مئتي يوم من الموت المؤلم جداً ، والبطيئ جداً ، والصامت جداً ، انتهت ببيان عبارة عن عشرين سطراً حمل ترهات أممية ، بمشاعر خلبية ، لتختمه بجملة "أن النظام وافق على ادخال المساعدات" لمن تبقى فيه رمق داخل مضايا ، لكن بشرط أن يكون هناك مسساعدات أكبر لكفريا والفوعه الشيعيتان ، لينتصر حزب الله بمساعدة الأمم المتحدة ، التي وقفت صامتة بخبث طيلة ٢٠٠ يوم ، لتصل لهذه النتيجة .
مئتي يوم كان العالم بأثره بحكوماته ونظمه ومؤسساته صامتاً أمام الموت جوعا في مضايا ، لم يكن جاهلا أو غير عالما بما يحدث وبأدق التفاصيل ، لكنه شريك ذكي وفي نفس الوقت ( حقير ) في قتل فئة معينة من الشعب السوري للتتحول هذه الفئة إلى أقلية ويتم توليد أقلية لتتحول إلى أكثرية ولو كانت بزراعة أعضاء خارجية.
في مضايا عرب سنة رفضوا التشيع ، رفضوا أن يحكمهم الشيعة ، فواجه الموت قصفاً و ذبحاً و قنصاً ، و آخيراً حصاراً و جوعاً و برداً ، فاشترك العالم ضدهم ، حاصرهم حزب الله على الأرض ، و صم العالم آذانه ، لتحقيق رغبة القتلة ، ويتم ايصال مزيداً من الطعام و الشراب لمن يقطنون في كفريا و الفوعة ، مقابل فتات المساعدات سيتوجه إلى مضايا ليمنح سكانها فرصة قصيرة للفكاك من براثن الموت ، فيما ستكون مساعدات القريتين الشعيتين ، ليزداد سكانها قوة و تجذر في الأرض .
طوال السنوات الماضية لم نسمع عن وجوع مجاعة أو موت أي شخص في تلك القريتين بأي طريقة من الطرق التي يموت فيها السنة العرب في أي مكان محاصر في سوريا عموماًِ و في مضايا و بقين على وجه الخصوص ، فالمساعدات تصلهم عن طريق الجو بالحوامات، ويساهم أرزال الأرض بتهريب المزيد، و وتأتي الأمم المتحدة لتقدم لهم ما يناسب صحتهم .
في حين أن مضايا و الزبداني يحاصرون براً و جواً و يضغط عليهم ليستنفذوا مداخراتهم كاملاً ، وويصلون إلى مرحلة تسليم أسلحتهم تحت ضغط الجوع ، و أخيراً يتركوا ليموتوا بألم شديد ، و لكنه صامت ، فلا طاقة لإطلاق أي "آه"، وحتى عندما يتم ايصال مساعدات لهم ، يتم ايصالها فاسدة منتهية الصالحية ، ليتذوق الموت سماً ، فلا يجوز أن يكون هناك موت غير مجرب ، فأنت في أرض سكانها باتوا أقلية ، والعالم سعيد بتكثير تلك الأقلية الغريبة .
لا مسوّغات مقنعة يمكنها أن تُفنّد، وفق المعايير الدولية لحقوق الإنسان، انتقادات تلقتها السعودية، لتنفيذها حكم الإعدام بحق 47 شخصاً من مواطنيها دفعة واحدة. وقد يصعب على المدافعين عن الفعل الذي جاء إعلانه مفاجئاً ومدوياً أن يزعموا خلوَّه من مضامين سياسية ترتبط بانتماء المحكومين إلى قوى مذهبية متطرفة في المعسكرين، السني والشيعي، كما قد يصعب، أيضاً، على المشككين بوجود شبهات كهذه، أن يدينوها، من دون أن يجدوا من يلفت انتباههم إلى أن رد الفعل الإيراني بدا كأنه يفسر غامضها، أو يبرّرها، على غير ما أراد أصحابه.
يختلف صوت ألمانيا، أو كندا، مثلاً، حيال هذه المسألة، عن صوت إيران. الأولى والثانية، ومعهما دول أخرى، انتقدت وندّدت انطلاقاً من موقف مبدئي يناهض عقوبة الإعدام، كانت لها خلفيات سياسية، أو لم تكن، بل حتى لو كان المحكومون من منفذي ما تسميها الهجمات الإرهابية، بينما الأخيرة تعرب بصراحة عن مباركة كل أعمال الموت في المنطقة، طالما أنها تقع على الأغيار الذين لا يصطفون إلى جانبها.
فمن ضمن قائمة ضحايا القصاص التي أعلنتها الرياض، تجاهلت طهران 46 اسماً، وانشغلت وحلفاؤها وقادة مليشياتها في المنطقة، من نوري المالكي إلى حسن نصر الله، بترديد اسم واحد فقط؛ نمر باقر النمر، رجل الدين الشيعي الذي اشتهر بمناهضة نظام الحكم السعودي، والذي تقول سيرته الذاتية، في أحد أهم فصولها، إنه غادر بلدته العوامية في محافظة القطيف، منذ مطلع شبابه، ليدرس العلوم الشرعية في حوزة قمّ الإيرانية، وأقام هناك نحو عشر سنوات، ثم رحل عنها ليقيم سنوات أخرى في دمشق، قبل أن يعود إلى بلاده.
لم يكن في وسع الجمهورية الإسلامية، بالطبع، أن تتصرّف على غرار الدول المتحضرة، فتدين أحكام الإعدام، من حيث المبدأ، لأن سجلها الراهن يزخر بمئات القصص المأساوية عن نصب المشانق لعرب الأحواز، في الساحات العامة، تنفيذاً لأحكام قضائية صورية. ولم يكن في وسعها، وهي الدولة الدينية الثانية في العالم، بعد إسرائيل، أن تكتفي بالحداد، وإقامة "اللطميات" حزناً على الشيخ النمر، لأن قيادتها الطامحة إلى توسيع نفوذها الإقليمي ما انفكت تقتفي خُطا الحركة الصهيونية في تحويل الدين، بل المذهب الديني، إلى قومية، تتيح لها التحكم بحشود الشيعة في دول الجوار العربي، لاستخدامهم وقوداً في مشروع الهيمنة الفارسية على أوطانهم، بكل ما يفرضه من حروب أهلية، وسفك دماء.
لذلك، بدا الصراخ المتعالي في إيران مؤشراً فورياً على شدة الوجع الذي أصابها بإعدام ربيب حوزتها الدينية، ثم جاء رجع الصدى ندباً ونواحاً ووعيداً بالانتقام في بعض العراق وبعض لبنان، ليعكس ما كان يُراد للنمر أن يكونه في بعض السعودية، على ضوء خُطَب قديمة له، قيل إنه هدّد فيها بانفصال المنطقة الشرقية عن المملكة، ما لم ينل أبناؤها الشيعة حقوقهم.
ومع تصاعد رد الفعل إلى حد الاعتداء على الهيئات الدبلوماسية السعودية، صار واضحاً أننا أمام جنون قومي فارسي، يلتحف بعباءة الإسلام ويعتمر عمامة الشيعة، فيجرؤ مرشده الأعلى، علي خامنئي، على إطلاق الوعيد بما سماه "الانتقام الإلهي الذي سيطاول الساسة السعوديين لإراقتهم دم شهيد مظلوم من دون وجه حق"، بحسب قوله، ولكأن الله عز وجل يُرضيه، مثلاً، إرسال إيران خبراء وعصابات الموت للمشاركة بقتل مئات ألوف البشر في سورية والعراق، أو لكأن دم نمر النمر أقدس عند خالقه من دماء أطفال مدينة مضايا ونسائها وشيوخها، وقد تدفقت، أخيراً، صور موتهم تحت وطأة جوع مفروض عليهم ببنادق الولي الفقيه، واضطروا بسببه إلى أكل لحم القطط والكلاب، دونما جدوى.
تُرى؛ إذا لم تكن تلك هي الفاشية الدينية، فماذا يمكن أن تكون؟
وضع مقاتلو حزب الله تسعيرة للمبادلة على حواجزهم التي تطبق على مضايا، القرية السورية في القلمون الغربي. مبادلة بندقية مقابل عشرة كيلوغرامات من الطعام، دراجة نارية مقابل 10 كيلو اخرى، سيارة مقابل 15 كليوغرام
للوهلة الاولى يبدو ان العناصر هؤلاء يسعون الى تجريد المنطقة من سلاحها، ولكن في الحقيقة لقد دب الفساد واستحوذت تجارة الحرب على عناصر الحزب، سواء اكانت قيادته تعلم بالامر ام لا، فلا فرق، لقد غرق الحزب في تجارة الدم والموت، واصبح شبيها الى حد بعيد بالنظام السوري وبحزب البعث نفسه.
على ابواب مضايا المحاصرة يتم تسلم السيارات، والدراجات النارية، والبنادق، وكل ما يمكن ان يخطر على بال، مقابل بضعة كيلوغرامات من الطعام. عناصر الحزب تعيد بيع ما تقايضه بالطعام لاي راغب سوري بالشراء، البنادق والدراجات النارية والسيارات، والادوات المنزلية الكهربائية بضائع رائجة في سوريا، واقتناء سيارة لم يعد بحاجة لاوراق رسمية بحال كنت تتمتع بحماية احدى المليشيات في سوريا او كنت على علاقة وطيدة بمخابرات النظام واجهزته العسكرية.
اما اهالي مضايا فقد ذاقوا الامرين من الحصار الذي تجاوزت ايامه المئتين، البلدة كانت تضم 16 الف قاطن، ومع اشتداد المعارك في محيطها وسقوط البلدات في القلمون بيد حزب الله بدأت تستقبل وافدين من القرى المحيطة، حتى باتت تضم اكثر من 40 الفا من السكان.
والان بدأ الموت يحصد الرجال والنساء والاطفال، و”حال الثوار كحال كل الناس” يقول ابو عمر، احد الموجودين في مضايا واللاجئين اليها من قرية اخرى تعرضت للقصف والتهجير منذ اشهر.
لم يعضنا الجوع فقط، لقد انهكنا، واصبح الناس يهيمون في الشواع نهارا، بحجة البحث عن طعام، ثم يعودون الى منازلهم بعد ان يهدهم التعب ليناموا دون التفكير بالجوع او البرد” يقول الشاب الذي يعلم ان مصيره بحال خروجه من البلدة الاعتقال، والتعذيب او التطويع بالقوة في جيش النظام.
منذ بداية الثورة عملت الى جانب الثوار، واستشهد ثلاثة من اخوتي، وثم استشهد والدي، وتركت عائلتي في مكان ما، ولجأت الى مضايا، ودارت بي الايام وها انا محاصر هنا، واعاني الجوع” يقول ابو عمر، “لم يكن الدخول سهلا، الا ان ضابطا في جيش النظام مكنني من الدخول دون التفتيش في اوراقي”.
صباحا يستيقظ ابو عمر، ويتجه الى السوق في القرية، التي اصبحت تضم حوالي اربعين الفا من السوريين اغلبهم من اللاجئين من القرى المحيطة، وشأنه كشأن اغلب المتواجدين في السوق، يسير من هنا الى هناك بحثا عن شيء يمكن شراؤه، وطبعا قلما يجد شيئا في الاسواق، بعض اوراق العريش، او حتى اوراق شجر التوت، تعرض للبيع، ويشتري كل ما يقدر عليه.
في الصباح يتناول اهل مضايا وسكانها بعض البهارات المغلية بالماء”، يقول ابو عمر، “ليس في مضايا كهرباء، ولا وسائل تدفئة، حتى الحطب لم يعد متوفرا، وطبعا لا يوجد وقود او مازوت، الماء متوفر لحسن الحظ، والجميع يطهي البهارات، او اوراق الشجر بالماء”.
يتناول الاطفال الماء المغلي والبهارات كطعام افطار، ومنذ ان بدأت هدنة الزبداني توقف القصف، فراح الاهل يرسلون ابناءهم الى المدارس.
الناس ترسل الاطفال الى المدارس ليس لتحصيل العلم، بل لدفعهم الى الخروج من المنازل، ولتركهم يتعبون قبل العودة الى المنزل والنوم دون السؤال عن طعام او دفء”، ولكن هذا الاسلوب لم يعد ناجحا، فحتى المدارس لا تستقبل الاطفال اكثر من ساعتين يوميا، فلا قدرة لاحد على تحمل اطفال يعانون من الجوع.
في الشوارع تجد كل الناس مثلي، يسيرون باحثين عن رز، او برغل، وطبعا الكل يعلم انه لن يجد شيئا، ولكن نهيم على وجوهنا لننسى جوعنا، ولنتعب حتى نعود ونتمكن من النوم، وهناك دائما من يحاول التوجه الى الحواجز لاستجداء الطعام من جنود النظام او من عناصر حزب الله” يقول ابو عمر.
تتجه امرأة مع طفلها الى احد حواجز النظام المحيطة بالقرية، تستجدي رغيف خبز للطفل، فيجيبها العنصر على الحاجز “لا علاقة لنا، اذهبي الى عناصر حزب الله” وحين تصر على الطلب يصرخ فيها “عودي الى زريبتكم” يصرخ الطفل ما ان يبتعد عن الحاجز، يطلب الطعام من امه، تضيق الام ذرعا به، يعود ليصرخ “انا جائع”، تجيبه “حين نصل الى المنزل تنام”، يصرخ الطفل الجائع “منذ اربعة ايام لم تطعميني، انا جائع ولا اقدر ان انام”.
الغداء في مضايا هو ورق عنب مسلوق بالماء، او ورق شجر التوت مسلوق، وبعد الغداء انتفت عادة شرب الشاي السورية. “كيلوغرام السكر بـ 60 الف ليرة سورية (153 دولار اميركي )، وهو ما لا يتحمله احد تقريبا في مضايا. ومن كان يدخن اوقف عادة التدخين، فقد اصبح سعر علبة الدخان 12 الف ليرة سورية (30 دولار اميركي).
يتعب الناس من السير في الشوارع في القرية، البعض يهيم على وجهه دون وجهة، واخرون يتحركون بحثا عما يقيت اطفالهم، وعندما يشتد اليأس يحاول البعض الخروج تسللا من القرية، فتصطادهم نيران قناصة حزب الله، او ينفجر بهم احد الالغام الستة الاف المحيطة بحقول القرية وتلالها، ويفقد المحظوظين منهم اطرافهم، بينما يقتل الاقل حظا على الفور دون ان يجدوا من يسعفهم.
محاولات الفرار اكثر من ان تعد، احد سكان مضايا يقول ان المحاولات الناجحة نادرة، الالغام تتكفل بقتل من يحاول الخروج، ومن يتجاوز الالغام سيجد قناصة يردونه بطلقة، وكأنهم يتمرنون على صيد الارانب.
وعلى الرغم من ان القرية لا تتعرض للقصف، الا انها تعيش واقعا اسوأ من القصف، البعض في مضايا يناشد ربه بعد الصلاة باسقاط وقف اطلاق النار وخرق الهدنة، “الموت في القصف وتحت البراميل المتفجرة اسهل مما نعيشه” يقول ابو عمر.
وبحال ارادت عائلة مكونة من ستة اشخاص ان تتناول طعامها بشكل طبيعي في مضايا اليوم كما كانت تفعل قبل الحصار المستمر منذ اكثر من 200 يوم، فان كلفة ذلك ستكون حاليا 400 الف ليرة سورية يوميا (1000 دولار اميركي)، وهو ما لا يتوافر لاي عائلة موجودة في المنطقة.
مقاتلو الجيش الحر ايضا يعانون كباقي السكان، بدأت العلاقة بين السكان والمقاتلين بالتراجع، علما ان المقاتل يعيش على البهارات المغلية مع الماء واوراق الشجر، ولكن ثمة ما يدفع السكان الى اعتبار ابنائهم الذين يحملون السلاح، مسؤولين ايضا عما الت اليه الامور.
يطلق ابناء مضايا واللاجئين اليها اسم تجار الدم على بعض من قيادات المجموعات المقاتلة، وبعض المدنيين الذين امتهنوا شراء المواد المهربة، او المبادلة مع عناصر حزب الله بالمال والسلع، هؤلاء التجار هم من يشكلون اليوم الفئة الثرية في القرية، ويعيشون بحماية بعض قادة الجيش الحر، بينما ينظر اليهم السكان بصفتهم مصاصي دماء يتعيشون ويثرون من موت الالاف جوعا تحت حصار خانق.
لم يبق الكثير لتناوله على مائد الطعام في مضايا، منذ ايام قليلة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة قط يذبح، ونسبت الصورة الى سكان من مضايا يعزمون على تناول القط المذبوح.
نحن نتناول لحم الكلاب والقطط” يقول ابو عمر، “صورة القط المذبوح صحيحة، لقد اقمنا وليمة على لحم هذا القط، لم يعد يمكننا توفير اي شيء، لقد توقفت الاعمال منذ اكثر من سبعة اشهر، وما كان متوفرا من اموال يكاد ينفد لدى الجميع، بعض التحويلات تصل عبر تجار الموت، ولكن لا شيء يسد الرمق، واذا توفر المال فلن تجد ما تشتريه به”.
تغيب الفطنة بسبب أو بدونه عن المعارضة السورية بكل أطيافها ، و لا سيما السياسية ، التي تصر على الوقوع في نفس "الجورة" مع ذات الشخص ، و بنفس الاسلوب ، لتقدم خدمات للعدو ، إما عن غباء أو عن خبث القيادة الخفية أم عن خبثهم أنفسهم .
دخول عدد من الجهات في اطار مؤتمر المعارضة الذي عقد في الرياض الشهر الفائت ، وحسابها على المعارضة ، جعل من المعارضة ذاتها ليست بمعارضة ،و أقرب ما تكون للنظام منه للشعب ، وفق المنهجية التي تسير عليه ، ووفق ما هو مرسوم من الدول الفاعلة في الملف السوري .
انسحاب "لؤي حسين" يؤخذ على منحيين ، سلبي أو إيجابي . غبي أم ذكي ، و في كلا الأحوال له فوائد سنأتي على ذكرها مع الشرح لسلبية و ايجابية انسحاب "حسين " من الهيئة العليا للتفاوض التي ستتولى عملية المفاوضات مع النظام تمهيداً لعملية الانتقال السياسي وفق قرار مجلس الأمن ذي رقم ٢٢٥٤ .
حسين الذي زار الائتلاف بعد هروبه المزعوم ، وسبب بأزمة "العلم" ، ومن ثم أتبعها بتصريحات تشتم الثورة و الثوار ، عاد اليوم ليظهر كمنسحب من محاولة توحيد أطياف المعارضة ، وضمان تمثيل جميع أطياف الشعب السوري بما فيه "العلوي" ، هذه الفئة التي تصر على الانفراد بالطعن و الغدر ، وقام بواجبه اليوم ، ظناً منه أنه يطلق رصاصة القتل على مخرجات الرياض ، كما ظن نظام طائفته أنه ينهي ثورة شعب بالسلاح و استحضار "الأرزال".
ومن الممكن أن يكون لادخال "حسين" في توليفة معارضة الرياض كممثل عن الطائفة ليثبت أكثر فأكثر للعالم ، أن هذه الطائفة لن تصلح لأن تكون شريك في الحكم ، و أحسن حالات التعامل معها هي أن تكون محكومة ، ولاتمنح أي سلطة أو حتى حق تقرير مصير ، و من الايجابيات أيضاً ، أن انسحاب "حسين" قد يكون مرغوب لإنهاء فرصة تطبيق الحل السياسي في سوريا ، و بالتالي مشروعية الحل العسكري ، الذي يبدو أنه بات وشيكاً ، و يحتاج لبعض هزات كانهيار عِقد مجمتموا الرياض ، و فشل جمع النظام مع المعارضة .
معجب "حسين" بالمتلونين أمثال هيثم المناع و صالح مسلم ، ويتفق معه أيضاً حسن عبد العظيم ، الذي من المتوقع أن ينهي تواجده هو الآخر في هيئة المفاوضات ، ليشكل مع المذكورين ، حلف المعارضة المتلونة ، والمالك كما حدد مناع لـ ١٦ ٪ من سوريا .
من جودة القدر هي التصرفات التي تظهر تباعاً ، و بشكل متسارع وقبيل الانطلاق بالمفاوضات الجدية لتكون صك براءة لكل من شارك بمؤتمر الرياض ، والأهم دليل بذل كل الجهود الممكنة و الغير ممكنة لتحقيق حل سلمي حقناً للدماء .
طبول الحرب ترتفع أصواتها ، ويقترب هديرها من كل شيء على الأرض ، وإن كانت معركة غير متكافئة ، ولكنها هي المعركة الأخيرة في حرب الحرية السورية ، بين أشراف سوريا و أشرار العالم أجمع .
جددت محادثات فيينا أواخر العام الماضي روح التفاؤل الدولي حول إمكانية إنهاء النزاع السوري. أما بالنسبة للسوريين فهناك عديد من الأسباب المشروعة للبقاء حذرين؛ وسنبقى كذلك إلى حين معالجة ثلاث قضايا رئيسية. أولاها الحاجة الملحة إلى ضمان حماية المدنيين؛ والثانية مصير بشار الأسد المسؤول عن هذا النزاع الدموي، وعن مقتل أكثر من 300 ألف شخص، والعقبة الأساسية أمام الحل السياسي؛ والثالثة هي مساءلة مرتكبي جرائم الحرب. إن مفتاح الحل السياسي هو الوضوح والالتزام الحقيقي بهذه القضايا الجوهرية. إلا أن هذه القضايا أُغفلت بشكل كبير خلال محادثات فيينا في ظل غياب المشاركة السورية عنها حتى الآن.
بالنسبة للسوريين٬ فإنإنهاء النزاع على الأرض يعني وقف قتل المدنيين، الذين يقضي معظمهم جراء القصف الجوي العشوائي من قبل نظام الأسد، وتشاركه روسيا في ذلك الآن. وقد اتسع نطاق هذه الهجمات وازدادت كثافتها على مدى مسار النزاع. وكانت الغارات الجوية العشوائية من قبل نظام الأسد وروسيا مسؤولة عن ثلثي القتلى المدنيين في سوريا حتى الآن؛ كما أن 95% من ضحايا غارات نظام الأسد وروسيا منذ بدء النزاع في سوريا مدنيون. وبالمجمل، قُتل أكثر من 570 مدنيًا نتيجة الضربات الجوية الروسية في سوريا، غالبيتهم العظمى في مناطق يندر تواجد داعش فيها أو يغيب.
ومن المعيب أن يستمر مجلس الأمن بفشله في مساءلة أحد أعضائه على مقتل العديد من المدنيين السوريين الأبرياء. علاوة على ذلك، لم يتطرق قرار مجلس الأمن 2254 ولا تصريحات فيينا إلى هذا التهديد الرئيسي لحياة المدنيين في سوريا، والذي يستمر بتأجيج أزمة اللاجئين والدفع نحو التطرف.
إن ضمان حماية المدنيين أمر محوري لإنهاء الأزمة. وأي حل سياسي يسمح لطائرات الأسد وبوتين بالاستمرار بقصف المدنيين عشوائيًا لن يثمر. والهجمات الجوية مؤخراً؛ مثل تلك التي استهدفت خلالها القوات الجوية الروسية سوقًا شعبية في إدلب، متسببة بمقتل أكثر من 50 مدنيًا، واستخدام الأسد للبراميل المتفجرة التي تحوي غازات سامة في المعضمية؛ تهدد العملية السياسية وتجعل السلام مستحيلًا.
توجد العديد من الخيارات ذات الموثوقية لحماية المدنيين في سوريا، مثل منطقة خالية من القصف، وهي مطلب أساسي لمجموعة واسعة من السوريين داخل سوريا وخارجها؛ ومع ذلك يستمر تجاهل هذا المطلب خلال المحادثات الديبلوماسية الحالية. إن وقف القصف الجوي العشوائي سينقذ آلاف الأرواح، وسيستأصل الدافع الرئيسي لموجة هجرة السوريين، وسيواجه خطاب التجنيد الذي تستخدمه الجماعات المتطرفة؛ كما سيعزز قابلية المحادثات السياسية للنجاح، موضحًا للأسد وبوتين أن المجتمع الدولي مستعد لاتخاذ إجراءات ملموسة لإنهاء الأزمة.
الواقع بالنسبة لغالبية السوريين أن نظام الأسد، وليس داعش، هو من يرتكب معظم أعمال القتل في سوريا. وتعصب الأسد بوحشية إزاء المطالب المنادية بالحرية والديمقراطية هو ما أفضى إلى إراقة الدماء، وتسبب بالفراغ الذي تستغله داعش الآن.
لن ينتهي التهديد على السوريين وعلى الأمن الدولي طالما بقي الأسد في السلطة. وكذلك لن تكون الخطط لوقف إطلاق النار في أنحاء البلاد قابلة للتطبيق بدون مشاركة مجموعات الثوار السوريين المعتدلين-المجمعين على المطالبة برحيل الأسد.
إن إجماع المجتمع الدولي على الحاجة إلى القضاء على داعش مرحبٌ به من قبل السوريين، أول ضحايا همجية التنظيم الإرهابي، إلا أن داعش لن تُهزم بوجود الأسد، وباستمرار جرائمه من دون مساءلة. إن ضمان المساءلة ضروري لنجاح محادثات السلام، وللوصول إلى سوريا حرة وديمقراطية. ومع ذلك لم تطرح المساءلة عن جرائم الحرب الممنهجة بشكل فعليّ لا في فيينا ولا في نيويورك.
الأدلة على ارتكاب نظام الأسد لجرائم حرب واضحةٌ ودامغةٌ. إذ قامت لجنة التقصي الدولية المستقلة في الأمم المتحدة، ومنظمات حقوقية، ومجموعات رصد داخل سوريا بتوثيق استخدام الأسلحة الكيماوية، والقصف الجوي العشوائي، والتعذيب الممنهج على نحو واسع.
ويظهر تقرير قيصر، الذي أكّدت عليه هيومان رايتس ووتش مؤخرًا، استخدام نظام الأسد للتعذيب بشكل ممنهج، ويشير بوضوح إلى التسلسل القيادي للجهات المسؤولة عن تعذيب وقتل أكثر من 11 ألف معتقل. لذا ينبغي على عملية فيينا كخطوة أولى نحو مساءلة حقيقية أن تضمن العدالة لكافة السوريين ضحايا هذه الجرائم النكراء، بما في ذلك إحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية بالتوازي مع السلطات القضائية المحلية.
لا يمكن الفصل بين المساءلة والجهود الديبلوماسية، إذ أن إشراك مجرمي حرب في أي حكومة انتقالية سيودي فقط إلى تقويض مصداقيتها وتقويض الاحتياجات المشروعة للسوريين.
يمكن الحفاظ على الزخم الديبلوماسي الحالي لحل النزاع في سوريا بمشاركة السوريين أنفسهم فقط؛ وإثر الفشل في إشراكهم في محادثات فيينا كان محتمًا الإخفاق في التوصل إلى توافق حول القضايا الأساسية بالنسبة للسوريين: حماية المدنيين، ومصير الأسد، والمساءلة. وستكون الأشهر المقبلة اختبارًا حاسمًا لعزم المجتمع الدولي في تحقيق حل سياسي في سوريا. لكن الوقت يداهم السوريين؛ وفي حال كانت هنالك تسوية سياسية جادة على طريق الإنجاز، فينبغي على المجتمع الدولي أن ينصت إليهم ويتخذ خطوات عاجلة لضمان حمايتهم.
مع بداية السنة 2016، يكون مرّ قرن كامل على اتفاق سايكس ـ بيكو الذي رسم، سرّا، خارطة الشرق الأوسط مع بدء انهيار الدولة العثمانية وتحوّلها إلى “الرجل المريض” في المنطقة.
كان سايكس ـ بيكو اتفاقا بريطانيا ـ فرنسيا، علما أنّه كان في البداية بريطانيا ـ فرنسيا ـ روسيا. لكنّ الجانب الروسي لم يعد جزءا من الاتفاق بعدما اندلاع الثورة البلشفية في العام 1917 وانتقال أهل الثورة، على رأسهم لينين، إلى الاهتمام بالشأن الداخلي الروسي وتثبيت السلطة الجديدة التي أقامت “ديكتاتورية البروليتاريا”.
هل كان سايكس ـ بيكو في أساس المصائب والهزائم العربية على كلّ المستويات العربية والتي يتوّجها اليوم التفتيت الممنهج لسوريا ككيان لم يرض يوما بحدوده، بل شكا دائما من أنّ ظلما كبيرا لحق به بسبب سايكس ـ بيكو؟
لم يكن سايكس ـ بيكو في أساس المصائب والهزائم بمقدار ما أنّه كان شمّاعة، علّق عليها عرب كثيرون مشاكلهم وعجزهم لتبرير تقصيرهم وتخلّفهم في آن. كانت المصيبة في قسم من العرب لم يقدّروا قيمة سايكس ـ بيكو، بل استخدموه في عملية هرب مستمرّة إلى الأمام.
بعد مئة عام على سايكس ـ بيكو، تبدو المنطقة في حاجة إلى سايكس ـ بيكو جديد، خصوصا بعدما تبيّن أن العراق الذي عرفناه انتهى، وأن سوريا التي اعتدنا عليها صارت جزءا من الماضي، اللّهم إلّا إذا حصلت أعجوبة تنتزعها من براثن إيران وروسيا و”داعش” وتعيدها إلى أهلها. لا يمكن إنقاذ سوريا، ككيان، إلّا بعيدا عن النظام العلوي القائم الذي يسعى حاليا إلى إنقاذ نفسه عبر إقامة كيان خاص به مرتبط بممّر مع المنطقة الخاضعة لنفوذ “حزب الله”، أي لإيران، في البقاع اللبناني.
ما جعل سايكس ـ بيكو يفشل، علما أنّه كان في الإمكان تحويله إلى قصة نجاح، الابتعاد العربي عن كلّ ما هو منطقي وواقعي، بدءا بالعجز عن استيعاب أن المطلوب منذ البداية الحدّ من أضرار المشروع الصهيوني وليس عمل كلّ شيء من أجل خدمته.
نسي معظم العرب أنّ وعد بلفور الذي “ينظر بعين العطف إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين” كان في العام 1917، أي أنّه مرتبط، إلى حدّ كبير، باتفاق سايكس ـ بيكو الذي توصلّت إليه بريطانيا وفرنسا في السنة 1916.
لم يستطع العرب، عموما، فهم معنى التعاطي مع موازين القوى ببرودة وبشكل علمي. كلّ من تعاطى مع موازين القوى بعقل مستنير ذهب ضحيّة العنف والإرهاب. هناك مثلا مهمان على ذلك. اغتيل الملك عبدالله الأول (الأردني) في القدس، واغتيل رئيس وزراء لبنان رياض الصلح في عمّان، على يد عناصر من حزب فاشي، مكوّن من مجموعة أقلّيات، كان ولا يزال يعمل في خدمة كلّ ما من شأنه إنجاح عملية التدمير المستمرّة للمجتمعات العربية. كان ذنب عبدالله الأوّل ورياض الصلح أنهما حاولا إدخال بعض العقلانية إلى الرؤوس العربية الحامية والمريضة في الوقت ذاته.
اعتقد معظم العرب أنّ الشعارات كافية لإيصالهم إلى ما يطمحون إلى تحقيقه. لم يفرّقوا يوما بين الحقيقة والخيال. لذلك لم يتعاطوا مع سايكس ـ بيكو كحقيقة وواقع. لم يعملوا على تطويره. حاولوا تجاوزه، وذلك من أجل تدمير ما بقي من كيانات سياسية كان للاتفاق البريطاني – الفرنسي الفضل في قيامها.
من قرار التقسيم في 1947 الذي رفضه العرب، إلى الانقلاب العسكري في سوريا عام 1949، إلى الانقلاب العسكري في مصر في 1952، إلى حرب السويس في 1956، التي كانت كارثة مصرية بكلّ معنى الكلمة، وصولا إلى التخلص من النظام الملكي في العراق صيف 1958، مرورا بالوحدة المصرية – السورية التي أسست لنظام الأجهزة الأمنية في سوريا و”الإشتراكية” التي تُفقّر المواطن، استمرّ مسلسل المآسي. توّج هذا المسلسل باستيلاء البعث، بكلّ تخلّفه، على السلطة في سوريا والعراق وتكريس لاجتياح الريف للمدينة والقضاء على كلّ ما هو حضاري فيها.
لم يكن هناك عقل عربي يمنع كارثة حرب 1967، التي لا تزال المنطقة تعاني من نتائجها إلى يومنا هذا. لم يكن هناك عقل عربي يمنع سقوط لبنان ويتحسّب لمعنى هذا السقوط ولنتائجه في المدى الطويل. عندما شجّع العرب، على رأسهم النظام الأقلّوي في سوريا، على إغراق لبنان بالمسلّحين الفلسطينيين والسلاح المرسل إلى الميليشيات الطائفية ثمّ المذهبية، كانوا يزرعون بذور المآسي التي نعاني منها اليوم، على رأسها المأساة السورية. لم يعد مستبعدا أن تأتي السنة 2016 بالخطوط العريضة لسايكس – بيكو جديد بمشاركة روسية علنية هذه المرّة، في حين سيحلّ الأميركي والإسرائيلي، وربّما الإيراني أيضا، مكان البريطاني والفرنسي، أي مكان السيّديْن ماركس سايكس وفرنسوا جورج بيكو.
لم يمتلك لبنان ما يكفي من المناعة الداخلية لمواجهة العقل التخريبي للأنظمة العربية التي تآمرت من أجل حصر الصراع مع اسرائيل بأرضه وبأهل الجنوب المظلومين تحديدا. شاء هذا العقل العربي التخريبي المتخلّف معاقبة لبنان على اتخاذه قرارا صائبا وحكيما يقضي بعدم مشاركته في حرب 1967 بغية المحافظة على أرضه. فُرض على لبنان اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969 عقابا له على اعتماده الحكمة والتروّي.
لا يزال البلد يعاني من نتائج هذا الاتفاق، خصوصا بعدما حلّت ميليشيا “حزب الله” مكان الميليشيات الفلسطينية وذلك من أجل تكريس لبنان “ساحة” استخدمها النظام السوري طويلا، وتستخدمها إيران اليوم بالشكل الذي يخدم مصالحها التي لا تبدو بعيدة بأي شكل عن المصالح الإسرائيلية.
كان سايكس ـ بيكو نعمة، لم يستطع أي نظام عربي المحافظة عليها والتكيف معها والعمل على تطويرها بما يخدم أهل المنطقة ومستقبل أبنائهم. على العكس من ذلك، استُخدم سايكس ـ بيكو عذرا ليقمع كلّ نظام شعبه باسم فلسطين أحيانا، وباسم الوحدة العربية ومواجهة الاستعمار والإمبريالية العالمية في أحيان أخرى.
لم يكن العرب من أهل المشرق، يستحقون سايكس ـ بيكو. هل سيستحقون ما سيخلف سايكس – بيكو في ظلّ “داعش” والمشروع التوسّعي الإيراني الذي ألغى الحدود المعترف بها بين الدول العربية لمصلحة الرابط المذهبي؟
هل ستكون المشاركة الروسية في سايكس ـ بيكو الجديد مساهمة إيجابية في مجال رسم خريطة جديدة أكثر استقرارا للشرق الأوسط؟ الأكيد أن الجواب هو لا وألف لا، خصوصا أن روسيا – فلاديمير بوتين دولة مريضة من كلّ النواحي، فيما المشروع التوسّعي الإيراني لا يمكن أن يكون له أيّ مستقبل لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب إلى أنّ ليس لدى إيران الحالية أيّ نموذج سياسي أو اقتصادي أو حضاري تقدّمه، باستثناء استثارة الغرائز المذهبية والبناء على ما يتبع ذلك. إنّه مشروع قائم على التدمير من أجل التدمير ليس إلا.
كم سيترحّم العرب على سايكس – بيكو في ذكرى مرور مئة عام عليه. كان هدية من السماء لم يتمكّنوا من المحافظة عليها، لا لشيء سوى لأنّهم لم يدركوا منذ البداية معنى أن تكون لديهم دول وأنظمة سياسية قادرة على تطوير نفسها بنفسها، بدل اللجوء إلى الأنظمة العسكرية والأجهزة الأمنية التي وُلدت من رحمها الميليشيات المذهبية، من “داعش”، التنظيم السنّي اسما، إلى “الدواعش” الشيعية بتسمياتها المختلفة.
كثيرة هي الكتابات الغربية التي تتحدّث، اليوم، عمَّا ستسفر عنه حروب المشرق العربي الدائرة رحاها على أرض سايكس بيكو، من تقسيم جديد للمنطقة. معاهد أبحاث وصحف ومجلات رصينة، ليبرالية ويمينية على السواء، تتناول المآلات التي تبدو في نظرها "حتمية" للحروب الدائرة اليوم في سورية والعراق. بدأ موضوع التقسيم في العراق باكراً، وكان نتيجة حرب أيضاً. فقد أسفرت قرارات الحظر الجوي، في أعقاب الحرب الأميركية الأولى على العراق (1991)، عن وجود منطقتين، كادتا تخرجان من الجغرافيا العراقية التي كان يحكمها نظام صدام حسين: الجنوب والشمال. سُمح لصدّام بقمع الجنوب وإعادته إلى كيان الدولة العراقية، فيما لم يُسمح له بالتحرك متراً في مناطق الشمال الكردي (اللهم إلا لقمع تحرك جلال طالباني، حليف الإيرانيين، لمصلحة البرزاني حليف الغرب). أي حديث، الآن، عن وحدة للتراب العراقي تشمل الشمال الخاضع للسيطرة الكردية هو هراء. العكس صحيح، فقد تكون أولى ثمرات ما يجري في العراق قيام دولة كردية ستحظى، بلا إبطاء، باعتراف أوروبي وأميركي.
سايكس بيكو ليستا كلمتين عابرتين في الحياة العربية. إنهما الأساس القانوني الذي قامت عليه "الدولة الوطنية" المشرقية، وما أنتجته من هوياتٍ تبدو اليوم في مهبِّ الريح، لصالح تفتيتٍ أكثر وهويات أصغر. لكن الاتفاقية التي مهرت باسمي المفاوضيْن، البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بمعرفة القيصرية الروسية عام 1916، وظلت سريِّة إلى أن قامت الثورة البلشفية الروسية، وفضحتها بعد ذلك بعام، لم تكن سوى بداية "الخيانات" الغربية لوعود قطعت للعرب لم تتحقق قط.
هناك اتجاه "بحثي" و"صحافي" أميركي يقول إن الدول الأوروبية ارتكبت خطأ استراتيجياً بـ"تنازلها" لكمال أتاتورك في اتفاقية لوزان (1922) عمّا أقرَّته اتفاقية سيفر، قبل ذلك بعامين، بموافقة ممثل السلطان العثماني، ففي تلك الاتفاقية التي وقعت في مصنع للخزف في هذه الضاحية الباريسية، كانت هناك نواة دولة كردية. كان هناك "تجانس عرقي" أكثر لصالح غير المتكلمين بالتركية التي اعتبرت معياراً، في حينها، للقومية. هذا يعني شيئاً واحداً واضحاً: الإقرار بحق الأكراد في كيان خاص بهم. ولكن أين؟ في العراق هم فعلياً دولة، لكنهم ليسوا كذلك على المستوى الرسمي. فهل تنتهي الحرب بقيام دولةٍ كردية تتجاوز، مع تداخل الحدود والمعارك التي تمحي الحدود الآن، العراق، لتصل إلى تركيا وسورية، وربما إيران لاحقاً؟ لا أحد يعرف. المؤكد أن القوى السياسية الكردية صارت أفضل حليف غربي في المنطقة. الحاجة بين الغرب والأكراد متبادلة. الغرب يريد حليفاً، غير قابل للاختراق الإسلاموي في المنطقة، والأكراد يريدون قوة دولية تأخذ بيدهم إلى الاستقلال.
قضية الأكراد مفهومة، مزمنة، ومؤسفة في خيانة القوى السياسية العالمية والإقليمية لهم. لكن، كيف نفهم الحديث الغربي عن التقسيم في إطار "المكوِّن" العربي نفسه؟ إما أن الغرب الذي يدّعي فهم المنطقة لا يفهمها، أو أنه يلعب، كالعادة، على أوتار قد تجد رنيناً لدى بعضهم.. أو ربما الكثرة في هذه الآونة المريضة. فنحن لا نتحدث عن تقسيم "عرقي"، بل طائفي، وربما مناطقي في داخل "الإثنية" الواحدة التي تتفاخر، وتتنابز، في انتسابها إلى عدنان وقحطان. لاحظوا معي الخارطة السورية التي نشرت، قبل أيام، مع مقال لكاتب بريطاني يتحدث فيه عن صراعات الشرق الأوسط المحتمل أن تؤدي إلى التقسيم. الخارطة من وضع معهد واشنطن (!). ما هي مفاتيح تلك الخارطة؟ إنها التالية: سني، تركماني، كردي، بدوي، مسيحي، شيعي، إسماعيلي، علوي، دروز.
تخلط هذه الخارطة البائسة بين الإثنية الحقيقية (أكراد، تركمان) والطائفية: سني، شيعي، علوي إلخ.. وحسب علمي، لم يصنف العلويون والدروز والإسماعيليون أنفسهم في خانة إثنية خاصة بهم. ولا يشكل السنة إثنية قائمة بذاتها، بيد أن الأغرب، والأكثر مدعاة للسخرية، هو اللون الخاص بالبدو على الخارطة. في خارطةٍ كهذه، إن وجدت سبيلاً للتقسيم، سنكون أمام قومية بدوية، وقومية سنية، وقومية شيعية، وقومية علوية إلخ..
أهذا غباء في معرفة المنطقة فعلاً، أم خبثٌ مبين؟ أرجِّح الاثنين معاً.
شهدت حركة المملكة العربية السعودية على مختلف الأصعدة السياسية و العسكرية ، تطوراً كبيراً خلال الفترة الأخيرة و التي بدأت مع وصول الملك سلمان بن عبد العزيز ، و دفع بها لمقدمة الدول العربية و الاسلامية ، و استطاعت في فترة وجيزة من اسعادة مكانتها ، و حققت قفزات مكنتها من الوصول لموقع القادر على توجيه الضربات الفعلية لخصومها ، دون اللجوء إلى الكلام السياسي الخالي من الفعل.
و سلسلة من الأمور قامت بها السعودية و التي كان أحدثها ، و ليس آخرها فيما يبدو ، قطع العلاقات الدبلوماسية مع ايران ، على خلفية الاعتداء على سفارتها و قنصليتها في ايران ، هذه الخطوة التي يبدو أنها استكمالاً لخطوات سابقة ، و من المنتظر أن يتبعها خطوات أخرى ستؤثر حتماً على الوضع في سوريا ، التي تشكل الساحة الأنسب للجميع لتصفية حروبهم العسكرية فيها .
وحملت تصريحات عادل الجبير وزير الخارجية السعودي ، الذي استبقها بصمت في مواجهة "العربدة" الايرانية ، تصريحات حملت لهجة التحدي ، لاسيما مع تأكيده خسارة ايران في اليمن و انحسار دورها في أفريقيا ، و أخيراً أتى على سوريا ، التي أكد في شأنها أن ايران لن تستطع انقاذ الأسد ، و هي رسالة تحمل في طياتها أن الساحة القادمة ستكون سوريا ، و الغالب فيها سيكون المنتصر.
المتابع لايران و تصريحاتها السياسية الصادرة عن مختلف المستويات ابتداءً من "مندوب الله " على الأرض على الخامنئي إلى الناطق باسم الخارجية ، يتيقن أن "العربدة" الفارغة هي الاسلوب الذي تقوم عليه ايران في كافة مفاصلها ، و ماهي إلا مارد من ورق ذو جوف فارغ ، و لعل ذلك ظهر جلياً في الحرب على الحوثيين في اليمن و قتل زعيم الشيعة في أفريقيا و أخيراً ، و لن يكون الأخير طبعاً ، اعدام نمر النمر الذي هدد بشأنه هذه المرة خامنئي بـ"عقوبة الهية" ، فهذه العقوبة تدل على العجز الصريح ، المغلف بالتظاهر بمدى وصول المندوب الإلهي على الأرض.
خطوة قطع العلاقات بين السعودية و ايران ، تمهيد لمواجهة فعلية على الأرض السورية ، الذي اتخذت منحى بالتحالف الاسلامي ضد الإرهاب ، و السعي لوضع المليشيات الشيعية التي تقاتل إلى جانب الأسد و في مقدمتها الحرس الثوري الايراني و حزب الله اللبناني و عشرات المليشيات العراقية و الأفغانية و الباكستانية ، وخطوة قطع العلاقات ستكون التمهيد النهائي أمام المواجهة الفعلية على الأرض ، التي ستكون السعودية كداعم جوي لها ، و لاعب مساند على الأرض ، بمساعدة تركية جدية هذه المرة .
و لعل الافراط في التفاؤل مرده إلى التسلسل الذي سارت عليه الأمور ، والذي تم رسمه وفق هندسة مدروسة ، لكن يبقى التوقع شيء و الواقع شيء آخر ، فعلمتنا الثورة السورية عدم تصديق أي شيء مالم نجده واقعاً و ملموساً.
لا بد لأي متابع لتاريخ سورية ولبنان المعاصر من الاعتراف بأن بين كل جاسوسين إسرائيليين كبيرين داخل حزب الله والمخابرات السورية جاسوس ثالث أكبر منهما. ولا يظلم الحزب والنظام الأسدي من يقول إن معظم جواسيس إسرائيل ينتمون إلى جهازهما الأمني، المكلف بمكافحة جواسيس إسرائيل وحفظ أمن قادة الحزب والنظام الطائفيين.
لولا الجواسيس الذين يعج حزب ونظام الممانعة والتحرير بهم، لما أمكن قتل عماد مغنية، رجل أمن الحزب الذي لم تعل سلطة فيه على سلطته. ولولا الاختراقات، لما عمل مسؤول الأمن الخارجي في الحزب جاسوساً لإسرائيل، واعتقد كثيرون أنه أعلمها بأمكنة اختباء حسن نصر الله التي لم يخرج منها بعد "نصره الإلهي" عام 2006. ولولا اختراقات عميقة ترصد بدقة، ولحظة بلحظة، حركات كبار قادة الحزب وسكناتهم، لما أمكن رصد سمير القنطار ومتابعته وقتله، وهو الذي توهم أنه آمن في دمشق، ونسي أن عماد مغنية قُتل على بعد أمتار من مكتب العماد آصف شوكت، رئيس المخابرات العسكرية السورية، وفقد رأسه بعبوة زُرعت في مسند رأس مقعده الخلفي، ولو كانت زُرعت حين كان عند أصدقائه في الزبداني، لقتل على الطريق إلى مقر المخابرات العسكرية، وليس داخل حرمها.
ونسي القنطار أن الجاسوس إيلي كوهين كان رفيق سكن حافظ الأسد سبعة أشهر، وأن الأخير زار لندن عام 1963، واختفى من الوفد الرسمي الذي زارها، ثم تبين أنه التحق ببيت ريفي تملكه وزارة المستعمرات البريطانية، أمضى أياماً ثلاثة فيه، بقي ما تم خلالها سرياً، مع أن الأسد كان مجرد رائد في الجيش، وأن هذه الواقعة المعروفة جعلت جورج صدقني، أحد قادة حزب البعث التاريخيين، يقول، بعد انقلاب الأسد عام 1970، إن عميل المخابرات البريطانية استولى على السلطة.
كان القنطار يخال نفسه آمناً، ونسي، أو تناسى، مقتل أحد كبار قادة حركة حماس في مخيم اليرموك بطريقةٍ تماثل التي قتل هو نفسه بها، كما أنه جهل، أو تجاهل، أن حملة اعتقالات طاولت ثمانيةً من 11 ضابطاً في قسم مكافحة التجسس في المخابرات العسكرية السورية، اتهموا بالعمالة للمخابرات الإسرائيلية. صدّق القنطار ما سمعته أذناه من أكاذيب عن الممانعة والمقاومة، وكذّب ما تراه عيناه من صداقة مع "العدو"، فقتل في دمشق، المخترقة من رأسها إلى أخمص قدميها، بوشاية من مرافقيه، أو من ضابط مخابرات سوري، أو جاسوس في حزب الله، وانتهى بالأسلوب الذي سبقه إليه كثيرون، تحت أنقاض بنايةٍ، وتسبب في موت سكان أبرياء فيها، فسقط ضحية غباءٍ منعه من رؤية الحقيقة، وهي أن رهطاً من الممانعين والمقاومين المزعومين اعتادوا بيع أنفسهم "للعدو"، وتغطية عمالتهم له بجعجعةٍ كلاميةٍ عن تصميمهم على طرده من مزارع شبعا وتلال كفار شوبا والقرى السبع، بينما يمارس من أسماهم نصر الله "أشرف وأطهر الناس" عمليات تجسس، يتساقط ضحاياها قتلى يوماً بعد يوم.
كنا نتساءل دوماً إن كان الحزب الذي يمثل نصف طائفة يستطيع تحريرنا من الاحتلال، والتصدّي الناجع لأعداء أمةٍ، يشارك بفاعلية في قهرها وإخراجها من المعركة ضدهم. واليوم، نتساءل إن كان حزب يعج بالجواسيس يستطيع غزو سورية، من دون غض نظر (أو موافقة) جهات توهم القنطار أنه يحاربها، بينما كان في قبضتها، وأنه يقاتلها، مع أنها كانت قادرة على قتله في أي وقت، بمساعدة جواسيسها المقاومين/ الممانعين من أعضاء حزب الله والنظام الأسدي الذين يلازمونه في حله وترحاله، ولم يتردّدوا في تحضيره للقتل، وقتلوه في غمضة عين، حين جاء موعد رحيله.
هل يصدّق أي عاقل أن قوات الاحتلال الروسي في سورية لم تكشف، بما لديها من أجهزة فائقة التقدم، وجهة طيران إسرائيل وهدفه، وأن رادارات صواريخها التي تغطي معظم المجال الجوي لفلسطين المحتلة وسورية لم تلتقطه، وهو يقصف جرمانا؟ ولماذا لم تتخذ روسيا أي قرار حيال تعاونها الاستراتيجي مع الأركان العامة الإسرائيلية، إن كانت ضد مقتل القنطار؟ وهل خدم قتله إيران وحزب الله، أم كان خطوة على طريق إضعافهما وإحكام قبضة روسيا على النظام ومؤسساته، وسط مؤشراتٍ كثيرةٍ تؤكد أن موسكو تدير ظهرها أكثر فأكثر للشراكة مع طهران، في كل ما يتعلق بإدارة الأوضاع السورية، وتقرير أدوار المنخرطين فيها؟
انتشر ، أمس و اليوم و سيستمر لأيام ، بشكل كبير مقطع من الموسم الجديد لأحد برامج الهواة المسمى بـ"ذا فويس كيدز" الذي تبثه قناة ان بي سي ، تظهر فيه فتاة سورية تغني "عطونا الطفولة" و التي تفاعل معها الجمهور العربي وبكى و تأثر و كما يقال "اندمل" قلبه .
لاشك أن الذوق العربي المقلوب و الغبي ، يبكي من دموع طفلة على مسرح ، تلبس ما يجعلها فاتنة ، وتحيط بها الانارة من كل جهة ، ويقف خلف الجدار أهلها يبتهلون كي تنجح ، مشهد درامي جميل و يدفع للسرور ، الافتخار ، من الممكن الغبطة أيضاً أن الفنانين تهافتوا عليها و حضنوها ، و لملموا دموعها ، و ندبوا معها و نددوا من منع عنها "الطفولة" و طالبوا معها بـ"أعطونا الطفولة"... انتهى المشهد و اسدل الستار ، و انتشر المقطع آلاف المرات و المرات ، وكان كالنار التي تشب في محصول قمح لفحته الشمس حتى بات أصفراً كامدا.
لكن لحظة صغيرة بعد الاغلاق ، هل تابع هذا الجمهور أنين وبكاء المتألمين ، لن أقول ألماً من جرح أو فقد طرف ، أم الدخول في قائمة اليتامى ، و إنما جوعاً .. نعم جوعاً و عوزاً و برداً ، في جو مظلم أمام بقايا أرض ، يتابعه المئات من المجرمين السفاحين ، معدومي الصفات البشرية ، و عندما يقترب من نهاية صراع الموت ، يرميه برصاصة النهاية ، لتكون جائزة الترضية لعدم السماح لهم بالحصول على عُشيبات تبعد الموت سنتيمترات عن الأجساد الهزيلة.
في الوقت الذي ترنح الجمهور العربي أمام دموع فتاة أصيبت برهبة المسرح أو غصة منفى و ربما فرحة غامرة ما ، هناك العشرات يغيبون عن الوعي بسبب خواء الأمعاء ، و فقر الدم للمغذيات ، و تهالكت أعضائه حزناً على الأعشاب التي غطاها الثلج ، الضيف البليد على أرض تعرف موته جيداً.
في التلفاز هناك من بكى مع أطفال السوريين المبدعين ، وفي الواقع يبكي أطفال سوريين أبدعوا في صبرهم و جلدهم في مواجهة ما يعجز عالم بأسره عن تحمل لحظة واحدة ، وعاجز عن ادخال حبة رز ، و لكن جاهز و حاضر لنقل المئات و تهجيرهم من أرضهم و استبدالهم بغيرهم ، و لكن المهم أن لا يبقوا في الأرض التي نبتوا بها و صمدوا فيها .
بعد ان التقيت بمقاتلي جبهة النصرة في مطلع عام ٢٠١٢ في حلب ومن ثم في صيف ٢٠١٥ في جبال القلمون، استضافتني جبهة النصرة في ادلب خلال زيارتي الاخيرة في فترة عيد الميلاد من هذا العام.
كان الهدف من الزيارة توثيق عودة عائلة النقيب السوري المنشق ثائر المشكاف من عرسال الى ادلب. كنت قد توليت مساعدة العائلة على الخروج من عرسال بعد ان تعرض النقيب المشكاف، المعروف بأبو يزن، للخطف والتعذيب من قبل مجموعة في عرسال تدعي انها مناصرة للدولة الاسلامية. وهددت المجموعة نفسها عائلة ابو يزن بالقتل بعد ان اتهمته بالارتداد عن الدين والعمل مع فصائل الجيش السوري الحر الكافر في نظرهم. قمنا بإخراج العائلة من عرسال وبعدما تم استحضار جوازات السفر السورية ذهبنا برفقتهم الى ادلب عبر تركيا لنوثق اول لقاء للعائلة بعد ٥ سنوات من اندلاع الثورة السورية. لحظات مؤثرة عشناها برفقة العائلة عند وصولهم الى قرية الجانودية في ريف ادلب، مسقط رأس النقيب المشكاف. ولكن لم تكتمل الفرحة لان ابو يزن ما زال في عرسال ينتظر العودة الى تراب الوطن وزيارة قبر والده الذي توفي في غيابه.
بعد زيارة العائلة في الجانودية توجهت بحماية احرار الشام الى مدينة كفرنبل للقاء الأصدقاء في 'اتحاد مكاتب الثورة' لتوثيق ما تم انجازه خلال خمس سنوات من قبل مجموعة مسالمة تعمل ليلا نهارا منذ اندلاع الثورة مع الشباب والنساء والأطفال على مشاريع إنمائية، تنموية، إنسانية واعلامية. فمن منا لا يعرف اللافتات المشهورة والكاريكاتير التي اشتهرت بها هذه القرية الصغيرة في ريف ادلب الجنوبي؟
خلال زيارتي الى كفرنبل علمت بأن هناك من يشكك في وجودي ويحاول ان يشوه سبب زيارتي بنشر الإشاعات بأنني عميلة للنظام والأميركان. لهذا السبب تم التواصل مع المكتب الإعلامي لجبهة النصرة وكانوا على علم بموضوع زيارتي واكدوا انهم يرحبون بأي صحافي في ادلب على شرط ان ينقل الحقيقة كما هي.
قامت جبهة النصرة باستضافتي لمدة ثلاث ايام. أدخلوني بيوتهم. تعرفت على نسائهم ولعبت مع أطفالهم. امضيت ساعات برفقة النساء نتحاور بمواضيع الجهاد ودور المرأة وخياراتها. منهم سوريات ومنهم مهاجرات.التقيت بعدد من الأمهات اللواتي قمنا بدفع اولادهن الى الشهادة. فبالنسبة لهم الشهادة هي الطريق الى الجنة.
التقيت ام عبده، ام لشهيدين مراهقين. عندما تكلمنا عن الموضوع تفاجأت بقناعتها ورباطة جأشها. ولكن عندما تقربت منها وقرأت لي قصيدة كتبتها لاحد ابنائها بعد استشهاده، شعرت بألمها.
أدخلوني والكاميرا لأول مرة الى مراكز دعم النساء والى المشافي الميدانية في عدة مناطق تخضع لسيطرتهم. تفاجئت بأن جبهة النصرة ليست منظمة كما كنت أظن فهي لا تملك هيكلية لإدارة الشؤون المدنية. فمعظم المراكز هي مبادرات خاصة يشرف عليها أعضاء مدنيين من نساء ورجال مقربين من الجبهة. ملتزمون نعم. يدعون النساء الى لباس الخمار والصلاة والعبادة. لا يؤمنون بالديمقراطية ولا بالحريات المطلقة. يدعون لعدم الاختلاط بين النساء والرجال. ملتزمون بتعاليم الاسلام الملتزم. يؤمنون بالجهاد المسلح في سبيل الله للدفاع عن المسلمين ورفع الظلم عنهم كما يقولون.
لم أكن اتخيل يوماً انني سأكتب هذا المقال. انا الفتاة اللبنانية من عائلة مسيحية محافظة أحل ضيفة على مجموعة من الجهاديين الإسلاميين مرتبطة بإحدى اكبر المجموعات المصنفة ارهابية في العالم. لم اكن اتخيل انهم سيتقبلونني كما انا. عندما أخبرت صديق لي ملم بهذه الأمور ان جبهة النصرة ستستضيفني قال لي طبعا سيفرضون عليك النقاب ولكنه اخطاء. لم أكن أتوقع يوماً انني سأدخل عمق التفكير الجهادي بهذه الطريقة. فبعدما امضيت ثلاثة ايام في استضافتهم وفهمت عمق التزامهم بقضيتهم وحجم التضحيات التي يبذلونها لنصرة أهل السنة عن قناعة تامة، أتفاجأ انهم اعدوا لي هدايا تذكارية عربون شكر وصداقة مع التمنى عليي باعتناق الدين الاسلامي لكي نتلاقى يوماً في الجنة.
الروس، منذ بداية أكتوبر (تشرين الأول)، صاروا رأس حربة في معارك سوريا ومحيطها، بعد أن كانوا يلعبون دورًا خلفيًا، بالتمويل والمعلومات والعمليات المحدودة. النتيجة أن قوات النظام السوري مع القوات الإيرانية، التي تقود ميليشيات متعددة الجنسيات، تشعر لأول مرة بانفراج في عدد من مناطق القتال. وبات من الواضح نوايا التصعيد هذه، إلا لوزير الخارجية الأميركي المصر على قناعته بنوايا الروس الحسنة التي شكلها بناء على حواراته المتعددة معهم في أوروبا وموسكو. والمشكلة لم تعد في فك شفرة النوايا الروسية لأن فعلهم أوضح من أقوالهم، بل المشكلة في فهم نوايا الوزير جون كيري؛ هل هو أيضًا يريد التخلص من المعارضة المسلحة السورية المعتدلة، أي التي ليست «داعش» ولا «النصرة»؟ وهل يبيت النية للقبول أخيرًا باستمرار نظام بشار الأسد؟
حاليًا، في سوريا تشن حربان؛ واحدة من جانب التحالف الأميركي تستهدف التنظيمات الإرهابية: «داعش» و«النصرة»، والأخرى من الجانب الروسي تقوم بقصف التنظيمات المعارضة الوطنية. النتيجة، أن الأسد والإيرانيين يقومون برفع الأعلام على المناطق «المحررة» أميركيًا وروسيًا!
وفي نفس الوقت يشجع الروس والإيرانيون التنظيمات التركية الكردية المسلحة لضرب تركيا، وبالتالي تجويع المعارضة السورية وعزلها.
وصار الجانبان، الأميركي والروسي، يقاتلان في صف نظام الأسد وحليفه الإيراني، إضافة إلى تعزيز وضع القوى الموالية لإيران في العراق بشن الحرب نيابة عنهم، وتحرير المناطق التي استولى عليها تنظيم داعش.
تكون السياسة الأميركية منطقية ومقبولة، لو أن هناك حلاً سياسيا مؤكدًا يوازي العملية العسكرية، لكنها الآن تقوم بعكس ذلك، بإضعاف الحل السياسي بتنظيفها المناطق لصالح الإيرانيين والروس، فهل يستطيع أحد أن يشرح لنا، أين المنطق هنا؟
منطق واشنطن في البداية كان مفهومًا ومقبولاً. إرسال القوات الأميركية بهدف محاربة تنظيمين إرهابيين: «داعش» و«النصرة»، إثر تنامي خطرهما في سوريا والعراق، بعد عمليات التهجير الواسعة للإيزيديين في العراق، والاستيلاء على مدينة الموصل، واستهداف إقليم كردستان، ومشاهد الذبح والحرق المروعة. ووجد تجاوبًا واسعًا من معظم القوى السياسية الدولية، بما فيها الإقليمية التي شاركت في دعمه.
إنما هذا الهدف يستحق، الآن، أن يعاد النظر فيه نتيجة استغلال الروس والإيرانيين للوضع، وتغييرهم قواعد اللعبة، ومحاولتهم فرض نتائج مختلفة. فالسياسات الطائفية أصلاً هي سبب الفوضى، فممارسات حكومة نوري المالكي السابقة في العراق ضد المعتدلين السنة جلبت «داعش» الذي استولى على ثلث العراق. وفي سوريا تسببت عمليات القتل المستمرة من قبل قوات النظام وحليفها الإيراني، التي فاضت بثلث مليون قتيل، في جلب «الجهاديين» من أنحاء العالم.
نحن نفهم لماذا تفعلها إيران، فهي تسعى لفرض أنظمة حليفة للسيطرة على البلدين، لكن من غير المفهوم أن تختصر السياسة الأميركية الأزمة المتعددة في موضوع واحد؛ الجماعات الإرهابية. وحتى لو نجحت القوات الأميركية في هزيمة آلاف الإرهابيين، كيف ستستطيع بعد ذلك حراسة الأرض المحروقة حتى لا يعودوا؟ وكيف ستمنع الإرهابيين من عمليات التجنيد اللاحقة بين ملايين السنة الذين يتم تشريدهم على أيدي قوات النظام السورية، والقوات الإيرانية، والروسية؟
التطور الجديد أنه لم يعد للحل السياسي مكان في مفاوضات فيينا المقبلة، فالروس والإيرانيون يريدونها جلسة استسلام، بقتل ومحاصرة المعارضة السورية المعتدلة، وتهديد الدول المؤيدة لها.
وطالما أن المشروع الروسي يقوم على فرض حل سياسي بالقوة، بتنصيب الأسد وتسليم إيران المنطقة، فإن واجب دول المنطقة على الجانب الآخر تغيير مفهوم دعمها للمعارضة، برفع مستوى تسليحها، الذي ظل دائمًا محدودًا نتيجة الاشتراطات الدولية، وعلى أمل التوصل إلى حل سياسي يجمع كل الفئات السورية في مشروع حكم واحد. رفع دعم المعارضة قد يكون الطريق الوحيد لتحقيق التوازن على طاولة التفاوض. دون ذلك من الأفضل توفير الوقت، بتسليم الإيرانيين المهمة، ونقل المفاوضات إلى طهران، وتكليف جماعتها بحكم سوريا. وفي نفس الوقت على دول المنطقة، وأوروبا، نتيجة لذلك استقبال المزيد من ملايين الهاربين من سوريا والعراق، لأن المنطقة لن تستقر.