم (السياسي - و العسكري) الارتكاز و الانتظار على ما تفضيه المباحثات الدولية ، حتى يتم التعامل معها على الأرض ، و من الخطئ الأكبر القول هو السيطرة الكاملة لأمريكا أو لروسيا على الأرض السورية ، فهناك أسلحة لازالت متمردة ، لو اتفقت أو على الأقل تنازلت بعض الشيء عن عنجهية أو تصرف أرعن من تصرفاتها ، لقلبت الآية بشكل كامل ، و لنا في فك حصار حلب و اعادة حصارها من جديد ( نفى من يرغب و أكد من يشاء) ، درس و عبرة ، فلا الواحد استطاع أن يغلب الكثر ، و لا البضع تمكنوا من مواجهة الكل ، فهنا لا بطولة في التفرد ، و إنما القوة أن تضبط الأمور بشكل سليم ، فالموت القادم لن يطالك وحدك ، و كذلك الموت القادم لشريكك في الأرض لن يختصر عليه.
و أمام كل ما سبق ذكره ، لا يمكن الانتظار من “قاتل” أن يأتي لنصرتك أو مساندتك ، و إنما سيكون انتظار لاجتماع القتلة ليتم لنهائك بشكل كامل .
كان المشهد استثنائياً في داريا السورية. آلاف من المواطنين يتم اقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم، وترحيلهم إلى بقاع أخرى بعد حصار استمر أكثر من أربع سنوات. مشهد يقود تلقائياً إلى التفكير بسيناريوهات مماثلة عاشتها أراض عربية، ولا سيما فلسطين المحتلة، والتي لا يزال يعيش النظام السوري وحلفاؤه تحت راية تحريرها، ورسم الطريق إليها.
داريا التي سطرت، منذ بداية الثورة السورية وحتى يومها الأخير من الصمود، سقطت ضحية التهجير الممنهج الذي يتبعه النظام وحلفاؤه، باعتراف الأمم المتحدة، ضمن مخطط تأسيس ما بات يصطلح على تسميتها "سورية المفيدة"، وهو مسمى لم يعد خافياً أنه يهدف إلى رسم حدود التقسيم، وتحديد الأراضي التي يريد نظام الأسد الاحتفاظ بها ضمن أي اتفاق سياسي مرتقب، أو حتى في حال تعثر التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وتقرّر إبقاء الوضع على ما هو عليه.
ضمن هذا السياق، لم تكن داريا الأولى، ولن تكون الأخيرة. والترانسفير الذي بدأ سابقاً من الزبداني في 2015 عبر ترحيل 225 عائلة، ها هو يتمدّد ويتوسع، ليصل إلى داريا ومن بعدها المعضمية، في إطار إفراغ الغوطة من سكانها المعارضين، وإيجاد بيئة حاضنة للنظام وحلفائه فيها ضمن المشروع "الممانع".
كثير من الكلام يتداول عن مخططات الإحلال في المناطق المفرغة من سكانها، قد يكون في معظمه شائعات لا أساس له من الصحة. غير أن ما هو صحيح ومتأكد منه أن داريا باتت خالية، وأن لا موعد أعطي لأهلها للعودة إليها، ولا سيما بعد تسجيلات مصورة تظهر عمليات بيع أثاث المنازل التي لم يتمكن أصحابها من نقلها معهم. حال هي عملياً استنساخ للسياسة الإسرائيلية التي اعتمدت تجاه الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم في عام 1948، حين تم اعتبار كل ما تركوه خلفهم "أملاك غائبين"، يحق لدولة الاحتلال التصرف فيها. وهو الأمر نفسه الذي سيحصل مع أراضي أهل داريا الغائبين أو المغيبين، فكلها ستكون ملكاً للأسد الذي رفعت صورته على أنقاض المدينة.
قد لا تكون هذه فقط هي الصيغة المستنسخة من تجربة الاحتلال الإسرائيلي، فالتهجير بالأساس ونقل السكان وإحلال آخرين محلهم هي عملياً ما قامت به الدولة العبرية في الفترات اللاحقة لقيامها على خلفيات دينية وعقائدية، وهو الأمر الذي يسير على هديه النظام على خلفيات مشابهة أساسها الولاء، وتأسيس كيان صافٍ سياسياً يؤمن الاستمرارية للأسد وآله.
وقبل التهجير والإحلال والمصادرة، لا يمكن تجاهل العقلية المؤسسة لهذه الممارسات، وهي أيضاً عقلية مستوحاة من الممارسات الإسرائيلية. عقلية لا تقتصر على المستوى الرسمي السوري، بل أصبحت منتشرة بين أنصاره من كل الفئات وعلى المستويات كافة، وحتى غير السوريين. فكل من هو غير موال للنظام أو لا يبجل الأسد وممانعته يستحق القتل. أمر مشابه للنظرة الإسرائيلية أو اليهودية إلى الآخرين من "الأغيار" الذين يرون أيضاً أنهم لا يستحقون الحياة. وعلى هذا الأساس كانت المجازر في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1948 إلى اليوم. غير أن الأسد وحلفاءه تمكنوا من التفوق في هذه النقطة وارتكبوا من المجازر خلال الأعوام الخمسة الماضية ما لم يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات الثماني والستين الماضية.
على الرغم من ذلك، لا يزال النظام السوري وحلفاؤه يرفعون شعار أن كل ما هو جارٍ على الأرض السورية هو في سبيل وقف محاربة إسرائيل، أو سد الطريق إلى القدس، والتي يبدو أن الوصول إليها، بحسب هذا المنطق، لن يكون إلا بعد تدمير كل المدن السورية المعارضة وتهجير سكانها.
يصر النظام السوري على تهجير السكان الأصليين للمدن والقرى التي يحاصرها ويقصفها ويهدم منازلها ويقتل أهلها منذ نحو خمس سنوات حتى تضطر أن تخضع وتذعن لما يسميه المصالحات، كما حدث مؤخراً في داريا، وكما يحدث في المعضمية وحي الوعر الحمصي، وقد جرت عملية التهجير سابقاً في حمص وفي الزبداني وفي العديد من المناطق السورية التي تعرضت لحصار شديد شاركت فيه قوى الاحتلال الإيراني وميليشيات طائفية لبنانية وعراقية وأفغانية. وقبل عام ونيف عرضت إيران تغييراً ديموغرافياً بين منطقة الزبداني وبين قرى شيعية تقع قرب مدينة إدلب (الفوعة وكفريا)، ورعت الأمم المتحدة اتفاقاً بين إيران وحركة «أحرار الشام» لنقل الجرحى، واليوم يفسر أكثر السوريين ما يحدث بأنه خطة للنظام تهدف إلى طرد سكان المناطق المحيطة بدمشق ليحل محلهم مستوطنون شيعة يأتون من إيران والعراق وأفغانستان ليتملكوا أراضي وبيوتاً وممتلكات ليست لهم، على غرار ما فعلته إسرائيل حين هجرت السكان الأصليين من الفلسطينيين.
لكن الهجرة الأكبر التي تشكل عمق المأساة السورية هي هجرة ما قد يزيد على اثني عشر مليون سوري، أكثرهم من أهل السنة الذين سيصبحون أقلية في سوريا إذا استمر هذا النزوح. أما عمق المأساة فهو هجرة الكفاءات العلمية والتقنية والصناعية وفراغ سوريا من طاقاتها الأكاديمية ومن علمائها وأطبائها ومهندسيها من مختلف الشرائح والأديان والمذاهب، وقد هُجّروا رغماً عنهم خوفاً من الاعتقالات العشوائية ومن براميل الموت الجماعي.
ولا يجد السوريون تفسيرات أبعد من استقراء مفجع لدوافع التهجير القسري والتغيير السكاني، وقد نشط تفسيران أولهما شك في كون النظام يريد تلبية الأغلبية من الموالين الذين أطلقوا على صفحات التواصل الاجتماعي دعوات (مبرمجة) للنظام تطالبه بمحو محافظة إدلب من الخارطة السورية، وتحض على إبادة جماعية، وقد عزز هذا التفسير إصرار النظام على تهجير أهل داريا إلى إدلب بالتزامن مع تصاعد القصف السوري والروسي اليومي على المدنيين في إدلب، وقد استخدمت فيه القنابل العنقودية والفوسفورية والنابالم، وانتشرت صور الضحايا من الأطفال والنساء، لكون الأهداف تنحصر في المدن، وتحديداً في المنازل والساحات والأسواق، وهي ليست أهدافاً عسكرية.
أما التفسير الآخر عند بعض السوريين فهو أن ما يحدث هو ترسيخ لخطة خفية للتقسيم بحيث تفرغ سوريا (المفيدة) من المعارضين، ويحشر كل الذين طلبوا الحرية والكرامة في إمارة دينية يتم حصارها من العالم كله، وتتعرض لقصف من قوى التحالف الدولي ضمن حربه على الإرهاب، وتكون محافظات الشمال «سوريا غير المفيدة» لمجرد أنها لا تؤيد النظام، ويظن بعض السوريين أن الطلب من حزب «البي يي دي» بأن يغادر إلى شرق النهر وبعض وسائل الإعلام تدس كلمة «المناطق الكردية» تهميداً لمنح هذا الحزب إقليماً يسميه بعضهم «كردستان السورية» متجاهلين وجود العرب وسواهم من المكونات في المنطقة. ومع أنني لا أرى صواب هذه التفسيرات فإني أشارك كثيراً من السوريين مخاوفهم من الغموض المبهم الذي بات خفياً حتى على دول كبرى من مضامين مباحثات واتفاقيات (كيري ولافروف)، ومن هذا الصمت الدولي المريب على ما حدث في داريا وما يحدث في المعضمية والوعر، وعلى خطة النظام بفرض مصالحات قسرية على المناطق الساخنة عبر تخيير سكانها بين الحصار القاتل والإبادة الجماعية وبين القبول بتسليم أنفسهم ومغادرة ديارهم!
إن ما يحدث من فظائع يفتح المستقبل لاحتمالات مزيد من الدمار ومن ارتداداته الإقليمية والدولية، ورغم الشعور العام لدى السوريين بأن الحل السياسي الذي اعتمد على بيان جنيف وعلى القرارات الدولية قد فقد حضوره منذ أن أهملته الدول التي دعت إليه وتمكنت روسيا وإيران من تعطيل فاعليته، فإن بث الحياة فيه هو مسؤولية دول أصدقاء سوريا، ونرجو أن يكون إحياؤه موضوع بحثهم في مؤتمر لندن القادم.
يعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط عن قلقه إزاء الاتفاق الذي أبرم حول مدينة داريا في الريف الدمشقي.
أعلن أمر “القلق” متحدث باسم الأمين العام، فالأمر هامشيّ عرضي داخل المأساة السورية ولا يستحق ظهور الأمين العام بشخصه في مؤتمر صحافي للتعليق على الحدث، ولا يستحق طبعا دعوة لوزراء الخارجية العرب ولا حتى اجتماعا على مستوى المندوبين.
والحقّ يقال إننا فوجئنا بـ“موقف” أبوالغيط، ذلك أننا في وجداننا، قد أعفينا منذ زمن “جامعة العرب” من أي دور أو وظيفة تتعلـق بالمـوقف من الحرب في سوريا.
استقال النظام العربي السياسي برمّته حين نجح في طرد مندوب النظام السوري من الجامعة ولم ينجح في استبداله بمندوب لسوريا يمثّل معارضة هذا النظام.
وبما أن النظام السوري لم يعد يقبل بأي انخراط للجامعة العربية في شؤون سوريا، فقد استجابت الجـامعة ونفضت يدها برشاقة من الوحول السورية، تاركة لإيران وتـركيا وإسرائيل وروسيا والـولايات المتحدة وغيرها الانهماك في طبخ لم يعد للعرب في ورشته إلا استنشاق روائحه من بعيد.
قلقٓ أبوالغيط من “صيغة داريا”، التي عرف بها عبر وسائل الإعلام، كما يقول البيان، لأنها لم تتمّ تحت رعاية الأمم المتحدة، أي أن القلق متعلّق بشكل ارتكاب الجريمة وليس مضمونها.
يقلق أبوالغيط ولم يصدر عن جامعته القديرة في السنوات الأخيرة أي موقف لافت يتعلق بالمجازر التي ترتكب في المدن السورية الأخرى التي تتعرض، وفق تقارير لا تصدرها الجامعة، للبراميل المتفجرة وقصف النابالم واستخدام الغازات السامة وحصار التجويع.. إلخ.
وقد لا يمكن لوم الأمين العام الحالي ولا السابق ولا الأسبق، طالما أن العرب أنفسهم منقسمون حول المسألة السورية، ومنشغلون بمعضلاتهم البيتية التي يحاولون مواجهتها بحيث تدفع النموذج السوري عن أبوابهم.
لكن لماذا يقلق أبوالغيط في داريا ولم يقلق في حمص ولا يقلق في حلب؟
لا نملك جوابا منطقيا، ذلك أن قلق الجامعة لا منطقي. وقد يكون البيان الصادر عن الأمين العام زلّة لسان وتمرينا لدفع السأم عن “بيت العرب” في القاهرة.
ثم إن أبوالغيط القلق من حدث داريا، هو سليل الدبلوماسية المصرية وأحد وجوهها الأساسيين في العقود الأخيرة، كما أنه في هذه الأيام يمثل فلسفتها على رأس المنظمة الإقليمية الأولى للـدول العـربية. فهل أطل قلق الرجل من كونه رأسا للجامعة أم صوتا آخر يعكس صدى للسياسة الخارجية المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي؟
ثم لماذا يقلق أمين عام جامعتنا العربية؟ ألا تعتبر “استعادة” داريا من قبل النظام السوري متّسقة مع رؤى القاهرة في الدعم الضمني لنظام دمشق ضد “الإرهابيين”؟ أولم تتم الصفقة برعاية الحليف الروسي المتفق مع القاهرة على مكافحة الإرهاب، حتى في داريا؟ أوليست “التسوية” انتصارا للأجندة الإيرانية التي لم نسمع أن القاهرة عارضتها بشكل جدي أو استخدمت ضدها موقفا حاسما جازما؟
أما إذا كان قلق الأمين العام يتمحّور حول التفريغ السكاني المقيت الذي ارتكبته هذه التسوية في مدينة عربية داخل دولة عربية هي “قلب العروبة النابض” وفق معلّقات نظام دمشق، فهل أمر كهذا لا يستأهل إلا القلق، والقلق فقط؟
تفرج صفقة داريا عن لبّ الهواجس التي تقضّ مضجع النظام في دمشق. يعتبر النظام السوري أن مشكلته ليست مع “المندسين” ثم “الإرهابيين التكفيريين المتصهينين العملاء للإمبريالية”.. إلخ. فحين أخرج معمر القذافي يوما كتابه الأخضر اعتبر أن مضمونه قابل للتطبيق في دول كالسويد والنرويج وليس على الشعب الليبي القاصر عن أن يكون بمستوى فهم فكر القائد.
مشكلة النظام السوري هي مع الشعب السوري نفسه، الذي أعمل فيه خلال عقود الحكم الغابرة السيف والسجن والاغتيال والترهيب انتهاء بالمجازر منذ العام 2011، فبات من الضروري أن يرحل هذا الشعب كما رحل ناس داريا.
يقلق الأمين العام لجامعة الدول العربية من ترحيل شعوب العرب عن مدن العرب. سبق لإسرائيل أن مارست ذلك علنا في فلسطين، ومذاك يعتبر العالم أجمع أن إسرائيل دولة محتلة. فهل يقصد أبوالغيط من خلال قلقه أن الدولة السورية باتت دولة محتلة تجوز ضدها مسلمات مواجهة الاحتلال وفق الشرائع الدولية، بما في ذلك الحقّ في مقاومة الاحتلال؟
ثم إن إسرائيل حين أجلت العرب عن مدنهم شيّدت مستوطنات واستقدمت يهودا من العالم للعيش داخلها، فهل يعيّ الأمين العام أن ما بعد تفريغ داريا وغيرها (وهنا الكارثة المقبلة) إحلال سكان جدد في داريا وغيرها، بما يعني أن الوطن سيتحوّل إلى ورشة استيطان خبيثة.
لم تعد التقارير تخفي خطط النظام السوري وحلفائه في طهران على إحداث تغيير ديموغرافي يؤسس لسوريا المفيدة العزيزة على قلب بشار الأسد.
في التقارير وقائع وبيانات ومستندات وإحصاءات وخرائط لمخططات لا تكلّ تستبـدل هـويـة مـذهبيـة بـأخـرى وفـق أجنـدة معلنة لا لبس فيها تطلقهـا أبواق إيران دفاعا عن “المراقد”. فأما وقد حوّلت إيران العراق إلى حسينية كبرى، على حدّ تعبير أحـد الأصدقـاء العـراقيين، فلماذا لا تتمدد تلك الحسينية نحو سوريا باتجاه لبنان؟
ستعمل روسيا والولايات المتحدة المولجتين، بتواطؤ حميم، بالتعامل مع “الحالة” السورية على مواكبة خطط دمشق-طهران لردع “الإرهابيين” عن تخوم دمشق. وهنا يبدو قلق الجامعة العربية هزيلا، فحتى جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، الدولة البعيدة غير العضو في جامعة الدول العربية، سبق أبوالغيط في التعبير عن ضيق من صفقة داريا. لكن الواضح أن ردّ فعل كيري يعبّر عن شأن هو من صلب ميدان العمل الأميركي، فيما ردّ أبوالغيط يبدو استشراقيا يتعلق بشأن من خارج ميدان عمل جامعة الدول العربية.
لا عليك أيها الأمين العام فلجريمة داريا قصة تجمعت خيوطها وأظهرت حبكتها تواطؤا جماعيا دوليا إقليميا لإسقاطها.
في أواخر عام 2014 وصلت فصائل “الجبهة الجنوبية” التابعة للجيش السوري الحر إلى مشارف الغوطة الغربية ولم تفصلهم سوى 30 كيلومترا عن داريا وبضعة كيلومترات إضافية للوصول إلى جنوب دمشق وبلدات الغوطة الشرقية.
شيء ما حال دون ذلك لاحقا: تدخّل الميليشيات التابعة لإيران؟ ربما. لكن الأهم، هو تبدل مزاج غرفة العمليات الدولية المشتركة “الموك” ومقرها الأردن، التي تقدم الدعم لفصائل المعارضة، التي أعادت قلب خرائط العمليات وتشتيت فصائل الجنوب ودفعها لخوض معارك في قلب حوران وشرقها. فكانت معارك تحرير الشيخ مسكين واللواء 52 وبصرى الشام ومعبر نصيب الحدودي، إلى أن تزامن التدخل الروسي مع تراجع “الموك” تدريجيا عن تقديم الدعم لمعظم فصائل “الجبهة الجنوبية”، وذلك ضمن اتفاقيات دولية. فبات مستحيلا، بقرار دولي، فكّ الحصار عن داريا.
تفرّغ داريا من أهلها، لكن حجارتها مازالت تتحدث عن أهل المدينة وعن حكاية صمود أسطوري، وستتحدث لاحقا عن رحيل قوم ومرور أقوام أخرى وعن نكسة تُسقط مدن العرب وتحيلها تفصيلا في حشايا التسويات، فيما أهل المدن يهيمون بحثا عن أحياء أخرى تبتلعهم بانتظار قدر آخر لا يسبب قلقا للأمين العام لجامعة العرب.
في الثلث الأخير من هذا الشهر سوف يعقد مجموعة من الناشطين مؤتمًرا دولًيا مستقلاً في نيويورك٬ تزامًنا مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة٬ الهدف هو دراسة وتمحيص الاتفاق الإيراني الدولي الذي عقد في 14 يوليو (تموز) ٬2015 والذي نتج عن مباحثات طويلة بين ما عرف بدول 5 +1 .المجموعة الداعية لديها شكوك عميقة في أن ذلك الاتفاق لا يمنع إيران من حيازة ما يعرف بسلاح التدمير الشامل٬ وترغب في عقد هذا المنتدى من أجل إثارة الموضوع على المستوى العالمي٬ وأيًضا رسالة إلى المتسابقين إلى البيت الأبيض بأهمية الموضوع. فتح الملف يشير إلى قلق بين بعض النخب الأميركية جراء الاحتمالات المقبلة٬ وهي نخب خارج الاستقطاب الحزبي الظاهر اليوم في الولايات المتحدة٬ وأيًضا للإشارة إلى المكان الأخطر الذي يمكن أن تذهب إليه إيران٬ أخًذا بمجمل سياساتها المتبعة.
الحقيقة التي أصبحت معروفة أن جزًءا من متخذي القرار في إيران راهن على نيات الرئيس باراك أوباما التي في مجملها البعد عن المواجهة٬ والبحث عن هوامش مشتركة لحل النزاعات في الملفات الدولية الساخنة٬ ومنها الملف الإيراني فيما سمى بعقيدة أوباما٬ هذا الرهان هو الذي جعل الإدارة الإيرانية تسعى للوصول إلى اتفاق ما أثناء فترة إدارة السيد أوباما٬ ولم يكن ذلك سًرا٬ فقد قيل علًنا في طهران إن لم نحصل على اتفاق الآن فلن نحصل عليه. جزء غير يسير من إدارة أوباما راهن أيًضا على ذلك الاتفاق٬ الذيُيرضي «الغرور الوطني الإيراني»٬ وتذهب المراهنة إلى تصور أنه سوف يقلل من «شطط» السياسة الإيرانية٬ وقد يشجع استقرار الطبقة الوسطى الإيرانية٬ على أمل أن تقوم بالعمل على تغيير مسارات التشدد! كان هناك مراهنات من الطرفين.
بعد أكثر من عام على الاتفاق تبين أن تلك المراهنات لم تكن دقيقة. فلا المال الذي وصل إلى الخزانة الإيرانية بعد الاتفاقُصرف بشكل كبير على التنمية٬ ولا قلّل من «شطط الإدارة الإيرانية» في الجوار وفي العالم٬ وأوصلها إلى منطقة الانسجام مع النظام العالمي٬ ومن جهة أخرى لم تأخذ الولايات المتحدة من الاتفاق كل ما أرادت٬ وهناك جسم من التفكير الأميركي يقول إن جل ما فعلته الإدارة الأميركية الحالية٬ باختيار سياسة «الوداعة» هو تأجيل الملف بدلاً من حله! من هنا نما لدى كثيرين مخاوف حقيقية بإمكانية الوصول الآجل لصنع القنبلة النووية الإيرانية٬ الاتفاق آخرها زمًنا٬ ولمُيلق احتمال الحصول عليها.
أيا كان سيد البيت الأبيض أو سيدته بعد الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل٬ فإن العلاقات «الأميركية الإيرانية» لن تكون «العمل كالمعتاد».. الأقرب إلى الاحتمال بأن الإدارة الجديدة٬ أًيا كانت٬ سوف تنبذ سياسة الوداعة والقيادة من الكرسي الخلفي في الكثير من الملفات٬ على رأسها الملف الإيراني و«الشرق أوسطي»٬ هناك تغير ما سوف يحدث٬ إشارات التغير بدأت تظهر في عدد من المواقف٬ أحدها الندوة الدولية التي أشير إليها سابًقا ولكن ليس فقط.
سيد البيت الأبيض المقبل٬ سواء دونالد ترامب (وهذا احتمال ضئيل ولكنه ممكن) أو السيدة هيلاري كلينتون (وهذا احتمالُمرجح) سيكون هناك تفكير مختلف٬ أخًذا بالمتغيرات الضخمة الحاصلة والمزاج المتذبذب٬ على رأسها تلك الضغوط الاقتصادية الداخلية والآثار الكارثية على المستوى الدولي٬ وفشل سياسة إدارة أوباما الثنائية في ترويض الأعداء أو كسب ثقة الأصدقاء!
في الحالة الأولى (الاحتمال الضئيل٬ أي وصول السيد ترامب) فالقراءة هنا عسرة إلى حد كبير٬ كون الرجل وطاقمه الأقرب ليس لديهم سيرة سياسية أو آراء سابقة واضحة في الكثير من الملفات يمكن الرجوع إليها٬ إلا أنه مما رشح حتى الآن في هذا الصدد٬ أن ترامب في أكثر من تصريح عاب على الإدارة الحالية احتمال تسليم النظام الإيراني «بلايين الدولارات» التي سوف تستخدم في دعم «الإرهاب»٬ كما رشح أنه لا يمانع بوضع «رجال على الأرض» من أجل الدفاع عن مصالح أميركا٬ ووضع اللوم في ظهور «داعش» على الإدارة الحالية بسبب تراخيها٬ كما استهزأ «بالخطوط الحمراء» التي تحدث عنها أوباما!٬ وعلى الرغم من أن خطاب ترامب انعزالي في توجهه العام٬ فإن شبكة الإدارة التي يمكن أن تأتي معه (إن حصل) تحمل ملف الكراهية للآخر٬ وخصوًصا ما يوصف بالإرهاب وتصدير «اللاجئين والإرهابيين».
قراءة موقف الطرف الآخر٬ هيلاري كلينتون أكثر سهولة في هذا الملف٬ فهي الأكثر معرفة بالشرق الأوسط أكثر من أي رئيس سابق٬ ولديها الكثير من الكتابات والتصريحات في الكثير من الملفات. قبل توقيع الاتفاق بأسبوع (قبل 14 يوليو 2015 (قالت مخاطبة مجموعة صغيرة في كلية دارموث «أرجو أن نحصل على اتفاق مع إيران في الأسبوع المقبل٬ حتى لو حصلنا على ذلك الاتفاق٬ سوف نواجه مشكلات رئيسية٬ فإيران هي الدولة الرئيسية في العالم التي تناصر الإرهاب». كما قالت في مكان آخر: «من الواجب أن نكون متشددين وأذكياء في التفاوض مع إيران قبل أن يفوت الوقت». وفي عام 2014 في مقابلة لها مع مجلة «أتلانتك» قالت: «كنت دائًما مع الموقف الذي يقول إن إيران ليس لها الحق في تخصيب اليورانيوم٬ ليس هناك شيء اسمه الحق في التخصيب». أما أقوى تصريحاتها فقد قالت: «لو كنت رئيًسا للولايات المتحدة فسوف نهاجم إيران ونحن قادرون على إزالتها». وفي تصريح آخر٬ قالت: «أنا أؤيد تسمية الحرس الثوري الإيراني كما هو (منظمة إرهابية)».
الكثير من التصريحات العلنية تذهب ذلك المذهب٬ وفي كتابها أيًضا أشارت تلميًحا إلى أنها «مختلفة مع السيد فلاديمير بوتين في الموضوع السوري٬ إلى درجة أنه لا يطيقني»! قد لا يتطابق الواقع على الافتراض٬ إلا أن الاحتمال قائم.
زبدة الموضوع أن الأمور لن تكون كما كانت في الإدارة المقبلة٬ أي ممارسة النفور من المخاطر كما سار عليها أوباما٬ هذا التصور لا يخفى على الإدارة الإيرانية٬ بل إن خطواتها التحوطية تنم عن ذلك الفهم٬ فقد قامت أخيًرا بالتحرش بالقوة الأميركية في الخليج مرتين! وإعلان صريح بتحصين المواقع النووية في إيران بمنظومة صواريخ روسية! والدفع بقوة في ملفات العراق وسوريا واليمن وغيرها لإظهار الشوكة الإيرانية وتحقيق انتصارات. ومن جانب آخر بناء تحالفات مع الاتحاد الروسي٬ والسماح له باستخدام القواعد العسكرية الإيرانية! على عكس عقيدة أوباما فإن الضغط المتوقع على إيران سوف يشعل الشقاق بين المتشددين٬ من الحرس الثوري وحلفائه٬ وبين المعتدلين الذين سوف يشاع عنهم أنهم خسروا الرهان٬ وما أخبار التوقيفات والاتهامات التي تطال بعض رجال «الاعتدال» مؤخًرا إلا مقدمة لذلك الصراع المحتمل. يزيد من تفاقم الصراع أربع مدخلات مهمة؛ الأول هو تراجع أسعار النفط٬ والثاني هو تأثير ثورة الرقمنة في المجتمع الإيراني٬ والثالث أن «فاكهة الاتفاق الموعودة» لم تذق منه الشعوب الإيرانية شيًئا يذكر! أما الرابع فهو اختلاط الفساد بعدم تحقيق أي انتصارات في الجوار٬ ذاك سوف يزيد من التوتر في الداخل الإيراني٬ بل سوف يفاقم الصراع.
القراءة الحصيفة تقول إن أفضل رئيس للولايات المتحدة بالنسبة لإيران هو الرئيس الذي لا يأخذ موقًفا من الملف النووي الإيراني٬ ولا يتدخل في العراق أو سوريا أو اليمن٬ ويترك إيران تأخذ المقعد الأمامي في شؤون الشرق الأوسط٬ ذلك الرئيس لا يتوقع أن يعود من جديد إلى البيت الأبيض.
آخر الكلام:
لم تكن السياسة الخارجية تؤثر كثيًرا لدى الناخب في الديمقراطيات الغربية٬ حتى انتشر الإرهاب في مدنهم ومطاراتهم٬ وتكاثر اللاجئون على أبوابهم٬ فأصبحت السياسة الخارجية أمًرا له أهمية لدى الناخب.
الأول إياد شربجي المسلم في مقالته " دور العبادة تابعة ومتبوعة ".
والثاني نادر الجبلي المسيحي في مقالته القصيرة " لا أعرف مسلماً متطرفاً ".
المقالتان نشرتا في موقع واحد.
إياد شربجي حمل في رأسه صورتين، الأولى سلبية ظلامية راسخة، وكارهة ومشوهة للإسلام والمسلمين، والثانية إيجابية متألقة للكنسية المسيحية، ثم راح يبني على الصورتين مقدمة المقالة ونتيجتها، وما بينهما من أسلوب هجائي أو مدائحي.
منذ بداية السطر الأول يقفز الكاتب مباشرة إلى إصدار الحكم الجائر على المسلمين، فهو يقول: لا يخفى على أحد الجموع الغفيرة من المسلمين التي تحضر الخطب والدروس في المساجد والحلقات، وتشاهد على الشاشات وتقرأ في الكتب لرجال دين يبثون الهذيان والخوف والكراهية والتخريف في العقل الجمعي للمجتمع ".
هكذا يقرر إياد شربجي، وبتعميم وشمولية، بأن الإسلام هو مجرد هذيان وخوف وكراهية وتخريف، وأن شيوخ الجوامع هم من ينقل إلى العامة هذا المبدأ، ويتناسى أن الإسلام ليس هكذا، وأن له وجهاً آخر، فهناك عشرات الآلاف من علماء ومفكرين إسلاميين متنورين يعتمدون العقل والتفكير المنهجي أسلوباً للفهم والتوصيل في دراساتهم للإسلام ورسالته الدينية والاجتماعية والإنسانية.
ولكي يدعم الكاتب مقولته السابقة راح يشرح ويفصل كيف أن رجال الدين ينشرون مفاهيمهم التضليلية، ويضعون حشود المسلمين داخل إطار التعبئة العقائدية، من انتصار الإيمان على الكفر وأفضلية المسلم على غيره من البشر، مع ترهيب الناس بالعقاب والموت وعذاب القبر وجهنم، بعيداً عن شدّ أواصر المحبة بين البشر، أو تقديم الخير للبشرية لغير المسلمين. وهو بذلك يهيئ لتقديم النقيض الإيجابي الموجود في الآخر، أي في الكنيسة.
لكن ما أورده الكاتب من كلام تضليلي، هو مجاف للحقيقة، أو مجتزأ من السياق الديني العام، فالإسلام والمسلمون ليسوا ضد المحبة بين البشر، أو ضد فعل الخير لغير المسلمين، مع الإشارة إلى أن الكاتب يقدم حيثياته من خارج نطاق الحياة الواقعية التي يعيشها المسلمون في هذا العصر المليء بالكراهية والعداء للإسلام والمسلمين بشكل خاص.
كما أن رجال الدين عند الشربجي يحرّضون الناس ضدّ ما يسميهم العقلاء والناقدين، " حتى حوّلوا عامة الناس إلى ( شبيحة ) يتحفّزون لسب وشتم وتكفير.." وهو يقرر أن رجال الدين هم رموز دينية لا يجوز انتقادهم، وإلا اعتبر ذلك اعتداءً على الدين نفسه.
هذا الكلام من الكاتب ليس صحيحاً، إلا عند بعض العامة، فرجل الدين ليس مقدساً، ولاسيما عند أهل السنة الذين يقصدهم الكاتب في كلامه، فهم لا يقدسون رجال الدين، بل يهاجمونهم إن أخطأوا.
ثم يأتي الكاتب إلى الوجه الإيجابي في مقالته، حيث يصور الكنيسة على النقيض من الجامع، كمؤسسة تنتج قيماً إنسانية وسلوكية حقيقية، وليس فقط طقوساً دينية ". فالكنائس في أميركا هي نقاط اجتذاب، وليست نقاط سيطرة، فهي تقيم الاحتفالات والمناسبات والدورات التعليمية للوافدين واللاجئين الجدد لأميركا، حيث تجد هناك المسلمة المحجبة والبوذي المتدين، وتجد المكسيكي الفقير، والمضطهد الافريقي، وكلهم تتم مساعدتهم من قبل الكنيسة دون أن تستخدم حاجاتهم لاستمالتهم في سبيل تغيير قناعاتهم ومعتقداتهم ".
ولتأكيد ذلك يورد الكاتب ما جرى معه بأسلوب رومانسي تعاطفي، ويذكر أنه دُعي شخصياً هو وعائلته على مدى عامين لطعام إفطار رمضاني في إحدى كنائس واشنطن، وسمع آذان الإفطار وتلاوة القرآن في قلب الكنيسة، وشاهد دموع المصلين تأثراً بقصص السوريين. كما يذكر أن زوجته تطوعت ببعض نشاطات الكنيسة الانسانية، ولم يكلمنا أحد بالتحوّل إلى المسيحية.
وهنا نريد أن نسأل الكاتب: هل حقاً أن الكنائس تفعل ذلك دون أن يكون لها هدف لاهوتي على المدى القريب أو البعيد.!؟. إن كان الكاتب ينكر ذلك فأحيله إلى نشاط المبشرين المسيحيين الذين يجوبون العالم شرقاً وغرباً منذ مئات السنين وحتى الآن، ولا سيما في القارة الأفريقية، حيث الفقر والتشرد والأفكار البدائية، ولذلك فالمؤسسة التبشيرية الغربية تقدم الإغراءات المادية والمساعدات الإنسانية الكبيرة لهؤلاء الناس من ميزانيتها التي تقدر بمليارات الدولارات، وتحت تصرفها أسطول من الطائرات، كما تقول إحدى الدراسات.
وأنا هنا لا أقف من هذه النشاطات التبشيرية موقفاً لا سلبياً ولا إيجابياً، فالدعاة المسلمون يفعلون ذلك أيضاً، وإن كان ذلك بقدرات مادية أقل بكثير من قدرات الكنيسة، ولكنني فقط أذكّر الكاتب أن نشاط الكنائس ليست بريئة براءة خالصة، دون أن يكون وراءها شد وجذب للدين المسيحي بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
والغريب أن الكاتب لم يتطرق إلى تدمير سورية وإبادة شعبها سوى بعبارته المبهمة، وكأن الإبهام مفصود " وشاهدت دموع المصلين تأثراً بقصص السوريين " ثم يتساءل في نهاية فقرته بأسلوب استنكاري، هل رأينا في مساجدنا يوماً مساعدة أو إغاثة تقدّم لغير المسلمين.!؟. ".
هذا بحق تساؤل مستهجن، فهو يقارن بين كنيسة تقع ضمن مجتمعات ثرية ومستقرة، وبين جوامع في شعوب فقيرة مضطهدة. والكاتب يعلم تمام العلم أن آلاف المساجد تم تدميرها في سورية عدا عن تدمير البُنى العمرانية، وأن من فعل ذلك، إلى جانب سلطة الأسد، هم العديد من زعماء الغرب، لاسيما الروس والامريكان، حيث يزرعون بطائراتهم الأرض السورية بالحمم التدميرية مستهدفين أولاً الأطفال والنساء، ولا أريد أن أقول بمباركة من الكنيسة، ولا سيما الروسية، باسم محاربة الإرهاب،
وهنا أحب أن أذكّر الكاتب بالمرشح ترامب للرئاسة الأميركية الذي بنى خطابه الانتخابي على كراهية المسلمين وغيرهم من الأقليات العرقية، وهل ان ترامب يتكلم باسمه وحده ام باسم شريحة واسعة جداً من المجتمع الأميركي بأفراده ومؤسساته الإنسانية والدينية.
وأخيراً يمكن أن نتساءل: ترى ما هدف الكاتب من هجاء " الجامع " ومدح " الكنيسة " بهذا الأسلوب الفج.!؟. هل هي قناعة داخلية، أم لأنه يقيم في الولايات المتحدة، ويريد أن يصل من وراء طرح هذه الأفكار إلى أهداف نفعية شخصية لا ندري ما هي.!؟.
...........................................
أما نادر جبلي " المسيحي " فبنى قناعاته حسب معايشته للواقع في المجتمع المسلم، دون محاباة ولا مراءاة، وأتى بشواهد على ذلك من مراحل متعددة من حياته في نصه المعنون " لا أعرف مسلماً متطرفاً ". وأنا هنا أثبت معظم النص. يقول الجبلي:
- كنت التلميذ المسيحي الوحيد بين ألف مسلم في مدرستي الابتدائية في يبرود، وكنت محبوباً من الجميع، مدرسين وطلاب، لم يزعجني أحد بسبب انتمائي لدين مختلف، وأحتفظ عن تلك الأيام بأجمل الذكريات.
- عندما كان نظام القتلة يقيم الاحتفالات في باب توما المسيحية، لإظهار المسيحيين في حالة فرح وبهجة وتماه مع النظام، كنت أتقصد زيارة مجالس العزاء في مدن الغوطة مع وفد مسيحي، لعلنا نساهم في إخماد ردّات الفعل الطائفية قدر الإمكان، فكنا نُفاجأ بمستوى الود والمحبة والتقدير من قبل ذوي الشهداء.
- في معتقلي الأول والثاني كنت المسيحي الوحيد غالباً بين المسلمين في الزنازين التي كنا نُحشر بها، وكنت أخشى من ردات فعل بعض المعتقلين بسبب مواقف الطوائف المسيحية من الحراك الثوري، لكنني كنت أفاجأ أيضا بمقدار المحبة والتقدير الذي كنت ألاقيه، والذي كان له أكبر الفضل في بقائي على قيد الحياة..
- نصف قرن ونيف عشتها في سوريا قبل خروجي، ترعرعت خلالها وتعلمت وعملت بين المسلمين، وأشهد أنهم لم يكونوا يوما إلا أهلاً وأصدقاء وأخوة..
ويختم الجبلي نصه بالقول: لا تستطيع قوة في الأرض إقناعي بطائفية المسلمين في سورية، أو بتطرفهم، أو بكراهيتهم للأقليات، وما نشهده اليوم من ممارسات إنما هو ردات فعل تسببت بها قوى ومضخات الكراهية والحقد التي يديرها نظام مجرم وحلفاء لا يقلّون إجراماً.
لا تعليق على نص الجبلي، بل انحناءة تقدير مع إضافة مختصرة لأدعم ما ذكره وأؤكد عليه، فأثناء اعتقالي في بداية الثورة جاءنا معتقل جديد، أعلمنا أنه مسيحي من وادي النضارى، فلاقى منا الكثير من الألفة والمودة والترحيب، وهذا ما جعله يرتاح ويسعد لوجوده بيننا، فخففنا بذلك عنه بعض الضائقة النفسية، وكان من الشباب المثقف المتنور وله طبيعة اجتماعية تواصلية، فصرنا كمجموعة مختارة نجلس معاً ونتحاور، ونتوافق على معظم المواضيع التي يدور النقاش حولها، دون أن يكون بيننا حاجز ما يسمى " مسلم ومسيحي ".