كانت الخريطة السورية المريضة ممددة على الطاولة. وكانت ترشح دماً. استدعاها أطباء دوليون وإقليميون إلى فيينا. تعايش العالم سنوات مع النزاع المدمّر. يستطيع العالم العيش بلا سورية إذا اختارت الانتحار ضمن حدودها، لكن النزاع تجاوز كل الحدود. سجّلت التدخُّلات الخارجية أرقاماً قياسية. مشهد مقلق. جاء مقاتل غريب وأطلق النار على سوري لأنه يؤيد النظام. وجاء مقاتل غريب وأطلق النار على سوري لأنه معارض للنظام. تحوّلت سورية إلى مسرح لحشد من الاعلام والسياسات والحسابات الخاطئة والكراهيات.
كان يمكن للعالم أن يترك سورية تواصل مسيرة النحر والانتحار لولا إطلالتين مدويتين. الأولى إطلالة «داعش» التي أدمت المعارضة أكثر مما أدمت النظام. وإطلالة طائرات بوتين التي أعطت النزاع في سورية بعداً دولياً خطراً. تداخلت الحروب على الأرض السورية، وبدا أن نتيجتها لن تقرر مصير سورية وحدها.
فاضت بحيرة الدم السورية وأقلَقَت العالم. ملايين اللاجئين ينتظرون في مخيمات الأردن وتركيا ولبنان، وأمواج منهم تلقي بنفسها في الحضن الأوروبي القلق، وفي الوقت ذاته تحولت أجزاء واسعة من سورية إلى معاهد لتخريج أجيال جديدة من الانتحاريين والإرهابيين. باتت سورية شديدة الخطورة على المنطقة والعالم معاً، لهذا استُدعيت الخريطة المريضة إلى فيينا.
إنها لجنة طبية إقليمية ودولية. لا خلاف على خطورة حال المريض. إنه مصاب بسرطانات متعددة. الإرهاب والمذابح الواسعة والتدخُّلات. لكن الخلاف هو حول طبيعة العلاج ومراحله، خصوصاً أن بعض الأطباء يشارك مباشرة في القتال السوري، وبين المشاركين مَنْ يقدّم حساباته على حسابات إنقاذ المريض. يريد أولاً إنقاذ مصالحه أو صورته أو دوره.
كان انعقاد اللجنة الطبية الإقليمية الدولية حدثاً بارزاً. للمرة الأولى منذ اندلاع النزاع تشنُّ طائرات بوتين غارات متلاحقة لا تقتصر أهدافها على «داعش». وللمرة الأولى يجلس وزيرا خارجية السعودية وإيران في لقاء من هذا النوع والخريطة السورية ممددة على الطاولة. وللمرة الأولى تعلن طهران سقوط هذا العدد من جنرالاتها خلال مهماتهم «الاستشارية» في سورية.
ما أصعب إنقاذ المريض حين تختلف حسابات الأطباء. من السهل الاتفاق على وحدة سورية في ظل الديموقراطية وقيادة علمانية واحترام حقوق كل المكوّنات. ومن السهل القول إن المطلوب هو منع انهيار الدولة السورية ومؤسساتها. وما أسهل القول إن الحل متروك في النهاية للشعب السوري عبر الانتخابات. الصعوبة تكمن في إقناع الأطباء أولاً بتوحيد طريقة العلاج، لئلا تتسبّب الجرعات المتناقضة في موت المريض.
مأساة سورية هي أن حربها أكبر منها، وأن العلاج الذي سيُعتمد فيها سيعتبر صالحاً لأكثر من مكان. أكد أطباء فيينا تمسُّكهم بوحدة الأراضي السورية. هذا يعني ترميم الخريطة ورفض تمزيقها إلى دويلات. ولكن، ماذا عن المشهد داخل الخريطة نفسها، وإعادة توزيع القرار بين المكوّنات؟ ولماذا يفترض أن تترسخ المساواة في سورية ولا تترسخ في العراق؟ ولماذا ما يصلح في سورية لا يُطبَّق عملياً في لبنان؟ ولماذا يُنصَف أكراد سورية ولا يُنصَف أكراد تركيا وإيران.
لا يأخذ فريق على طاولة التفاوض ما عجز عن انتزاعه في ميدان المعارك. لهذا يبدو الحل في سورية صيغة لتوزيع الخسائر. والسؤال هو أي سورية ستولَد من هذا العلاج؟ وماذا سيكون موقعها الإقليمي والدولي؟ وماذا عن إيران التي كانت سورية ما قبل الحرب حلقة جوهرية في هلالها؟ وفي أي ظروف يستطيع «حزب الله» العودة من سورية التي كانت قبل الحرب عمقه وسبب تحوّله لاعباً إقليمياً؟
مأساة سورية أن حربها أكبر منها، وأن الحل فيها يعيد رسم موازين القوى الإقليمية على طريق قيام النظام الإقليمي الجديد. أغلب الظن أن العملية لا تزال طويلة ومعقّدة، وتحتاج إلى مزيد من الدم ليرجع المتحاربون ومعهم الأطباء من رهاناتهم وأوهامهم. المسألة أبعد مما بات يُعرف بـ «عقدة الأسد»، على رغم أهميتها. فلكي يتقبّل المريض عقاقير فيينا لا بد من مصالحة مبادئ جنيف مع المستجدات الإقليمية والدولية والميدانية. لا بد من معالجة بعض الأطباء قبل معالجة المريض السوري.
في سوريا، يملك «داعش»، وشقيقاته من تنظيم «القاعدة»، جيشا يقدر بأكثر من ثلاثين ألفا، ويقول الإيرانيون إنهم يديرون مائة ألف مقاتل من جنسيات مختلفة. وللروس قوة من نحو ثلاثة آلاف، وأخيرا تشجعت الحكومة الأميركية، وقررت أن تبعث قوة من خمسين عسكريا فقط، لا نعرف ما الذي يستطيعون فعله، ولا معنى إرسالهم سياسيا. ويقرأ الجميع في معنى هذه القوة الصغيرة شيئا واحدا، أن واشنطن غير جادة في كل ما تقوله بشأن سوريا، سواء عن مواجهتها «داعش»، أو رفضها للتمدد الروسي، أو حرصها على انتقال السلطة في مشروع لإنهاء الحرب الأهلية. كان الأفضل ألا ترسل أحدا على أن ترسل خمسين عسكريا فقط! ومع أنه لم يتوقع أحد أن ترسل الولايات المتحدة أي قوة عسكرية إلى المنطقة، ولم يطلب منها أن تفعل ذلك، فقد كان المنتظر والأهم هو دعم المعارضة السورية الوطنية بالسلاح والمعلومات والدبلوماسية، حتى تفرض على المفاوضات الحل الوحيد الممكن، سوريا من دون بشار الأسد في السلطة، وإقامة سلطة انتقالية مختلطة من الحكومة الحالية والمعارضة. والروس، بخلاف الأميركيين، جاءوا إلى سوريا برسالة سياسية يدور بها وزير الخارجية، مدعومة بأسطول من مقاتلات الميغ والسوخوي، وهم يحصلون بفضله على نفوذ غير مسبوق. وربما لا يزال البعض في واشنطن يرى أنه ليس هناك ما يضطرهم إلى رفع مشاركتهم العسكرية في سوريا، مع أن سوريا صارت في حقيقة الأمر أخطر من أفغانستان في تهديدها أمن العالم، حيث تحولت إلى أكبر عش تبيض فيه المنظمات الإرهابية، وتفرخ مقاتلين مدربين على القتال، وتجهزهم للعودة إلى بلدانهم لبدء رحلة جديدة من العنف. وبدلا من إرسال هذه القوة الرمزية، التي تعطي رسالة خاطئة، الأهم أن تعزز الحكومة الأميركية قدرات المعارضة السورية القتالية في الوقت الحالي، حتى يكون الحل الوحيد هو سياسيا، بإنهاء سبب الأزمة، أي الأسد، وجعل مشروع حكم جماعي يمثل كل السوريين حقيقة. مثل هذا الطرح لا يمكن أن يجد مكانا له على طاولة التفاوض الحالية في فيينا، أو لاحقا، دون دعم عسكري. من دونه ستطول الحرب، وتطيل عمر الجماعات الإرهابية. أما الروس، أنفسهم، الذين جاءوا بقوة كبيرة لا بد أنهم يشعرون الآن أن قوتهم الجوية المتفوقة في سماء سوريا لن تفك الحصار عن نظام الأسد الذي هو محاصر في دمشق. فقواته وميليشيات حلفائه تقاتل من أجل استعادة محيط العاصمة، ريف الغوطة، وما خلفها. كما أن القصف اليومي الروسي لمحافظة حلب كل ما أنتجه حتى الآن تحويل عشرات الآلاف السكان
إلى لاجئين، سينتهون ضيوفا على الجماعات المتطرفة التي تستقبلهم على أطراف المدينة.
يبدو أن الأسابيع المقبلة ستحمل الكثير من المفاجآت في ما يتعلق بالأزمة السورية. المؤشرات على الأرض الآن تقول إن هناك فرزا لمناطق القوى في الطريق إلى إعادة تخطيط المنطقة من جديد برعاية دولية.
الروس يقومون الآن بدور الوصاية على الجزء الغربي من سوريا بما فيه العاصمة دمشق. والأمريكيون بدأوا في التحرك للسيطرة على بقية المناطق السورية قبل أن تسبقهم روسيا إليها.
روسيا تقصف "داعش" و "جبهة النصرة" و "الجيش الحر" حاليا خارج نطاق مناطق سيطرتها الفعلية، لكنها بمجرد اشتداد عود "الحلم الأمريكي" في بقية المناطق السورية ستكتفي فقط بدور الدفاع عن "سوريا المفيدة"، كما وصفها ذات إحباط بشار الأسد، منعا لأي اشتباك في السماء أو على الأرض مع الولايات المتحدة، وسيكون لزاما حينها على الأمريكيين أن يحموا المناطق التي تقع تحت وصايتهم من تغوّل الإيرانيين و"حزب الله".
وسيتعيّن عليهم في الوقت ذاته القضاء على الجيوب الإرهابية، التي ربما لن تصمد طويلا في مواجهة القوة الأولى في العالم، في حال انتقل الوجود العسكري الأمريكي على الأرض من مرحلة "المستشاريّة" كما يروّج البنتاغون هذه الأيام إلى مرحلة الوجود الفعلي لقوات برية مقاتلة، تمشّط أولا بأول الأراضي التي تقصفها طائرات التحالف الغربي.
جزء من سوريا سيتلون بالألوان الثلاثة للعلم الروسي، وجزء آخر سيتلون بالألوان الثلاثة ذاتها، إنما تلك الموجودة في العلم الأمريكي، وسينقسم المجتمعون في فيينا 2 و3 و4، وبقية دول العالم إلى فريقين. فريق يقف في صف روسيا لأنها تحمي نظاما شرعيا كما تقول موسكو، وفريق يصطف مع أمريكا لأنها تحمي العالم من شرور الإرهاب من خلال خنقه في هذه المنطقة المنكوبة.
روسيا ستؤمن مستقبل الأسد في "الحكم الصوري" من خلال إجراء انتخابات عامة في دمشق والساحل الغربي، وموسكو التي تردد كثيرا هذه الأيام أن مستقبل الأسد في يد الشعب السوري، تعني هذا الأمر تماما إذا ما تم اختصار الشعب السوري في سكّان الساحل والمناطق العلوية.
أما أمريكا فهي كالعادة، ستعتمد على الوكلاء المحليين لإدارة أمور الجزء الشرقي من سوريا، وربما تنجح في جمع كلمة كل السكّان على قلب رجل واحد أو "بريمر ثان"!
لكن ما هي مصالح الدولتين الكبيرتين في اقتسام سوريا بهذا الشكل وإنهاء أزمتها بهذه الطريقة؟ لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة أبدا، وفوق هذا كله أرى أن من المستحيل أن تجتمع المصالح الروسية والمصالح الأمريكية تحت الطاولة. لكن كلتا الدولتين وجدت هذا التخريج المؤقت للأزمة السورية يصلح لأن تبني واشنطن وموسكو على أساساته - كل على حدة - مصالحهما الخاصة بعيدا عمّا يريده بالفعل السوريون العالقون داخل البلاد، أو المعلّقون خارجها في المنافي. كلتا الدولتين غضت البصر وفكرت في المستقبل، كما تقول المسرحية الإنكليزية الشهيرة!
الروس يهمهم جدا أن يبقى هذا الجزء المهم من البحار الدافئة تحت إمرة أساطيلهم البحرية، ويهمهم كذلك أن يسيطروا على المنافذ الجغرافية على البحر المتوسط كافة، ليتحكموا في مستقبل حركة تصدير الغاز الشرق أوسطي إلى أوروبا. إضافة إلى ذلك لم يعد في وسع روسيا القيصرية الجديدة أن ترى وجودا أمريكيا في أي جزء من العالم من غير أن تقف له موقف النّد وتعادله على الأرض.
أمريكا من جهتها تسعى إلى التحكم في الجزء الشرقي من سوريا لثلاثة أسباب: الأول إدارة الجماعات الإرهابية بالشكل الذي يضمن المصالح الأمريكية في العالم، والثاني توفير الغطاء الأمني اللازم لحماية إسرائيل، أما الثالث وهو الأهم فتعزيز مبدأ قبول التقسيم في الوجدان العربي، الأمر الذي قد يساعد في المستقبل على تقسيم مناطق أخرى بما يتفق والمصالح الأمريكية الكبرى.
أمريكا تريد وروسيا تريد، ولتحقيق هاتين الرغبتين كان لا بد من دعوة 17 طرفا دوليا وإقليميا في فيينا 2 للمصادقة على هذا المستقبل بشكل غير مباشر، لتجاوز ردود الأفعال العنيفة الحكومية والشعبية المتوقعة في المنطقة عندما يتم الإعلان رسميا عن حاكم شرقي وآخر غربي لسوريا.
كل المؤشرات تقول ذلك، لكن بإمكان دول المنطقة وتحديدا السعودية وتركيا الوقوف بقوة ضد هذه "الخطة القدرية" غير المتفق على خيوطها. السعودية وتركيا قادرتان على حشد تحالف أممي يعيد سوريا الموحدة إلى الضوء من جديد، ويرفع يد الوصاية الروسية - الأمريكية، ويعيد الأمل إلى الشعب السوري. ليست للسعودية وتركيا مصالح مباشرة في سوريا، ومن هذا المنطلق تحديدا يمكننا الانطلاق. لنحلم بالقاهرة 1 أو المنامة 1 أو الرباط 1، ولنترك المستقبل بيد الله، لا بيد أمريكا ولا بيد روسيا.
التضامن الإنساني مع أهالي وذوي الضحايا الروس الذين هوت بهم طائرة روسية في سيناء، أول من أمس، مؤكد. ولأنه كذلك، فإن مواساة الشعب الروسي (والأوكراني فقد قضى ثلاثة أوكرانيين أيضاً) بهذا المصاب واجبة، ذلك أن القتلى الـ 224 مدنيون، بينهم 133 امرأة و17 طفلاً، والشعوب العربية تشعر بالأسى الذي أصاب أهاليهم، بالنظر إلى فقدهم أعزاء لهم، إنما اختاروا فسحة للوقت للتمتع بالطبيعة والشمس في مصر، ثم خطفتهم يد المنون في حادث يعد من أسوأ كوارث الطيران، لخطأ فني أو بشري، ويؤمل أن لا تكون لأيادي الإرهاب وخفافيشه الآثمة أي دور فيها. وتيسر هذه الفاجعة لنا نحن العرب الذين نتابع يومياً جرائم الطيران الحربي الروسية في غاراته في الأراضي السورية أن نتوجه إلى الشعب الروسي ونخبه ومثقفيه بخطاب إنساني خاص، ومفاده بأن الضحايا المدنيين السوريين الذين قضوا في الاعتداءات الروسية في أرياف حماه ودمشق وفي اللاذقية وفي غير مدينة وقرية سورية، والمتواصلة منذ أزيد من شهر، كان من حقهم أن يستمتعوا بحقهم في الحياة، وبأن ينعموا بالبهجة في بلدهم الآمن والجميل، لكن النظام غاصب السلطة في دمشق، وبدعم تسليحي سافر من الدولة الروسية، أراد لهم الإقامة في القبور، بإزهاق أرواحهم، بدعاوى محاربة الإرهاب.
من المؤمل أن يشعر شعب روسيا الذي طالما اعتبرته الشعوب العربية صديقاً بمصاب السوريين اليومي، منذ أكثر من أربع سنوات، وهم تحت القصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة وغاز السارين وغيرها من أدوات الفتك والقتل، وهم كذلك يغالبون إجرام عصابات التطرف المتوحشة، والتي تعد من نواتج سياسة الفساد والتجبّر والتسلط التي ينتهجها النظام، وزادت قتلاً بعد أن بدأ الشعب السوري ثورته من أجل التحرر والاستقلال، وقد بادرته المؤسسة الحاكمة في موسكو برفض تطلعاته وأشواقه إلى الحرية والكرامة، بعدوانية سياسية مقيتة، تضاعفت مع حسابات امبراطورية لدى الرئيس فلاديمير بوتين، من دون الانتباه إلى الأكلاف الإنسانية الباهظة التي يدفعها هذا الشعب جراء هذا الخيار الروسي، والذي تمادى إلى حد المشاركة العسكرية في استباحة السوريين في مدنهم وقراهم وأريافهم، إسناداً مكشوفاً للنظام الجائر.
في وسع النخبة في وسائط الإعلام والأكاديميات وقنوات المجتمع الأهلي الروسية أن ترى الإنساني العميق في كارثة سقوط الطائرة في سيناء، والتي قضى فيها زوار وسياح روس آمنون، وتعبر منه إلى الإنساني العميق في كارثة العدوان الذي ترتكبه الآلة العسكرية الروسية في الأراضي السورية، وتزهق أرواح مواطنين آمنين، من دون أي حساسية أخلاقية، بل بنبذ المشترك الإنساني، وتغليب شهوة التغلب السياسي. ومن دون اعتبار لما يحدثه ذلك كله من جروح عميقة في الوجدان السوري، ولدى الشعوب العربية، تجاه روسيا شعباً وبلداً، وهي الشعوب التي طالما أثار الروس إعجاباً لديهم، وقد قاوموا النازية ببسالة في الحرب العالمية الثانية، واستطاعوا أن يقيموا بلداً ناهضاً وجميلاً.
تقيم في أفهامنا ومداركنا، نحن العرب، صورة إيجابية تجاه الاتحاد السوفياتي، الدولة التي تشظت، وكانت نصيرة لقضايا العرب، وإن لحسابات سياسية دولية كبرى، وإن صدوراً عن رهانات أيديولوجية غير منسية، إلا أن حال روسيا اليوم لا يبعث، أبداً، على أي إعجاب من أي لون، فينا، ونحن نعاين عهراً سياسياً فادحاً، وانتصاراً للطغاة ودعماً لثورات مضادة ودكتاتوريات بغيضة، وتسليحاً لمجرمي حرب في وزن بشار الأسد، وتالياً، مشاركة في العدوان على الشعب السوري الذي يذوق أفظع الويلات، قتلاً وتهجيراً وتشريداً، والذي تتفكك بلاده وتضيع منه، بفعل ما اقترفته روسيا وإيران من انحياز صارخ ضد هذا الشعب، وإسناد مفضوح ومقصود ومعلن لنظام لا مكان له سوى محكمة الجنايات الدولية.
مرة أخرى، نعزي شعب روسيا وذوي ضحايا الطائرة المنكوبة، ونتطلع إلى أن توقظ هذه الواقعة الإنسانية المهولة الضمائر النائمة الحاكمة في موسكو، وكذا لدى نخب روسية واسعة، تطرب لسياسات قاصرة اختارها قيصر الكرملين، المجنون بأوهام عظمة آفلة.
رمت روسيا الاتحادية بكل ثقلها في الحرب الدائرة في سورية، علماً أنه لا وجود لحلفاء لها في الوطن العربي بالقدر الذي يتزاحم الحلفاء العرب على أعتاب الولايات المتحدة الأميركية. تعمل روسيا على كل الصعد لإنقاذ بشار الأسد وأجهزته الأمنية والعسكرية من السقوط على أيدي ثوار سورية الذين يقاتلون من أجل الحرية والكرامة، وحقهم في اختيار نظام الحكم الذي يحميهم ويدافع عنهم. روسيا تقاتلهم، وتعقد مؤتمرات ولقاءات من موسكو إلى فيينا لإهدار الزمن العربي، وحماية الحليف السفاح المقيم في دمشق، والإدارة الأميركية لم تقدم لحلفائها العرب ما يجب أن تقدمه لهم.
(2)
طالبت موسكو بعقد اجتماع رباعي، يضمها مع السعودية وأميركا وتركيا، في فيينا، وتم ذلك، وانتهى الاجتماع من دون صدور أي بيان يحدد المستقبل السوري، لكنه ولّد اجتماعاً آخر متعدد الوجوه، في فيينا أيضاً، وتحقق لها ما أرادت، وفرضت على الاجتماع الذي عقد في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مشاركة مصر والعراق وإيران والأردن ولبنان إلى جانب دول من أوروبا الغربية. والحق أن لكل من هذه الدول العربية المدعوّة أزمة تصرفها عمّا دعيت إليه، ومن ذلك أن حكومة وزير خارجية لبنان لم تستطع حل مشكلة الزبالة في بيروت، ولم يتمكن البرلمان من انتخاب رئيس للجمهورية، لأن دولة حزب الله في لبنان تريد رئيساً يحافظ على مكتسباتها، فماذا عسى الوزير، جبران باسيل، أن يقدم من أفكار ومواقف من أجل إعادة الأمن والسلام والاستقرار وإيقاف الحرب في سورية؟ أعتقد أن روسيا دعت إلى اجتماع فيينا حزب الله، ممثلا بوزير خارجية لبنان المحسوب على الحزب في بلده.
دُعيت مصر لحضور اجتماع فيينا الثاني، ومثلها وزير الخارجية سامح شكري. مصر مأزومة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وإعلامياً وأمنياً، فماذا سيقول شكري في الشأن السوري؟ والعراق المدعو للمشاركة حدّث ولا حرج، يحكمه نظام أمعن في الفساد وترسيخ جذور الطائفية، ويعيش حرباً لن تستطيع قياداته الطائفية أن تخرج منها بسلام، وقادته منشغلون بتعظيم الفوائد الشخصية، ولا يهمهم ما يجري على الساحتين العراقية والسورية، لأن إيران تقوم بتلك المهمة وحدها. ما أردت قوله إن موسكو، صاحبة اقتراح مؤتمر فيينا الثاني، وتوسيع دائرة المشاركين فيه، إنما تهدف إلى جمع العدد الذي يسير في ركابها من أجل مواجهة الحقائق التي ستقدمها السعودية وتركيا وقطر والإمارات عما يجري في سورية، وإنه لا خلاص لدمشق إلا بالخلاص من بشار الأسد وحكومته. نستطيع القول إن روسيا جمعت في فيينا كل الأصوات المرتفعة، والتي لا تطالب بسقوط بشار الأسد وقواته الأمنية ومليشياته الطائفية التي أتى بها من كل فج، ليكونوا في مواجهة الشعب السوري إلى جانب روسيا.
(3)
يتحدثون في كل مؤتمر عن سورية، عن تشكيل حكومة انتقالية لها كامل الصلاحيات تتألف من
"روسيا دعت إلى اجتماع فيينا حزب الله، ممثلا بوزير خارجية لبنان المحسوب على الحزب في بلده"
المعارضة ومناصري النظام. هذا النموذج ثبت فشله في اليمن، وقاد إلى حرب أهلية بشعة، ما برحت رحاها دائرة حتى هذه الساعة. يقول الروس والإيرانيون إن الأسد خط أحمر، ولا يجوز الحديث في شأنه، والحق أنه لا يجوز لأي طاغية قتل من شعبه أكثر من ربع مليون إنسان ودمر البلاد، وأجفل الشعب السوري من أرضه إلى الحد الذي جعلهم يركبون البحر بحثاً عن ملجأ يحميهم من البراميل المتفجرة المنصبة على رؤوسهم من النظام وأنصاره. لا أفهم أن يبقى بشار الأسد في هرم السلطة في المرحلة الانتقالية المزعومة، إلى أن تنتهي الانتخابات التي تعدها الحكومة الانتقالية.
تقول روسيا إنها تبحث عن حلول سياسية لتلك المصيبة، كيف نصدقها وطائراتها تشن غارات وحشية، ليل نهار، على المدن والقرى السورية الآهلة بالسكان المدنيين، وترفض في مجلس الأمن الدولي رفضاً قاطعاً منع القيادة السورية من استخدام البراميل المتفجرة على المدنيين العزل من دون تمييز.
تقول تسريبات روسية إن موسكو ستضمن عدم ترشيح بشار نفسه لأي انتخابات مقبلة، لكن لأي من أهله أو أي شخصيات في النظام مقربين منه حق الترشح. وفي حال قبلت المعارضة في الداخل والخارج تشكيل حكومة انتقالية مشتركة مع النظام القائم، فعلى تلك الحكومة منح بشار الأسد والعاملين معه حصانة كاملة بعدم محاسبته عن الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب السوري، تشبه الحصانات التي قدمت للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح.
آخر القول: الدب لوث البيئة العربية ليحقق أهدافه فيها، والحوت لوّث بحارنا، وأكل صغار أسماكنا وكبارها، ولم يترك لنا باقية، فهل من صحوة عربية تعيد الأمل، كما أعادتها عاصفة الحزم؟
مجازر مستمرة في مدينة دوما عروس الغوطة الشرقية وأم الشهداء إذ لا تفارقها مناظر القتل والأشلاء المتناثرة في الشوارع وعلى أرصفة الطرقات ،ففي كل صباح يحمل القدر لها في صفحاته المزيد من الشهداء على درب الحرية والتحرير لنيل ما خرج أهلها لأجله وما ضحى به أبنائها من أرواح ودماء لنيله.
فاليوم كسابقه لا جديد إلا أسماء من المدنيين ترتقي الى ربها بفعل القصف الجوي والصاروخي بفعل ألة قتل وقاتل لم يتغير على مدار الخمس سنوات الماضية فهو معلوم لكل صغير وكبير يقتل أبنائهم ويرمل نسائهم ويهدم منازلهم ويؤرق حياتهم بطائراته الحربية وصواريخه الثقيلة يرسلها إليهم بشكل يومي تزرع الرعب والخوف قبل ان تلقى قنابلها وسط الأسواق وفوق رؤوس الأمنين فتقتل وتهدم وتدمر مرتكبة المجزرة تلو المجزرة وسط صمت دولي وعربي مطبق لم يصل للتنديد حتى أو القلق ،فدمائنا رخيصة وأشلاء أطفالنا ومناظر قتلنا غدت أمراً اعتيادياً ربما يقلقون إن لم يشاهدوها بشكل يومي عبر شاشات التلفزة ومواقع التواصل.
غدت دوما بشكل يومي على موعد مع القتل والأشلاء ورائحة الدماء الممزوجة بغبار القصف مع الأشلاء المتناثرة هنا وهناك بين ركام الأبنية وعربات الخضار وسط الأسواق التجارية والمباني السكنية في الوقت الذي تعجز فيه قوات الأسد عن التقدم على جبهات القتال مع الثوار فيكون ردها في قتل المدنيين العزل والثأر منهم لما يتكبدونه من قتلى وخسائر على تلال الغوطة الشامخة.
وفي ظل الحصار المطبق والقصف اليومي تعيش ألاف العائلات في وضع إنساني عصيب تواجه بصبرها وثباتها الجوع والقتل وسط الغلاء الجنوني للأسعار وتحكم تجار الأنفاق بالمواد التموينية والغذائية دونما اي رادع لها وكل طرق يكيل الإتهامات لغيره ويسوق المبررات لنفسه ومصائب الشعب وأوجعه باتت أخر همه.
ومن الناحية الطبية لا يخفى على أحد حجم الضغط الذي تعانيه الكوادر الطبية وفرق الدفاع المدني في مواجهة هذا العدد الهائل من الإصابات والشهداء بشكل يومي هذا بالإضافة لتعرض مراكزها وكوادرها للقصف والاستهداف المباشر وسط نقص كبير في الأدوية والمستحضرات الطبية والأليات اللازمة لرفع الأنقاض وإنقاذ المصابين.
وفي بادرة جديدة ولهدف التخفيف من القصف عملت بعض الفصائل في الغوطة الشرقية على نشر أقفاص حديدية وضعوا بداخلها عائلات الشبيحة والضباط والأسر العلوية المؤيدة للنظام والمعتقلة في سجونهم ووزعوها على مناطق واسعة في بلدات الغوطة الشرقية والأسواق التجارية موجهين رسالة لرأس النظام وطائفته بأن طائرات وصواريخ راجماتك لن تقتلنا وحدنا بل سيكوي نارها على أعوانك وشبيحتك الأسرى لدينا عله يعطي أهمية لأرواح مؤيديه ويوقف القصف ولكن على ما يبدو أن النظام المتهالك لم يعد يأبه لمؤيد، وبات القرار بأيدي الدول الحاضنة له روسيا وإيران وبات الحل على حساب دماء الشعب السوري عامة دونما التمييز بين مؤيد ومعارض وهذا ما تأكد بمعاودة استهداف مدينة دوما اليوم بعدة صواريخ ثقيلة أسفرت حتى اللحظة عن استشهاد ستة مدنيين وجرح العشرات وسط تحليق مكثف للطيران الروسي في أجواء المنطقة.
دوما اليوم تسطر بدماء أبنائها أروع الملاحم وتؤكد بثباتها استمرار المشوار لتحقيق الهدف المنشود وأن القتل والقصف لن يثني عزيمتها فدوما ودماء أبنائها ستغدوا ناراً وإعصار تحرق أعداء الثورة وأرباب الحروب ولن تهنئ دوما وتهدأ ثورتها إلا بإسقاط السفاح وكل أعوانه فدماء الأحرار لن تضيع سدى وأمهات دوما ولادات للأحرار مصممات على الثبات وحث الثوار على الثبات حتى نهاية المشوار.
لدوما العزة والفخار ولأرواح شهداءها الرحمة والجنان ....... فدرب الحرية طويل ودوما على العهد باقية.
بشّرنا رجل أمن أوروبي مسؤول بأن الشرق الأوسط القديم زال من الوجود، وأن سورية التي نعرفها اختفت، وصار من المحال استعادتها واسترداد وضعها السابق. وبرهن المسؤول على صحة أقواله بأدلةٍ، منها أن شمال سورية لم يعد سورياً، بل صار "كرديا" ووسطها "داعشيا".
لا شك في وجود ميل إلى تفتيت سورية لدى جهات بعينها، أهمها "داعش". بينما تنفي تصريحات وأقوال جهات أخرى، منها حزب المجتمع الديمقراطي الكردي، نفياً قاطعاً رغبتها في الانفصال عن بقية وطنها، أو فصل قومها عن بقية شعبه السوري، وتدعي أن نشاطها في شمال سورية مكرّس لحماية الكرد والعرب، وغيرهم من القوميات، ولإبعاد الحرب عنهم، وإنقاذهم من بطش السلطة وجرائمها. إذا كان يصح استشهاد المسؤول الأوروبي بـ"داعش"، فإن استشهاده بـ "حزب المجتمع الديمقراطي" لا يدعم زعمه حول اختفاء سورية، واستحالة استعادة الوضع الذي كانت عليه قبل الثورة. وحتى لو افترضنا أن الحزب يبطن غير ما يظهر، ويريد حقاً فصل منطقةٍ سورية عن وطنها، فإن من غير الصحيح الادعاء بأن شمال سورية صار تحت سيطرته، لأن منطقة ما يسميه "الحكم الذاتي" لا تعادل عشر مساحة شمال سورية، ومن غير المؤكد إطلاقا أنه سيستطيع المحافظة عليها بعد الثورة، كياناً منفصلاً عن بقية وطنه. أما "داعش" التي تحتل القسم الصحراوي من وسط سورية ومدناً وبلدات متفرقة شمالها، فقد قيل لنا آلاف المرات إنه لن يسمح لها بإقامة دولة خاصة بها، وأن العالم سيمنعها بالقوة من الاستيلاء على السلطة في سورية، فهل يجهل المسؤول الأمني الكبير وجود ضمانة كهذه، أم إنه يكشف بعض ما اتخذ من قرارات يجهلها السوريون، ستعين مستقبل بلادهم، وتبدو علاماتها جلية في سياسات بعض الدول الكبرى وانعكاساتها الميدانية التي تسمح بـ "تمدد الدولة الإسلامية في العراق والشام"، من دون أن تواجهه بذلك القدر من القوة الذي ألزمت نفسها باستخدامه، لمنعها من تغيير بنية الدولتين السورية والعراقية وهويتهما.
لا يتحدث المسؤول الأمني عن بقية مناطق سورية، على الرغم من حديثه عن تقلص مساحة المنطقة التي تحكمها السلطة الأسدية وضمورها. ولا يتعرّض في حديثه، ولو بكلمة واحدة لرأي الشعب السوري وإرادته، الشعب الذي كان حرياً بمسؤول في بلد ديمقراطي اعتباره صاحب القرار الأول والأخير في وطنه. كما لا يأبه للاتفاق الدولي العام والمعلن عن ضرورة بقاء سورية موحدةً، دولة ومجتمعاً، وإنما يطلق حكمه من دون مراعاة لانعكاساته الخطيرة على الشعب ومكوناته الوطنية وأطرافه المتصارعة، أو تمييز بين من يعملون لتفتيت سورية إذا لم تخضع لطغيانهم، وأولئك الذين يقاتلون من أجل حريتها، وبلغ تعلقهم بوطنهم حداً ضحوا معه بكل ما يملكون، بما في ذلك حياتهم.
أخيراً، يبدو أن المسؤول الأوروبي لم يفكر بارتدادات زوال الشرق الأوسط الحالي والدولة السورية القائمة على أوروبا، وبالكتل البشرية الهائلة التي ستتدفق عليها، بعضها طلباً للجوء وبعضها الآخر للانتقام من عالم ظالمٍ، سمح، أو بالأحرى، أسهم بتدمير منطقةٍ، هي واحدة من ثلاث مناطق، أبدعت جميع مرتكزات ومفردات الحضارة البشرية القائمة التي غدت كونيةً، بجهود شعوب عديدة، برزت بينها دوماً جهود السوريين بمختلف مكوناتهم.
ليس اختفاء الشرق الأوسط الذي نعرفه وسورية الحالية حدثاً سعيداً، لأنه قد يكون مقدمة لاختفاء أوروبا الحالية، ببنى عديد من مناطقها الهشة وتناقضاتها المتنوعة، وبالمتاعب التي تعصف بدولها وبلدانها، وبانكشافها أمام ما ستواجهه من إرهابٍ، لن تقوى على مواجهته.
لا يمكن وصف البيان الذي خرج به مؤتمر فيينا بهدف إيجاد مخارج سياسية للأزمة السورية بالإنشائي، مؤشراً للفشل الذي وصل إليه، لأن لغته لم ترق إلى ذلك المستوى أصلاً، بل إن الوصف الأكثر انطباقاً عليه هو التلاعب بالألفاظ، طالما لم يتجرأ على الوصول إلى قلب المشكلة وملامستها، وكل النقاط الواردة في البيان الفقير لا يمكن تطبيقها إذا ما بقيت المشكلة الأساس، بشار حافظ الأسد، فلا مطالبة البيان بالمحافظة على سورية دولة علمانية، وكذا إلغاء الطائفية، تشكل آليات عمل يمكنها الوقوف في وجه آليات التفتيت والتقطيع والتحريض التي تمارس على الأرض بأسلحة حقيقية وباللحم الحي.
والإبقاء على التفاوض الدبلوماسي مفتوحاً، يشبه إبقاء بطن الشرق الأوسط مفتوحاً تحت مباضع الجراحين، والتأمل في بؤرة الورم، وانتظار انتشارها إلى باقي الأطراف، بما يعني ذلك من إمكانية إجراء عمليات قص ولصق عناصر وأعضاء جديدة، وانتظار ظروف التشكّل الجديدة حتى تنضج أكثر.
لكن، وبعيداً عن التطرف في وصف الأمور، هل بشار الأسد هو جوهر المشكلة؟ هشاشة موقعه وضعف تكوينه الحالي، وتبعيته المطلقة، تضعه في موقع أصغر بكثير من أن يكون بحجم المشكلة التي صارت عليها أزمة المنطقة، ربما كان في مرحلة سابقة يجسد هذه المشكلة، أو بعض وجوهها، لكن التعقيدات التي أضافها مشغلوه عليه جعلته مجرد واجهة تتخفى خلفها عقد كثيرة. والدليل أن بشار الأسد لم يعد أكثر من ظل شفاف، يمكن من خلاله رؤية الحقيقة الكاملة، مصير سورية والشرق الأوسط الجيوسياسي.
ليس مصادفة أن تسبق اجتماعات قاعات فيينا تصريحات رؤساء اثنين من أهم أجهزة الاستخبارات التي عملت في المنطقة في السنوات السابقة، فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، تفيد بنهاية الشرق الأوسط واستحالة عودته إلى الصورة التي كان عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وكذا استحالة عودة الدولة المركزية في القلب منه، العراق وسورية، برنار باجوليه مدير الاستخبارات الفرنسية وجون برينان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، لم يكونا بصدد تحليل الواقع، ولا وضع قراءات استشرافية، الأرجح أنهما كانا يصدران عن معطيات وتقديرات، وربما يبوحان بتفاهمات يجري العمل عليها.
في السياق التاريخي للتشكلات الإقليمية، لا تفيدنا كثيراً تجربة "سايكس بيكو" لتفسير الوقائع
"النشاط العسكري الجاري في المنطقة يهدف إلى تفكيك نظام سايكس بيكو بكامله"
الحاصلة في المنطقة، واستشراف مآلاتها، ذلك أن الاتفاق المذكور كان نتيجة تفاهم قوى كبرى على اقتسام مناطق النفوذ بينها، كما أن هذا الاتفاق، وعلى الرغم من كل العيوب التي ينطوي عليها، والنقد الذي طاوله، إلا أن أهم ميزة فيه تجسّدت بانغلاق نوافذه تماماً على الكيانات التي تأسس عليها. وعلى العكس، بقي مفتوحاً على احتمالات دمج كياناته وتوسعتها أكثر من احتمالات تفتتها، كما أنه راعى، بدرجة كبيرة، تراكب الوقائع الاجتماعية مع العناصر الاقتصادية والحركة التجارية والحدود الجغرافية، والأهم أنه أوجد بيئة دولية تدافع عن صيغته. لذلك، يمكن ملاحظة أن النشاط العسكري الجاري في المنطقة يهدف إلى تفكيك نظام سايكس بيكو بكامله، من إطاره الخارجي إلى العلاقات المتشكّلة في داخله "اجتماعية واقتصادية" لبناء النظام الجديد، وليس استيلاد نظام من الإطار السابق نفسه.
الحالة التاريخية الأقرب تفسيراً هي حالة أفريقيا بعد مؤتمر برلين وحتى الحرب العالمية الثانية، حيث شكّلت مساحة لصرف طاقات القوى الصاعدة (ألمانيا وإيطاليا) وإبعاد شرورها عن أوروبا، وإقصائها عن الشرق الأوسط وآسيا الهندية. وفي مطلق الأحوال، جسّدت المنطقة الوحيدة التي كان من الممكن أن تشكّل القبول بأقل خيارات التنازل سوءاً بالنسبة للقوى العظمى في ذلك الوقت (بريطانيا وفرنسا) أمام ضغط قوة ألمانيا وإيطاليا الصاعدتين. وبميزان الحسابات، وعلى الرغم من أهمية الأصول الاستراتيجية لقلب الشرق الأوسط، سواء لجهة قربه من أوروبا، أو من منابع النفط، إلا أن الصراعات الداخلية حوّلته إلى كومة ركام، كما أن البنى الصراعية المتشكلة بداخله ومحركات ذلك الصراع ومحفزاته ستبقى على اشتغال فترة زمنية طويلة، وهذه الوضعية هي سر مرونة أميركا تجاه التمدد الروسي الإيراني في هذه المنطقة، وربما تفسر لا مبالاة أوروبا فيها.
ولعل من المفارقات العجيبة أن هذا الشرق الأوسط المراد نشوءُه لا تملك أي من القوى المتدخلة القدرة على تظهيره، وفق رزنامة زمنية محددة. لذلك، تعتمد على الفوضى المديدة وأعنتها كآليات تشغيلية، بالإضافة إلى تزخيم الواقع بمزيد من التعقيدات التي يمكن استثمارها في تظهير هذا الواقع الجيوسياسي، من نمط الإصرار على عدم حل عقدة الأسد، وتركها تتفاعل دينامية تشغيلية تساهم في صناعة الواقع المرتجى.
على شكل تسريبات من هنا، واستشرافات من هناك، وبخجل وكثير من التقية المتعمّدة، يجري الحديث عن هذا النمط الجيوسياسي المراد تأسيسه، لا أحد يجرؤ على القول المباشر، ربما لعدم امتلاك جميع الأطراف التصور الواضح عن حدود هذا التشكّل وماهيته، والأكيد لأن اكتمال إنجازه يحتاج إلى الكثير من الدماء واللحم الحي. وفي هذه الحالة، سوف تشكل المؤتمرات الشبيهة بمؤتمر فيينا واحدة من الآليات التشغيلية، نظراً لما توفره من مساحة مهمة للمناورات الدبلوماسية، فيما الميادين والجبهات تعمل على إنجاز الصياغة. المهم أن الصراع جرى تأطيره بشكل نهائي على أنه صراع سني- شيعي، وكل البيانات السابقة لن تستطيع إعادة هيكلته، طالما أن روسيا وإيران تصرّان على بقاء بشار حافظ الأسد.
تقع في فخ التبسيط المبتذل تلك الأوهام حول قدرة موسكو على ترحيل بشار الأسد، والتي رافقت التدخل الروسي المباشر، وبُنيت على ما ساهم طاقم فلاديمير بوتين في ترويجه حول الإمساك التام بقرار الأسد. الأخير، الذي لا نعلم ما قاله في مجلس «القيصر»، عاد مع التكهنات التي تدور حول موعد تنحّيه، إلى تأكيد عدم وجود حل سياسي في سورية إلا بعد القضاء على «الإرهاب»، وهو الموقف الذي ثابر عليه أربع سنوات. قبل الإعلان المنقول عن رئيس النظام، ألقى زميله في حلف الممانعة حسن نصرالله، خطاباً تصعيدياً جديداً لا يصعب فهم نبرته الموجّهة تحديداً الى من يصرّ على رحيل الأسد.
أوساط بوتين ذاتها، بدأت بالتراجع عن الجو الذي يوحي بانفراج بسيط، وعادت إلى تأكيد عدم وجود مساومة في هذه النقطة. أيضاً، من التبسيط عزو التراجع الأخير إلى تصلّب معتاد في أية مفاوضات شاقة، لأن هذه الفرضية توحي بانسجام تام بين النظام وحلفائه، واتفاقهم جميعاً على مبادئ التسوية، بما فيها تنحّي الأسد في مرحلةٍ ما كما يلوّح بذلك الروس.
بدايةً، يصعب حل التناقض في التكتيك الروسي، وهو تقوية الأسد ثم البحث في تنحيته، مثلما يصعب الاقتناع بأن الحليف الإيراني موافق على هذا التكتيك، فالأقرب إلى المنطق أن توافق طهران على الجزء الأول فقط. والأقرب إلى المنطق أن التصلّب في المواقف الذي انطلق من الضاحية الجنوبية إلى دمشق، رسالة إيرانية إلى الحليف الروسي، تنصّ على أن ملف التنحي لا يزال في عهدة طهران، ولن يستطيع الطيران الروسي انتزاعه منها بالسهولة التي يروّجها البعض.
الثمن ليس، كما قد يُفهم تبسيطاً، دعوة طهران إلى فيينا 2 والاعتراف بدورها، فحضـــور طهران مفاوضات فيينا سيعقّدها بإدخالها متاهة من الملفات الإقليمية المتشابكة. طهران ستأتي إلى الطاولة لتقلبها ما لم تكن هناك صفقة متكاملة مُرضية لها، تتضمن اليمن والملف اللبناني، وحتى ملف «داعش» في العراق الذي لا تسير فيه إدارة أوباما كما تشتهي طهران.
النظام، مع التحفّظ على التوصيف، لن يكون مستكيناً أمام محاولات الروس، إذا صدّقنا الادعاءات حول محاولاتهم تحويله إلى نظام. طوال السنوات الأربع الأخيرة، فشلت كل المحاولات الدولية لإغراء الزمرة الحاكمة بالتحوّل إلى نظام يضحّي ببعض رموزه من أجل استمراره، ودفع السوريون مئات آلاف القتلى نتيجة تسويق كذبة «النظام أو الفوضى»، وأن يأتي الروس للاستثمار فيها فذلك لا يعني تحوّلها تلقائياً إلى واقع. وهو لا يعني خصوصاً أن الزمرة الحاكمة التي طالما سارت عكس مفهوم النظام، وتبنت علانية منذ انطلاق الثورة النهجَ الميليشياوي ونهج أمراء الحرب، ستقبل صاغرة بالخروج عن النمط الملائم لبُنيتها.
التدليل على ضعف الزمرة الحاكمة لا يخدم فكرة تنحيتها إلا صورياً، إذ كما نعلم استخدمت الزمرة ضعفها لابتزاز العالم واستجداء مساعدته، بما في ذلك التلويح به للغرب كي يمنع إسقاطها. وأخيراً، عندما يأتي التدخل الروسي المباشر تلبيةً لاستغاثة الأسد، في الخطاب الذي أقرّ فيه بضعف قواته، فهذا يعني فعالية الضعف لا انعدام فعاليته، حتى لو بدا بوتين كأنه يستغل الضعف لمصالح روسيا أو لطموحاته الشخصية.
لدينا سابقة شديدة الوضوح: فالتورط الإيراني استُهلّ مع سوء تقدير لمدى ضعف قـــوات الأسد، لكن سوء التقدير لم يؤدّ إلا إلى مزيد من التورط، وحتى بعد اكتشاف حالات سوء استغلال الدعم الإيراني الواسع لم تجد طهران مفراً من استمراره. غالب الظن أن التدخل الروسي سيأخذ المنحى ذاته، وفي حال تعثّره مع مرور الوقت، كما حصل في الشهر الأول منه، ستكون العودة عنه باهظـــة الثمن لأنها إعلان خسارة لن يكون الكرملين مستعداً لتقبّلها. وبخلاف ما يُشاع عن مصلحة أميركية بتورّط روسي في سورية، فأصحاب المصلحة في التورط هم أولاً حلفـاء بوتين، لأن طهران والأسد يدركان صعـــوبة العودة عنه، وعدم قدرة بوتين على الإمساك بالورقة السورية، لأنهما سيمنعانه من ذلك. في أقصى الشقاق، لن تشنّ المقاتلات الروسية حرباً على حليفيها، ولا يستطــيع الكرملين التهديد برفع الحماية الدولية عن الأسد، لأن التهديد لا يلاقي قوى دولية متحفزة للتدخل وإسقاطه عسكرياً.
نظرياً، قد يصحّ القول أن موسكو لا تملك دوافع للتمسّك بشخص الأسد. عملياً، هذا مساوٍ لعدم تلهّفها لإطاحته، ولعدم قدرتها على إطاحته من دون تفاهم مع طهران. المضي في مفاوضات فيينا أو غيرها لا يتناقض مع تلك المقدمات، فهو يستكمل الإيحاء بوجود استراتيجية متكاملة للتدخل الروسي، وتحت ستار البحث عن تسوية تستمر الآلة العسكرية بحثاً عن انتصارات تفرض شروطاً سياسية جديدة. فإذا كان تعثر الحملة في شهرها الأول لم يمنع الترويج للانتصار، ولم يمنع أيضاً رئيس المخابرات الأميركية من التصريح بأن ميزان القوى يميل إلى الأسد الذي يسيطر فعلياً على ربع مساحة البلاد، فلنا أن نتخيل كيف سيجري التعامل مع المفاوضات في حال إحراز تقدم فعلي على الأرض.
بالاستعارة من الملف الفلسطيني، ما يريده الروس وحلفاؤهم «عملية» تسوية لا تسوية شاملة وسريعة، لأن مفهوم «العملية» يرجئ البحث في نقاط الخلاف الرئيسة. المطلوب أولاً من عملية المفاوضات، استيعاب التدخل الروسي من بعض الغرب وبعض القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة، أي تطويق الدعم الذي قد تحصل عليه فصائل المعارضة فيما لو بقيت المسألة في حيّز الاشتباك العسكري.
إدارة أوباما لا تعارض اختبار العملية، ولا الدخول في اشتباك عسكري مع الروس قد يضطرها للذهاب بعيداً من سلبيتها، فضلاً عن أنها في طليعة القائلين بمنع إسقاط «النظام». لذا لا يُستبعد لجوء الإدارة الى الضغط على الحلفاء ولجمهم عن دعم المعارضة بذريعة إعطاء مهلة للجهود الديبلوماسية. ومثلما طوّقت إيران، عبر تصريحات نصرالله والأسد، التنازلات الروسية المنتظرة، أتى لقاء باريس والعديد من التصريحات الغربية والإقليمية لتطويق تنازلات أميركية أكثر توقعاً من نظيرتها الروسية.
في أقصى حالاتها، هذه العملية ليست بلا نهـــاية، فعين موسكو وطهران طامعة في استغلال السنة الأخيرة لأوباما، بينما أعين أخرى تتوق إلى انقضائها بأقل الخسائر.
أمام واقع جبان ومجتمع دولي مجرم وضحايا بالعشرات يومياً لم يجد ثوار الغوطة أمام رؤية نسائهم وأطفالهم أشلاءاً على ضفاف نهرٍ جارٍ من الدماء
إلا أن يضعوا مَن بين يديهم مِن الأسرى -مدنيين وعسكريين- بين أهالي الغوطة موزعين في المناطق التي يستهدفها الطيران الأسدي ..
ولسان حالهم يقول : إن كان الطيران سيستمر قصف المدنيين ، فليكن مصير أسراهم من مصير أهالينا ..
وتعتبر هذه الخطوة جديدة كلياً على الثورة السورية ، حيث لم يسبق لثوار سوريا أن أدخلوا نساء وأطفال العدو في خضم المعركة ، بينما كان الأسد ومن لحظات الثورة الأولى -بل منذ انقلابه واستيلائه على السلطة - لا يتورع عن التنكيل بالمدنيين ، واستخدام الدروع البشرية ، ووضع المدنيين في خضم المعركة .
ولم يكن ذلك حكراً على قواته النظامية ، بل حتى القوات الشعبية والأهلية التي شكلها أو التي دعمته كانت تزج بالنساء والأطفال في المعركة وتستخدهم أوراق ضغط حيناً ، ودروعاً بشرية حيناً ، وتمارس المجازر الطائفية فيهم تارات أخرى ، لا سيما الذبح الطائفي للأطفال في قرى أهل السنة المجاورة لقرى العلوية ..
هذه الخطوة لا تعتبر من مبدأ (عليَّ وعلى أعدائي) أو (الورقة الأخيرة) بل هي وسيلة حماية مشروعة أمام نظام مدعوم من مجتمع دولي لا يقيم للإنسانية أو الحقوق أيّ اعتبار ..
وليس هنالك ثمة مانع شرعي أو قانوني أو وإنساني من قيام ثوار الغوطة بهذه الخطوة ،
فقد حرص الثوار على عدم زج المدنيين في المعركة ، فلم يوضع الأسرى على الجبهات ، ولا دروعاً بشرية ، ولا للضغط لتحقيق مكسب سياسي أو عسكري ، بل اكتفوا بجعلهم مع أهليهم ونسائهم وأطفالهم سواسية ، ما يصيبهم يصيبهم ..
بينما النظام الأسدي والمجتمع الدولي الذي يدعمه لم يتورعوا عن الزج بالمدنيين في المعركة ، وليس تاريخ أمريكا في العراق وأفغانستان وفيتنام ومجازر الهنود الحمر عنا ببعيد ، فضلاً عن أهلنا في فلسطين .
يأمل الثوار من هذه الخطوة أن يكتفي الأعداء بالصراع (سياسياً أو عسكرياً) على مبدأ رجل لرجل ، مقاتل لمقاتل ، جندي لجندي .. وأن يتم تحييد المدنيين من المعركة ، رغم أن عهدنا بالنظام الأسدي لا يقيم للمدنيين وأنصاره عموماً ولطائفته خصوصاً أي وزن ، ولا يبالي بهم في سبيل تحقيق مصالحه ، وهاهم المئات من ضباطه ونسائه أسرى في الغوطة لم يبال بهم سابقاً ولم يبادل عليهم ، ولم يسأل عنهم ، حتى رأيناهم اليوم على هذا الحال ..
هل سيكون رد النظام ومنظمات حقوق الإنسان التي تدعمه ، والمرجفون في الأرض ، أن كفى لقتل المدنيين ، كفى للمجازر ، كفى لسفك الدماء ؟
أم سيكون الرد -كما عهدناهم- بوضع اللائمة على الثوار ، لمجرد رؤية قفص وعدم المبالاة بكل المجازر والدماء التي سفكت ؟؟
وختاماً لمن يستهجن الطريقة أو الأسلوب الذي استخدمه الثوار فالله تعالى قال :
(ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً .. فلا يسرف في القتل ..).
(وجزاء سيئة سيئة مثلها).
ولا يعتبر ذلك أبداً إساءة معاملة أسرى ولا مخالفة أخلاق الإسلام ولا به أي بأس ، فماذا يريد هؤلاء أكثر من أن جعلوهم بمرتبة أهلهم وأسرهم ونسائهم ؟
أما شكل القفص فالغوطة كلها في قفص أقسى وأسوأ ، ولكن البعض أصابه العمى ...
أعلنت "قوات سوريا الديمقراطية، يوم أمس السبت، عن بدء عملية عسكرية ضد تنظيم "الدولة" بريف الحسكة، بدعم من طيران التحالف الدولي.
الناطق باسم القوات، اعتبرها قوات وطنية تدافع عن "الشعوب السورية"! وطالب من المدنيين مؤازرة قواته على هذه الأساس.
وأضاف، أن العملية العسكرية لقوات "سوريا ديمقراطية" بريف الحسكة الخاضع لسيطرة تنظيم "الدولة"، هي الخطوة الأولى لتحرير سوريا.
الانسان السوري البسيط يعلم أن هذه القوات مشكّلة من فصائل مسلحة، لا تنمي للثورة السورية، وأن كان فيها فصيل أو اثنين يرفعون علم الثورة، فالفصائل التي شاركت في السيطرة على منطقة تل أبيض شمال الرقة، من تنظيم الدولة، فقدت بريقها الثوري بمجرد أنها فشلت في حماية المدنيين، من سياسية العقاب الجماعي التي انتهجتها الوحدات الكردية، ضد سكان المنطقة، والتي اثبتتها منظمة العفو الدولية بتقرير صدر مؤخراً في تشرين الأول/ أكتوبر.
القسم الآخر من هذه الفصائل المكونة لقوات سوريا ديمقراطية، هي ميلشيات صغيرة تابعة للنظام الأسد، مثل ميلشيا الصناديد والسوتورو، وهي ميلشيات طالما روجت لها صفحات النظام على مواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن احتفالها بالوحدات الكردية نفسها، والتي تتشارك مع قوات النظام السيطرة على مدينتي الحسكة والقامشلي.
بالتأكيد لا يمكن النظر لهذه التجمع العسكري، على أنه وليد الصدفة، أو أنه جاء بتوافق بين قادة هذه الفصائل، لمحاربة تنظيم "الدولة" والانتصار للثورة السورية، التي خذولها مع انطلاقة عملهم من الحسكة، إذ نشر ناشطون صور لعناصر من هذه القوات يجوبون شوارع القامشلي قرب تمثال "حافظ الأسد" ، إضافة لإرسال رسائل قصيرة من قبل شركات الاتصالات الخليوي (أم تي أن- سيرتيل)، لرسائل تثني فيها على انطلاقة معركة "تحرير ريف الحسكة"، من قبل قوات سوريا ديمقراطية، ما يعني أن هناك توافق بين مخططات النظام ومخططاتها.
موسكو وواشنطن بدورهما أبديا توافقاً على الوحدات الكردية، فالأخيرة تدعم الوحدات الكردية والفصائل المتحالفة معها منذ بدء التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، بقصف مواقعها داخل سوريا قبل أكثر من عام، كما قالت واشنطن: إنها ألقت كميات من الأسلحة "للمعارضة المعتدلة" شمال سوريا، بينما زار صالح مسلم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تتبع له الوحدات الكردية موسكو، وقدم نفسه على أنه يمثل "المعارضة المعتدلة"، واقتنعت موسكو بذلك وقالت أنها التقت ممثلين عن "الجيش الحر"، ووعدت بدعهم بشرط محاربة تنظيم الدولة وليس الأسد.
وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة، أكدا في تصريحات سابقة في تشرين الأول/ أكتوبر، ضرورة تأسيس سورية ديمقراطية علمانية تعددية، بدروها تلقفت الوحدات الكردية هذه التصريح لتصنع تحالف عسكري من فصائل موالية للنظام وأخرى صغيرة من غرفة بركان الفرات.
فروسيا تثق بهذه التحالف العسكري، الموجه فقط لحرب تنظيم "الدولة"، خاصة مع انعدام وجود قوات نظام في شمال سوريا، حيث يسيطر الجيش الحر وتنظيم الدولة والوحدات الكردية على مجمل المنطقة، بينما ترى الولايات المتحدة أن قتال تنظيم "الدولة" أولية لها، وترفض تقديم أي دعم عسكري للمساعدة على إسقاط "بشار الأسد" لفصائل الثورة السورية والجيش الحر.
توقع جنرال أميركي أن يشهد الشهر المقبل استعادة الحكومة العراقية مدينة الرمادي غرب العراق من أيدي «داعش»! هذا التوقع سبقته عشرات الوعود وعلى مدى أكثر من سنتين من استئناف التنظيم الإرهابي وثبته بعد سنوات من الهزائم التي ألحقتها به الصحوات السنية العراقية.
والحال أن العراق والعالم القريب والبعيد عاد هذه الأيام إلى التفكير بـ«داعش». بذاك «السر» الذي يعرفه الجميع، عن ولادة التنظيم وانقضاضه على مدن العراق وانتقاله إلى سورية وتأسيسه «دولة الخلافة» على مساحة شاسعة من الصحراء تضم مُدناً وبوادي وحقول نفط ومساحات زراعية ومراعي وسبل عيش.
لا شيء أقدر من واقعة الموصل على تفسير «داعش». فسقوط المدينة بيد التنظيم في 2014، شكل انتقالة هائلة في واقع «دولة الخلافة»، وتحولاً من حقيقة أن الجماعة تنظيم إرهابي إلى دولة و«خلافة».
والواقع أن الموصل لم تسقط بفعل خيانة ضباط المالكـــي وانسحابهم السهل، على رغم أنها كذلك. الأمر كـــان أعمــــق من خيانة، فـ2014 كان عام الحدث الذي بدأ التأسيس له أمام أعين الجميع منذ بدايات 2013. آنذاك ووصـولاً إلى لحظة الانقضاض على المدينة في 9 حزيران (يونيو) 2014 صُفّي كل خصوم «داعش» من شيوخ عشائر ووجهاء وصحافيين وناشطين، وهم للمصادفة خصوم المالكي وحكومتـــه آنذاك. وجرى ذلك تحت أنظار السلطة وليس بعيـــداً عــــن أنظار الأميركيين والإيرانيين، والأكـــراد الذيـــن كشف زعيمهم في أربيل مسعود بارزاني أنه عندما نبه المالكي إلى ما يجري في الموصل في 2013، أجابه الأخير: «عليك الاهتمام بإقليمك»!
لا يهدف هذا العرض إلى تبرئة البيئة التي تفشى فيها التنظيم من المسؤولية، ففي الوقائع التي سبقت احتلال الموصل حقائق حول دور لعشائر المدينة في تسليم السلطة لـ«داعش»، لكن هذه الحقائق تكشف أيضاً مقدار التخلي الأميركي عن سنّة العراق وتركهم نهباً للتنظيم ولجماعات تكفيرية في محيطه، ناهيك عن قرار حكومي ضمني بنقل تمثيل السنة العراقيين من قوى قبلت بالعملية السياسية إلى الجماعات «الجهادية». فـ«داعش» لم يأت بجديد على صعيد التركيبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك المناطق. فقط تعامل مع البنية التي رفض الأميركيون التعامل معها. سلم عشائر الجبور النفط وهو ما كانت تفعله هذه العشائر منذ حكم صدام حسين، وعشائر الشمر الحدود والمعابر، ولهذه العشائر خبرات على هذا الصعيد بسبب تواجدها على طرفي الحدود. واستثمر التنظيم في ضباط الجيش العراقي المنحل والذي تحول إلى جيش من العاطلين من العمل بعد القرار الأميركي الغبي بحل الجيش.
وكان أن تفشى «داعش» على نحو ما شهدنا منذ 2014 إلى اليوم، ولم تُلحق به هزيمة تذكر منذ ذلك الوقت باستثناء تقدم طفيف للأكراد على حدود إقليمهم، واستعادة مدينة تكريت غير الاستراتيجية وبكلفة بشرية هائلة كشفت خللاً في كل مشاريع محاربة التنظيم.
إذا أراد المرء أن يُحصي الأحلاف التي نشأت لقتال «داعش» فسيخرج بنتيجة مذهلة. أحلاف أرضية وأخرى جوية وبحرية، وتحالفات تقودها جيوش لم يسبق أن التقت. التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة من الجو، والحشد الشعبي الذي تقوده إيران في المدن العراقية، والبيشمركة الكردية التي تقاتل على تخوم إقليم كردستان، وصولاً إلى «الجيوش» الروسية والإيرانية والسورية التي انعقدت قيادتها مؤخراً لفلاديمير بوتين. والغريب أن كل هذا لم يؤت أُكله حتى الآن، وها نحن أليوم وبعد كل هذا الوقت والجهد أمام توقع ركيك من المرجح أن لا يُصيب، بأن تستعيد الحكومة العراقية مدينة الرمادي في صحراء غرب العراق.
ثمة سؤال يواجهه المرء أينما ولى: هل هناك رغبة فعلية بإلحاق هزيمة بـ«داعش»؟ وأمام كل هذه الوقائع علينا أن نؤمن فعلاً بأن لا رغبة لأحد في هزيمة التنظيم.
بالنسبة للأميركيين، «داعش» سبيلهم للتخلي عن المنطقة وعن حلفائهم التقليديين العرب تحديداً، وبالنسبة للروس تعتبر «دولة الخلافة» الدجاجة التي باضت ذهباً لنظامهم في دمشق، فلولاها لما كانت الطريق الدولية معبـــدة لموسكو كي تصل إلى دمشق. و«داعش» بالنسبة للإيرانيين عدو نموذجي كم تمنوا أن ينجحوا في تحويل أعدائهم إليه. وها هي طهران تكشف أن ما يعنيها من الحرب علـــى «داعش» في العراق هو حماية المناطق الشيعية، وما عدا ذلك فإن التنظيم مشكلة السنّة وعليهم حلها. فـ«داعش» عدو من خارج المذهب، ولا مشكلة معه طالما أن الحكومة العراقية بيدهم، وأن حدود «العراق الشيعي» مصونة. وكم يبدو جميلاً أن تلقى أعداءك في هذا المأزق. تركيا أيضاً اشترطت في بداية الحرب على «داعش» أن تتقاضى ثمناً لقاء «هذه الورقة»، وهو منطق ينطوي على رغبة بالاستثمار في التنظيم أيضاً. وما عزز الشكوك حيال دور أنقرة في السنة الأولى من عمر التنظيم في سورية، فتح الحدود أمام الراغبين بالالتحاق بـ«الجهاد».
اليوم خفض التحالف الدولي غاراته على مواقع «داعــش» بنسبة 50 في المئة على ما قال ناطق باسمه. الغارات الروسية على التنظيم أقل من 20 في المئة من مجمل الغارات الروسية المنفذة في سورية. والأتراك الذين بدأوا تلقـي طعنات التنظيم، يبدو أنهم مستمرون على اقتناعهم بأن القضاء على التنظيم يجب أن يكون لقاء ثمن واضح يتمثل برأس النظام السوري.
وما تكشفه خريطة المصالح هذه، غير انعدام الرغبة والمصلحة في هزيمة وشيكة للتنظيم، هو غياب مدوٍّ للعرب ولحسابات مصالحهم في غابة النوايا المتوحشة هذه، علماً أن «داعش» في هذه الخريطة هي ممثلة غيابهم، أو هي الحضور البديل الذي يُستعاض به عن هذا الغياب. فما هو مُدان في خطاب هذه الحرب الكاذبة على التنظيم هو «البنية القابلة للعنف والتكفير»، وليس كل هذه الوقائع الهائلة التي مهدت لصعود هذا العنف ولتحوله دولة و«خلافة».
ربما كان على المرء أن ينظر من بعيد إلى طاولة المفاوضات الدولية في فيينا حول مستقبل سورية، ليخلص إلى حقيقة أن الوقت لم يحن بعد للقضاء على «داعش»، وأن القضاء على التنظيم ليس مهمة أخلاقية يطرحها العالم نفسه.
للكاتب