لم تستخدم روسيا حق النقض ضد القرار 2254، لأنها، بعد أربعة أعوام على «الفيتو» الأول، حصلت على النص الذي يريحها، خصوصاً بعدما أصبحت معنيّة مباشرة بالأزمة وليس فقط ببيع الأسلحة الى النظام السوري. وكانت بدأت عملياتها العسكرية قبل صدور القرار بإجماع مجلس الأمن، فارضة «فيتوات» في أكثر من اتجاه، تحديداً ضد المعارضة المسلّحة، وفي طليعتها «الجيش السوري الحرّ»، ثم ضد تركيا ودورها متذرّعةً بإسقاط الـ «سوخوي 24».
وبعد صدور القرار، ما لبثت أن باشرت عمليات الشطب من المعادلة: ضد «جيش الإسلام» باغتيال قائده، ضد «أحرار الشام»، ضد «جيش الفتح»، ضد المعارضة التي انبثقت من مؤتمر الرياض، وضد وفد المعارضة الى المفاوضات ما لم يضمّ ممثلين لما تسمّى «معارضة موسكو». وترغب روسيا عملياً في شطب شيء اسمه «بيان جنيف 1»، أو «عملية انتقالية» تطمح الى تحديد «مصير بشار الأسد». وبالتالي، فهي تتظاهر بانتظار «قائمة التنظيمات الإرهابية»، مع أنها تتبنّى تصنيفَ النظام لكلّ مَن يقاتله على أنه «إرهابي». أي أنها تسعى استطراداً الى حل عسكري للصراع تطويعاً للمفاوضات المزمعة وللحل السياسي المرسوم لديها مسبقاً.
أبسط ما يمكن قوله أن القرار 2254 الذي وُصف بأنه إنجاز دولي «توافقي»، وأنه وضع «خريطة طريق» الى حلٍّ سياسي للأزمة قوامه التفاوض بين المعارضة والنظام، أصبح غداة إقراره سلاحاً أضافته موسكو الى ترسانتها العسكرية للمضي في إضعاف المعارضة والسعي الى تصفيتها، فلا يحلّ الموعد المحدّد للمفاوضات إلا وتكون معالم الصراع قد تغيّرت ولا يعود هناك ما يمكن التفاوض عليه، أو يكون الضغط على المعارضة بلغ حدّ ابتزازها للقبــــول بتنازلات لا تستطيعها، وابتزاز الدول الداعمة لها، بحيث تطالب بمعاودة لقاءات فيينا للتداول حول «خريطة طريق» معدّلة والذهاب مجدّداً الى مجلس الأمن. لا تفسير آخــر للتصعيد العسكري وفقاً لسياسة الأرض المحروقة التي اختطّها الـــروس، متابعةً واستكمالاً لنهج نظام الأسد. صحيح أن ليس هناك أي ترتيب لوقف إطلاق النار أو لهدنة، لكن المتداول عن «لقاءات فيينا» أن الدول المعنية لم تتّفق على أي تصفية للمعارضة ما دام التفاوض هو الهدف والوسيلة، بل لعلّها قبلت ولو بشيء من الغموض - كالعادة - تفاهماً ضمنياً على تجميد الوضع الميداني والعمليات القتالية لتمكين المعارضة المقاتلة من تكييف نفسها مع واقع المفاوضات.
هنا يُطرح السؤال، تكراراً، عن حقيقة النسخة الأحدث من «تفاهمات» الأميركيين والروس. ذاك أن الهدف، أي التفاوض، يتآكل سريعاً بفعل ما هو حاصل على الأرض. وعلى المدى القصير، يصعب الحفاظ على ضوابط لطرف على حساب الآخر، ولا يجوز أن تكون واشنطن أمضت الأعوام الأخيرة في استدراج بطيء لـ «أصدقاء سورية» الى الرضوخ لسياسة روسيا السورية، بعدما عبّرت مراراً عن ضيقها منها وتمنّت إعلامياً أن «تتحرّك» أو «تتغيّر». ولعل في تسريبات واشنطن الى «وول ستريت جورنال» وسيمور هيرش، ما يكشف الوجه الآخر الأكثر واقعية للموقف الأميركي. فإذا كان جنرالات البنتاغون يجدون أنفسهم أقرب الى آراء نظرائهم الروس والألمان والإسرائيليين، منهم الى آراء رئيسهم باراك أوباما وإدارته، تكون موسكو أكثر واقعية إذ تتواطأ مع «القناة الخلفية» لتلك الإدارة. لكن إذا كان استحقاق التفاوض قائماً فعلاً، فإن لحظة المكاشفات بين أميركا وحلفائها قد حانت، لأن النظام أوضح أنه مستعد للذهاب الى مفاوضات على «حكومة وحدة وطنية» (يتبنّاها الروس والإيرانيون والأسد، وفقاً لبياني فيينا وعبارات غموض غير بنّاء في القرار 2254)، وليس الى مفاوضات على «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة» (يُفترض أن أميركا وحلفاءها والمعارضة يؤيّدونها وفقاً لبيان «جنيف 1» والقرارين 2118 و2254).
لا شك في أن الخلاف البيّن على منطلق المفاوضات وجوهرها، وعلى تركيبة وفد المعارضة، وعلى تصنيف الجماعات المقاتلة، وعلى التناقض بين «جنيف» و «فيينا»، يفيد بأحد أمرين: إمّا أن تفاهمات كيري - لافروف تتجاوز القرار الدولي، وإمّا أن توافقات فيينا بنيت أساساً على تكاذب فرضه ميزان القوى الذي حسمه الوجود الروسي لمصلحة النظام. في الحالين، هناك تلغيم دولي للمفاوضات قبل انطلاقها، ومن حق المعارضة أن تعتقد أن اميركا تخدعها أو بالأحرى تواصل خداعها، وبالتالي ثمة حاجة ملحّة الى جلاء حقيقة التوافقات الدولية. فالمفاوضات لن تحصل في ظل استمرار تصعيد عسكري استئصالي الأهداف، لأن المعارضة المقاتلة ستسحب عندئذ موافقتها على الحل السياسي لتتفرّغ لمحاربة «الاحتلال الروسي»، كما أن المعارضة السياسية لن تتمكّن من الذهاب الى مفاوضات فيما يتعمّد الروس قتل المدنيين وتدمير بيوتهم، وقد تسببوا حتى الآن بتهجير ما يقارب نصف مليون سوري.
لا يجهل الأميركيون والروس أن الظروف لم تنضج للتفاوض، ما يرجّح تفاهمهما غير المعلن على فرضه بقوة الأمر الواقع: الضغط على الدول الداعمة كي تقطع مساعداتها للمعارضة المقاتلة، وتركها فريسة لضربات الدب الروسي. وفي هذه الحال، لن تكون مفاوضات بين النظام والمعارضة الحقيقية (المعترف بها - بغموضٍ أيضاً - في القرار 2254) بشقّيها السياسي والعسكري، بل إن التصعيد العسكري سيبدو مجرد تغطية لمفاوضات تلفيقية بين النظام و «المعارضة الموالية له» وفق توليفات ستيفان دي ميستورا. وهذه لن تأتي بأي حل سياسي مرشح لإنهاء الصراع، بل ستفتح الأبواب لتبرير حرب «جهادية» أخرى على النمط الأفغاني حين كانت موجّهة لطرد المحتلّين السوفيات، وتدلّ أشرطة يوتيوبية كثيرة على أن مقاتلي المعارضة دخلوا منذ فترة هذا المزاج المعادي لروسيا، وتدفعهم شدّة الضربات الى التجذّر فيه.
كيف تبخّرت الأفكار الروسية عن إعادة تأهيل الجيش ليكون سورياً وليس أسدياً، ولماذا تخلّت موسكو عن خيار اجتذاب «الجيش الحرّ»، وهل أن حاجتها الى النظام ودعمها له ينطويان على اعتناق لخياراته، ومنها إجهاض البحث عن حل سياسي لمصلحة السعي الى حل عسكري، وهل بلغ إعجاب الروس بالسيناريو الإيراني في العراق حدّ تكراره في سورية باستدعاء الإرهاب استدعاءً تحت مظلّة مفاوضات زائفة، وهل أن «تفاهمات» أميركا وروسيا تسمح لطرفيها بالتعايش على رغم خلافاتهما فحسب، ولا تتيح لهما إدارة حل منصف لسورية وشعبها، وماذا عن «الحرب على داعش» اذ يتعذّر تزامنها مع انطلاق حل من دون الأسد؟.. أسئلة مشروعة في ظل اهتزاز الثقة بمصداقية كل «عملية فيينا» والقرار 2254 الذي أنتجته.
الواضح أن عناصر «الصفقة» الدولية في شأن سورية لم تتضح معالمها بعد، لكن تكفي مراقبة حركة لاتصالات بين دول لقاءت فيينا للقول إن المساوات بدأت، خصوصاً في ما يتعلّق بالمجموعات «الإرهابية» التي سيتمّ إقصاؤها عن أي «عملية سياسية، ما يعني أيضاً إضعاف تأثير الدول المشتبه بها بتمويلها. وقد يكون أحد عناصر «الصفقة» ما يُلمس من تراجع ظاهري للدور الإيراني. إذ إن تثبيت نفوذ إيران وتمكينها من صيانة أوراقها للمساومة، لن يستقيما مع استبعاد تركيا من المعادلة وعدم أخذ المصالح العربية في الاعتبار، بل ينذران بصراعات إقليمية دائمة بين المستفيدين والمتضرّرين، ما قد يتطلّب وجوداً روسياً دائماً تفرضه التطورات والضرورات حتى لو لم تكن موسكو راغبة فيه. لكن هذا الوجود الروسي نفسه آخذ بالتحوّل أكثر محوراً للتأزيم منه حافزاً على التهدئة.
مع أنه من الصعب تصور أو تخيُّل صحة ما تحدث عنه الصحافي الأميركي، الشهير بـ«خبطاته» المعلوماتية، سيمور هيرش في مجلة: «لندن ريفيو أوف بوك» إذ إنه مستغرب جدًا أنْ تتحايل المؤسسة العسكرية الأميركية ممثلة بهيئة الأركان المشتركة على السياسات المعلنة التي يتبعها الرئيس باراك أوباما إزاء الأزمة السورية وتقوم بتعزيز بقاء بشار الأسد في الحكم وبتمرير معلومات استخبارية للجيش السوري بطرق غير مباشرة و«تتآمر» على المعارضة المعتدلة بحجة أنه لا وجود لها وتسعى إلى الحد من تسليح التنظيمات الوطنية التي اعتبرتها متشددة بل وفي بعض الأحيان «إرهابية»..
إنه لو صحت ولو بعض المعلومات التي ضمنها سيمور هيرش تقريره المطول الذي نشرته مجلة «لندن ريفيو أوف بوك»، فإنَّ هذا يعني أن هناك «لعبة أمم جديدة»، وأنَّ هناك «مؤامرة قذرة» فعلاً قد تعرضت لها سوريا وتعرض لها الشعب السوري خلال نحو خمسة أعوام ماضية، وأن هذه المؤامرة لا تزال متواصلة ومستمرة حتى الآن وإلا ما معنى أن تغيب أميركا كل هذا الغياب المريب وتترك لروسيا الحبل على الغارب ولتفعل كل ما تريده عسكريًا وسياسيًا في بلد عربي يحتل موقعًا استراتيجيًا في الشرق الأوسط وله مكانته العالمية والدولية؟!
والسؤال هنا هو: ألا تستدعي هذه المعلومات الخطيرة جدًا، التي من بينها أن هيئة الأركان الأميركية المشتركة كانت تعمل بين عامي 2012 و2014 بالنسبة للأزمة السورية خلافًا لتوجهات إدارة باراك أوباما، وأنها لجأت في خريف عام 2013 إلى خطوات ضد «متشددي» المعارضة من دون المرور عبر القنوات السياسية في واشنطن، أن يسارع الرئيس الأميركي، حتى قبل أن يذهب إلى هاواي لقضاء عطلة أعياد الميلاد وبداية السنة الجديدة، إلى تشكيل لجان تحقيق جدية في هذه الأمور الخطيرة، أمْ أنَّ كل هذا الذي جرى قد جرى بعلمه، وأن سيمور هيرش قد ذهب به الخيال بعيدًا فغلَّب الحبكة «الدرامية» على الواقع والحقيقة؟!
ثم هل من الممكن يا ترى تصور أو تصديق أنَّ هيئة الأركان في جيش كالجيش الأميركي وفي دولة كالولايات المتحدة يحكمها نظام صارم أن تعمل من وراء ظهر الرئيس وظهر إدارته وظهر الكونغرس وتقوم بتمرير معلومات استخبارية إلى جيوش أخرى، هي الجيش الروسي والجيش الإسرائيلي والجيش الألماني لتقوم بدورها بتمريرها إلى الجيش السوري ليستخدمها ضد «العدو المشترك» الذي هو جبهة النصرة وما يسمى «الدولة الإسلامية»؟!
إنه لا يمكن لا تصور ولا تصديق أنَّ الرئيس باراك أوباما لم يكن على علم بما كانت تقوم به هيئة الأركان الأميركية المشتركة، كما قال سيمور هيرش وأنه «مع بدء تدفق المعلومات من قبل استخبارات الولايات المتحدة قامت ألمانيا ومعها إسرائيل وروسيا بتمرير هذه المعلومات عن (الجهاديين) ومواقعهم وخططهم إلى الجيش السوري»، وبالطبع فإن هيرش هذا لم يفته أن يشدد على أنه لم يكن هناك أي اتصال مباشر بين الجيش الأميركي والجيش السوري، ولكنه نقل عما سماه «المستشار العسكري» قوله: «إنَّ هذه المعلومات كانت تعبيرًا عن تعاون بين مؤسسات عسكرية وليست خطة شريرة للتحايل على أوباما ودعم الأسد من وراء ظهره (...)»!!
وهنا فإن أخطر ما جاء في هذا التقرير هو الحجة التي لا يزال الروس يستخدمونها ضد المقاومة السورية (المعتدلة) والقائلة، إن سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي إلى الفوضى وربما إلى سيطرة المتشددين على سوريا.. كما حصل في ليبيا، وحقيقة فإن هذه الحجة حجة واهية، وأنه تقف خلفها مؤامرة حقيرة بالفعل وذلك لأن بديل الرئيس السوري هو المعارضة التي التقت مؤخرًا في الرياض وهو الهيئة السياسية «الكاملة الصلاحيات» التي تم الاتفاق عليها في «جنيف1» وهو المرحلة الانتقالية التي ستديرها وتشرف عليها هذه الهيئة التي تقرر أن يشارك فيها من لمْ «تتلطخ» أيديهم بدماء السوريين من أركان هذا النظام السوري وبالطبع ودون أي استثناء للطائفة العلوية.
إن هذا مجمل ما جاء في تقرير سيمور هيرش الذي جرى تناوله على أساس أنه جاء كإثبات على أنَّ باراك أوباما كان بالنسبة للأزمة السورية كالزوج المخدوع الذي هو آخر من يعلم أو الذي لا يعلم شيئًا، وعلى أساس أنَّ الأميركيين «متآمرون»، وأنهم يظهرون للسوريين وللعرب وجهًا جميلاً في حين أنهم في السر يعملون بوجه آخر وأنهم، إذا كان هذا الذي قاله هيرش صحيحًا أو فيه بعض الصحة، فهم المسؤولون عن كل هذه المآسي التي حصلت في سوريا خلال الأعوام الخمسة الماضية وبما في ذلك هذا التدخل الروسي في هذه الدولة العربية.
والآن وفي حين أننا قبل الاطلاع على محتوى هذا التقرير، الذي يسود اعتقاد بأن مضمونه العام قد يكون فيه بعض الصحة حتى دون الحاجة إلى المصادر التي أشار إليها سيمور هيرش، كنا نعتقد أن المشكلة تكمن في «تساهل» الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري وإدارته السياسية عمومًا تجاه نظام بشار الأسد وتجاه الروس والإيرانيين وأن هيئة الأركان المشتركة وكبار جنرالات الجيش الأميركي هم المتشددون، وهم كانوا، لولا قوى الشدِّ العكسي في هذه الإدارة، سيساندون الجيش السوري الحر والمعارضة السورية المعتدلة المساندة الفعلية الكفيلة بالتخلص من هذا النظام السوري الاستبدادي منذ البدايات.. أي منذ عام 2013 على الأقل.
والمهم هنا، وسواءً كان تقرير سيمور هيرش هذا صحيحًا كله أو بعضه أم أنه مجرد «شطحات» صحافية خيالية، هو إلى أين هي ذاهبة الأمور بعدما اتضحت حقيقة التدخل الروسي في هذا البلد العربي واتضحت دوافع هذا الاحتلال وأن الهدف هو القضاء على المعارضة (المعتدلة) التي هي المعارضة الفعلية وتفريغ «جنيف1» من مضمونه وكذلك «فيينا1» و«فيينا2» ومؤتمر نيويورك وأيضًا قرارات مجلس الأمن الدولي الأخير ليصبح بالإمكان إعادة صياغة هذا النظام وتسويقه مجددًا لولاية ثالثة.. ورابعة.. وألف!!
الآن يضغط الروس على المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، بينما هُمْ يواصلون حربهم الظالمة، ومعهم حراس الثورة الإيرانية وحزب الله وكل الميليشيات المذهبية، على الشعب السوري وقواه الوطنية المعتدلة لتشكيل وفد المعارضة الذي من المفترض أن يتفاوض مع ممثلي النظام في الخامس والعشرين من الشهر المقبل، وكأن دي ميستورا هذا أصبح ولي أمر شعب سوريا العريق، وأصبح هو الآمر الناهي بالنسبة لقضية أصبحت على كل هذا المستوى من التعقيد، والسبب الرئيسي هو التدخل الروسي غير المبرر إطلاقًا ومنذ البدايات وحتى الآن.
لقد رحل رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي الذي حمَّله تقرير سيمور هيرش مسؤولية ازدواجية الموقف الأميركي تجاه الأزمة السورية وأصبح في عالم النسيان والسؤال هنا هو أيضًا: هل يا ترى ستبادر إدارة الرئيس باراك أوباما في باقي ما تبقى لها من وقت لتدارك الأمور واتخاذ الموقف الصحيح المفترض لوضع حدٍّ لكل هذه العنجهية الروسية وإعادة الأمور إلى مسارها السابق الذي هو مسار «جنيف1»، والمفترض أنَّ البداية هي التصدي الفعلي للحرب المسعورة التي يشنها الجيش الروسي ضد الشعب السوري وقواه الوطنية المعتدلة وفتح الطريق مجددًا أمام المرحلة الانتقالية وأمام ضرورة تنحي بشار الأسد بمجرد تشكيل الهيئة الحاكمة على أساس «جنيف1» هذه الآنفة الذكر.
ثم وإلى جانب هذا فإن المتوقع أن تبادر المعارضة الوطنية السورية، بكل قواها الفاعلة التي لا علاقة لها لا بـ«داعش» ولا بالإرهاب بكل عناوينه وأسمائه ومسمياته، إلى توحيد صفوفها وتنظيم قواها العسكرية لتستطيع مواجهة هذه الهجمة الروسية – الإيرانية المسعورة ولتضمن لشعبها الانتصار الذي إن استطاع هؤلاء القتلة الانتصار عليه وهم لن يستطيعوا فإن التاريخ سيعود إلى الوراء لأكثر من ثلاثة وثلاثين عامًا عندما ارتكب حافظ الأسد مذبحة حماه الشهيرة عام 1982 التي أطال بارتكابها عمر نظامه حتى الآن.. حتى هذه اللحظة!
نطوي عام 2015 خلال هذه الساعات و نطوي معه اعقد عام من اعوام الثورة و اكثرها تخبطاً و توهاناً في البوصلة ، و التقلبات بين لذة التوحد و الانتصارات ، مروراً بقساوة الغرق و ألم الهجرة و النزوح ، مع تجرع مستمر لسم المجازر و الفقد .
شهدت العام عودة لروح الثورة بجيش فتح و تحرير ادلب ، انتفاضة في الجنوب و تحطيم مخطط مثلث الموت ، فهدوء و ركون ، تبعه جثة طفل وجدت على شاطئ اختفت سوريا خلف هذه الجثة وتحولت القضية من ثورة حرية ، للبحث عن مكان يضم اللاجئيين.
30|٩|٢٠١٥ هو اليوم الأشد قتامة في تاريخ سوريا ، في هذا اليوم أعلنت روسيا عن تدخلها الرسمي و العلني الى جانب الأسد بدعوى مكافحة الارهاب ،لكن في الحقيقة كان لمكافحة الثورة فمنذ ذلك التاريخ ، تحولت الأرض لجحيم ، فالسماء ملئت بطائرات الموت ، و على الارض جيوش و جحافل استقدمت من ايران وبدعم منها .
طائرة أسقطت في شرم الشيخ و تفجير وجد في باريس ليكتمل المشهد بانضمام مزيداً من الطائرات في الأجواء ، و التي باتت تضم قرابة المئة علم ، و لكنها جميعها لم توجه و لو "وردة" على السفاح الأكبر و المسبب الأول و الدائم لكل ما يحدث.
عام 2015 كان الاقسى في سوريا و شهد شهره الأخير امورا عقدت الوضع كثيرا، قرار تاريخي من مجلس الامن بمصطلحات فضفاضة منحت القاتل فرصة تمتد للعام ونصف ،و تحكم روسي غريب ومنفرد بملف سوريا ، وسط صمت دولي مريب .
الميدان مشتعل و الأوراق مبعثرة ، و المفاوضات بلا أفق و لا حدود .
عام رمادي دموي بامتياز ، انتهى بنهاية تائهة .
من خلال الغوص في التطورات الحاصلة في عموم سوريا والمناطق الشمالية على وجه الخصوص من عفرين غرباً حتى تل أبيض شرقاً بات واضحاً السيناريو القادم للمنطقة الشمالية وحجم الكارثة التي ستحل بالمنطقة في حال بدأت المعركة الكبرى التي يحضر لها في أروقة القاعات السرية بدعم غربي سياسياً وعسكرياً بعد أن وقع الجانب التركي الرفض لكل مشاريع الدويلة الكردية في فخ إسقاط الطائرة الروسية والضغوطات الدولية التي تبعتها في مختلف النواحي.
هذا السيناريو يتمثل بإقامة الدويلة الكردية التي طالما نادى بها المكون الكردي في الجزيرة وعفرين ومنطقة عين العرب والتي ظهرت جلياً الأن أولى تشكيلها بعد وصل الحسكة بعين العرب وتراجع التنظيم في تل أبيض دون قتال، ثم تهجير الألاف من العائلات العربية في المنطقة والقيود المفروضة عليهم حتى في دخول تل أبيض مدينتهم العربية .أيضا الدعم الجوي الذي تقدمه طائرات التحالف للأكراد وحدهم دون سواهم في محاربة تنظيم الدولة في منطقة جنوب كوباني ووصولهم لسد تشرين والسيطرة عليه لتوسيع دائرة السيطرة حول عين العرب وحصار منبج وتراجع التنظيم المفاجئ وغياب مفخخاته وانتحارييه عن الساحة الميدانية بل تعدى ذلك لتهديد عشرات القرى العربية بالغرق وأن منسوب المياه في سد تشرين يرتفع لإجبارها على ترك مناطقها والهرب الى خارج الحدود.
واليوم بات ريف حلب الشمالي هو العائق الأكبر أمام تشكيل هذه الدويلة الكردية ليتم لهم السيطرة على كامل المناطق الحدودية مع تركيا من عفرين غرباً حتى الحسكة شرقاً وتعلن الدولة وترفع الرايات بمباركة غربية ودعم منقطع النظير وسعي من وحدة التنسيق لضم المكون الكردي لصفوفها بعد الزيارة التي قام بها مؤخراً ممثل هيئة التنسيق حسن عبد العظيم الى منطقة الجزيرة.
أما عن المعركة الحاسمة والتي يحضر لها فستكون في ريف حلب الشمالي حيث تعمل الوحدات الكردية ومعها وحدات حماية المرأة وجيش الثوار على خوض مناوشات على جبهات عفرين والمالكية في حين تنظيم الدولة يستميت بعناصره ومفخخاته للتقدم من جهة الشرق تاركاً خلفه قوات سوريا الديمقراطية تتوسع في ريف عين العرب وتل أبيض والغاية من هذه المناوشات من كلا الجانبين هو أنهاك الفصائل المرابطة في المنطقة على طول خط الجبهات بحرب باردة تشتت طاقتها ، بالتزامن مع الدعم الروسي وطائراته التي باتت تقصف بشكل يومي بلدات الريف الشمالي وسط غياب طيران التحالف الغربي والذي كان لا يفارق أجواء المنطقة قبل دخول الطرف الروسي.
هذه المناوشات بين شرق وغرب تتزامن مع تحركات عسكرية كبيرة في عفرين وتحضيرات لخوض المعركة الفاصلة والسيطرة على ريف حلب الشمالي ووصل عين العرب بعفرين حيث تتوارد الأنباء بشكل يومي عن هبوط مروحيات في المنطقة وإفراغها كميات كبيرة من الأسلحة ربما تكون تابعة للتحالف الغربي أو نظام الأسد ، هذا بالإضافة لكميات الأسلحة الكبيرة التي دخلت لحي الشيخ مقصود من طرف نظام الأسد لدعم المقاتلين الأكراد في الحي والذي يسيطر على طريق الكاستيلوا المنفذ الوحيد لمدينة حلب.
كل هذه التطورات هي تحليلات واقعية باتت ظاهرة للعلن ولم تعد خافية على أحد والحل في مواجهتها يقتضي من فصائل حلب عامة دون تمييز بين راياتها أن تترك كل خلافاتها جانباً وتعلن إندماجها بكيان وقيادة واحدة قبل أن تبدأ المعركة الكبرى وتخسر بلدات الريف الشمالي لا قدر الله وبالتالي تحاصر حلب المدينة ويفك الحصار عن نبل والزهراء وتغدو الثورة في حلب شيئاً من الماضي بعد كل التضحيات التي قدمتها. فاليوم اليوم بات لزاماً على كل قيادات فصائل الثورة في حلب الوقوف وقفة رجل واحد قبل الكارثة فالحرب لن تبقي أي راية مرفوعة وسيذكر التاريخ كل متخاذل.
قد يبدو الكلام في موضوع الثوار في درعا شيء في غاية التعقيد ، نتيجة الاختلاط الحاصل هناك ، و التشتت و التنوع ، و الأهم بسبب التدخل العميق لمن هو خارج الحدود و يأخذ مناصب مدوية من حيث الاسم ، وكبيرة من حيث الهيكلية ، ومعدومة الفاعلية أو ضيئلة الأثر على الأرض.
اليوم مع اقتحام مدينة شيخ مسكين ، و خسارة اللواء ٨٢ أو دخوله في معارك كر و فر لا يعرف مداها و أو حجم الخسائر التي ستخلفها ، بشرية كانت أم مادية ، هذا الدخول فتح الجرح من جديد .
درعا التي دخلت في سبات من النوع الثقيل والثقيل جداً ، و ألقت التهمة على داعش في كثير من الأحيان ، وبنفس القدر ألقى من يتقن قراءة الأرض على "الموك" سبب في كل هذا .
بالأمس سمعنا من البيانات ما يكفي للزحف إلى قلب دمشق ، و شاهدنا من الأرتال ما يكفي لضرب القصر الجمهوري ، و لكن على الأرض كان الحضور هشاً ، بشكل خسر الثوار معسكراً تم أخذه في قمة النشوة في درعا ، و الآن خسرته في أعمق مراحل الغفوة .
لاشك أن ابتعاد القادة عن فصائلها له أثره ، و انزوائها في الأردن خوفاً من فيروس الاغتيالات الذي بات وباء في درعا ، يخافه القادة دون أن يسعوا لمعالجته ، ولانعرف هل هو حب للحياة أم بسبب معرفة مصدره و تبعياته ، فلذا فضلوا الركون بانتظار انتهاء دورته .
درعا ، مصدر شرارة الثورة ، نقطة القوة للثورة على مدى السنوات الخمس الماضية ، وكانت بيضة القبان عندما يميل لصالح النظام و أعوانه ، باتت اليوم نقطة الضعف و الخاصرة الرخوة ، الغير قادرة حتى على حماية نفسها ، فكيف بأن تساعد غيرها من المناطق التي تواجه العالم بأسره ، وخصوصاً في حلب و ريفها و ريف اللاذقية ،الذين يتحملون ضغط النظام و روسيا و ايران و جميع المليشيات و كذلك داعش و أطماع الأكراد وحدهم ، دون أن يجدوا و لو معركة إشغاليه في الجنوب القريب من مصادر قوة النظام .
لامبرر يمكن الخوض به للتخفيف أو ايجاد المنفذ لقيادات درعا ، وكذلك لامبرر للانفلات الأمني الغريب الذي أودى بأهم وأفضل وجه درعا ، وسط حالة من الترهل و التركيز على البيانات و البيانات المضادة ، وكأن الثورة توقفت و باتت عبارة عن حالة نعيشها ويجب أن نتعايش معها .
و طبعا الكلام يقتصر على قيادات الصف الأول ، أما جهة المقاتلين و الثوار فنحن ننحني أمامهم ، فهذه درعا التي ولدت آلاف الثوار ، وواجهت النظام بصدور عارية و تسلحت ببنادق مهترئة و استطاعت كسر غالبية ألوية و كتائب النظام في رقعة جغرافية تعرف بأنها مركز قوات الأسد ، هي من أحيتنا في معارك مثلث الموت ، و أماتت كل من اقترب منها بانتفاضة غيرت مخططات كانت تشكل الغاية من دخول ايران و حزب الله لسوريا .
ولانعرف ما الذي يجعل درعا تستيقظ
الغارة الروسية التي ذهب ضحيتها زهران علوش تؤكد السياسة الواضحة لموسكو. تؤكد ما لا يحتاج إلى تأكيد: لا تريد الاستماع إلى الآخرين، أو أخذ مواقفهم بعين الاعتبار. ولا انتظار التفاهم على «لائحة الحركات الإرهابية» التي وضعها الأردن. وكانت أبدت سلفاً اعتراضها على وجود ممثلين لفصائل عسكرية في مؤتمر الرياض للمعارضة. وتجهد لتغيير نتائج المؤتمر بضم معارضين بديلين منهم غابوا عنه قريبين منها ومن النظام. بودها تكريس هؤلاء. وإذا لم تستطع بالديبلوماسية فبالقوة لشطب من لا يروق لها جسدياً. القراءة السياسية للغارة ومؤداها هما الأهم. قائد «جيش الإسلام» كان رقماً صعباً في الميدان العسكري، في دمشق وريفها خصوصاً. لكنه على المستوى الشخصي كان مثار جدل واختلاف. هذا ما حفلت به سابقاً مواقف لقوى معارضة. وجه إليه كثيرون انتقادات، سواء لطريقة إدارته للقتال وتحويل مواطنين دروعاً بشرية. أو لمواقفه من الديموقراطية والتعددية. أو لطريقة إدارته شؤون الناس ومعيشتهم وإغاثتهم في مناطق سيطرة عسكره. واتهموه بالتشدد والتزمت وباعتقال عدد من النشطاء. وقامت في وجهه تظاهرات، على رغم أنه قاتل تنظيم «الدولة الإسلامية». حتى أن بعض أصدقاء المعارضة، محليين وإقليميين، كانوا يشعرون بالحرج حيال «اعتداله». وتردد أن محاولات بذلت ولم تتوقف سعياً إلى إبعاده عن الصورة من أجل الدفع بإشراك ممثلي قواته في «جنيف 3»، بعدما شاركوا في اجتماعات العاصمة السعودية في التاسع والعاشر من الشهر الجاري.
نتيجة الغارة الروسية على اجتماع قادة «جيش الإسلام» ليس هدفها علوش فحسب. هدفها إحراج هذا الجيش وآخرين لإخراجهم. هي تأكيد على أن موسكو مصممة على لائحتها الخاصة بالحركات الإرهابية. ومصممة على تحديد الوفد المفاوض للنظام، وعلى رسم صورة التسوية السياسية في سورية. والمفارقة هنا أن الغارة الروسية استهدفت زهران علوش الذي واجه «داعش» وطردها من غوطة دمشق، فيما قوات النظام تفاوض على تفاهم يسمح لمقاتلي «تنظيم الدولة» الإرهابي بالخروج «آمنين» من جنوب العاصمة إلى الرقة وريف حلب. كما يسمح لآخرين من «جبهة النصرة» بالتجمع في درعا تمهيداً لنقلهم إلى منطقة إدلب! طبعاً لم يكن الأمر يحتاج إلى هذه المفارقة لتكرار ما يقوله الأميركيون والأوروبيون والمعارضة. وهو أن الحملة الروسية لم تستهدف حتى الآن سوى الفصائل المعتدلة. والهدف واضح لا لبس فيه، على رغم الغموض الذي يكتنف بياني فيينا والقرار الأخير لمجلس الأمن الرقم 2254. لا يمكن موسكو الدفع برؤيتها الخاصة للتسوية من دون التمهيد ميدانياً بإزاحة ما تعتقد بأنه سيشكل عراقيل وعقبات أمام هذه التسوية.
ليس غموضاً أن روسيا تدخلت ميدانياً في سورية من أجل حماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بمشاريع الطاقة والغاز، من الخليج أو من شرق المتوسط، والهادفة إلى تقليص اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية. أدركت بعد أربع سنوات من دعمها قوات النظام ومن تدخل إيران مباشرة وبالواسطة، أن لا دمشق ولا طهران أثبتتا القدرة على القيام بهذه المهمة. لذلك جاء اندفاع الرئيس فلاديمير بوتين ليأخذ الأمر بقواته الخاصة. ولم يعد غامضاً أنه يسعى إلى بقاء النظام بصرف النظر عمن يتولى السلطة. ويدفع بآلته العسكرية غير مبال بالتداعيات. لا مساومات. القوة وحدها تفتح الطرق العصية على الديبلوماسية لفرض التسوية التي يرسمها. والواقع أن القرار الدولي الأخير 2254 تبنى مقررات لقاء «فيينا 2» الذي طوى صفحة بيان «جنيف الأول». و»التنسيق» القائم بين موسكو وواشنطن يكاد يطوي مقررات المعارضة في الرياض ويتجاهل التوافق على «لائحة القوى الأرهابية» التي يتولى الأردن إعدادها بالتنسيق مع جميع المعنيين بالأزمة السورية.
في ضوء هذه الاستراتيجية الروسية لا يبدو أن لقاءات «جنيف 3» ستفضي إلى انفراجات. يكفي النظر إلى مواقف الأطراف الذين يشكلون «الهيئة العليا للمفاوضات» قبل النظر إلى اعتراضات من اعترضوا على غيابهم أو تغييبهم، خصوصاً «مجلس سورية الديموقراطية» الذي يضم حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وقوى أخرى أشورية وسريانية وتيار «قمح» لهيثم مناع. هناك أكثر من ثلاث وجهات نظر في «الهيئة» يعبر عنها كل من «الائتلاف الوطني»، و»هيئة التنسيق» و»تيار بناء الدولة»، والفصائل المقاتلة وضمنها «أحرار الشام»، و»جيش الإسلام» الذي لن ينتهي ويزول بمقتل قائده. ويمكن قراءة غياب المشتركات بين هذه القوى من مواقفها حيال المسيرة السياسية التي أقرها لقاءا فيينا والقرار الدولي، وما قبل ذلك وبعده. ولن تكون موسكو بعيدة عن تعميق الخلافات من أجل تعزيز خيارها العسكري، والدفع بالمعارضة السياسية والعسكرية التي يمكن احتواؤها من أجل إعادة تشكيل النظام الذي يعد بقاؤه مبرراً لاستمرار الوجود الروسي.
اللامبالاة التي ينهجها الرئيس بوتين حيال القوى الأخرى المعنية بالأزمة السورية لن تمر بسهولة. المعركة المفتوحة التي يخوضها ضد تركيا لن تريحه في سورية. صحيح أن مشروعها لإقامة منطقة آمنة شمال حلب وإدلب انتهت بإقامة منطقة عازلة جنوب تركيا باتت تحت مرمى صورايخ «اس 400» الروسية! وصحيح أن هروب الرئيس رجب طيب أردوغان نحو العراق أثار عاصفة في وجهه. لكن الصحيح أيضاً أن سعي الرئيس الروسي إلى عزل أنقرة يعزز موقع غريمتها طهران. بالطبع هو يراعي الوجود الإيراني في بلاد الشام لأنه لم يستطع حتى الآن إعادة بناء قوة حقيقية ضاربة من الجيش النظامي يمكن أن تحل محل المليشيات الوافدة من خارج الحدود. هذه المراعاة لدواع استراتيجية معروفة لا تثير الرئيس التركي وحده. بل تثير قلق قوى عربية وقفت إلى جانب المعارضة السورية وسكتت على التدخل الروسي لاعتقادها بأنه خير أو أقل ضرراً من التغلغل الإيراني. لكن مواصلة موسكو ضرب «الجيش الحر» والفصائل التي ارتضت الحل السياسي تبدو إصراراً على بعث أزمات مع هذه القوى. وتعزز نظرة كثيرين إلى أن روسيا باتت في مواجهة مفتوحة مع الإسلام السني في المنطقة، في وقت لا شيء يضمن أن التسوية يمكن أن تفرض على السوريين من خارج بعد كل هذه التضحيات. حتى سيد الكرملين نفسه يعرف أن لا جدوى من دعم النظام.
ولا يكفي هنا أن يعتمد الرئيس بوتين على «لامبالاة» مماثلة يعتمدها نظيره الأميركي باراك أوباما حيال أزمة سورية. الأخير يعتمد سياسة واضحة حيال التدخل العسكري الخارجي. خبر أكلافه الباهظة التي ترتبت على الحروب الاستباقية. وأعلن أكثر من مرة أن لا قدرة لبلاده على التدخل وممارسة القوة في كل أزمة إقليمية هنا أو هناك. لذلك لا يضيره أن ينوب عنه سيد الكرملين في دور «الشرطي الدولي». لأنه يعرف كما يعرف نظيره قدرة روسيا على التحمل اقتصادياً، مهما حاولت التقليل من حجم تكاليف تدخلها العسكري في بلاد الشام. لقد دفع بوتين ولا يزال يدفع غالياً ثمن عناده في أوكرانيا. كانت العقوبات رداً على تجاهله مواقف أميركا وأوروبا. وضمه شبه جزيرة القرم وتحريكه مناطق الشرق الأوكراني لم يعيداه ولن يعيداه إلى قلب كييف. وستظل هذه بقربها من الغرب تشكل تحدياً لاستراتيجيته واستنزافاً لمقدراته. ولن تكون حاله أفضل في سورية. فلا شيء يضير واشنطن وهي ترى إليه يُستنزف في رمال المنطقة، ويتحول خصماً لدوداً للعالم العربي والإسلامي. ومثلها شركاؤها الأوروبيون الذين بدلوا ويبدلون من مواقفهم على وقع موجات المهاجرين وإرهاب «داعش» المتنقل خارج «دولة الخلافة».
أن يرسم الرئيس بوتين صورة التسوية في سورية ويفرضها بقوة طائراته وصواريخه ليس خياراً مضمون النتائج. لن يطول انتظار اللاعبين الآخرين وصبرهم. مستقبل بلاد الشام جزء لا يتجزأ من مستقبل الإقليم برمته. بل هي قلب الإقليم. وليس بمقدور موسكو أن تحدد صورة المنطقة وبناء نظامها وحدها وعلى هوى مصالحها فقط. لن يدعها السوريون قبل الآخرين، من أميركا إلى أوروبا ودول إقليمية وعربية لا تزال تنتظر لعل وعسى. قد لا يمر وقت طويل حتى ينهار مشروع بوتين للتسوية، كما تنهار طموحاته في آسيا الوسطى أمام زحف الصين. سيدرك عندها أن تركيا والفصائل الإسلامية، من «جيش الإسلام» إلى «أحرار الشام» وغيرهما، ليست المشكلة الوحيدة في وجهه. كفُّ يدِ تركيا عن سورية لن يغيبها قوةً راجحة في الإقليم. وقتل زهران علوش لا يقضي على الفصائل الإسلامية. المواجهة مفتوحة على امتداد المنطقة، والميدان الشامي يختصرها كلها ، فهل تصمد موسكو؟ أو بالأحرى هل تصمد سورية ويبقى منها شيء للصراع عليه؟
يرجّح أن ترتبط مستجدات الشأن السوري مع حلول سنة جديدة، بما قد ينجلي عن تنفيذ خطة الطريق التي تضمّنها قرار مجلس الأمن 2254، وما يترتب على ذلك من إعادة بناء المواقف والاصطفافات، ومن تطورات ميدانية لن تخلو من بعض الغرائب والمفاجآت، ومن عمليات كرّ وفرّ لضبط دوامة الصراع الدموي المتفاقم.
ويرجح أيضاً، أن يشهد مسار التنفيذ مناورات وارتدادات، ومحاولات متنوعة لتمييعه وإعاقته، بخاصة أن غالبية أطراف الصراع الداخلية تزدري السياسة وترفض ضمناً قرار مجلس الأمن، وتالياً تقديم تنازلات تفتح الباب أمام حلول سلمية، وهي بلا شك ستتوسّل، لتحقيق مآربها، دعم حلفاء يناصرون موقفها. والأهم ما يتضمّنه القرار من غموض ونقائص وثغرات، مثل غياب آليات ناجعة لوقف العنف والتزام نتائج المحطات التفاوضية، ثم تباين المواقف من ماهية الجماعات الإرهابية ومن تركيبة الحكم الانتقالي العتيد!.
لكن المتوقع أن تصطدم مناورات القوى المحلية بإرادة أممية، تبدو حازمة هذه المرة، لإخماد بؤرة التوتر السورية، تحدوها تفاهمات جدية وتوافقات في المصالح والمخاوف لدى أهم الأطراف الدولية والإقليمية.
ودليل الإرادة الحازمة هو الطريقة التي عالجت بها هذه الأطراف خلافاتها وتبايناتها حول الحل السياسي، فاستبعدت مشاركة ممثلين من السلطة والمعارضة، وأظهرت سرعة في تقديم تنازلات متبادلة للتوصل إلى إجماع أممي توّج بخطة أولية لوقف العنف، وجدول زمني للسير في العملية السياسية. أما جدية التوافقات، فلا تستند فقط إلى تبلور مصالح اتحدت لمواجهة قوى التطرف الجهادي، وفي مقدّمها تنظيم «داعش»، الذي بات يرغد ويزبد ويهدد بشن عمليات إرهابية في أهم العواصم الغربية، وإنما أيضاً إلى ضرورة الحؤول دون تحوّل سورية إلى دولة فاشلة خشية انفلات الصراع وتمدّده إلى بلدان الجوار وزعزعة استقرار المنطقة، ثم إلى حاجة مستجدة تتنامى لدى بلدان الغرب لوقف تدفّق اللاجئين الهاربين من آتون العنف إليها وما يشكلونه من ضغط سياسي واقتصادي.
وبعبارة أخرى، ما دام ثمة اعتقاد بأن قرار مجلس الأمن حول الشأن السوري وُضع كي يأخذ طريقه إلى التنفيذ ولن يهمل كاتفاق جنيف، فليس مستبعداً أن يلجأ صانعوه إلى عقد اجتماعات ملحقة واتخاذ قرارات جديدة لتدقيق الإجراءات وتحديد المسؤوليات ومحاصرة المارقين، وربما يصلون إلى البحث عن وسائط ناجعة لتنفيذ خطتهم، كوضع الحالة السورية تحت البند السابع، أو تشكيل قوات عربية ودولية للفصل بين المتحاربين ومراقبة تنفيذ الخطوات المطلوبة.
ومن جهة أخرى، تستقبل البلاد عاماً جديداً والتدهور يتسارع في الملف الإنساني، إن لجهة أعداد الضحايا وحجم الدمار، وإن لجهة الغموض المؤلم في مصير المعتقلين والمفقودين، وإن لجهة تردّي أحوال المهجرين، مرة بسبب تراجع المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة، ويعتصرك الألم حين تراقب كيف يُترك اللاجئون في المخيمات شبه عراة أمام جنون الطبيعة وغدرها، وكيف يكابدون شروط حياة تشتد قسوتها مع تراجع فرص حصولهم على المواد الغذائية والرعاية الصحية، ومرة ثانية، بسبب نفور الشعوب الغربية منهم نتيجة الانعكاسات السلبية التي خلّفتها الأعمال الإرهابية الأخيرة، هذا ناهيكم عن الأوضاع المأسوية لمن لا يزالون تحت حصار شديد منذ سنوات، أو للنازحين الهاربين من آتون العنف إلى مناطق آمنة في ظل ضيق الفرص وبحثهم المضني عن مأوى ولقمة عيش لسد أبسط مستلزماتهم الحياتية. وينسحب الأمر على غالبية السوريين الذين باتوا يعانون الأمرّين، في ظل التدهور المريع للوضع الاقتصادي والارتفاع المخيف في أسعار السلع الأساسية والغذائية نتيجة تعطّل غالبية المشاريع الإنتاجية وتدهور القدرة الشرائية.
ولا حاجة الى كبير عناء كي تلمس ازدياد أعداد البشر غير القادرين على تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم المعيشية، ربطاً بتردي شروط حياتهم الصحية والتعليمية والخدمية، ناهيكم عما يخلفه انتشار مراكز قوى وجماعات مسلّحة غير منضبطة باتت تتحكّم بالأرض وتمارس بقوة السلاح ما يحلو لها من خطف وابتزاز ونهب، من دون أن تخشى أية مساءلة أو عقاب!.
والحال هذه، إذ تزداد المحنة السورية على مشارف السنة الجديدة عمقاً وشمولاً وتطاول الجميع بلا استثناء، فإن وضوح الرغبة لدى غالبية الناس في الخلاص من هذا الوجع والخراب ورفضهم استمرار العنف وأي دافع يسوغ هذا الاستهتار المخزي بأرواحهم ومستقبل وطنهم، وكذلك الانكفاء الموضوعي للعنفوان الإيراني ورغبته التوسعية بعد النتائج التي حصدها في المشرق العربي واليمن، وتقدّم إرادة أممية تشهر مطلب الحفاظ على وحدة البلاد ومؤسسات الدولة وحقوق الإنسان، وتسعى الى وقف العنف المفرط وردع صوره المتطرفة والثأرية، نقف عند أهم الأسباب التي تشجّع على التمسك بوقف العنف كعتبة إقلاع لمعالجة الصراع السوري سياسياً، ومن دونها لا يمكن البناء على احتمال انحسار بعده الطائفي والمذهبي وتراجع الشروخ والتنابذ بين مكوناته، وتالياً للاشتغال على وحدة الذات المجتمعية ودورها في عملية التغيير السياسي الديموقراطي.
فهل ينجح إجماع القوى الأممية في محاصرة أطراف الصراع والضغط عليهم لوقف العنف وضمان نجاح المرحلة الانتقالية؟! أم لا يزال الوقت مبكراً كي يقتنع أصحاب منطق القوة والغلبة بأن الإصرار على تغليب المصالح الأنانية والضيقة، يعني استمرار الدوران في حلقة مفرغة من دون اكتراث بمعاناة البشر وما يكابدونه؟!.
«إننا محكومون بالأمل»، عبارة يتبادلها البعض وهم يستقبلون عاماً جديداً ربما لأنهم يعتقدون أن ما حلّ بهم يكفي، وأن ثمة فرصة لأن يكون الزمن المقبل مخاض خلاص من عبثية الصراع الدامي واستهتاره بأرواحهم وحقوقهم، وتالياً لتأكيد ضرورة دعم القرار السياسي الأممي كخيار متاح لوقف الاقتتال والعنف، وتقدير دوره المفتاحي في البدء بتجاوز ما صارت إليه أحوالهم، عساه يخفف من وطأة المخاض ويعجل وصول الناس إلى حقوقهم وما يتطلعون إليه!.
للكيماوي عند نظام الأسد مواسمه التي تزامنت، هذه المرة، مع مناسبات الأعياد الدينية للسوريين، من مسلمين ومسيحيين.. وعلى الرغم من هزالة ما أُنتج في مؤتمر الرياض من قرارات ليس لها شكل عَمَلي، وغير ملزمة لكل الأطراف، فإن البيان النهائي للمؤتمر احتوى، ولو شكلياً، على بندٍ تتكرر فيه دعوة ملحة لوقف كامل لإطلاق النار، وفق قرار يشمل جميع أراضي الجمهورية العربية السورية.
في دمشق، كان بشار الأسد يعد خطة مضادة، فظهر مع زوجته في توقيت المؤتمر على التلفزيون، وهو في إحدى الكنائس، مقتحماً تدريبات العزف المعتادة، ليقول للناس أنا هنا وأنتم هناك، تلا ذلك مجزرة جديدة في دوما، راح ضحيتها عشرات. واعتماداً على ردود الفعل المنعدمة التي قدمها العالم على المجزرة، أكمل نظام الأسد خطته، وأرسل رسالة أكثر فاعلية أفرج فيها عن جرعةٍ جديدة من سلاحه الكيماوي ليقتل بها سكان مناطق في ريف دمشق.
الموت هو واحد، وعدد الضحايا من السوريين مستمر بلا توقف، إلا أن الرسالة التي أرسلها النظام بإعادة استخدام السلاح الكيماوي تُعَدُّ مؤشراً خطيراً على العملية السياسية، وفيها تحدّ واضح للسوريين والعالم، خصوصاً إذا نَشطنا ذواكرنا لنستحضر عبارات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الواهية، وخطوطه الحمراء، وصفقة تسليم الكيماوي التي أجراها الأسد مع الأميركان برعاية روسية.
شَحَذَتْ صورُ السوريين المختنقين بالكيماوي، وحتى المقتولين تحت أنقاض منازلهم، هممَ معارضي الحل السياسي، لإشغال صفحات الميديا الاجتماعية، بما يدعم قرارهم رفض كل ما يمكن أن يأتي من هذا "العالم المتآمر"، من دون أن يُطلعنا أحدهم على سبيل آخر للحل.. وخرج عن مؤيدي النظام، ومَنْ في حكمهم، نفيٌ شكلي لاستخدام الكيماوي، مهمته ملء هواء الفضائيات بتصريحات لها صفة أخلاقية تُدخل المتابعين في شد وجذب غير منتهٍ، تعزّزه هزالةُ قرارات المؤتمر الأخير التي لم تستطع إدخال بعثات محايدة لتقصي الحقائق على الأرض.
يتسق ما يجري في الميدان مع تصريحات أفراد النظام السوري التي أدلى بإحداها وليد المعلم أمام وزير الخارجية الصيني، فمعلم النظام ما زال يتكلم عن حكومة وحدة وطنية، وليس عن هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة، كما نص مؤتمر الرياض ومن قبله فيينا وجنيف. ويتحدث الوزير عن وفود معارضة ربما يقبلون بها، وبالتالي، ربما يرفضون الحوار معها، قبل البدء بعملية الانتقال السياسي، بالطبع من دون أن ينسى العزف على سمفونية الإرهاب الذي يجب على الجميع محاربته، والذي يَعتبر المعلم نظامه سيكون شريكاً في تحديد كتائبه وأفراده.
في موسكو، ينفش بوتين ريشَهُ بعد زيارة وزير خارجية أكبر دولة له، ويُسهب في الكلام عن القانون الدولي والعقل السليم الذي يجب أن تدار الأمور به، ويتحدث عن اتصالات بين روسيا وكتائب معارضة على الأرض لا تثق بالتعاون مع النظام؛ لكن هدفها محاربة داعش. يسفّه بوتين الاتهامات التي تطاول روسيا عن رغبتها في إقامة قاعدة دائمة في المتوسط، ويستعرض مقدراته الصاروخية التي تلغي أهمية تلك القاعدة، ويغمز إلى أن معارضين سوريين تعهدوا له "بأخذ مصالح روسيا بعين الاعتبار"، لكن الأمر لا يعنيه، ومن ثم يعود مجدداً ليزاود على السوريين والعالم، ويتناسى ضحايا الهجمات الروسية، أخيراً، في إعزاز وريف دمشق، ويقول إن الحلول ووقف العمليات الحربية واختيار قيادات لسورية قرارات سورية بامتياز، والبت فيها يخص الشعب السوري وحده!
يصر بوتين على الأهمية المطلقة للدور السوري في الحل، مع علمه وعلم المجتمع الدولي بكامله أن السوريين لم يستطيعوا، على الرغم من كل المحاولات؛ الجادة منها والمزيفة، تحقيقَ حد أدنى من شروط الحياة لمن هم في داخل البلد، للوصول إلى وقف لإطلاق النار، أو للحد من هدم البيوت والبنايات فوق رؤوس ساكنيها، أو حتى إسعاد قلب الأمهات والآباء بالإفراج عن أبنائهم المعتقلين أو المخطوفين منذ سنين، بينما طائرات أكبر دول العالم تسبح في سمائهم.
ولد نظام "البعث" من انقلاب عسكري مناقض لإرادة الأغلبية الساحقة من السوريين، ولم ينجح في فرض وجوده والاستمرار، إلا بعد أن قبل أن يكون سلطة احتلال، وتحول بالفعل إلى سلطة احتلال. وكان عرّاب هذا التحول هو حافظ الأسد الذي تسلم قيادة النظام المضطرب منذ انقلابه على رفاقه في أواخر 1970. وكأي سلطة احتلال، ما كان في وسع الأسد أن يحتفظ بسلطته في مواجهة شعب رافض لها إلا بالنجاح في كسب تأييد الدول الكبرى الإقليمية والعالمية وبدعمها. وكانت سياسته ومصدر إعجاب الدول التي دعمته به الطريقة التي أدار بها مصالح الدول الأجنبية المتناقضة في سورية، وفن تزوير الإرادة الشعبية الذي أتقنه من خلال مطابقة سياسة وكيل أعمال القوى الأجنبية على الأرض السورية مع الأهداف والشعارات النبيلة التي كانت تحرّك السوريين والشعوب العربية، وفي مقدمها مقاومة التوسع الإسرائيلي ومبادئ السيادة والاستقلال التي كرّست نصف قرن من الكفاح الدامي ضد الاحتلالات الأجنبية.
بعكس ما يردده باحثون كثيرون اليوم، كان حافظ الأسد أول من انحاز بسورية من منطقة النفوذ السوفييتي الروسي نحو النفوذ الغربي. وفي إطار الانحياز نحو الغرب، طور سياسة العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها، وفي إطاره أيضاً خطط للتدخل السوري في لبنان عام 1975، والذي كان ضد إرادة الحكومة السوفييتية. وفيه أيضاً دخل في المفاوضات السورية الإسرائيلية حول الجولان، وعمل على تطوير سياسة التقرب من دول الخليج، والمملكة السعودية بشكل خاص، وشارك، على هذا الأساس، في التحالف ضد نظام صدام حسين، ثم في الحرب التي قادتها إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش (الأب) ضده.
لكن حافظ الأسد الذي قرر التوجه في اتجاه الغرب لم يذهب بذلك كما فعل السادات من قبل إلى حد قطع جميع علاقات التعاون مع السوفييت، ثم مع الروس الذين ورثوهم. ولذلك، بدت حركته وكأنها محاولة لإعادة التوازن لعلاقات سورية الدولية أكثر منها تغييرا للولاء. وهذا ما فعله أيضا في علاقاته مع الدول الإقليمية الرئيسية، فوقوفه إلى جانب المملكة العربية السعودية والخليج لم يجعله يخفف من قوة علاقاته مع إيران، حتى قبل التقاطع الكبير في المصالح منذ سقوط النظام البعثي العراقي.
هكذا، لم يغير التوجه السياسي الغربي للنظام، على الصعيد الدولي، من اعتماد الأسد الرئيسي في قطاع الأمن والجيش، وعلى جميع المستويات، على الاتحاد الروسي الذي ورث الاتحاد السوفييتي. وهذا ما حفظ للروس موقعاً استراتيجياً ثابتاً في البحر المتوسط والشرق الأوسط، لا يقتصر فقط على قاعدة طرطوس الرمزية. وفي المقابل، عزّز النظام تعاونه السياسي والدبلوماسي مع واشنطن وبروكسيل، في إطار البحث عن تسوية سياسية مع إسرائيل، واستعادة الأراضي السورية المحتلة في الجولان. ومنذ أواخر التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، توثق التعاون بين أجهزة الاستخبارات السورية والأميركية والأوروبية عموماً إلى درجةٍ صار النظام السوري يفتخر، هو نفسه، بأنه المسؤول عن إنقاذ أرواح أميركيين وأوربيين عديدين من عمليات الإرهاب. ولعبت أجهزة المخابرات السورية دوراً كبيراً في تعقب التنظيمات المتطرفة واختراقها، وتنفيذ المهام القذرة لحساب واشنطن على الأرض السورية، منذ بداية القرن. وتحول هذا التعاون الأمني إلى أهم تجارة مشتركة بين البلدين.
وعلى المستوى الإقليمي، طوّر النظام علاقات قوية مع طهران، من خلال انفتاح واسع النطاق على المستويات، السياسي والدبلوماسي والمذهبي، والذي تحول بعد أزمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق المرحوم رفيق الحريري إلى حلف استراتيجي، وتعاون متعدد الأشكال، أعطى لطهران الانطباع بأن سورية أصبحت جزءاً من مجالها الحيوي، وبالنسبة لبعض قادتها من ترابها الوطني. وفي المقابل، نجح الأسد في استرضاء تركيا، أولاً، بالتوقيع على اتفاقية أضنة (أكتوبر/تشرين أول 1998) التي أنهت عقوداً طويلة من دعم النظام السوري حزب عبدالله أوجلان، العمال الكردستاني، ثم أكثر من ذلك، بالتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة عام 2004. وقد أنتج هذا التعاون الأمني، ثم الاقتصادي، عرساً حقيقياً في العلاقات السورية التركية، استمر إلى أشهر طويلة بعد اندلاع الثورة السورية. وقد فتحت سورية أمام تركيا، بهذه الاتفاقية، أبواب المشرق العربي على مصراعيه، وقدمت لها خياراً شرق أوسطي، رديفاً للخيار الأوروبي المعلق. وفي المقابل، حصلت إسرائيل على كل ما تتمناه من حكومة الأسد، وهو الحدود الآمنة التي كانت تحلم بها، حتى من دون اتفاقية سلام، والتي سمحت لها بالضم العملي للجولان، كما استكملت بها الحدود الآمنة التي حصلت عليها في الجبهة الجنوبية المصرية، بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، ومكّنتها من عزل الحركة الوطنية الفلسطينية وتحييدها، وإنهاء حلم الدولة الفلسطينية. وكان النظام قد شنّ حرباً شعواء ضد هذه الحركة أيضاً، وعمل على تقسيمها منذ نشوئها في السبعينيات، وخاض ضد قواتها حرباً دموية في شمال الأردن (سبتمبر/ أيلول 1970)، ثم في لبنان (أكتوبر/ تشرين أول 1983)، ولم يتردد من قبل في طرد رئيسها ياسر عرفات من دمشق (يونيو/ حزيران 1983)، ما لم يكن يستطيع أن يفعله أي نظام عربي.
أما من جهة الدول الخليجية، فقد كان من السهل تحييدها، منذ وصول الأسد الأب إلى السلطة، بالتحالف الضمني، ثم العلني معها، ضد نظام صدام حسين، ونزوعه القوي إلى الهيمنة الإقليمية، أو من خلال ابتزازها بحمايتها من الإرهاب في مقابل ما قدمته من مساعدات ومعونات مالية.
هكذا ضمن الأسد أن تجد جميع القوى الإقليمية مصلحة لها في الإبقاء على نظامٍ يتعاون معها، ويؤمن مصالحها الرئيسية، حسب الأجندة الخاصة بكل منها. وكان ثمن ذلك تحييد الشعب السوري وعزله، وشل إرادته، وحرمانه من أي أملٍ، بدعم أو تضامن أو تعاطف خارجي، عربي أو دولي، وتحويل سورية، بالفعل، إلى ملكية خاصة، بقبول دولي، ومزرعة عبودية، تأتمر بأمر رجل واحد وتخضع لإرادته، ولا تعبد سواه. وبمباركة الدول وإجماعها، سجّل حافظ الأسد الدولة "الجمهورية" والشعب قبل أن يموت باسم ابنه بشار، ولم يصدر عن أي طرف، لا داخلي ولا خارجي، تعليق أو استغراب أو ملاحظة واحدة.
الوصاية الروسية المفروضة
حتى ربيع العام 2011، واندلاع الثورة الشعبية، عاش النظام السوري، وضمن مصالحه واستقراره، والقوة التي مكّنته من احتواء المشكلات الكبرى الداخلية التي كان يعاني منها، وهي ليست فقط سياسية، على هذا التوزيع الدقيق والمركب للمصالح الذي ضمن به ولاء الدول الإقليمية وغير الإقليمية، حتى عندما كان يدخل في نزاعاتٍ مع بعضها، بسبب ميل هذا الطرف، أو ذاك، إلى المبالغة في توسيع نفوذه على حساب الأطراف الأخرى، وبالتالي، تهديد التوازن الدقيق القائم. فبمقدار ما نجح الأسد في إيجاد توزيع للمصالح الوطنية على الدول الأجنبية، وضمن تأييدها، تحول هو نفسه، أعني نظامه وسلطته، إلى مركز توازن إقليمي، أو أحد أركان هذا التوازن الرئيسية. وأصبحت سورية، خلال سنوات طويلة، حقل استثمار مشترك للدول الإقليمية الرئيسية، وفرصة لتأمين التعاون في ما بينها، وتحييد نزاعاتها أو تناقضاتها المتعددة. وكانت، للسبب نفسه، منطقة فك اشتباك بين الأطراف، وتجنيبها الصدام في ما بينها، بمقدار ما حيّدت سياسة التوازنات هذه الموقع الاستراتيجي الاستثنائي الذي تمثله سورية، وأبعدته عن النزاعات الدولية والإقليمية. وبمقدار ما أمن هذا التوزيع استقرار النظام، جعل من بقائه واستمراره ضماناً للاستقرار والسلام الإقليمي والدولي، ولو كان ذلك على حساب تجريد بعض الشعوب من حقوقها، وفي مقدمها الشعب السوري.
وهذه هي روح السياسة التي طبقها، أيضاً، في الداخل بتحييده السلطة عن أي نزاع، وإطلاقه رهانات ثانوية بديلة، يتنازع من حولها الأفراد والجماعات، اقتصادية، حيد من خلالها رجال الأعمال، ورمزية مرتبطة بالصراع على مناصب الدولة الإدارية ووظائفها، بعد أن حولها أيضاً إلى مناصب إدارية تنفيذية، مفرغة من محتواها السياسي، بما في ذلك منصب رئاسة الوزارة، أو التنافس على اقتناء المنتجات الكمالية ونصف الكمالية، من خلال احتكار إنتاجها أو استيرادها وتوزيعها، من الشقة إلى السيارة خصوصاً إلى علبة المحارم الورقية.
انهارت سياسة الأسد القائمة على الحفاظ على التوازنات، وبالتالي، اللعب على التناقضات وإدارتها، بعد موت مصممها، لسببين رئيسيين متلازمين ومتفاعلين. الأول، كسر الشعب قانون العزل والخنوع، تحت تأثير ثورات الربيع العربية ودخوله القوي إلى حلبة الصراع السياسي. والثاني كسر طهران قانون الموازنة الدقيقة بين المصالح الإقليمية والدولية، وسعبها إلى الهيمنة الإقليمية بعد انهيار الدولة العراقية. وفي السياق، سوف تندلع الحرب أيضا، بتطابق إرادتين: إرادة النخبة الحاكمة وتصميمها على استخدام السلاح للدفاع عن احتكارها السلطة، وتدمير النخب الجديدة المطالبة بالمشاركة فيها، وإرادة طهران في الانفراد بموقع سورية الاستراتيجي، وتحويلها إلى مقاطعة إيرانية، وتهديد مصالح جميع الشركاء الإقليميين الآخرين، وطردهم منها.
هكذا حصل الربط بين الحرب الداخلية التي شنها الأسد على شعبه، لإعادة إدخاله في قفص القنانة والعبودية الذي أراد الخروج منه، بمطالبته بالمشاركة السياسية، والحرب الإقليمية التي توقد فيها طهران، من أجل بسط سيطرتها وقيادتها على المنطقة، وفرض أجندتها القومية عليها، وتحويلها إلى قاعدة لانطلاقها نحو آفاق السياسة الدولية. وهكذا صار قتل الشعب السوري وتدمير وطنه تفصيلاً صغيراً وتضحية بسيطة في سبيل تكوين قوة إسلامية كبرى، مرهوبة الجانب، بحجم الهند والصين وروسيا وأميركا، تقودها طهران الإسلامية، ويلتف حولها أكثر من مليار ونصف مسلم.
ويكمن هذا الربط في أساس الكارثة الإنسانية والحضارية التي عرفتها سورية والمنطقة، منذ سنوات خمس. فبقدر ما قطع الطريق على أي انتصار للشعب السوري، ومنع من البحث عن تسوية، عزز إرادة القتال عند الجميع وعمّق الشرخ بين النظام والشعب، وحوّل الحرب من نزاع سياسي إلى حرب وجود، يلعب فيها كل طرف مصيره. وفي موازاة ذلك، فاقم الانخراط الإيراني الواسع في الحرب على الشعب السوري من مخاوف باقي دول المنطقة، ووضعها على شفا حرب نفوذ إقليمية، وأغلق أمامها طريق الحوار، وأدخل المنطقة في طريق مسدود، وفي حرب تدمير ذاتي ومتبادل، لا نهاية ولا أفق لها.
كما وجدت جميع القوى الإقليمية والدولية مصلحتها في تحييد الشعب السوري من قبل، لم يجد أي منها مصلحة كبرى في دعم الثورة السورية. فباستثناء ما يتعلق بإسرائيل وأمنها، لم يبد الغرب اهتماماً كبيراً بالحرب الدموية. وكان من مصلحة تل أبيب أن يدمر عالم الإسلام والمسلمين نفسه بنفسه، كما دمر عالم العرب نفسه بنفسه، منذ بداية الاستقلال في الصراع على موقع القيادة القومية، بين "البعث" والناصرية، وأن تفرغ الحرب إيران والعالم العربي من قوتهما مجتمعين.
ولم تكن روسيا أيضاً معنية بوضع حد لهذه المحرقة الإنسانية والحضارية التي قرّرت استخدامها ورقة للضغط على الغرب، وفرض إرادتها عليه في المحافل الدولية، وإذلاله انتقاماً لما تعرّضت له روسيا ما بعد السوفييتية من تهميش وإقصاء وإذلال.
وقد ساهمت موسكو، بقطعها الطريق في مجلس الأمن على أي تدخل إنساني لحماية المدنيين في سورية، في ظهور "داعش" ونموها، ودفع ملايين اللاجئين الهاربين من القصف بالبراميل المتفجرة في اتجاه الدول الاوروبية. وكانت تنتظر أن يتوسل الغرب مساعدتها، لوقف تدهور الوضع في سورية والمشرق. وهذا ما حصل بالضبط، بعد أربعة أعوام. وتشعر الحكومة الروسية، الآن، بأنها سيد اللعبة في سورية والمشرق، وهي التي تستطيع أن تفرض شروطها من أجل التوصل إلى تسوية تخدم مصالحها القومية، ليس في سورية فحسب، وإنما قبل ذلك في أوروبا نفسها. وهي تنتظر عروض الغربيين حول أوكرانيا، ومصير العقوبات المفروضة عليها، قبل أن تشرع بالضغط على الأسد، من أجل تقديم التنازلات التي لا حل سياسياً من دونها.
تريد موسكو، حسب مخططها المطروح الآن، أن تنهي الحرب، وتحقق الأمن والسلام في المنطقة، بتوطيد السيطرة العسكرية على سورية، وتوزيع الحصص على الدول المتنازعة عليها، حسب رؤيتها وتحالفاتها الدولية، في مقابل تحييد الشعب السوري، وإخراجه من المسرح وعلى حسابه. وهذا هو ما فعله الأسد الأب من قبل. لكن الفرق، مع ذلك، كبير بين سورية الأسد الأب، وسورية الأسد الإبن. فقد انكسر قفص العبودية إلى غير رجعة، ولن يمكن إعادة السوريين إلى أي بيت طاعة، حتى لو استخدم بوتين كل السلاح الروسي.
لن يحل السلام في سورية، ولن يمكن تحقيق أي تسوية بين القوى المتنازعة على تقاسم المصالح والنفوذ فيها إلا بأمرين: إعلان وصاية دولية قانونية تتصرّف بدل الدولة السورية وباسمها، وتمنع القوى المتنازعة من تقاسم سورية، حسب مصالحها والاستمرار في تفجيرها بالحروب المتقاطعة، أو قيام نظام سياسي قوي، يعزّز استقلال القرار الوطني السوري، ويضمن المصالح والحقوق المشروعة لجميع الدول المعنية، في الوقت نفسه. ولن يكون بالإمكان بعد الآن قيام نظام سياسي قوي وسلطة موحدة وسيدة في سورية، من دون كسر منطق إقصاء الشعب وإبعاده عن السياسة وتهميشه وتحييده. فالبديل الوحيد عن نظام الاستبداد والتمييز الطائفي والإقصاء الذي عرفته سورية في العقود السابقة للثورة، وعن الوصاية الدولية، هو نظام سياسي سوري بقاعدة شعبية عريضة، نظام الشعب الحر، المستعد للموت في سبيل وطنه، والمتمسك باستقلاله وسيادته، والقادر على إخضاع المصالح الإقليمية جميعاً إلى مصالح سورية العليا في الوحدة والاستقلال والأمن والتنمية الإنسانية.
يحتاج هذا إلى الاعتراف بحقوق الشعب السوري، والعمل معه، لتحقيق تطلعاته المشروعة في الكرامة والحرية والعدالة، وتطمينه على مصيره قبل أي شيء آخر. أما مراهنة روسيا على مضاعفة العنف، من أجل كسر إرادة السوريين، وفرض الوصاية الروسية عليهم، وإقامة نظام عميل مع الأسد أو بدونه، تابع لها، ويخدم مصالحها، كما هو واضح من سياستها حتى الآن، فلن تقود، حتى لو جاءت بدعم ضمني من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، إلا إلى مزيد من إشعال النار وامتداد دائرة الحرائق، وتمديد أمد الحرب. فهي لا تعني شيئاً آخر سوى تحول روسيا إلى قوة احتلال، تصادر حق السوريين في تقرير مصيرهم، وتقضي على أملهم في تحقيق تطلعاتهم نحو الكرامة والحرية، وتضاعف من مشاعر العداء والحقد والانتقام تجاه كل من تدّعي روسيا العمل على حمايتهم وتأمينهم.
فسّر الكثيرون خروج دفعة من أبطال الزبداني الجرحى ، لتلقي العلاج ، على أنها هزيمة لهم ، رأوا في ذلك انهيارا لأسطورة الزبداني التي استمرت لسنوات تعادل تقريباً سني الثورة ، لكنهم نسوا أن خروجهم كان لدواع في غاية الأهمية ، وأن إمكانية عودتهم تعادل آلاف المرات إمكانية عودة من خرج من الفوعة و كفريا .
مناقشة من يحاول كسر بطولة أساطير الزبداني ، تبدو شيئا غير وارد ، لعدة أسباب أولها و أهمها ، أن مجرد ذكر اسم الزبداني سيحيج كل من هاجمها من نظم و مليشيات إلى تذكر آلاف صرخات الألم التي سببها ثلة من المقاتلين محصورين داخل رقعة جغرافية لا تتجاوز بضع كيلو مترات ، اجتمع شياطين الدنيا عليها ، دون أن يتمكنوا من إنهائها ، فجنحوا للسلم ، و رضوا بالمفاوضات ، و اليوم فتحوا الطريق لهم للخروج بغية تلقي العلاج ، وقلبهم ترتعد من العودة التي يمكن أن تكون في أي وقت ، لأن الخارجين هم أصحاب الأرض ، و المتواجدين في محيطها هم غزاة ، و لم يبق غازٍ في أرض .
الزبداني التي واجهت في ثلاثة سنوات حصار متواصلاً و قصفاً مستمراً و محاولات متوالية بشكل لايمكن للإحصاء أن يسجله ، و تحملت في خمس شهور خمسة آلاف برميل متفجر و مئات آلاف القذائف و آلاف الغارات ، و لجحافل مشتركة من خيرة القوات المعادية من نظام الأسد و حزب الله و إيران و المليشيات الأخرى ، واستدعت صواريخ إيرانية خاصة أحضرت لكسرها ، و كل هذا حدث في رقعة جغرافية لا تتجاوز ٥ كم متر مربع ، و رغم كل هذا ، كان على المهاجمين ، مهمة متواصلة تتمثل ، بسحب الجثث و إرسالها إلى قراها لتدفن فيها و يدفن معها القهر الذي ولدته الزبداني في قلب كل معتدي.
و لن ننسى زيارة أهالي قتلى حزب الله الى الزبداني ليروا ماهذه الأرض التي ابتلعت أبناءهم ، و كيف خسر فيها الحزب أكثر مماخسره في حروبه.
الأبطال الذين خرجوا اليوم ، في قلوبهم غصة ، و في قلوبنا غصة ، و لكن هناك فرحة بأنهم سيلقوا بعض الرعاية ، أو يجدوا من يهتم بهم ، وسط عالم "عاهر" يعجز عن إدخال قطنة لمسح جرح و يستطيع أن يهجر المئات بلمح البصر .
نعم الزبداني انتصرت و أبطالها خرجوا مرفوعي الرأس ، و لهم العز والفخر و لجميع من خذلهم الذل و المهانة ، وكما قال أحدهم عند متابعة خروجهم و خروج بعض أهالي كفريا و الفوعة العزاء الوحيد أن الأبطال سيعودون للزبداني ، و لكن الذين خرجوا في الفوعة لن يعودوا مهما حدث.
في المؤتمر الصحافي “العملاق” الذي عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا، ولعدة ساعات، بدا سيّد الكرملين مرتاحا واثقا مزهوا بما حقّقه لحكمه ونظامه وبلده منذ تدخله العسكري في الميدان السوري.
لم تكن هذا الإطلالة مع الصحافة إلا شكلا من أشكال الاحتفال بانتصارات تحققت وإنجازات سجّلت، ما يدعوه للتباهي بمهارته في التعاطي مع التحديات الدولية، وترويضها وجرّها نحو ملعبه، على ما كشفته وقائع سوريا حاليا، وتلك في جورجيا وأوكرنيا قبل ذلك.
وفي ما أفصحت عنه تصريحات الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني مؤخرا ما يعبّر عن أزمة نظام تشهدها إيران، يعكس الجدل الداخلي، في أروقة القرار وأصحابه، تحريا لوظيفة البلد وموقعه منذ “تدجينه” في ثنايا سطور الاتفاق النووي، ونقاشا لتكتيكات الحكم ومعسكراته في التدخلات الإقليمية من اليمن وانتهاء بلبنان مرورا بالعراق وسوريا.
وما إثارة رفسنجاني لموضوع انتخاب مرشد جديد للثورة الإسلامية، على الرغم من وجود المرشد الحالي، إلا مباشرة لجدل قديم-جديد حول لزومية وشرعية ووظيفة وشخص الوليّ الفقيه في إيران.
تبدو المناورة الروسية في سوريا منتجا يُقبل عليه، بما يشبه الإجماع، الكثير من الزبائن. يقوم المجتمع الدولي، بشكل حاسم واضح، رغم بعض التصريحات الغربية المملّة، برعاية الجهد العسكري الروسي ومحضه بما يحتاج من مستلزمات دبلوماسية رديفه. يذهب مجلس الأمن لتسليح المسعى الروسي بترسانة قانونية داعمة (القرار 2254)، في ما يظهر أنه تواطؤ دولي كامل يتبنّى الخيار الروسي بصفته مُعبّرا عن عزم جماعي للدول الكبرى، وليس متمردا عليه كما قد يحلو للتحليلات التبسيطية أن تتبرع به.
بالمقابل تبدو إيران مستبعدة عن خريطة الطريق في سوريا، ليس فقط من خلال عدم إشراكها في ما يُعدّ ويحُضّر (السعودية توضّب وفد المعارضة والأردن يتفحّص لائحة الفصائل الإرهابية)، بل من اعتبار نفوذها جزءا من حصة النظام (وليس النظام جزءا من النفوذ الإيراني) يجري التعامل معه وفق ما سينتهي إليه مصير النظام نفسه.
وتبدو إيران، سواء في الأنباء المتناقلة التي تتحدثُ عن انسحاب كثيف لتواجدها العسكري (المسمّى في طهران مستشارين)، أو في التصريحات الإيرانية المتفرقة المتناغمة متعددة المستويات المنتقدة لموسكو، أنها لا تنظر بعين الرضا للدور الروسي في سوريا.
تحظى روسيا في سوريا بما لم تحظ به دولة عظمى قبل ذلك في العقود الأخيرة. اعتمدت الولايات المتحدة في حربها في يوغسلافيا ضد نظام ميلوسفيتش، أو في العراق لتحرير الكويت، ثم للإطاحة بنظام صدام حسين لاحقا، أو في أفغانستان للانقضاض على تنظيم القاعدة ونظام طالبان، على حلفائها الغربيين الأطلسيين، ولم تستجد دعما شرقيا، صينيا روسيا، ولم تكترث لاحتمالاته.
بالمقابل، تتمتع روسيا في سعيها السوري، ليس فقط بتواطؤ ضمني غربي، بل بانضمام الجهد العسكري الغربي (لا سيما الأميركي البريطاني الفرنسي) لذلك الروسي وفق هدف ضرب تنظيم داعش، في سوريا بعد العراق، وبتسخير كافة الدول لجهدها السياسي الدبلوماسي ليتماشى مع خريطة الطريق الروسية لتوفير حلّ جديّ، ربما لأول مرة، لإقفال الملف السوري.
رسم المشهد الدولي ملامح تهميش، أو محاصرة، للدور الإيراني في المنطقة. يعرض المشهد اليمني، رغم صعوبة مخارجه، انهيار الخيارات الإيرانية في السيطرة على اليمن كما جاهر بالإعلان واحد من أصواتها (حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الإيراني السابق في حكومة محمود أحمدي نجاد)، وبالتالي فقدت طهران طموح إطلالها على باب المندب.
وتمثّل العودة العسكرية الأميركية للعراق مسّا مباشرا بما كاد يعتبر نفوذا ناجزا لإيران على مجمل العراق (راقب الإشراف الأميركي وليس الإيراني على معركة الرمادي)، يأتي ذلك ليضاف إلى تراجع للوزن الإيراني في البلد، ليس فقط لدى المكونين السنّي والكردي، بل داخل المكوّن الشيعي نفسه، الذي بدا حراك الشارع فيه، كما مزاج نخبه، ممتعضا من سياسات طهران متحرّيا سبلا جديدة للتحلل من سطوتها.
يبدو التراجع الإيراني أكثر وضوحا في الميدان السوري. لاحظَ المراقبون بتعجب الإعلان عن سقوط عدد كبير من القتلى الإيرانيين، بينهم ضباط كبار، منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا.
لم تذهب التأويلات إلى حدّ الربط الخبيث ما بين الدخول الروسي وتلك الخسائر، رغم أن المخيلات قد لا تستبعد هذا الربط (مراقبون يعتبرون مقتل سمير القنطار هي رسالة جديدة لطهران من قبل إسرائيل وروسيا مجتمعتين).
لاحظ المراقبون أيضا عمل الروس على حلّ الميليشيات السورية الرديفة للنظام والتي كان يشرف عليها ضباط إيرانيون، كما لاحظوا أن نظام دمشق، الذي لطالما كان يرسل وزراءه إلى طهران، غداة أيّ تواصل بين دمشق وموسكو، لم يعد يفعل ذلك، بما يعكس قناعة لدى حكام العاصمة السورية، أن أمر النظام ومصيره، بات بالكامل في يد روسيا، ولم تعد تنفع معها “استشارة” طهران، على ما درج قبل ذلك.
وحين نفت موسكو مؤخرا ما روّجته طهران عن زيارة قام بها الجنرال قاسم سليماني للعاصمة الروسية، كانت بذلك تبعث برسالة لإيران، بسحب أيّ شراكة، ولو إعلامية، في الشأن السوري.
لا يمكن فهم ما سبق على أنه تصادم وقطيعة بين روسيا وإيران، فكلا البلدين يحتاجان لبعضهما البعض في ورشة توطيد نفوذيهما في ساحات وملفات عديدة.
بيد أنه بات واضحا أن القوى الإيرانية وتلك التابعة لإيران في الساحة السورية باتت جزءا من الجهد الروسي ويخضع وجودها من عدمه لخطط موسكو وحدها، ولا عجب إذا ما طُلب من القوات الإيرانية (التي بدأت أصلا انسحابها) ومن قوات حزب الله وبقية الجماعات الشيعية الآتية من الخارج، الانسحاب نهائيا من الميدان السوري إذا ما تطلبت الخطط الروسية ذلك.
تتعامل موسكو مع الأمر ببرودة وحصافة وهدوء، فيما لا تخفي طهران غيظها، سواء فيما أفرجت عنه تصريحات رئيس الحرس الثوري الإيراني الميجر جنرال محمد علي جعفري، أو تلك التي سمحت بها على قناة العالم الإيرانية، حين أتاحت لأحد ضيوف القناة المعروف بدفاعه عن الخيارات الإيرانية، بتوجيه انتقادات لاذعة للتدخل العسكري الروسي في سوريا وتشكيكه في صحة استهدافه لداعش والإرهاب وإثارته لذلك التواطؤ الروسي مع إسرائيل في تغطية عمليات ضربها لمواقع “المقاومة الإسلامية” (بما في ذلك اغتيال سمير القنطار وقيادات من حزب الله في جرمانا في سوريا الأسبوع الماضي) تحت نظر المنظومة الصاروخية الروسية الشهيرة أس 400.
باستطاعة فلاديمير بوتين، وبمناسبة الحدث السوري، أن يشعر براحة في الإطلالة من الكرملين موجها رسائل للروس تدغدغ داخلهم عصبية عظمة وفخر تذكّرهم بالمجد السليب سواء ذلك أيام القياصرة أو أيام الاتحاد السوفييتي.
بالمقابل، وبمناسبة الحدث السوري، يطل هاشمي رفسنجاني لينعى، من حيث يدري أو لا يدري، عهدا وسلوكا وفلسفة حكم، بما يفتح إيران على احتمالات مختلفة تماما عن تلك الانتصارية، التي بشرت بها أصوات طهران عقب التوقيع على الاتفاق النووي الشهير.
في توقيت متزامن خرج علينا «خليفة داعش» أبو بكر البغدادي بتسجيل صوتي يحاول به شحذ همم «رعاياه» في دولة الرقة والموصل، ويتوعد الجميع، ويتوجع من الخسائر بوصفها «محنة» من الله، وخرج علينا زعيم ميليشيا حزب الله اللبناني حسن نصر الله بكلمات شبيهة، في نسخة إيرانية.
«بغدادي داعش» و«نصر الله إيران»، يتشابهان كثيرًا في السلوكيات والتكتيكات والتوقيتات، حتى في لون السواد الذي يفضلانه على العباءات والعمائم، بوصفهما من الدوحة العلوية، وهذه ميزة لـ«أمير المؤمنين»، في حال «خليفة داعش»، أو ممثله في حالة حسن نصر الله.
خسرت «داعش»، مؤخرًا، كثيرًا، بسبب تتابع القصف عليها، من كل حدب وصوب، والأهم بسبب حرمانها من شريان البترول المسروق من العراق وسوريا. وخسر نصر الله وحاضنته إيران الكثير في سوريا، من ضباط الحرس الثوري الإيراني، وهم الأهم، ومن نخبة قوات حزب الله، وأخيرًا، خسرا الورقة «الدرزية» الخادمة لصورة الحزب الإيراني، وهو سمير القنطار، بعد قتله في غارة، يقال إنها روسية، في الأرض السورية.
لا تنتهي أوجه التشابه عند هذا الحد، بل يتشاطر خليفة «داعش»، مع ممثل خامنئي «ولي أمر المسلمين» حسن نصر الله، البغض الصافي النقي الدائم للسعودية، فهي في نظر حسن نصر الله «جوهر الشر» في المنطقة، وهي كذلك في نظر خليفة «داعش» إبراهيم عواد، أو أبو بكر البغدادي، لذلك خصص جانبًا من خطبته الصوتية الأخيرة للهجوم على السعودية، بسبب قيادتها للتحالف الإسلامي العسكري الأمني الفكري ضد الإرهاب، وفي مقدمه «داعش»، لا «داعش» وحدها، فحزب الله، وكل عصابات إيران، مشمولة بهذا.
البغدادي قال عن التحالف الإسلامي العسكري ضد الإرهاب إنه تحالف صليبي كافر، وحرض أتباعه على القيام بعمليات داعشية في الأراضي السعودية، وكذلك يفعل حزب الله عبر تدريب عناصر سعودية وبحرينية ويمنية في معسكراته الإرهابية في البقاع والجنوب وشقق الضاحية وحارة حريك.
أخيرًا، يتشابه معمما «داعش» وحزب الله في «تمثيلية» الهجوم اللفظي على إسرائيل، فقد توعد نصر الله في خطابه الأخير، بسبب مقتل عميله سمير القنطار، إسرائيل بالويل والثبور، ولكن في الوقت الذي يختاره الحزب الأصفر، وهكذا قال البغدادي في خطبته الأخيرة، بأن على الجميع أن ينتظر بشائر «الجهاد الداعشي» ضد إسرائيل، مطمئنا الجميع بأن «الخليفة» لم ينس فلسطين «الحبيبة». وربما قام بعملية استعراضية لهذا الغرض.
عقل المتاجرة بالدين، واستخدام الميليشيا الكافرة بالدولة، لا يختلف، إلا بتفاصيل صغيرة، مثل أن يدعي هذا التسنن، وذاك التشيع.