ما لم تراجع الإدارة الأمـــيركية موقـــفها من بــقاء الرئيس بـــشار الأسد في الحكم، فلن تنتهي الأزمة السورية، ولن تستقر الأوضاع في الإقليم، ولن تعود لمجلس الأمن الدولي هيبتُه، ولن يسود السلام العالمَ وتأمن الشعوب على مصالحها وتطمئن إلى مصائرها. لقد أضحى واضحاً أن من الأسباب الرئيـــسَة لاستــفحال الأزمة في سورية، على هذا النحو الذي لا نجد له مثيلاً في عالمنا اليوم، تذبذب الموقف الذي اتخذه الرئيس الأميركي باراك أوباما إزاء الحالة في سورية، وتقاعسه عن التصرّف وفق مقتضيات الدستور الأميركي.
فليس هناك إطلاقاً من سبيل لتضع الحرب الأهلية في سورية أوزارها، سوى أن تقف الإدارة الأميركية موقفاً حازماً يحدّ من أطماع روسيا الاتحادية، ويصدّها عن ترسيخ وجودها العسكري والسياسي في هذه الدولة العربية، ويُنهي التدخل الإيراني الطائفي وأتباعه فيها ويتعامل مع بشار الأسد على أنّه مجرم حرب يجب أن يتنحى بعد أن دمر البلاد وقتل أكثر من نصف مليون مواطن سوري، وانتهى به طغيانه واستبداده إلى تهجير أكثر من عشرة ملايين شخص من المواطنين السوريين، إلى خارج بلادهم وتشريدهم داخلها. فما لم يتخذ الرئيس باراك أوباما هذا الموقف الحازم الذي يرقى إلى مستوى الالتزام الأميركي بحماية القوانين الدولية واحترام ميثاق الأمم المتحدة باعتبارها قوةً عظمى ودولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، فلن تغير موسكو من سياستها التي تعتمدها في احتلالها سورية، ولن تتراجع عن تماديها في قتل السوريين بالهجمات الجوية التي يشنها سلاحها الجوي الحربي على المواطنين السوريين، وليس على عناصر من تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية، كما تزعم وتدعي، وأن تتوقف إيران عن تدخلاتها المخرّبة فيها.
لقد كشفت صحيفتا «نيويورك تايمز» و «وول ستريت جورنال» الأميركيتان في عدديهما الصادرين يوم الجمعة 17/6/2016، عن أن أكثر من 50 دبلوماسياً من وزارة الخارجية الأميركية، وقعوا مذكرة داخلية تنتقد بحدةٍ استراتيجيةَ إدارة الرئيس أوباما تجاه سورية، مطالبين بتنفيذ ضربات عسكرية ضد قوات بشار الأسد، لوضع حد للانتهاكات المستمرة ولوقف إطلاق النار. وجاء في المذكرة أن سياسة الولايات المتحدة لم تنجح في إيقاف العنف المتواصل في سورية، وهو ما يثبت فشلها حتى الآن. واعترفت المذكرة بأن للعمل العسكري مخاطره، كتوترات أخرى مع روسيا، لكن مقدميها أكدوا في الوقت ذاته أنهم «لا يدفعون نحو طريق يؤدي للهاوية وينتهي بمواجهة عسكرية مع روسيا، وإنما الهدف من الضربات يجب أن يكون إبقاء الأسد تحت السيطرة». وعلى الرغم من أن الدبلوماسيين الأميركيين الموقعين على هذه المذكرة بدوا وكأنهم في صحوة ضمير، إلا أنهم لم يكونوا في المستوى المطلوب من الحسم والحزم، حيث كانت غاية مطلبهم «الإبقاء على بشار الأسد تحت السيطرة».
ومما يلاحظه المراقبون تزامُن نشر هذه المذكرة مع ما أعلنه رئيس أركان القوات الجوية الأميركية عن استعداد الطيران الحربي الأميركي لتأمين إنشاء مناطق حظر جوي في سورية. لكنه أشار إلى وجود عوائق، وهي العوائق التي تبرر بها الإدارة الأميركية موقفها المريب من الوضع المتردي في سورية. فهل سيكون لهذه المذكرة مفعولها وتأثيرها فتحفز الرئيس الأميركي باراك أوباما على مراجعة السياسة المتذبذبة التي ينهجها والحسم تجاه بقاء بشار الأسد الذي يمارس القتل والتدمير، وعربدة روسيا في المنطقة وفرضها الأمر الواقع على دولها باعتبار أنها دخلت سورية ولن تخرج منها آجلاً أو عاجلاً؟ أم ستكون صيحة في واد؟
جميع الحسابات السياسية والمؤشرات تؤكد أن سورية التي يعرفها العالم، لم تعد كما كانت، فلقد أصبحت بلداً محتلاً من طرف دولتين التقت مصالحهما الآنية واختلفت أهدافها البعيدة، هما روسيا وإيران، اللتان تلعبان أخطر الأدوار على الأراضي السورية. فهل يدخل ضمن التفاهمات الغامضة بين روسيا والولايات المتحدة، انفراد موسكو بالحالة السورية والاعتراف لها بالهيمنة على هذا البلد، في مقابل تأمين مصالح أميركية في مناطق أخرى؟ منطقُ الأشياء يرجّح هذا الاحتمال، ما دامت المعلومات عن هذه التفاهمات غير متوافرة، وما دامت القوتان العظميان تعملان في الظلام، وهو دأب اللصوص، وهما اليوم لصّا السيادة الوطنية للشعوب والمتآمران على أمن المنطقة وسلامة كياناتها الوطنية.
كل الذين واجهوا طواحين الهواء سقطوا صرعى أوهامهم. وهي مسألة وقت قبل أن يفلس ماليا من أفلس سياسيا وبات فصيلا إيرانيا يأكل ويشرب من دماء أبنائه في سوريا.
من نتائج تعميم العقل الغيبي الذي لا يتوسل الأساليب العقلانية في فهم الأمور، الاستهانة بالعقوبات المالية الأميركية. هذه هي الثقافة التي جرى تعميمها “أعلى ما في خيلهم يركبوه”. بهذه الثقافة وهذه العقلية يواجه حزب الله، ويدّعي أن العقوبات المالية لا تؤثر عليه. وهذا في معيار من يفهم قليلا بالاقتصاد والمال معناه أنك خارج النظام، وأنك خارج الحياة الاقتصادية والمالية، ومن يستهين بهذه الخطوة هو من خارج هذا العالم، ولم ينتبه إلى أن الاقتصاد أسقط الاتحاد السوفيتي، والاقتصاد هو من فرض على إيران الدخول في العولمة بشروط أميركية. العقوبات المالية والاقتصادية ولا شيء آخر، هما اللذان دفعا القيادة الإيرانية نحو تقديم التنازلات للاميركيين، “الشيطان الأكبر” في لغة الممانعة. فيما تبدو الإدارة الأميركية غير مستعجلة في رفع كامل العقوبات عن إيران.
أما حين اقترب أصحاب المال من حزب الله فكانوا يراهنون على أنه مدخل لاستثماراتهم، وحققوا من خلاله أرباحا ومكاسب، وهم من العائلات التجارية و”البرجوازية”، حين بدا حزب الله سلطة تساعد على تكبير رأس المال وزيادة النفوذ والتسهيلات التي تساعد على مراكمة الثروات. وهم؛ أنفسهم، اليوم يهربون منه من أجل حماية أموالهم ومراكمة المزيد من الأرباح، من المال الحلال أيضا.
المال الحلال هذه الأيام يبدو بالنسبة إليهم بعيدا من حزب الله. حسن نصرالله، وهو ينظر إلى كيف تعقد صفقة شراء مئة طيارة بوينغ من أميركا لصالح إيران، وينظر كيف تعمل حكومة إيران على ترتيب العلاقات الاقتصادية مع واشنطن والغرب، وكيف أن دوائر المال في واشنطن تلاحق حزب الله وحساباته، يبدو في شخصية البطل الذي لا يعنيه ماذا تفعل أميركا وماذا تفكر.
قال نصرالله في خطابه الأخير لجمهوره إن “26 مقاتلا من حزب الله سقطوا لحزب الله خلال شهر يونيو في ريف حلب، فيما سقط 617 للجماعات المسلحة”. بمعزل عن الدقة في سرد الوقائع، لكن ذلك لا يجيب عن سؤال الجدوى: ذهب منهم 617 وذهب منا 26، وماذا يعني هذا الخطاب؟ هل هي عقلية البطل الذي يغلب من يواجهه، ويذهب إلى آخر الدنيا من أجل أن يظهر أنه بطل فقط، بلا غاية ولا هدف سوى أن يقال إنه البطل. هذا حال حزب الله حين تورط في رهانات إيرانية خاسرة داخل سوريا والفلوجة العراقية وفي اليمن. وها هو يكشف عن هشاشة في الخطاب وفي الرؤية وفي القدرة على مواجهة قضية جد متوقعة، ألا وهي مسألة العقوبات المالية.
وحين قال إن “مالنا من إيران”، كأنه يقول للقيادة الإيرانية “نحن أخلصنا لكم أنتم، ولا يمكن أن نقبل بأن تخضعوا لابتزازات أميركية لتخفيف الدعم المالي”. نصرالله الذي يفقد من خلال العقوبات المالية جانبا من استقلالية وفرتها شبكة استثمار حزب الله الدينية والمالية الشرعية وغير الشرعية، اليوم يبدو أكثر فأكثر تحت المظلة الإيرانية، وبالكامل. لذا فإن ما قاله خلال خطابه الأخير، موجه إلى الإيرانيين قبل غيرهم. فهو يقول لهم “نحن في حزب الله أيضا إيرانيون، وهكذا يجب أن تتعاملوا معنا ومع متطلباتنا”. لا سيما أنه في داخل الحكومة الإيرانية اتجاه ضاغط نحو المزيد من تخفيف دفع الأموال وتحويل المساعدات والدعم الخارجي، لا سيما إلى حزب الله.
حزب الله يواجه العقوبات المالية الأميركية كما يواجه تصريحا للرئيس سعد الحريري. يظن النظام المصرفي العالمي سيخاف من تفجير هنا أو هناك، أو سيرتجف من تصريح لزعيم ميليشيا مذهبية في ركن لبناني هزيل. وكل الذين واجهوا طواحين الهواء سقطوا صرعى أوهامهم. وهي مسألة وقت قبل أن يفلس ماليا من أفلس سياسيا وبات فصيلا إيرانيا يأكل ويشرب من دماء أبنائه في سوريا.
في الوقت الذي يتمسك به وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بكلمته الشهيرة " على الأسد الرحيل بالسياسة أو القوة"، و بنغمات مختلفة تبع للمحفل الذي تصدر به ، يسير المركب التركي باتجاه الشواطئ الهادئة و في حملة مصالحات جماعية ، بشكل مكثف و سريع ، بحيث قد يكون في الغد "لا عدو لتركيا إلا الأسد أو السوريين"، و العداوة الأخيرة تتعلق بمدى صحة التسريبات و اتجاهات المصالح .
اليوم اختزل الصراع التركي- الروسي بمناكفات حول حقيقة ما رغب به الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من رسالته بالأمس لنظيره الروسي فلاديمير بوتين ، هل رغب "الاعتذار" أو مجرد القول "لا تؤاخذونا" ، فالفرق شاسع للطرفين ، و لكنه بالنسبة للسوريين لا فرق ، فالجليد اذيب وننتظر النتائج و انعكاساتها على الملف السوري ، وطبعاً يخطئ كثيراً من يقول أن هذه التطورات ابتداء من عودة العلاقات مع إسرائيل و من ثم صدمة الكهرباء لجسد العلاقات مع روسيا و كذلك الغزل المبطن للنظام المصري، أنه يتم وفق تراجيديا مقروءة من قبل المراقبين و تجار التحليلات و المنجمين ، فهي خطط لايمكن التوقع بها، فالدور الوحيد الذي يمكن ممارسته هو الجلوس و المتابعة لا أكثر.
من الممكن أن تكون الساعات القليلة التي تلت رسالة أردوغان لبوتين ، قد حملت آلاف التحليلات الدفاعية و الهجومية و الرمادية حول تطورات العلاقة بين البلدين، وطبعا حضر الخلاف في تفسيراتها بين الأنواع السياسية و العسكرية و الاقتصادية، و الغريب أن أحد لا يمكن أن يقتنع أن هذه الأمور لا تنظر لنا على أننا عناصر فاعلين ، و إنما نحن عبارة عن وقود يسعّر به النار كلما هدأت ، فغضب بوتين من تركيا يدفعه لحرق الحدود و مد الأكراد الانفصاليين بكل شيء، ورضاه قد يحول الكفة للعكس تماماً ، و كذلك امتعاض بوتين من تصرفات تركيا يدفعه لطرد آلاف التركمان من ريف اللاذقية ، و إعادة التوافق قد يغير المعادلة بالعكس، و في كل الأحوال لن يكون هناك حديث عن عدد القتلى أو الجرحى أو حجم الدمار ، فضمان انسياب الغاز و سير السياح يتجاوز بلهوانيات التصريحات و عنترياتها من كلا الطرفين .
و يغوص الكثيرون من خلال ما تمكنت متابعته من تحليلات في تفاصيل لا أدرى كيف توصلوا لها ، و تذكرني بتلك التي كانت تتحدث عن خلافات أسماء الأسد مع أنيسة مخلوف حول الطبخة التي سيتناولها بشار الأسد بعد صراعه مع آصف شوكت ، فالغريب أنه يدخلون أروقة المفاوضات و يستخرجون الهمسات و ينقلونها لتتردد في الكون ، بأن عصر الأكراد الانفصاليون قد انتهى ، و دور الأسد كذلك و بات الباب مفتوحاً أمام موالو أردوغان ، في حين يذهب آخرون للاتجاه المعاكس تماماً بأن الحلف بين الأسد و الأكراد الانفصاليون سيتعمق و تمهيداً لامتصاص فورة الانفصال الكردية.
و طبعا لم يغب الدور الجزائري الفاعل في ربط مصالحة بين أردوغان و الأسد و لنفس قضية الأكراد الانفصاليون ، في استرجاع لتجربة ٢٠٠٤ .
أيآ يكن لا نملك التحليل الحقيقي و الواقعي، و كل ما يمكننا فعله في متابعة استعراضات بلهوانيو التحليلات ، علنا نمضي الوقت ريثما تظهر النتائج ، كحالنا نمضي الوقت بانتظار الافطار.
بعدما أكد الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله انه لن ينسحب من القتال في سوريا وسيخوض معركة حلب حتى النهاية ومهما بلغت التضحيات "لأن الدفاع عن حلب هو دفاع عن سوريا، والدفاع عن سوريا هو دفاع عن لبنان وإفشال للمشروع الاميركي - الصهيوني في المنطقة"، فإنه ربط بقوله هذا مصير لبنان بمصير سوريا كما ربطت منظمة التحرير الفلسطينية في الماضي حل القضية اللبنانية بحل القضية الفلسطينية... وتحوّل لبنان ساحة مواجهة وتصدٍ بعدما كان ساحة صمود فقط.
الواقع أن أخطر ما في هذا الكلام هو أن لا رئيس للبنان إلا بعد ان تتبلور صورة الوضع في سوريا، إلا إذا كان رئيساً كرؤساء سابقين لا دور لهم سوى إدارة الأزمات والحروب في انتظار تقرير مصير لبنان ربما هوية ونظاماً. وهو ما واجهه في الماضي عندما تعذّر عليه فصل قضيته عن القضية الفلسطينية، وحتى عن أزمة المنطقة كلاً وعن وضع الجولان السوري الذي صار حل الوضع في أجزاء محتلة من جنوب لبنان مرتبطاً بحله، مع أن مضمون قرارات مجلس الأمن حولهما مختلف فرفُع شعار "وحدة المسارين اللبناني والسوري" وذهب المغالون الى حد القول بوحدة المسار والمصير أيضاً.
لذلك فلا خروج من هذا الارتباط إلا إذا قرر القادة في لبنان تحييده انطلاقاً من "اعلان بعبدا" كي لا يظل حل أي أزمة تقع فيه مرتبطاً بحل أي أزمة في أي دولة في المنطقة. فعلى القادة إذاً أن يقرروا إما تحييد لبنان وإما ابقاءه ساحة مفتوحة لصراعات كل خارج قريب أو بعيد. فإذا لم يقرر "حزب الله" الانسحاب من سوريا فلا مجال للبحث في تحييد لبنان، ولا بد عندئذ من انتظار ما سيتقرر في سوريا لمعرفة ما سوف يتقرر في لبنان.
ولا شيء يدل حتى الآن على أن الحرب في سوريا ستنتهي قريباً كي تنتهي الأزمة في لبنان، وانه لا بد ربما من انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لمعرفة أي سياسة ستنتهجها الادارة الاميركية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، أهي سياسة الخروج منها والانكفاء، أم سياسة التصدي والهجوم لاحكام السيطرة على كل المنطقة وإن كان ذلك بات صعباً مع استعادة روسيا دورها وقوتها بحيث صارت قادرة على مقاسمة اميركا مساحات النفوذ فيها بموجب اتفاق شبيه باتفاق سايكس - بيكو، حتى اذا ما تعذّر التوصل الى مثل هذا الاتفاق اصبح التقسيم هو الحل الذي لا مفر منه، ويصبح دور القادة العمل على ابقاء لبنان خارج هذا التقسيم ليظل نموذجاً للعيش المشترك.
لذا يمكن القول إن لبنان يواجه ما واجهه عام 1943 عندما قرر انهاء الانتداب الفرنسي عليه والحصول على الاستقلال، فكان ميثاق 43 غير المكتوب، أو يواجه مرحلة ما قبل حرب الـ75 التي انتهت باتفاق الطائف الذي عدّل دستور لبنان. لكن لا ميثاق 43 حقق الاستقرار السياسي والامني والاقتصادي، ولا اتفاق الطائف حقق ذلك ايضاً وظلت لكل طائفة مطالب تريد تكريسها في الدستور. فاذا كان السلاح الفلسطيني في لبنان أشعل حرب الـ75 التي انتهت باتفاق الطائف وبوصاية سورية عليه، فأي اتفاق سيأتي به سلاح "حزب الله" بين اللبنانيين؟ هل بتعديل اتفاق الطائف، أم ان الخلاف على تعديله قد يفرض نظام "الفيديرالية" فيه خصوصاً اذا ما اعتمد هذا النظام في اكثر من دولة عربية؟
وهكذا فإن رئاسة الجمهورية اصبحت بعد موقف "حزب الله" القاطع والجازم من الحرب في سوريا والعراق، ولا أحد يعرف في أي دولة أخرى، بين خيارين: إما انتخاب رئيس يدير الأزمة التي لا حل لها ما دام الحزب يحارب خارج لبنان، وإما انتخاب رئيس للجمهورية بعد حل أزمته التي لا حل لها إلا بعد حل الأزمة في سوريا، وهو ما حصل له عندما تعذّر عليه حل مشكلة احتلال اسرائيل لأراضٍ في الجنوب ما لم تحل القضية الفلسطينية أو ان تحل قضية الجولان. فهل هذا ما يريده قادة في لبنان يدّعون حبهم له ولا يحبون أحداً عليه... وهم يفعلون عكس ما يقولون؟!
طرح الصديق ميشيل كيلو أفكاراً على غاية الأهمية، في مقالته "مشكلة تتطلب حلاً عاجلاً" في "العربي الجديد" (18/6)، تحدّث فيها، بصراحته المعهودة، عن التحولات والتعقيدات والمداخلات الخارجية الحاصلة في الصراع السوري. كتب: "قبل الحرب الأميركية ضد الإرهاب والاحتلال الروسي لسورية، كان حل القضية السورية يعني تطبيق وثيقة جنيف... لإقامة نظام ديمقراطي، لا محلّ فيه للأسد ونظامه، تتوقف بقيامه الحرب ويسود السلام. بعد إدخال واشنطن قوات "البايادا" بقوةٍ إلى الحرب، وقتال روسيا المكثف ضد الجيش الحر، لم تعد تسوية صراع المعارضة/ النظام كافيةً لتسوية المسألة السورية، ولم يعد حل "جنيف 1" كافياً لإنهاء الصراع، لسببين: ضمور مطلب تغيير النظام في أولويات الدول الكبرى والإقليمية، وبروز توجه يتصل بإعادة النظر في بنية الدولة السورية وهويتها"... ما "يطرح السؤال حول ما إذا كانت الدولة الديمقراطية تلبي المطالب القومية لبعض مكوّنات الشعب السوري، علماً بأنها ليست موجهة إلى النظام، بل إلى الثورة وبديلها الديمقراطي الذي يخيّر بين قبول حكم ذاتي فيدرالي في الدولة الجديدة وتقويض قدرتها على حل مشكلات سورية، في حال حافظت على بنيتها المركزية". ويتابع: "إذا كانت القرارات الدولية لا تصلح لتسوية هذه المشكلة، فهل نتوقع أن تصدر قراراتٌ جديدةٌ تنظم علاقاتٍ تلبي مطالب "البايادا" وبين الدولة المنشودة؟ أية علاقة ستربط هذه القرارات بوثيقة جنيف، وما نتج عنها من قرارات؟" ويتساءل: "يبدو الحل الديمقراطي كأنه يبتعد بقدر ما يتداخل مع الحل القومي، أو يتوارى وراءه، فهل ابتعاده مؤقت، وهل يحسن بنا انتظار تدخلاتٍ من خارج الشرعية الدولية تتيح للدول الأجنبية المتصارعة في بلادنا، التلاعب بالحل القومي، بعد أن تلاعبت، طوال نيفٍ وخمسة أعوام، بالحل الديمقراطي؟ ألا يجب علينا المبادرة إلى إجراء حوار وطني، يشارك فيه ممثلون عن جميع مكونات الشعب السوري، يحدّد هوية المطالب القومية وحدودها، ويجعل الحل الديمقراطي مدخلاً ملزماً إلى تحقيقها؟".
هذه التساؤلات جد مشروعة، وعلى المعارضة السورية أن تعقد ورشة لمناقشتها، خصوصاً عليها أن تشتغل على صوغ مقاربة سياسية واضحة، تتعلق بالمسألة الكردية في سورية، بما يحفظ وحدة أرض سورية وشعبها، وبما ينصف الأكراد، ويعترف بخصوصيتهم القومية.
ومن معرفتي المباشرة، واهتمامي بهذه القضية، أعرف أن المعارضة حاولت ذلك، وثمّة مداخلاتٌ إقليمية ترسم سقفاً لمقاربةٍ كهذه، وأن ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته "حماية الشعب" تثير الشبهات، إلا أن هذا لا يعفي أحداً من المسؤولية عن القصور في إيجاد مقاربة مشتركة.
"لعل الثورة من أجل الحرية والكرامة، لكل السوريين، مواطنين وجماعات، تحث على تفهم المسألة الكردية من خارج إطار المفاهيم السائدة التي طالما غيّبت، أو همّشت، حال التنوّع السوري"
ولعل الثورة من أجل الحرية والكرامة، لكل السوريين، مواطنين وجماعات، تحث على تفهم المسألة الكردية من خارج إطار المفاهيم السائدة التي طالما غيّبت، أو همّشت، حال التنوّع السوري، الإثني والديني والمذهبي، وتعاملت معه بطريقة توظيفية، أو على أنه جزء من فولكلور، سواء في الخطاب السلطوي للنظام أو في خطابات أطراف المعارضة، في حين تم إنكار هذا الاختلاف أو طمسه، أو مواجهته بطريقة تعسّفية.
هكذا، فإن انطلاقة الثورة وضعت أطياف المجتمع السوري في خضم مواجهتين في آن: في مواجهة نفسها، بما يعني ذلك تعريفها ذاتها الهوياتية ومكانتها وأولوياتها. وفي مواجهة بعضها بعضا؛ علما أن المداخلتين مستغرقتان في المشروع العام للثورة.
في كل الأحوال، إن صوغ الإجماعات السورية الجديدة هو من أولى مهمات المعارضة التي تطرح نفسها بديلاً للنظام، ما يفترض منها أن تتجاوز صندوقه السياسي والمفاهيمي، وأن تعترف بالأخطاء والتقصيرات الحاصلة في التعاطي مع المسألة الكردية. ولا بد أن ينطلق ذلك، بدايةً، من اعتبارها قضية الكرد قضية شعبٍ له خصوصيته القومية وطموحاته الخاصة التي يجب أخذها بالاعتبار، لأن قضية الحرية لا تتجزأ، ولا يجوز أن نطلب الحرية أو حق تقرير المصير لأنفسنا ونمنعها عن الآخرين، وإنما ينبغي التوصل إلى حلولٍ مناسبةٍ، وفق منظور ديمقراطي وسلمي، يراعي التطورات الاجتماعية والسياسية الحاصلة في مجتمعنا.
انطلاقا من ذلك كله، أعتقد أن الصديق ميشيل كيلو يتفهم أن المعضلة المتمثلة في إيجاد مقاربةٍ مناسبةٍ وديمقراطيةٍ للمسألة الكردية، لا تتبدّى فقط إزاء الثورة والمعارضة السوريتين، إذ هي تتبدّى أيضاً إزاء الأكراد أنفسهم، أفراداً وكيانات سياسية، أي أنها معضلة كردية أيضا، ما يعني أن هذا السؤال مطروح أمام الكرد أنفسهم، قبل أي أحد آخر.
مثلاً، إذا كان بعض الكرد يرون أنفسهم جزءاً من أمةٍ كرديةٍ متمدّدة بين عدد من بلدان المنطقة (وهذه حقيقة)، فإن هذا يطرح تساؤلاتٍ على من يعملون وفقاً لهذا النهج، أو هذه الرؤية، إن كانوا يرون أن الكردية "الأممية" تتقدّم على الهوية السورية؟ أو ماذا سيفعلون بخصوص مواطنيتهم السورية؟ السؤال التالي الذي يطرح نفسه لمن يعطي الأولوية لهويته الكردية ـ القومية هو: هل هذا الوقت الدولي والإقليمي المناسب لقيام دولةٍ كرديةٍ عابرةٍ لبلدان سورية والعراق وتركيا وإيران؟ وهل موازين القوى تسمح بذلك؟ ثم هل هذا الظرف المناسب للخروج من إطار الوطنية السورية، وتقويض وحدة سورية، وطناً لكل السوريين، في زمنٍ تشتد فيه معركتهم من أجل حريتهم، ومن أجل إسقاط نظام الاستبداد وهزيمة قوى التطرف المسيطرة الآن على المشهدين السوري والعراقي في آن معاً؟ أخيراً، أليس الأجدى إيجاد معادلةٍ تضمن التوازن بين الانتماء والخصوصية القوميين والانتماء لسورية، وطناً ومجتمعاً، في نظام ديمقراطي يتأسّس على دولة مواطنين أحرار ومتساوين، في آن معاً.
هذه الأسئلة أو ما يعادلها جرأةً وصراحةً وجديةً مطروحة على قوى المعارضة، أيضا، التي هي مدعوّة لمناقشة المسألة الكردية، وهذا ما يجعلني أضم صوتي إلى صوت ميشيل في هذا الأمر، حتى لا نكرّر تجربة النظام الاستبدادي الإقصائي في طمس تعدديّة مجتمع السوريين وتنوعه، وسلبهم خصوصياتهم وحريتهم، وحتى نتمكّن من صوغ معادلةٍ جديدةٍ في عقد اجتماعي جديد، يعترف بمكونات المجتمع السوري الإثنية والطائفية، في إطار وحدة أرض سورية وشعبها، مع تأكيد ذلك في نصوص دستورية واضحة.
ما يجدر التأكيد عليه، هنا، هو الحرص على عدم افتعال معارك وهمية، أو الدخول في مناقشات بيزنطية، من حول الفيدرالية أو غيرها، لأن هذا سيكون من مهام الهيئة الدستورية مستقبلاً، وبالوسائل الديمقراطية، مع فهمنا أن الإصرار على الدولة المركزية مساوٍ تماماً للدولة الاستبدادية، أو قد يفضي إليها، ما يستوجب البحث عن خياراتٍ لشكل دولةٍ لا يُستبعد فيها أي خيار مسبقا، ولا يقرّر مسبقا من أي طرف، علماً أن فكرة الفيدرالية لا تتعلق بالكرد وحدهم، وإنما تتعلق بمختلف مناطق سورية، ولاسيما الأطراف التي ظلت مهمّشة، ومحرومة حتى من مواردها، ومن الافتقاد للخدمات المناسبة. ويستنتج من ذلك أن فكرة الفيدرالية لا تقوم على عمود الطائفية ولا الإثنية، وإنما على أساسٍ مناطقي أو جغرافي، وعلى أساس دولة مواطنين أحرار ومتساوين، وفي دولة مدنيةٍ ديمقراطية، أي دولة مؤسسات وقانون، بغض النظر عن الانتماءات القبلية، مع الحفاظ على خصوصية الجماعات القومية، لأن هذه جزءٌ من الحرية والديمقراطية.
لذا، نحن مدعوون اليوم جميعاً للإجابة على هذه الأسئلة المهمة، وصوغ إجماعات جديدة لسورية جديدة، سورية دولة مواطنين أحرار ومتساوين ودولة مدنية ديمقراطية.
لا تشي الصفحة الشخصية على موقع «فايسبوك» الخاصة بالراقص السوري – الفلسطيني، حسن رابح، بأن صاحبها سيقدم على الانتحار. ثمة مواقف سياسية ناقدة للأوضاع السائدة من سورية إلى فلسطين مروراً بلبنان. فقد جمع حسن، كأي سوري من أصل فلسطيني، بين العداء لإسرائيل ولنظام الأسد، وأضاف احتقاراً للممارسات العنصرية ضد السوريين والفلسطينيين في لبنان.
ووفقاً لهذا البروفايل، فحسن لا يملك دوافع عامة، تختلف عن بقية السوريين، للإقدام على فعل الانتحار، أي أن انتحاره ليس له أساس اعتراضي. ذلك أن أي واحد منا يكتب على صفحته يومياً الكثير مما سجله حسن، انطلاقاً من مواقف سياسية لا نمل تكرارها. أما قرار الانتحار فمرده مطارح أخرى لا يمكن كشفها بسرعة، لارتباطها بفردية المنتحر وخصوصيته، وأمسى فعل الانتحار نفسه جزءاً منها. ولعل إخراج البعض الحادثة مما هو خاص، وزجها في سياقات عامة عن اضطهاد السوريين والفلسطينيين في لبنان، ينتزع من حسن جزءاً من فرديته، ويسقط عنه مشروعية الانتحار، الذي أراده جوانياً، لا يرمي إلى احتجاج عمومي يتوسل قضايا كبرى وثورات.
تأثيرات الخارج، بما تحمل من حروب وقتل وظلم وتشريد، ساهمت في تشكيل وعي حسن الفردي، كأي فرد معني بمحيطه، لكنها لم تكن شرطاً لخطوة الانتحار التي تتصاعد أسبابها غالباً من داخل الذات احتجاجاً على الذات نفسها، بكل ما تحمل من تناقضات وتعقيدات. ما يعني أن الخارج جزء يفرز تأثيرات وليس كلاً يؤسس للفعل الانتحاري.
الربط السريع بين قرار حسن الفردي والأحوال المأسوية لبلده، والبلد الذي يقيم فيه، يكشف إلغاء فردية السوري وزجه في سياقات سياسية عامة. واللافت أن هذا التوجه جاء من مؤيدي الثورة، الذين لم يتنبهوا إلى أن إقصاء الفردي، وتوسيعه إلى العام، لعبة بعثية استخدمها النظام السوري سابقاً، ليحوّل شعبه قطيعاً يتحرك بنوازع مشتركة، بدل أن يكونوا أفراداً لديهم خيارات مختلفة. فالفرد يجب أن يموت فداء للوطن و «القائد»، أما أن يموت بقرار شخصي فهذا منبوذ ومدعاة للسخرية في بلاد القسوة البعثية.
لقد أراد هؤلاء أن يموت حسن من أجل القضية ومآلاتها، بمفعول ضدي، بينما اختار هو أن يموت لأجل نفسه. أرادوه خليل حاوي الثورة السورية، وأراد هو أن يكون حسن، فقط حسن، الراقص الشجاع، الذي يملك قرار موته.
بعث لي أحد القراء الأفاضل رسالة على بريده الإلكتروني يستفسر فيها عن الأزمة الراهنة في بحر الصين الجنوبي ومواقف كل من واشنطن وموسكو منها، وقد فضلت أن أرد عليه من خلال هذا المقال، زيادة في الفائدة وتعميم المعلومة.
«سبراتلي» هي مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي، لكل منها اسم مثل جزر «نانشا»، و«شيشا»، و«دونجشا»، و«هوانجيان». هذه الجزر تدّعي الصين ومجموعة من الدول الآسيوية، مثل الفلبين وماليزيا وفيتنام وجزيرة تايوان وسلطنة بروناي، حق السيادة على كلها أو بعضها، نظراً لموقعها الاستراتيجي (ثلث الشحنات البحرية العالمية تعبر ممراتها)، وما يُقال عن احتواء باطنها على ثروات هائلة من النفط والغاز.
وحتى عام 1988 لم تكن الصين تولي اهتماماً كبيراً بهذه الجزر، التي كانت مسرحاً لموقعتين حربيتين في عامي 1974 و1988 ما بين القوات البحرية الصينية والفيتنامية، وإن كانت تمارس السيادة الاسمية عليها. لكنها بعد ذلك، وانطلاقاً من خططها لمد نفوذها نحو الجنوب، أرسلت بكين قواتها لاحتلال الجزر والتمركز فيها. وفي محاولة ذكية منها لضمان عدم تدخل الأميركيين في النزاع بحكم ارتباطهم باتفاقيات أمنية ودفاعية مع بعض الدول المعنية بالنزاع، ولاسيما تايوان والفلبين، منحت بكين بعض الشركات الأميركية حق التنقيب عن النفط والغاز في تلك الجزر. ولهذا السبب صمتت واشنطن طويلاً عن الموضوع، بل أعلنت رسمياً التزامها الحياد، وسط غضب حليفاتها الآسيويات اللواتي طالبن تارة بالتحكيم الدولي، وتارة أخرى بعقد حوار شامل في المنطقة، تشارك فيه كل الدول المعنية بالمشكلة، إضافة إلى اليابان والولايات المتحدة، لمناقشة قضايا الحدود والمياه والأمن، والاستغلال المشترك لثروات بحر الصين الجنوبي.
في عام 2002 جرى التوقيع على مذكرة بين الأطراف المعنية بالنزاع، تحظر على أي طرف القيام بأية إجراءات أحادية استفزازية، وخصوصاً إقامة المنشآت العسكرية فوق الجزر أو استحداث ما يغير طبيعتها، لكن الصينيين لم يلتزموا بنصوص المذكرة عبر التذكير بأن الصين هي أقدم دول المنطقة، وأنها هي التي اكتشفت تلك الجزر منذ أكثر من ألف عام، ناهيك عن أنها توجد في نطاق بحر يحمل اسم الصين. كما أنهم اتهموا الفلبين ودولاً أخرى بجر المنطقة إلى مشاكل لم تكن موجودة قبلاً من خلال استيلائها بالقوة على نحو 40 بالمائة من الجزر والشعاب المرجانية في بحر الصين الجنوبي، بُعيد سماعها باحتمال وجود ثروات نفطية فيها. وقد دعم الصينيون وجهة نظرهم هذه بالزعم أن القوانين البحرية الدولية الحديثة، من تلك التي وقعوا عليها، غير صالحة للتطبيق في حالات تداخل الحقوق والمصالح، بل وتخلق مشاكل وتعقيدات إضافية، خصوصاً حينما يسعى طرف دون الأطراف مجتمعة باللجوء إلى طلب التحكيم الدولي. ولم ينس الصينيون في هذا السياق الإشارة إلى أن كل المعاهدات والوثائق التاريخية الخاصة بتحديد أراضي جمهورية الفلبين مثل: معاهدة واشنطن الإسبانية الأميركية لعام 1900 والدستور الفلبيني الصادر قبل عام 1997 لم يحتو على ما يشير إلى أن أي جزيرة من جزر بحر الصين الجنوبي تدخل في نطاق الأراضي الفلبينية.
في عهد إدارة أوباما الحالية، التي أعلنت على لسان وزيرة خارجيتها السابقة هيلاري كلينتون، أن واشنطن تعتمد سياسة «الاستدارة»، بمعنى تحويل اهتمامها من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، استبدلت الولايات المتحدة موقفها المحايد السابق من الأزمة، بموقف الانحياز إلى جانب حليفاتها الآسيويات، وقامت بتزويد الأخيرة بأحدث أدوات القتال، وشرعت أيضاً في استمالة عدوتها الفيتنامية القديمة، وذلك في محاولة منها لمحاصرة النفوذ الصيني المتمدد، فتسببت بذلك في استفحال الأزمة أكثر من أي وقت مضى.
أما روسيا، التي وضعت منطقة «آسيا/ الباسيفيكي» في المرتبة الرابعة لجهة أولويات سياساتها الخارجية، ولا توجد لها خلفية تاريخية مشتركة معها، فإنها أعربت مراراً عن التزامها الصارم بالحياد في أزمة بحر الصين الجنوبي، كما ناشدت جميع أطراف الأزمة على حل خلافاتها بالطرق الدبلوماسية. وموقف روسيا هذا دافعه هو الخوف من انفلات الأمور ووقوع نزاع عسكري في المنطقة يجرها جراً إلى ما لا تريد الانخراط فيه في ظل مشاكلها الحالية.
غير أن هناك عوامل أملت على موسكو مؤخراً أن تميل نحو بكين فيما يتعلق بهذا النزاع، على الرغم من أن هذا التغيير أحدث قلقاً لدى هانوي التي هي إحدى الدول المطالبة بحق السيادة على الجزر، وفي الوقت نفسه إحدى أهم الحليفات الاستراتيجيات لموسكو في آسيا، ففي أبريل 2016 قال وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف» إن بلاده لا تدعم تدويل النزاع في بحر الصين الذي تطالب به الدول الآسيوية، فما كان من بكين إلا أن رحبت بهذا الموقف الذي أزعج الفيتناميين كثيراً.
وهناك اعتقاد أن هذا الموقف الروسي المتعجل ما هو إلا انعكاس للاضطراب والخلل والتنافس السائد في العلاقات الروسية الأميركية، إضافة إلى أن نتائجه كانت عكسية! بمعنى أنه أظهر روسيا أمام الرأي العام الدولي في صورة الدولة المأزومة، التي لم تجد حلاً لأزماتها والعقوبات المفروضة عليها إلا بالارتماء الكامل في أحضان الصينيين ودعم مواقفهم على حساب فيتنام، التي هي أكبر مشتر في جنوب شرق آسيا للأسلحة الروسية بمختلف أنواعها، وأكبر عميل لهم في مجال بناء محطات الطاقة النووية.
بين أول يوم من عام ٢٠١٥ و اليوم شهدنا ظهورين للإرهابي المسردب بشار الأسد خارج مقر اقامته السري ، بين قواته التي انهكت و لم يبق منها إلا بضع الميلشيات التي تقاتل بدافع غريزي، يتطلبها بقائها أحياء بعضاً من الوقت بانتظار النهاية المحتومة لأي قاتل و داعم لطاغية سفاح.
اليوم لم يتغير المشهد كثيراً بعد عام و نيف من حيث المكان الذي ابتعد عن السابق بضع كيلومترات ، لكن هناك تغير ملحوظ في طبيعة اللباس الذي ظهر به الإرهابي و الذي ينم عن فقده ازاره "الحزام"، و الذي يدل عن فقده سلطات عديدة أبرزها عدم قدرته تأمين أي حماية أو سند لأي من أتباعه، و ظهوره بهذا الشكل ما هو إلا للقول "إني مثلكم أنتظر ساعة مقتلي أو عزلي و تغييبي".
رغم ما ذكرته آنفاً إلا أن المشهد المتعلق بوجبة الطعام لم يتغير ، وبات هناك متلازمة عنيدة بين الأسد و قواته و البطاطا المسلوقة الخالية من أي منكهات أو أمور دسمة، وهذا دليل أن لا تغير طرأ رغم كل كثافة الحضور الروسي و مليشيات الأخير، و كل ما يحدث عبارة عن تضخيم مطلوب من اللاعبين الدوليين بغية تحسين شروط التفاوض و انهاء الأمور بشكل يرضي الجميع و برضاء الجميع، و بأسلوب أقل ضرر ممكن بتضارب المصالح.
المتلازمة بين الأسد و البطاطا المسلوقة ، تذكرني بالمتلازمة بين سوريا و النظام الحالي ، و هي التي يحب العالم حمايتها بالإبقاء على هيكلية النظام مع تغيير بعض الوجوه، دون المساس بالأسس التي يقوم عليها من خلال ثلاثية الجيش و الأمن و الخارجية، ماعدا ذلك يمكن أن يتغير ، أي أن المتلازم بين الحل و بقاء النظام مستمرة، و لو طال أمر الإرهابي الأكبر بعضاً، الذي ظهر اليوم محاولاً استرجاع شيء من هيبته بعد أن أفقدته إياها روسيا و أذلته بعد استدعاء وزير الدفاع الروسي له بشكل مهين لأرض سوريا بالاسم و روسية بالفعل .
يسعى الإرهابي فيما تبقى له من أيام في الحكم أن يحافظ و لو على بعضاً من ماء الوجه، و يريد أن يرسل رسالة ضمنية لروسيا ، أنه يمكن أن يكون قوي بوجود حاشيته التي ظهر بينها والتفت حوله، و لكن يأبى النجاح أن يكون حليفه، فقد عجز عن تغيير نوعية الطعام، و حافظ على "البطاطا" المسلوقة كعنصر أساسي الدالة على أنه لن يغير السياسية التي ينتهجها مهما حدث، و مستمر حتى فناءه ،
روت لي ابنتي من نيويورك كيف اشتغلوا لمدة شهر وبالتعاون مع الحقوقي الأميركي «ديفيد كرين» لتعميم الصور التي هرب بها المدعو قيصر (وهذا اسم مستعار) من سوريا، ويقول القانوني «ديفيد كرين» إنه اجتمع بالقيصر وتحدث معه، وهو مختفٍ الآن باسم مستعار في بلد أوروبي. ومما روى عن تجاربه أنه لم يعد يتحمل التصوير (بعد قرابة 11 ألف جثة ماتت جوعاً وتعذيباً موثقة بـ55 ألف صورة) فقد كانت مهمته تصوير الجثث وتوريدها للقصر الجمهوري! ومن الغريب هذا التوثيق الذي قد يفتضح، ولكنه يذكر بالعقلية النازية الجهنمية، فهتلر لم يكن يرتاح قبل أن يرى النهاية لخصومه أو من يعتبرهم خصومه مصورين بفيلم حي من نوع 8 ملميتر في أيامهم! ويقول قيصر: وفي يوم كان أحد الضحايا صديقاً لهم فقرر الهرب لأنه سيكون الصورة القادمة والضحية التالية التي لا مفر منها.
ويتشكك «كرين» كثيراً في أن يتجاوز مجلس الأمن محلة الإدانة والدعوة إلى فتح تحقيق في المسألة، وذلك لمعرفته العميقة بهذا المجلس المنحاز وخاصة أن بعض زعماء الدول الكبرى فيه مهتمون لنجاة صديقهم الموهوب في القتل. وفي أميركا قام البعض بالتفاف مختلف من خلال الضغط في مجلس النواب والشيوخ الأميركيين، حتى قام الجمهوري كريس سميث (Chris Smith) بالتعاون معهم وعرض الفاجعة على لجنة مستقلة.
وحالياً تم تحضير خمس قضايا للرفع القانوني في وجه الأسد المفلت من العدالة بالفيتو الذي يسخره في صالحه بعض حلفائه. ولابد أن يكون للعدالة الدولية موقف ليس فقط في وجه النظام بل أيضاً في وجه بعض المجموعات المسلحة مثل «النصرة» و«داعش» وحتى بعض العناصر المحسوبة على «الجيش الحر» (روى لي صديقي طبيب الأسنان من بصرى الحرير كيف استسلم تسعة جنود للمعارضة المسلحة فقتلوهم ميدانياً).
يقول «كرين» عن خبرته الشخصية إن والده كان ضابطاً يخدم في الجيش الأميركي في ألمانيا الاتحادية ورأى وهو طفل معسكر «داخاو» الألماني حيث كان يجمع ويصفى المعتقلون. وقال لقد شممت رائحة الرعب وما زالت في أنفي حتى درست الحقوق، وكرست نفسي اليوم للسوريين، كما فعلت مع المجرم تشالز تايلور (رئيس ليبريا السابق المسؤول عن قتل مئة ألف أو يزيدون).
وحين يتحدث عن حملة بوش الابن يقول كنت أنا في وزارة الدفاع حين تمت التهيئة لاجتياح العراق، والحق أقول لكم، كانت من أجل النفط لا أكثر ولا أقل.
ومن أعجب ما يذكر الرجل عن قضية المجرم تشارلز تايلور أن عمله لم يسند من الحكومة الأميركية بل تمت عرقلته في بعض المراحل، ليكتشف بعجب أن تايلور كان عميلًا مدللًا ليس عند الاستخبارات المركزية (CIA) فقط، بل أيضاً المخابرات المركزية العسكرية (DFA)، وربما كان أحب إلى قلوبهم حتى لو قتل مائة ألف أويزيدون، أو مثل بشار 470 ألفاً من الأنام، وعطب مليونين وهروب عشرة ملايين! ومن أعجب ما يسرد أن هناك الكثير من المجرمين الذين لا يمكن جرهم لعدل أو عدالة أو محكمة أو هيئة لأنهم محروسون في المحافل الدولية بالفيتو غير المسؤول. لينتهي بالقول: إن الطريق لتحقيق العدالة طويل ومليء بالمفاجآت والمطبات، ولكن يكفي أننا نجحنا مرة في جر مجرم عتيد إلى العدالة، ووضعنا الأصفاد والسلاسل في معصميه، ومن نجح مرة في تحقيق العدالة فقد ينجح مرات.
ومن هذه الخلاصة نصل إلى أن الظلم في الأرض عريق، وبين الخلائق مستمر وعتيق، ومن ظلمات هذا الجو كان لابد من قانون وعدالة ووقف لمجرمي الحروب عند حدودهم بشكل حاسم.
لو أن الاستفتاء الذي يعرفه الغرب، وآخره في بريطانيا حيث أظهر تفوقا لمؤيدي خروج المملكة من الاتحاد الاوروبي جرى تطبيقه عندنا، لقال الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في إطلالته امس أن قرار الاكثرية في بيئته الحاضنة هو الخروج من سوريا. لكن نصرالله لم ينطق بهذا القرار الذي صار متداولاً على نطاق واسع في الايام الماضية. وتروي شخصية شيعية بارزة أنها فوجئت بعبارة يرددها امامها مناصرون للحزب تقول: "ماذا نفعل في سوريا؟" وذلك بعد معركة ريف حلب الجنوبي بين 10 و17 حزيران الجاري وأسفرت حسب المعلومات الرسمية للحزب عن سقوط 26 عنصرا ووقوع عنصر في الاسر. وبعيدا عن الجدل حول حجم خسائر الحزب في سوريا فإن الثابت هو تلاشي الامال في أحراز إنتصار عسكري ساحق في سوريا عموما وحلب خصوصا وحلت مكانها آمال في تثبيت الواقع الميداني فلا يتغيّر نحو الاسوأ كما ظهر في أعلام الحزب وإيران على السواء بالقول: "روسيا لأميركا: لن نسمح بتقدم المسلحين في حلب".
إطلالة نصرالله التي جاءت في ذكرى أربعين مصرع القائد العسكري البارز في الحزب مصطفى بدر الدين في ظروف غامضة في دمشق لم تغص في هذه الظروف ومنها معلومات عن إتصال تلقاه الاخير قبل وفاته ودفعه الى الانتقال من لبنان الى سوريا حيث لقي حتفه. وحتى يأتي اليوم التي تروى فيها الحقائق كاملة بات واضحا أن سوريا صارت مصيدة لـ"حزب الله" من القمة الى القاعدة وكانت فاتحتها إغتيال القائد البارز عماد مغنية قبل أعوام من بدء الحرب السورية في عمق المنطقة الامنية بدمشق ثم كرّت السبحة فوقع غيره في المصيدة ومنهم نجل مغنية جهاد في الجانب السوري من الجولان وأيضا سمير القنطار في دمشق وآخرهم بدر الدين. وأعترف نصرالله بخطر سوريا عندما قال في كلمته بذكرى مرور أسبوع على مقتل بدر الدين في 20 أيار الماضي: "... كنت أمنعه (أي بدر الدين) من موقع مسؤوليتي المباشرة عنه من الذهاب الى سوريا حرصا عليه وصونا له..." لكن هذا الاعتراف لم يمنع نصرالله من القول: "... باقون في سوريا وسيذهب قادة الى سوريا أكثر من العدد الذي كان موجودا سابقا...".
لا يختلف إثنان على أن قرار ذهاب "حزب الله" الى سوريا قرار إيراني من المرشد علي خامنئي. ولن يغيّر هذا القرار سوى المرشد نفسه. من هنا يفهم المرء طريقة تعاطي وكالة الانباء الايرانية (أرنا) امس مع بيان كتلة "الوفاء للمقاومة" التابعة للحزب، فتجاهلت الوكالة كليا الموضوع الرئيسي في البيان المتصل بالعقوبات المصرفية الاميركية وركزت فقط على تجديد الكتلة "إلتزامها دعم سوريا في مواجهة قوى الارهاب التكفيري".
لو كان في البيئة الشيعية حركة تشبه حركة "الامهات الاربع" الاسرائيلية التي مهدت لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان لأختلفت الصورة ولربما أعلن نصرالله الخروج من سوريا.
تبدو مواجهة الذات في اللحظات الحرجة صعبة، ومؤلمة. مع ذلك، فهذا الاختبار لا بد منه إذا أردنا تصحيح مسيرتنا وأوضاعنا. على ذلك يمكن القول أن ثمة أخطاء للمعارضة السورية، ولا ينبغي إنكار ذلك أو تجاهله، أولاً، لأن من يعمل يخطئ ويصيب. وثانياً، لأن تجارب الحركات والثورات السياسية قائمة أصلاً على الصحّ والخطأ، إذ لا وجود هنا لوصفات نموذجية. وثالثاً، لأن تجربة هذه المعارضة حديثة، وقد انبثقت مؤخّراً، وفي ظروف صعبة ومعقّدة تقدر بالسنوات وليس بالعقود. ورابعاً، لأن السوريين كانوا محرومين من الحياة السياسية، لذا فهم يفتقدون الخبرات في هذا المجال، مع الاحترام لكل تكوينات المعارضة، التي حاولت فرض ذاتها قبل الثورة طوال العقود الماضية، ودفعت أثماناً باهظة ثمناً لذلك.
مع ذلك، ففي الكلام عن المعارضة يفترض أن نلاحظ مسألتين، أولاهما، عدم الخلط بين المعارضة والثورة، فالأولى تخصّ الهيئات السياسية، وهذه قد تخطئ وقد تصيب، وقد تقصّر، أو تعجز عن القيام بما عليها، لأسباب ذاتية وموضوعية، وهذا ديدن كثير من الحركات الثورية عبر التاريخ. في حين تعبّر الثورة عن الشعب، الذي يحاول مصارعة النظام، وفقاً لإمكانياته، وخبراته (وهي محدودة طبعاً)، ووفقاً لمستوى تطوره السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي. أما المسألة الثانية فهي أن التمييز بين المعارضة والثورة لا يعني أن نقد المعارضة مسموح ومطلوب، وأن نقد الثورة غير ذلك، فالنقد مطلوب في كل الحالات لتصحيح أو لترشيد المسار والخطابات والبنى وأشكال النضال، لكنه يفترض أن يؤسس كل ذلك على الانحياز للثورة. بمعنى أكثر دقة أريد أن أقول بصراحة إن موقف أي كان من المعارضة، قبولها أو رفضها، لا يفترض أن يؤثّر في الموقف من ثورة السوريين العادلة والمشروعة، إذ لا يجب الخلط في الموقف الأخلاقي والسياسي بين الاثنين.
من تجربتي، ومع كل الكارثة الحاصلة في سورية بسبب النظام، لا سيما في محاولاته دفع الثورة للانحراف عن أهدافها الأساسية المتعلقة بالتغيير، وإقامة نظام ديموقراطي، أو دولة مواطنين، باستخدامه أقصى قدر من العنف، وتحويله الصراع من السياسة إلى صراع على الوجود، ومحاولته إسباغ صبغة طائفية على الثورة، وإظهار الأمر على أنه صراع ضد الإرهاب، ينبغي الاعتراف أن النظام استطاع أخذ بعض القطاعات المترددة من السوريين، ليس قبولاً منها به، وإنما بسبب الخوف من بطشه، أو بسبب انعدام اليقين من البديل.
هكذا، فلقد أخطأنا كمعارضة في عدم انتباهنا للدرجة المناسبة لاستراتيجية النظام هذه، وبعدم تمسكنا بانتهاج خطاب واضح وحاسم، خطاب ديموقراطي يتأسس على المواطنة، والحق في الحرية والعدالة والمساواة، في سورية متنوعة ومتعددة وديموقراطية ومدنية (لا دينية ولا طائفية ولا عسكرية). نعم لقد بات هذا الخطاب، الذي وسم الثورة في بداياتها الأولى، شبه غائب، وباتت لدينا خطابات مختلفة، ومتخلفة، لا ترقى إلى التضحيات التي قدمها السوريون من اجل حقهم في العيش بحرية وكرامة.
أيضا، أخطأت المعارضة في تغليبها البعد العسكري على البعد الشعبي في الثورة، وفي غلبة العسكرة على مظاهرها، وعدم اتباعها الكيانات العسكرية لرؤية سياسية واضحة، وفي هذه الفجوة بين الكيانات السياسية والعسكرية، وسكوتها عن الخطابات المتطرفة، ذات الصبغة الدينية والطائفية والتي تساهم مع النظام في صبغ سورية بلون واحد، تعسّفي وإقصائي.
ضمن هذه الأخطاء يمكن الحديث عن علاقات التبعية أو الارتهان لهذه النظام او ذاك، وهو أمر قد يبدو اضطرارياً بسبب الظروف المأسوية لشعبنا، وبسبب ضعف الإمكانيات، لكن هذا الوضع بالذات هو الذي يضع صدقية المعارضة على المحك، وفي نطاق المساءلة في شأن سلامة مواقفها، وصوابية خطاباتها، وخطط عملها. ما أعنيه هنا أن المعارضة يمكن لها أن تعزز مكانتها من خلال ترسيخ صلاتها مع شعبها، وإيجاد هيئات عمل تستطيع من خلالها تعبئة طاقاته، واستمداد الحيوية والفاعلية منه، كما من خلال حرصها على تمثيلها مصالح السوريين، إزاء الدول الصديقة أو الداعمة. وباختصار، نعم هذا ما ينبغي أن تفعله المعارضة لتعزيز مكانتها القيادية، أي أن احترامها ذاتها هو الذي يفرض على الآخرين احترامها، وتوطيد صلاتها مع شعبها هو الذي يمنحها القوة والاستقلالية.
بيد أن الحديث عن أخطاء المعارضة، أو نقدها فقط، لا يكفيان، أو لا يجديان وحدهما، لأن المطلوب زجّ مزيد من الجهود والطاقات في إطار قوى الثورة والمعارضة، بمعنى أن بعض المسؤولية يقع على عاتق القوى التي ما زالت لا تميل للانضواء أو للاشتغال ضمن «الائتلاف» أو ضمن الكيان الجمعي للمعارضة، كـ «الهيئة العليا للتفاوض»، كما يقع على عاتق الأفراد الذين يمتلكون الخبرات والطاقات التي يمكن أن تغني المعارضة، وأن تسهم في إضفاء الحيوية عليها، وتطوير خطاباتها وأشكال عملها، إذ يوجد كثيرات وكثيرون ممن يأنفون العمل في الكيانات الجمعية لسبب أو لآخر. كما أن بعض المسؤولية يقع على عاتق الكتل الاجتماعية التي لا تشتغل كقوة ضغط على المعارضة من اجل توسيع هيئاتها، وتحسين مستوى تمثيلها، ومن أجل تطوير عملها، وترشيد خطاباتها، لا سيما أن مثل هذه الكتل باتت موجودة، خارج سيطرة النظام، في المناطق المحررة، وفي مناطق الشتات في البلدان العربية والأجنبية، علماً أن مثل هذا الضغط يحصل أحياناً لكن بطريقة عفوية وفردية وعبر وسائط التواصل الاجتماعي.
نعم نحن في حاجة إلى تطوير أوضاعنا، لكن هذا في حاجة إلى تضافر كل الجهود أيضاً، فالعملية الثورية في سورية معقدة جداً، وتعترضها صعوبات كثيرة. وعليه لا يكفي رمي المعارضة بالتقصير أو بترداد أخطائها، وإنما المطلوب أكثر من ذلك، مطلوب المساهمة من الجميع، وبخطوات عملية، لوضع شعبنا على سكة الحرية والمواطنة والديموقراطية... سورية للجميع.
يخطف “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين الأضواء على المسارح السياسية ويجابه أو يحارب من أوكرانيا والجوار الروسي إلى سوريا. وعبر اندفاعته السياسية والعسكرية يريد أن يثبت أنه غير معزول بسبب الحرب الباردة المحدودة أو العقوبات الغربية وأنه على العكس يسجل النقاط.
عبر اختبارات القوة المتنوعة والتوتر غير المسبوق مع حلف شمال الأطلسي والاستمرار في الانغماس في سوريا، يمارس سيد الكرملين لعبة المبارزة الكلاسيكية ويتصور أن امتلاكه الآلاف من الرؤوس النووية والصواريخ الاستراتيجية وخشية واشنطن باراك أوبـاما من “المجابهة الشاملة” يخولانه بواسطة الابتزاز والاختراق تحقيق رهاناته وتعزيز موقع بلاده العالمي، بَيْدَ أن اللعبة المفتوحة مع القوى الغربية والناتو وتعقيدات الوضع على الساحة السورية وحجم مصالح القوى الإقليمية وتصميم مناهضي منظومة بشار الأسد، يمكن أن تبدد على المدى المتوسط رهانات بوتين وتنقلب لعبة الروليت على مصالح روسيا، إذ أنها لعبة حظ مميتة ولا يعلم من يغامر بها إذا كانت الرصاصة الأخيرة ستكون من نصيبه.
في مرحلة الاضطراب الاستراتيجي العالمية يصعد نجم بوتين؛ الرئيس المتمرس بالأمن والمحارب المختال من الشيشان إلى جورجيا وأوكرانيا، وهو أيضا السياسي الداهية الذي أخرج بلاده من حقبة السبات أيام بوريس يلتسين ونسج صلات مصالح يتحكم بها مع أصحاب الرساميل وما يسمى الزمر أو المافيات. ويحاول الرئيس الروسي الحفاظ على شعبيته الداخلية من خلال استعراض العضلات والمغامرات المحسوبة في الخارج من أجل التغطية على الفشل الاقتصادي ومشاكل روسيا الهرمة، ليس هناك من تردد في استخدام كل الأساليب البهلوانية سياسيا وعسكريا. قبل زيارته إلى الصين نهاية هذا الأسبوع تحدث الرئيس الروسي بإصرار عن تمسك بلاده بالقانون الدولي لحل الأزمات واحترام سيادة الدول، لكن من يراقب فيديو لقاء وزير الدفاع الروسي بالرئيس السوري في قاعدة حميميم يلاحظ عدم اهتمام موسكو بحفظ ماء وجه حلفائها، ومن يقرأ تقارير المنظمات المحايدة عن استخدام روسيا للقنابل الحرارية المحرمة دوليا وللفوسفور الأبيض في قصف مناطق في حلب، يستنتج عقم وتناقضات الخطاب البوتيني ويتذكر أن قنابل النابالم الأميركية لم تغير مجرى التاريخ في فيتنام وأن كل أنواع السلاح لن تمكن روسيا من التحكم بسوريا على المدى المتوسط.
بعد زيارة بنيامين نتنياهو الأخيرة إلى موسكو، والاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع الروسي والإيراني والسوري في طهران، وبلورة التقاطعات الروسية مع إسرائيل وإيران على الساحة السورية، اهتز بشكل بسيط السقف الأميركي نتيجة تفاقم الوضع الميداني وعدم احترام تفاهمات كيري – لافروف إلى حد أن البعض في واشنطن أخذ يهزأ من وزير الخارجية المخضرم ويطلق عليه لقب “كيروف”. في هذه الأثناء وبالرغم من كل الحضور الروسي في سوريا يصعب على بوتين لعب دور الحكم والخصم أو عراب الحل السياسي، وهو غير قادر على إلزام النظام في دمشق فك الحصار عن مئات الآلاف من السوريين أو إطلاق المعتقلين. إزاء الاستعصاء الداخلي والخارجي، صدرت مذكرة الدبلوماسيين الأميركيين الذين عملوا أو تعاطوا مع الملف السوري وفيها مطالبة بتغيير الأسلوب ودرس احتمال توجيه ضربات للنظام السوري كي يلتزم بوقف الأعمال العدائية، وسرعان ما تفهم جون كيري الأمر في مسعى للضغط على نظيره المتجهم الدائم سيرجي لافروف، والغريب أن موسكو أخذت هذا الموضوع على محمل الجد وانبرى ميخائيل بوغدانوف، نائب لافروف، والسيدة ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية للتحذير من أي مجازفة أميركية، ومن أجل المزيد من التشويق في مسلسل رمضاني من نوع آخر جرى الكشف عن تفادي صدام بين مقاتلتين أميركية وروسية في الجنوب السوري، لكن جرى ختام المشهد الدرامي المصطنع بتراجع الشريف الأميركي وقول الناطق باسم البيت الأبيض رفض إدارته الانجرار إلى أي مجابهة شاملة مع روسيا، وهكذا لا يقبل الرئيس باراك أوباما أن يمنح دبلوماسيته ورقة التلويح بالقوة، ويترك الملف السوري عمليا في عهدة نظيره الروسي، بينما يتعامل معه بشكل مختلف في الجوار الروسي إذ تستمر العقوبات ضد موسكو بسبب أوكرانيا ويكشر الناتو عن أنيابه في بولندا ورومانيا وبلدان البلطيق.
ومن الواضح أن إدارة أوباما ترفض المقايضة أو المساومة بين الملفات المختلفة، وتفضل التركيز على الحرب ضد داعش واستمرار العمل مع روسيا وفق مسار فيينا والقرارات الدولية، وحسب مصدر أميركي معني بهذا الملف سيكون هناك تأكيد على موعد الأول من أغسطس لبدء المرحلة الانتقالية، وسيكون ذلك المحك للعلاقة مع موسكو على مدى الأشهر الأخيرة من ولاية أوباما ومع الإدارة الجديدة بحكم الأمر الواقع.
انطلاقا من هذه المعطيات انتهز فلاديمير بوتين فرصة انعقاد المنتدى الاقتصادي الدولي في سان بطرسبورغ خلال الأسبوع الماضي، وبحضور وجوه دولية بارزة (الأمين العام للأمم المتحدة، رئيس المفوضية الأوروبية، ورئيس الوزراء الإيطالي) في ما يطلق عليه منتدى “دافوس الروسي”، وأراد أن يعطي الانطباع أنه لا يمكن الالتفاف عليه وأنه أخذ يستعيد الأمجاد السوفيتية وهو صاحب القول الشهير “نهاية الاتحاد السوفيتي كانت أكبر خطأ جيوسياسي في القرن العشرين”، لكن الواضح بالنسبة إليه أن هذه العودة لم تكن عبر البوابة الأوكرانية، بل عبر اختراقه الاستراتيجي في سوريا. ومن هنا كان طرحه لنظرته حول الحل السياسي في سوريا، ومرة أخرى تحدث بوتين باسم الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك خلال جلسة نقاشية في المنتدى الاقتصادي العالمي إذ قال “الأسد ‘ملتزم’ بالعملية السياسية لحل الأزمة السورية، وأنه وافق خلال زيارته لموسكو على تطوير دستور جديد وإجراء انتخابات جديدة في سوريا”. وأبرز بوتين تمايزا مع وجهة نظر دمشق وطهران بقوله “المشكلات في سوريا تتمحور حول مكافحة الإرهاب، ولكنه ليس كل شيء، إذ أنه في جوهر هذا الصراع هناك تناقضات داخل المجتمع السوري، والرئيس الأسد يدرك ذلك”، مضيفا “السؤال ليس حول السيطرة على المناطق المختلفة، رغم أهمية ذلك، السؤال هو حول توفير الثقة بين جميع أطراف المجتمع”.
بعد ذلك حدد بوتين خارطة الطريق الروسية وأبرز عناصرها:
تشكيل حكومة فعالة، يمكن لجميع سكان البلاد الوثوق بها.
المشاركة بنشاط في عملية تطوير الدستور الجديد.
إجراء انتخابات جديدة؛ انتخابات مجالس المحافظات، وانتخابات برلمانية.
ويلاحظ أن الانتخابات الرئاسية غير مطروحة، بل يكشف بوتين عن رفضه محاولة من أسماهم الشركاء الغربيين إعادة هيكلة السلطات السورية وهذا يعني حسب رأيه رحيل الأسد. من دون مواربة ومن دون مفاجأة يتمسك بوتين بورقته السورية ويحاول أن يعيد إنتاج النظام مع عدم حسم مصير رأسه وعدم احترام تفاهمات فيينا التي تقول ببدء حكم انتقالي يمارس كل صلاحيات السلطة التنفيذية. إنه التسويف وإنها المراوغة على الطريقة البوتينية. يرفع القيصر الجديد الصوت ضد أعمال الناتو العدائية في جواره لمجرد إجراء مناورات وتركيز منظومات دفاع صاروخي، بينما يشن في سوريا حربا من دون هوادة ويستفيد من الخلل في ميزان القوى الدولي كي يفرض استمرار نفوذه.
يقر رئيس أركان الجيش الروسي (أو يناور ليغطي ضربات روسية قادمة) أن الوضع في سوريا يزداد تعقيدا، ومن الواضح أن التدخل المحدود وعدم الفعالية في التنسيق العملي بين الروس والمحور الإيراني وارتباطات موسكو مع واشنطن وإسرائيل، تجعل رهانات بوتين صعبة المنال وتترك الساحة السورية مسرحا للعبة الأمم وشعبها منسي ومتروك.