١٢ سبتمبر ٢٠١٧
صدق المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا في توصيفه للوضع الحالي في سورية. سأل المعارضة «هل هي قادرة على أن تتحد وأن تكون واقعية لتدرك أنها لم تربح الحرب»؟ وسأل أيضاً «هل ستكون الحكومة السورية مستعدة للمفاوضات بعد تحرير دير الزور والرقة أم أنها ستكتفي برفع راية النصر»؟ والجواب على السؤالين يعرفه المبعوث الأممي جيداً. ولكن كان الأجدى به أن يتحلى بالقدر المطلوب من الديبلوماسية. أو أقله مراعاة التوقيت. ليس من الحكمة إعلان «هزيمة» المعارضة في يوم إدانة زملائه الأممين المحققين في جرائم الحرب قوات النظام السوري بأنها استخدمت الأسلحة الكيماوية 27 مرة خلال الحرب ومنها في خان شيخون. صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، لكنها لم تهزم ولم تنتهِ فعلاً. ولو سلمت بخسارتها النهائية لانتهت معها مهمته. ولعله نسي تصريحات سابقة له عن عدم جدية النظام في المفاوضات بل عرقلته العملية السياسية في الجولات السابقة. وهي بين أسباب أخرى دفعت سلفيه في المهمة كوفي أنان والأخضر الإبرايهيمي إلى التنحي. علماً أنه يعي جيداً أن النظام كان ولى من زمن لولا دعم حليفيه إيران وروسيا. وهذا باعترافهما معاً. ويعي أيضاً أن الأزمة السورية عسكرها النظام والجماعات المتطرفة التي يقال الكثير عن دوره في تصديرها من سجونه، وعن رعايته ورعاية بعض جيرانه لعناصرها سابقاً أيام الغزو الأميركي، وإثر اندلاع التظاهرات المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة في بلاد الشام. لم يوفق المبعوث الدولي، حتى وإن لطّف مواقفه بالإشارة إلى «أن لا أحد يمكنه القول إنه ربح الحرب».
وصدق «الائتلاف الوطني المعارض» في الرد على المبعوث الدولي بأن تصريحاته «هزيمة للوساطة الأممية»، وأن «عملية جنيف بهذا الشكل تفقد صدقيتها». لكن قادة المعارضة الذين لم يعجبوا بدي ميستورا منذ البداية، يأخذون عليه أنه ينسق خطواته وآراءه بما يتماهى مع الموقف الروسي إلى حد ما، إنما بغطاء أممي. لذلك كان عليهم أن يتوقعوا منه ما قال، فلا يصابون بـ «الصدمة» من مواقفه الأخيرة. وهو ليس الوحيد بين من يدعوهم إلى التعقل أو الواقعية. فهو يقرأ جيداً مثلما هم يقرأون أن «أصدقاءهم» سلموا لموسكو بدورها الأول في إدارة الأزمة السورية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. ولا يحتاج الرجل إذاً إلى مراعاة المشاعر أو التمسك بلغة ديبلوماسية من أولى صفات الوسطاء أو المبعوثين. منذ ثلاث سنوات وهو يتابع تنفيذ رؤية روسيا للتسوية. وما دام هناك شبه إجماع إقليمي ودولي على هذه الرؤية فإن من مصلحته الشخصية ربما أن يسير خلفها لعله يكون هو «الفائز» بهذه الحرب حيث فشل سلفاه! ولكن من حق المعارضة التعبير عن استيائها. فكيف يمكن مبعوثاً دولياً أن يدعو طرفاً في الحرب عدّه «مهزوماً» إلى مفاوضات سليمة وجدية وعادلة؟ كأنه يدعو ببساطة إلى تقديم تنازلات. بالطبع لا يشكف دي ميستورا جديداً بدعوة هذه المعارضة إلى وحدة تبدو مستحيلة لأسباب تتعلق بمكوناتها، مثلما تتعلق أكثر برعاتها في الخارج. وهو يدرك مثلها السبب وراء تشتتها. كان حرياً به أن يتحدث عن التغيير الذي نادى به بيان جنيف الأول (حزيران/ يونيو 2012) بدل أن يركب عربة مشروع الكرملين الذي لم يفعل شيئاً منذ دفع قواته إلى الميدان سوى طي صفحة هذا البيان، والعمل على إعادة تأهيل النظام. ألا يقرأ ما يكتب عن محنة سورية التي هجر نصف سكانها إلى الداخل والخارج ودمرت مدنها ودساكرها فضلاً عن مئات ألوف الضحايا فيما الدول المسؤولة عن حماية المدنيين من بطش حكامهم لا ترى ولا تسمع!
صحيح أن المعارضة لم تربح الحرب، ولن تربحها في ظل موازين القوى الحالي. إذ لا تقتصر عناصر هذا الميزان على حركة الميدان فقط، بل في صلبها شبكة العلاقات التي ينسجها كل من المعارضة والنظام. الفصائل التي حملت السلاح بعيداً من «داعش» و «النصرة» توزعت مجموعات بالمئات بل بالآلاف، وهذا ما سهل على اللاعبين الخارجيين استقطابها ثم الإمساك بقرارها. ولا يصح بعد هذا أن تلومهم بالتخلي عنها. قوات «جبهة الجنوب» التي قارب عديدها أربعين ألفاً تمتعوا برعاية أردنية وعربية وأميركية. ولم يصدر عنهم في السنتين الأخيرتين أي حراك. لذلك لم يعد لها أي دور قتالي والزمن زمن إقامة مناطق خفض توتر، سوى اللحاق بالحرب على «تنظيم الدولة» إلى جانب «قوات سورية الديموقراطية» وقيادتها الكردية، أو المساهمة في توفير أسباب الهدنة... لعلها تنتظر دوراً في المستقبل كما كان حالها في الماضي القريب. بل إن قوات النظام هي التي تتقدم للإمساك بالحدود مع إسرائيل والأردن. وعمان تعمل على إعادة بناء العلاقات مع دمشق لأسباب كثيرة داخلية معروفة وخارجية أولها هذا التردد الأميركي من أيام إدارة الرئيس باراك أوباما، ثم إهمال خلفه دونالد ترامب الذي سلم الراية لروسيا، وأوقف برنامج المساعدات العسكرية والمالية عن الفصائل. همّ البيت الأبيض فقط هزيمة «داعش». فيما سياسته لتطويق نفوذ إيران لم يعد لها أي معنى ما دام أن النظام وحليفه الإيراني يتقدمان كل يوم لملء الفراغ الذي يخلفه تقلص جغرافيا المعارضة المعتدلة من جهة وتآكل خريطة «دولة الخلافة». ولا شك في أن استكمال تحرير دير الزور سيتيح لطهران تعزيز «طريقها» إلى ساحل المتوسط.
جميع الرعاة الإقليميين والدوليين للمعارضة يدعونها، كما فعل المبعوث الدولي إلى الواقعية، ويلحون على وفد موحد إلى مفاوضات جنيف قريباً. «الائتلاف الوطني» يبدو أعزل ومعزولاً لا حيلة له ولا قوة. ويتعذر على «الهيئة العليا للمفاوضات» أن تصل إلى تصور واحد مع «منصة القاهرة» و «منصة موسكو». وإذا كانت الأولى ترغب في تأجيل بند رحيل الرئيس بشار الأسد أو حرمانه من أي دور في «المرحلة الانتقالية»، فإن الثانية ترفض البحث في هذا البند نهائياً، وتتحرك تحت عباءة روسيا وتبع رغبتها في بقاء رأس النظام حتى نهاية ولايته في 2021 وتأكيد حقه في الترشح لأي انتخابات رئاسية مقبلة قبل هذا التاريخ أو بعده. ولا ترى حتى ضرورة لإقرار دستور جديد. بل تدعو إلى مواصلة العمل بالدستور الذي أقره النظام في 2012 إثر استفتاء عام مثير لم تشارك فيه المعارضة. وتدرك الهيئة أن رحيل الأسد لم يعد على أجندة أي من «أصدقاء الشعب السوري». الإدارة الأميركية لا يعنيها شيء سوى دحر «داعش». ومثلها أوروبا التي تقر بالعجز عن ردع النظام وإن استخدم الأسلحة المحرمة. وفي المقدمة فرنسا التي كرر وزير خارجيتها قبل أيام ما كان رئيسه ايمانويل ماكرون قاله من أشهر أن بلاده لا تضع رحيل الأسد شرطاً مسبقاً لإطلاق عملية سياسية وبدء المرحلة الانتقالية. ولا حاجة إلى تعداد المواقف التي تبدلت جذرياً منذ التدخل العسكري الروسي. ولعل أبرزها موقف تركيا التي لم يعد يعنيها شيء من الساحة السورية سوى حصار أو قتال الكرد ومنعهم من الفوز بحكم ذاتي. هذا الهاجس المقيم يدفعها كل يوم بعيداً من شبكة علاقاتها التاريخية القديمة مع الولايات المتحدة الداعم الرئيس للكرد. ويدفعها إلى تمتين تحالفها مع روسيا وإيران.
هذا ما يعرفه دي ميستورا عن وضع المعارضة. ويعرف أكثر أن النظام السوري لا يملك قراره وإن قدم إليه حليفاه انتصارات وأعادا سلطته إلى أراضٍ واسعة. فهو عاجز اليوم وغداً عن الحد من هيمنة روسيا وإيران. ويجب ألا يغيب عن باله كوسيط دولي أن ما يهم موسكو حالياً بالتفاهم مع اللاعبين الآخرين هو التهدئة ووقف الحرب، لأنها كما قال هو نفسه، تحتاج إلى استراتيجية خروج من هذا المستنقع. أما ما يشاع عن «وعودها» بإخراج كل الميليشيات الحليفة لإيران من سورية فيبقى مجرد آمال في الظروف الحالية. تغلغل طهران عميق في قطاعات أساسية في بلاد الشام، من الأمن إلى الاقتصاد والمجتمع والثروة الوطنية نفطاً وغير نفط. ولا يمكن قوة أخرى مواجهتها ما لم تتبدل خريطة التحالفات في الداخل والخارج، وما لم تستجب إدارة الرئيس ترامب دعوات أميركية داخلية إلى ترجمة سياسة مواجهة الجمهورية الإسلامية في سورية والمنطقة عموماً، حفاظاً على ما بقي من مصالح للولايات المتحدة في الإقليم.
صدق المبعوث الدولي. لم تربح المعارضة الحرب، لكنها ستبقى في ثنايا أي تسوية تتجاهل أسباب انفجار الأزمة منذ ست سنوات. خسرت الحرب إلى حين لكنها لم تخسر القضية. وكذلك النظام انتهى من سنوات، ولم ولن يربح، وإن أعلن الأسد قبل أيام أن علامات النصر واضحة في ظل تقدم المعارك. وصدقت نظرة المعارضة إلى دي ميستورا. فهو أيضاً فشل ولم ينجح بعد ثلاث سنوات. وأسباب فشله تكاد تكون هي نفسها أسباب فشلها: تخلي المجتمع الدولي عن سورية وشعبها وتقدم روسيا وإيران إلى ملء الفراغ الأميركي... وعوامل أخرى كثيرة.
١٢ سبتمبر ٢٠١٧
أثارت تصريحات مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، أخيرا، وطالب فيها المعارضة السورية بالواقعية والإقرار بالهزيمة أمام النظام الأسدي، سخط معظم أوساط المعارضة واستنكارها، وخصوصا الهيئة العليا للتفاوض التي اعتبرها منسقها العام، رياض حجاب، تصريحاتٍ غير مسؤولة، وتعكس سقوط الوساطة الأممية ممثلة بشخص دي ميستورا، فيما اعتبر كبير مفاوضي وفد المعارضة إلى جنيف، محمد صبرا، أن دي ميستورا لم يعد وسيطاً مقبولاً، لأنه فقد حياده، وتكلم كجنرال روسي.
واللافت أن تصريحات دي ميستورا تزامنت مع إعلان لجنة التحقيق الأممية أن نظام الأسد قام بهجمات بالأسلحة الكيميائية سبعا وعشرين مرة خلال حربه الشاملة ضد الحاضنة الاجتماعية للثورة السورية، واستخدم غاز السارين في هجومه على بلدة خان شيخون في أبريل/ نيسان الماضي. ولذلك اعتبرت أوساط المعارضة السورية التصريحات أنها جاءت للتغطية على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد، حسب التقرير الأممي.
ولعل الكلام عن الواقعية يذكّرنا بأن دي ميستورا لم يطالب نظام الأسد بالواقعية، والإقرار بخسارة الحرب قبيل التدخل العسكري الروسي المباشر، حين فقد النظام السيطرة على معظم سورية، وكان يسيطر على أقل من ربع مساحتها خلال النصف الثاني من العام 2015، حيث أظهرت الوقائع الميدانية والعسكرية تقدماً كبيراً للمعارضة السورية المسلحة، وتراجع قوات النظام في المناطق التي كانت تسيطر عليها، بعد أن سيطرت فصائل الجبهة الجنوبية على معظم محافظة درعا، بما فيها المعابر الحدودية مع الأردن. وحدث الأمر نفسه في جبهة إدلب وريفها، حيث تم دحر قوات النظام وإخراجها من مدينة إدلب وما حولها، ثم سيطرت المعارضة على مدينة جسر الشغور، وهو أمر اعترف به وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حين قال إنه لولا التدخل الروسي لسقط النظام خلال أسبوع أو أسبوعين.
ولا شك في أن دي ميستورا يريد أن يستثمر، في تصريحاته، ما تشهده القضية السورية من تطورات ومتغيرات خطيرة في أيامنا هذه، في ظل انعدام أي أفق حقيقي لحل سياسي يحقق طموحات الشعب السوري في الحرية والخلاص من الاستبداد، وتحول الصراع في سورية وعليها إلى تقاسم نفوذ بين القوى الدولية والإقليمية التي تخوض في الدم السوري، وتضع مصالحها القومية والأمنية فوق أي اعتبار، وباتت تنظر إلى القضية السورية وفق ما تراه روسيا نزاعاً أهلياً، يحتاج إلى تبريد الجبهات، بغية تهدئة الأوضاع، عبر عقد مصالحات واتفاقات وقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى مناطق خفض للتصعيد وأخرى مستثناة منه، إلى جانب مناطق السيطرة والنفوذ الأميركي والروسي والإيراني وسواها، وفق ما تقوم به هذه القوى، وتحاول تثبيته على الأراضي السورية.
والخطير في الأمر أن دي ميستورا ينحاز إلى ما يقوم به الروس والأميركيون والإيرانيون، والذي يهدف إلى إعادة إنتاج نظام الأسد، وإبقائه جاثماً من جديد على صدور السوريين. لذلك أراد من تصريحاته إيصال رسالة إلى المعارضة السورية، لكي تذعن لما تتطلبه المتغيرات والتطورات الجديدة، وإلزامها بمخرجات هذه التطورات ومفاعيلها.
ولعله يُراد من قضية توحيد المعارضة التي يركز عليها دي ميستورا إدخال أعضاء منصتي موسكو والقاهرة إلى الهيئة العليا للتفاوض، بغية تطويع المعارضة السورية وفق سياسات الساسة الروس والأميركيين ورغباتهم وتوجهاتهم، كي تقبل بالأسد خلال المرحلة التفاوضية وما بعدها، وهو أمر يرفضه السوريين الذين خرجوا طلباً للحرية واسترجاع الكرامة والخلاص من الاستبداد، وليس لكي يحققوا نصراً عسكريا، حسبما يزعم دي ميستورا الذي لا تغيب عنه محاولة استغلال ما جرى في الجولة الرابعة من جولات جنيف التفاوضية، التي لم تكن جولات تفاوض بالمعنى الحقيقي للتفاوض، بقدر ما كانت مشاورات ومباحثات بينه وبين مختلف الوفود، حيث استغل دي ميستورا هفوة قبول الوفد التفاوضي اقتراحات سلاله الأربع التي أعطى فيها الأولوية لمكافحة الإرهاب، نزولاً عند رغبة وفد النظام والروس، ثم راح يطالب بوفد تفاوضي موحد، فرضح وفد الهيئة العليا، وقبل الذهاب إلى الجلسة الافتتاحية مع وفد منصتي القاهرة وموسكو في قاعة واحدة مع وفد النظام، الأمر الذي اعتبره دي ميستورا إنجازاً كبيراً، وراح يطالب بتشكيل وفد موحد للمعارضة بمنصاتها الثلاث، وزاود الساسة عليه بضرورة ضم ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، صاحب المشاريع الانفصالية عن سورية.
مشكلة دي ميستورا أنه يتصرف كموظف أممي، يريد الحفاظ على موقعه، ولا يعنيه كثيراً سيلان الدم السوري، أو تحطيم الثورة السورية والضرب بطموحات شعبها في التغيير السياسي، بل تعنيه مخططات الدول الخائضة في الدم السوري التي ركزت خلال السنوات السبع الماضية على إدارة الملف السوري، بوصفه أزمةً يجب تجنب إرهاصاتها الخارجية. لذلك حين بات الروس أصحاب كلمة قوية في هذه الأزمة، استدار نحوهم طالباً رضاهم، وبات ينظر مثلهم إلى الثورة السورية أنها مجرد نزاع داخلي، أهلي طائفي، وذلك بعد أن مكّنت الآلة العسكرية الروسية النظام من إعادة السيطرة على مناطق عديدة في سورية، وتقاسمت موسكو النفوذ مع واشنطن وطهران، وها هي تقوم بمحاولات لإعادة فرض الأسد على السوريين، ثم جاء الدور على إعادة تطويع المعارضة، لكي توافق على هذه العملية، خصوصا وأنها تحضر لعقد اجتماع الرياض 2، وستكون كل الاحتمالات مفتوحة عند انعقاده المرتقب.
ويبقى أن المسألة السورية هي مسألة شعب يتطلع إلى الحرية وبناء سورية جديدة، لا مكان فيها لحكم آل الأسد، وليست كما يصورها دي ميستورا في خسارة المعارضة عسكرياً أو انتصار معسكر النظام وحلفائه، وستبقى كذلك إلى أن يحقق هذا الشعب طموحاته.
١٢ سبتمبر ٢٠١٧
يطيب الحديث، في الأيام الأخيرة، وهي تشهد تصفيات كأس العالم لكرة القدم، والمؤهّلة لمونديال موسكو في العام المقبل، عن ضرورة الفصل بين السياسة والرياضة عموماً، وبينها وبين كرة القدم خصوصاً.
تُحرّض هذه الحالة على استرجاع علمي مُبسّط للعلاقة الحميمة القائمة بين المشاريع السياسية الداخلية، كما الرهانات الجيوسياسية الإقليمية والدولية من جهة وكرة القدم من جهة أخرى. حيث تحفل أدبيات العلوم السياسية والأنثروبولوجيا، الغربية عموماً والفرنسية خصوصاً، بكتابات موسّعة في هذا الحقل، تجمع في جنباتها كباراً، كما بيير بورديو وكتابه الأساس في هذا الموضوع "قضايا كرة القدم"، والصادر سنة 1994.
وفي علم الاجتماع الغربي، يُجمع المختصون على أن النادي الرياضي يُشكّل ساحة مواجهة بين النخب، باعتبارها مدخلاً للوصول إلى السلطة، فكما بين فرق المدينة الواحدة الأوروبية التي تُمثّل مصالح متعارضة بين يسار ويمين، أو بين كاثوليك وعلمانيين، فإن الحالة الإسبانية تُعزّز الحالة المناطقية التي تتمثّل بالمطالبات الانفصالية، كما فريق برشلونة الكاتالوني أو أتليتيكو بيلباو الباسكي. وتوضح التباينات الطبقية التي تضع فريق ريال مدريد القريب من حقل الأعمال واليمين التقليدي، في مواجه أتليتيكو مدريد القريب من الحقل العمالي واليسار. ومن جهة أخرى، يتوضّح في المشهد الأيرلندي الشمالي الانقسام الديني، حيث فريق بلفاست محصور بأعضاء المذهب البروتستانتي، ويقابله من الطرف الكاثوليكي فريق كليفتونفيل.
من جهةٍ أخرى، يمكن أن تُشكّل هذه اللعبة عامل اندماج رمزي بين مكونات بلدٍ ما، كما حصل ذلك غداة الفوز الفرنسي بكأس العالم سنة 1998. وبسبب أهمية هذه اللعبة إعلامياً على الأقل، فقد سعى القوميون، من كل الأصناف، دائماً لاستغلالها. ولم يقتصد أي نظام شمولي، أو تسلطي، في استخدامها وسيلة دعاية فعّالة في البروباغندا الرسمية. ففي زمن الفاشية الإيطالية التي كانت تنظر بعين الريبة إلى اللعبة، على أساس أنها مستوردة من بريطانيا، فقد اعتبر موسوليني أعضاء الفريق الوطني "جنودا من أجل قضية الأمة". وكما الفاشيين، فعلى الرغم من عدم اهتمامهم الذاتي بلعبة كرة القدم، إلا أن القادة السوفييت استغلوا اللعبة أيضاً، اعتباراً من خمسينيات القرن الماضي، بعد أن وضع الجيش والشرطة والمخابرات أيديهم على الفرق الرئيسية في العاصمة موسكو. أما في يوغسلافيا السابقة، فاستعملت اللعبة وسيلة لتعزيز القومية المتطرفة من خلال سيطرة أجهزة أمنية وعسكرية على الفرق الرئيسية. تم استغلال كرة القدم دائماً في الحقل السياسي، فكما كان منتخب إيطاليا في الثلاثينيات هو السفير المميز للفاشية الإيطالية، فقد لعب المنتخب الأرجنتيني دوراً تلميعياً لعسكر الأرجنتين الدمويين، عندما أحرز كأس العالم سنة 1978. وفي سنة 1969، أدت مباراة كرة قدم إلى حرب بين السلفادور وهندوراس أوقعت ألفي قتيل، بعد أن غزت قوات السلفادور دولة هندوراس. كما وقعت مناوشاتٌ حدودية بعد المباراة النهائية لكأس العالم التي جمعت أوروغواي والأرجنتين سنة 1930.
عربياً، استخدمت جبهة التحرير الوطني الجزائرية لعبة كرة القدم أيضاً سلاحا فعالا في حرب التحرير، حيث كان الفريق المُشَكّل منها سفيراً فعالاً للقضية الوطنية، على الرغم من أن الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) منع الفرق الأخرى من مواجهة هذا الفريق. كما ساعدت كرة القدم كوسيط دبلوماسي بين الدول، كما حصل في كأس العالم في فرنسا سنة 1998 حيث جمعت إيران مع أميركا، أو في عام 2002، حيث نظم الإخوة الأعداء في اليابان وكوريا الجنوبية كأس العالم بشكل مشترك على أرضيهما. وفي عامي 2008 و2009، استغل الأتراك والأرمينيون المباريات التأهيلية لكاس العالم التي جمعت منتخبي بلديهما وسيلة للتقارب الدبلوماسي. وقد قادت "دبلوماسية كرة القدم" هذه البلدين إلى توقيع اتفاقية تاريخية بينهما قبل مباراة الإياب في أكتوبر/ تشرين الأول 2009.
وفي ظل الأنظمة الاستبدادية العربية المتنوعة، كانت الملاعب، وما تزال، من الأماكن النادرة التي يمكن للاحتجاجات السياسية أن تعبر عن نفسها. كما أن تشجيع هذا الفريق أو ذاك كان يُعطي لصاحبه هوية سياسية. كما أن أناشيد المشجعين، على الرغم من تقيّتها، فقد كانت تحمل رسائل سياسية احتجاجية واضحة. ولمن يعرف الملاعب السورية، فهو يذكر تماما حمولة هذه الأناشيد والشتائم الجماعية الموجهة لهذا الفريق أو ذاك. وفي الحقيقة، لما تمثله الفرق من حمولة سياسية أو أمنية. كما أن شتم الحكم على أرض الملعب كان متنفساً فعالاً لشتم الحاكم مواربة. والمتابعة للحالة المصرية في ظل الدكتاتورية الأمنية ـ العسكرية القائمة تُتيح التعرّف بجلاء على الثقل السياسي الذي تمارسه اللعبة في المجتمع.
خلاصة القول، الفصل بين هذه الرياضة (على الأقل) والسياسة، والدعوة إلى تحريرها العاطفي من هذه الحمولة، وحصر الاهتمام بها بالشأن الرياضي المحض، يمكن اعتباره شيئاً من المثالية المشتهاة.
المستبد كما الثائرين عليه، الدول كما الجماعات، الأحزاب كما الطوائف، وضعت في كرة القدم ثقلها الرمزي والمادي والبشري، فالنظر المجرد لها ينتقص من الذكاء البشري.
يبرّر معتقل سابق في سجن تدمر السوري كرهه كرة القدم، لأنه كان يسمع من بعيد، وهو في زنزانته تحت التعذيب، المذيع الرياضي من بعيد يصرخ مبتهجاً: هدف لسورية!
١٢ سبتمبر ٢٠١٧
في وقتٍ أعلن فيه محققو جرائم الحرب التابعون للأمم المتحدة، بما لا يقبل الشك، مسؤولية الأسد في الهجوم بالسلاح الكيميائي الذي تعرّضت له بلدة خان شيخون في محافظة إدلب في أبريل/ نيسان الماضي، ما أسفر عن مقتل أكثر من 80 مدنياً وجرح مئات آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء، وهو واحد من أكثر من 27 هجوما قامت به قوات الأسد بالسلاح الكيميائي ضد المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، منذ العام 2011، منها سبعة بين الأول من مارس/ آذار والسابع من يوليو/ تموز، أقول في هذا الوقت بالذات، صرح مبعوث الأمم المتحدة إلى محادثات السلام السورية، ستيفان دي ميستورا، بأن الحرب في سورية انتهت تقريباً، لأن دولا كثيرة انخرطت فيها فعلت ذلك من منطلق هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، وأن على المعارضة السورية قبول أنها لم تنتصر في الحرب، ما قد يقود إلى مواجهة "لحظة الحقيقة"، متسائلا في ما إذا كانت المعارضة السورية "قادرة على أن تكون موحّدة وواقعية بالقدر الكافي لإدراك أنها لم تفز بالحرب"، أي خسرتها.
يطرح هذا التصريح حقيقة الدور الذي لعبته، ولا تزال تلعبه، الأمم المتحدة في ما سميت عملية الحل السياسي التي أطلقتها المبادرة العربية الدولية، منذ الأشهر الأولى للثورة أو/والحرب، والتي لم تسفر حتى اليوم عن أي نتيجة سوى الفشل بعد الفشل، ما دفع مبعوثين سابقين للأمين العام للأمم المتحدة إلى الانسحاب من مهمتهم، والاعتذار للشعب السوري. وبمقدار ما يفضح هذا التصريح حقيقة ما يفكّر فيه المبعوث الأممي للسلام يكشف طبيعة الحل الذي يتصوره دي ميستورا، والذي يعتقد، كما هو واضح من حديثه، أن على المعارضة التي خسرت الحرب أن تعترف بذلك وتعمل بمقتضاه، أي تتصرف من موقع المهزوم، وتقبل ما يُعرض عليها، أي ما يريده الروس والإيرانيون. بمثل هذا الكلام يضع دي ميستورا نفسه، بشكل واضح وصريح، في خدمة الأسد الذي لم يتردّد في الحديث بالمعنى ذاته عن انتصاره، ولا يكفّ عن ترديده في كل أحاديثه، طالبا من المعارضة/ "الإرهاب" إلقاء السلاح والاستسلام. ما يعني أن المبعوث الأممي يعتقد اليوم، تماما كما يعتقد الأسد، أن لا حل سياسيا ممكن من دون التسليم بهزيمة المعارضة، والقبول بالتطبيع مع النظام القائم الذي لن يربح في نظر دي ميستورا الحرب بعد، ولن يضمن انتصاره، ما لم يقبل بفتح مفاوضات لتلقي استسلام المعارضة والمصادقة عليه.
بالتأكيد لم تربح المعارضة المسلحة الحرب ضد النظام، وما كان لها أن تربحها، مهما فعلت في مواجهة تحالفٍ ضم إلى جانب قوى النظام السوري الذي صادر الدولة ومؤسساتها ومواردها للدفاع عن نفسه وزعيمه، روسيا "العظمى" وإيران الخامنئية الطامحة إلى إعادة مجد الأمبرطورية الساسانية، ومليشيات الحشود الشعبية الطائفية والتنظيمات الإرهابية التي تعمل على هامشها وضمن استراتيجيتها. وفي نظري، يشكل صمود المعارضة المسلحة واستمرارها في القتال خلال ست سنوات متواصلة، من دون دعم جدي ولا حليف استراتيجي، وفي مواجهة اختراقات الأجهزة الأمنية المحلية والإقليمية والدولية، بحد ذاته معجزة، ويشير إلى عمق إرادة التحرّر في انتفاضة السوريين، وتصميمهم على التخلص من نظامٍ هو نفسه مؤامرة مستمرة على الشعب والبلاد، والاستعداد غير المسبوق للتضحية من أجل التخلص من نظامٍ تحوّل إلى آلة للقتل والتطويع والترويع، وصار بمثابة مؤامرةٍ، تشارك فيها أكثر من دولة ونظام، على استقلال شعب وسيادته على أرضه وحقه في تقرير مصيره، واختيار ممثليه بإرادته الحرة. ما من شك في أنه كان للتحالف الدولي ضد السوريين تفوّق عسكري لا يقارن، لكني لم أسمع أحدا يصف سقوط الغيتوات اليهودية تحت ضربات الجيوش النازية بالهزيمة، أو يعترف لهتلر فيها بالانتصار. ليس لأن النازيين لم يربحوا الحرب ضد المقاومة الضعيفة للمعازل المحاصرة، وإنما لأن ما قاموا به كان جريمة، ولا يوصف إلا بوصفه كذلك. وهذا ما فعله الأسد ومليشيات حلفائه الرديفة بالقرى والمدن والأحياء السورية، وبمقاومة فصائلها الشعبية التي كانت ولا تزال تفتقر لكل ما يساعدها على أن تكون قوةً عسكرية قادرة على تحقيق أي انتصار، أعني التنظيم والتدريب والخبرة والإدارة والسلاح والقيادة الموحدة.
هؤلاء الذين هاجموا المدنيين بأسلحتهم الكيميائية وبراميلهم المتفجرة وصواريخهم الباليستية، ودرّبوا وجربوا فيهم كل أسلحة روسيا الجديدة، وخردة الأسلحة الإيرانية، وقضوا على أكبر عدد ممكن منهم، وشرّدوهم من بيوتهم، ليسوا ولا يمكن أن يعدّوا منتصرين في حربٍ، بل هم مجرمون، تماما كما وصفتهم عشرات التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية، وجديدها أخيرا تقرير لجنة التحقيق الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة. مثل هذه الجرائم التي نظر إليها دي ميستورا انتصارات، ولو مؤجلة حتى تحقيق الحل السياسي واعتراف المعارضة باستسلامها، لا يكافأ عليها، ومن العار على ممثلٍ للأمم المتحدة أن يذكّر ضحاياها، ولا أقصد مئات آلاف القتلى وملايين الجرحى والمعاقين والمشردين فحسب، وإنما الشعب السوري الذي قوّضت حياته ودمرت بلده ومستقبله، بأنهم لن ينالوا السلام والسكينة ووقف القصف والقتل إلا بالاعتراف بهزيمتهم، فمجرد صمودهم أمام القوة المتوحشة وتصميمهم على مواجهة الظلم والعدوان، وبذلهم أرواحهم وأبناءهم، وكل ما يملكون لرفع الظلم عنهم، هو أكبر انتصار، لكنه من نوع الانتصارات التي لا يمكن لمستخدمٍ من الأمم المتحدة أن يشعر بها أو يدرك فحواها الأخلاقي العظيم. وهذا هو المحرّك الأكبر لثورة الكرامة والحرية، وطلب المقاومة والنصر.
بدل أن يُضغط على المجرم والمعتدي، يريد الانتقام مجدّدا من الضحية، وتدفيعها ثمن فشله وانعدام حيلته وسوء نيته، محاولا أن يغطي تواطؤه، كباقي الدول "العظمى" وراء الحرب على "داعش" والمنظمات الإرهابية التي أطلق يدها المجرمون أنفسهم، لتلغيم الأرض التي تسير عليها المقاومة الشعبية، وتبرير التواطؤ مع العنف العاري والحرب الوحشية التي أعلنها نظام القتلة على شعبٍ كاد يفقد كل نوابضه الإنسانية.
بعد انحيازه إلى جانب الجلاد، ومطالبته تلك من المعارضة، وهو يقصد الثورة ومن ورائها الشعب السوري الذي ضحّى بكل شيء للتخلص من قاتله، لم يعد للمبعوث الأممي أي شرعيةٍ في أن يستمر في رعاية العملية السياسية، هذا إذا كان لا يزال هناك معنى لعمليةٍ سياسية أصلا عندما يقرّر مسبقا راعيها من هو المهزوم ومن هو المنتصر. ومن واجب المعارضة تجاه الشعب السوري، ممثلةً بهيئة المفاوضات، أن ترفض الاجتماع بدي ميستورا ثانية أو اللقاء به، وأن تطلب رسميا من الأمين العام للأمم المتحدة تحمل مسؤولياته، وتعيين ممثل آخر أكثر جدية واحتراما لمعاناة الشعب السوري، وأكثر احتراما لأرواح الضحايا وتضحياتهم.
لقد فقد ستيفان دي ميستورا أهليّته ليكون وسيطا نزيها ودبلوماسيا محنّكا، وأخلّ بواجبه تجاه الأمم المتحدة، وبالمهمة الكبيرة التي أوكلت له. وفقد ثقة الشعب السوري به، بعد أن أعلن انحيازه للقاتل ضد ضحيته، على الرغم من أنه لم يحقق أي تقدم أو إنجاز منذ تعيينه. ولوكان لديه أدنى شعور بالمسؤولية تجاه الشعب السوري الذي سلم له مفاتيح أمره، لأعلن، منذ زمن طويل، فشله وقدّم استقالته واعتذاره للشعب الذي ابتلي بخدماته، كما فعل من سبقه. اللهم إلا إذا كانت الأمانة العامة للأمم المتحدة شريكة الأسد والحليف السري له، وهذا ما لا أؤمن به.
أعرف أن الأمين العام للأمم المتحدة لا يستطيع أن يجترح المعجزات، لأنه مقيّد بآراء الدول الأعضاء. لكن إذا لم يكن للسيد غوتيريس أي سلطة على الإطلاق على هذه الدول، ويعتقد بالفعل أنه لا يملك أي وسيلة ضغط لدفعها إلى الاضطلاع بمسؤولياتها واحترام قراراتها ومواثيق الأمم المتحدة التي وقّعت عليها، فاستمراره في منصبه يعني أنه يقبل أن يكون شاهد زور، وشريكا في إبادة شعب وتجريده من حقوقه، وتقويض مواثيق الأمم المتحدة، وتبرير الانتهاكات المستمرة لحقوق الناس.
يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة أن يلعب دورا كبيرا، ويمارس ضغطا قويا إذا توجه إلى الرأي العام الدولي، ووضع الدول الأعضاء، وأعضاء مجلس الأمن بشكل خاص، أمام مسؤولياتهم، واحتجّ على تهاونهم في تطبيق القرارات الدولية، وتغطيتهم على مرتكبي جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية. ولا توجد أي ذريعة تبرّر موقف دي ميستورا الممالئ للأسد وطهران، ولا موقف الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس الساكت على تقويض عملية السلام، والمتعايش مع خيانة الدول الأعضاء في مجلس الأمن التزاماتها واستمرارها في تقويض حياة شعب كامل، من أجل الحفاظ على مصالح استعماريةٍ لا مشروعة. وهو مسؤول أمام الرأي العام الدولي، وقبل ذلك أمام الشعب السوري، عن وضع حد للاستهتار بالقرارات الدولية، والتواطؤ بالصمت على فتك النظام بالسوريين، وتعطيل أي عملية سياسية، والاستمرار في الخداع من أجل إجبار الشعب السوري على الاستسلام، وهو الأمر المستحيل. لن تعمل خسارة المعركة العسكرية إلا على مزيد من التصميم على الاستمرار في المعركة السياسية، حتى تحقيق الأهداف الإنسانية التي خرج من أجلها السوريون، وإقامة العدالة وحكم القانون.
١٢ سبتمبر ٢٠١٧
ينتظر من اجتماع الأستانة المقرر هذا الأسبوع أن يرسم الخطط النهائية لمنطقة خفض التوتر في إدلب، رسم يكون فيه توزيع القوى و الفصائل مما يمهد لإطلاق المنطقة، بعد أن يتم إنهاء العراقيل التي لا تخرج عن المعرفة العمومية ألا وهي "هيئة تحرير الشام" سواء أكانت كجهة عسكرية أم مدنية التحت بالهيئة مؤخراً.
لا يمكن إخفاء الدور المصلحي الدولي في سوريا، والذي يصل حد التدخل العسكري لفرضه بعد أن أعيت المفاوضات رجالاتها، وأفشل العناد الخطط لمجرد الإفشال دون إيجاد البديل المناسب، المقبول شعبياً قبل أن يكون الأمر متعلق بالمحيطين القريب و البعيد.
و لكن في الوقت ذاته هناك دور مشبوه لعبه المسيطرين على الأرض، و ظنوا أنهم باتجاه إجبار الجميع على التعامل معهم كونه المسيطرين الوحيدين، و لكن لم يقدموا أي دليل على ذلك إلا مزيداً من التعنت و الإقتراب من تجربة تنظيم الدولة بمراحلها الأولية التي تفضي بطبيعة الحال للنهاية ذاتها، فالدرس لم يفهم ولا بد من تكراره من قبل التنظيمات العابرة للحدود، التي لا تنفك عن فعل ذات الأمر بل ذات الأخطاء في كل مكان تحط به ليس بداية في أفغانستان و لا إنتهاء في العراق و سوريا.
ساعدت هيئة تحرير الشام جميع الدول على الدخول في العداء للسوريين و لكل من يقاتل إلى صفهم، وبعيداً عن الدخول في سلسلة تاريخية طويلة، فمع أولى انعقادات الأستانة، بدأت الشقاقات عندما ضغطت الهيئة ممثلة بـ"أبو محمد الجولاني" على حركة أحرار الشام ممثلة برئيس مجلس الشورى حينها "حسن صوفان" بعدم الذهاب للإجتماع، رغم الالحاح التركي الذي وصل حد الطلب الرئاسي الشخصي، لكن الجولاني قدم لصوفان الخارج حديثاً من العزلة طوال 12 عاماً، عروضاً ضمن كذبة التوحد و الإندماج والذوبان وما إلا ذلك، عروضاً أبعدت الحليف التركي الذي شعر بأنه غُدر به من قبل فصيل علّق عليه آمالاً كبيرة، وإذ بها مجرد سراب.
بعد اطمئنان الهيئة بحدوث الإنشقاق الأخير بين الحركة و تركيا، أتى دور الضربة النهائية التي بالفعل تمت دون جهود كبيرة نتيجة اختراقات الهيئة لصفوف الحركة، التي وهنت و تضعضعت صفوفها مع المعارك الدونكيشوتية الداخلية بين أقطاب أقرب لـ"الجهادية المتشددة" من "السلفية المتوازنة التي انتهجها المؤسسين الشهداء".
في العموم ظنت الهيئة عبر قطب الجولاني وجيشه "جيش النصرة"، أن فرض السيطرة التامة على كل ما هو موجود داخل ادلب وأريافها وصولاً إلى أرياف اللاذقية و حلب وحماة، يمنحها شرعية بقوة السلاح محصنة بما يقارب المليوني مدني، لكن القضية أبعد من مجرد تفكير بضع شخصيات تشي التسريبات عن ضحالة تفكيرهم و حصره بفرض المنطق بإنهاء هذا الفصيل أو ذاك، أم بتصفية سين من الشرعيين أو تمجيد عين من القيادين.
لا يمكن لوم أحد بعينه فيما وصلت إليه إدلب أكثر من لوم من ساعد على ذلك عبر الدراسات التي تم تقديمها للدول بأن الأمور وردية، أو أنه يمكن القضاء على الهيئة ببضع مفرقعات هنا وهناك، إذ أن وجودها في هذه البقعة يمثل الوجود الأخير لها في العالم المعاش، أي إما الإستمرار أو الإفناء التام لها ومع من حولها.
١١ سبتمبر ٢٠١٧
لفّ حسن نصر الله ودار خمسة أعوام، محاولا تبرير جريرته التي لا ولن تمحى من صفحات تاريخه الطائفي، ولن يغفرها السوريون، مهما طال الزمن، غزو سورية، وممارسة قتل يومي ضد شعبها، امتثالا لتكليف "شرعي" أصدره مجرم لا صفة له غير مذهبيته وعدائه العرب، اسمه خامنئي، ولا غرض له غير إنقاذ مجرم آخر اسمه بشار الأسد، مذهبي وكاره للعرب. بدايةً، قال نصر الله إنه يغزو سورية "كي لا تُسبى زينب مرتين". بعد ألف وأربعمائة عام ونيف، ظلت زينب خلالها آمنة مطمئنة في قلوب حُماتها من مسلمي سورية وعربها وأرواحهم، اكتشف أنها مهدّدة، وأن عليه غزو سورية لإنقاذها من سبي ثانٍ، سيقوم به حُماتها التاريخيون! وقد أطاعه قطيع طائفي يأتمر بأمر خامنئي. لذلك، لم يسأله أحد منهم: وهل يحمي عاقل ميتةً بقتل أحياء يقدّسونها؟ كان نصر الله يعلم أن من يتهمهم بسبيها لن يستطيعوا الصعود إلى دار الحق، وانتزاعها من الرفيق الأعلى، فاختطفها هو من المسلمين، ليستخدمها في إثارة هيجان طائفي وثني، يحوّل حزبه إلى وحوش ستستبدل أكذوبة السبي عقولها الآدمية بغريزة لطالما جرّمها الإسلام، هي قتل النفس التي حرّم الله قتلها. منذ سبيها على يدي نصر الله واستخدامها لتبرير غزو سورية، وخامنئي ونصر الله، الحريصين على ميتةٍ، يغسلان أيديهما بدماء السوريين، وينافسان البغدادي والجولاني على جعل القتل شعيرة إلهية، يكفران من يرفض ممارستها، كما يكفران ضحاياها أيضا. لقتل الآخر لأنه آخر، ولإعلاء مكانة أموات على الأحياء، لا بد لتحويل قطيع مذهبي إلى حثالاتٍ ما دون بشرية، تعبد أوثانا وتضعها في مقام الواحد الأحد، ترفض رحمانية الإسلام ونزعته الإنسانية، وتجعل القتل طقسا إلهيا مقدسا، يبلغ القاتل بواسطته درجةً من العرفان، يؤمن معها أنه بقتل ضحاياه الأبرياء لا يرتكب معصية، بل يرد الحسين إلى الحياة، ويحمي زينب من السبي، بالثأر لهما من المغاير مذهبيا، المجرم بالوراثة.
أخرج نصر الله زينب من لحدها، وأبلغ جماعته أن حمايتها تتطلب قتل السوريين من دون تمييز. وحين أيقن أن وحوشه فقدوا تماما إنسانيتهم وعقولهم، ودخلوا في الحالة التي تجعلهم مهيئين تماما لتنفيذ مخططات خامنئي، كشف أن الغزو لم يكن لحماية زينب، بل وقع امتثالا لتكليف شرعي صدر عن خامنئي، دام رصاصه الشريف.
بعد استعمال زينب لإيقاظ نزعات إجرامية، صار محرّر فلسطين واثقا من أن قطيعه سيصدّق أية أكاذيب أخرى، فأخرج من جرابه حكاية القرى الشيعية على الحدود اللبنانية/ السورية قرب القصير التي يجب إنقاذها، على الرغم من أن أحدا من جيرانها لم يرمها، ولو بوردة. عند دخول مرتزقته إليها، قوبلوا بتذمّر سكانها الذين يعيشون بسلام ووئام مع شركائهم في التهريب من سنّة قراهم والقرى المجاورة، ومسيحييها وعلوييها، لا يعكر صفوهم غير خوفهم من مهرّبين يسيطرون على حدود الشعب الواحد وجماركه في الدولتين الشقيقين، قدموا من "عرين الأسد" في القرداحة، وأسسوا شبكات تهريب وسرقة عابرة للقطر الممانع والمقاوم، بمعونة شركائهم في حزب "السيد"، قبل أن يتفرّغوا لقتل اختطاف مهرّبيها الأصليين، ويقسموا برأسي بشار الأسد وحسن نصر الله، أنه لا شيء يمنعهم من تحرير الجولان وفلسطين غير قلة الوقت، وانشغالهم بتوطيد عرى التعاون الأخوي مع إخوتهم في شبكات تهريب المخدرات وتجارة السلاح من قادة الحزب الفارسي الشقيق.
ما أن دخل القطيع إلى سورية، حتى قصد مدينة القصير، ليعمل سيف الخامنئي في رقاب سكّانها، ويقتل قرابة ألف منهم ويهجر ثمانين ألفا، ثم يجرف أحياء كاملة منها. بعد القصير، وما أثاره "انتصاره الإلهي" عليها من حماسة، أخرج نصرالله من جرابه أزعومة جديدة، سيكون ضحيتها ملايين السوريين، هي حتمية غزو العمق السوري للقضاء على "إرهابيين/ تكفيريين"، يوشكون الدخول إلى لبنان. عند هذا الحد من "التكليف الشرعي"، فجر "داعش" قنبلتين في الضاحية الجنوبية، فأعلن السيد أنه قرّر إنقاذ ضحيتها الرئيس بشار حافظ الأسد، المستهدف إمبرياليا وصهيونيا، كي يقلع عن المواء كهر صغير يختنق بهزائمه ودماء ضحاياه. من الآن، نسي خامنئي ونصر الله زينب وشيعة القصير، ونشرا قتلتهما على مجمل الأرض السورية، والمهمة: إبادة شعبها الإرهابي /التكفيري. عندئذ، انطلقت الحناجر بنشيد حزب المقاومة، بكلماته الوطنية الجميلة: رصاصة منك ورصاصة مني ما منترك بالأرض سني.
أسمعنا نصر الله أسطوانة "الإرهاب التكفيري" أربعة أعوام. وحين تحارَب مع جماعة هيئة تحرير الشام التي تفاخر العالمين بصفتها تنظيما إرهابيا/ تكفيريا، وبعد أن أعلن سماحته أنه أحرز "انتصارا إلهيا" عليها، بادر إلى عقد اتفاق رسمي معها حول مغادرتها لبنان، وقبل أن تصعد إلى الباصات الخضراء المكيفة، أخرج بعض معتقليها من سجون "الدولة" اللبنانية، فسافرت جحافلها الجرّارة الكرّارة التي بلغ عديدها رقما فلكيا، هو 120 مقاتلا بالتمام والكمال، سالمة غانمة إلى إدلب، بحراسة قواته الظافرة وفلول الجيش الأسدي التي لم ترمها ولو بحصاة، وهي تعبر أربعمائة كيلومتر من الأرض السورية يخضع معظمه لها. بعد انجلاء غبار "الانتصار"، تبين أنه كان لدى "الجماعة الإرهابية/ التكفيرية" أسرى وجثامين، وأن عدد من قتلوا وجرحوا على يد جيش جبهة النصرة العرمرم بلغ مائةً من أبطال حزب التحرير والعودة الذي لا يصد ولا يرد، وأن بعضهم أسر خلال المعركة التي سبقت سفر الإرهابيين/ التكفيريين السياحي الميمون.
لم يكتف نصر الله بهذه الفضيحة التي تكشف حجم ما اختلقه ليغطي جريمة غزو سورية وإنقاذ جلادها والبطش بشعبها، فقد اتفق مع مجرم دمشق على إخراج "داعش" من لبنان إلى منطقة سيطرة "دولتها" شرق دير الزور، القريبة من حدود العراق، متناسيا مزاعمه عن غزو سورية للقضاء عليها. أما بطل الحرب الآخر ضد الإرهاب، بشار حافظ الأسد، فتولى حماية قافلتها طوال رحلة شاركت فيها عشرات من باصاته المكيّفة، امتدت على أكثر من سبعمائة كيلومتر. وعندما شنّت طائرات التحالف غارة يتيمة عليها، عاد إرهابيوها للاحتماء داخل مناطق الأسد الذي ابتز العالم نيفاً وستة أعوام، وسوّغ قتل ملايين السوريين الأبرياء وجرحهم وتهجيرهم وتجويعهم وتعذيبهم، بحجة حربه ضد الإرهاب. وها هو نصر الله يتفاوض ويتفاهم معهم على رحلة سياحية آمنة من لبنان إلى حدود العراق، ومدّعي الحرب ضد شعب"ه"، بحجة أنه يحميهم من التحالف الذي أغار مرة واحدة عليهم، فواصلوا رحلتهم بطرقهم الخاصة وحراسة الأرض والسماء إلى البوكمال، حيث تقول نكتة سمجة وثقيلة الظل إنهم سيقاتلون الأسد والتحالف.
قلنا دوما إن نصرالله وبشار لا يحاربان الإرهابيين، وليس لهما من عدو أو هدف غير شعب سورية، لأنه ثار على نظامه الطائفي الإيراني التبعية. استهدف السيد ومسلحوه، وسفّاح طهران، المواطن السوري بالقتل والتهجير والاعتقال والتجويع والحصار، لأنه ثار على ظلم تابعهما. أليس هذا ما تقوله لنا الباصات المكيّفة التي بدل أن تنقل الإرهابيين إلى السجون والمشانق، كما توعدهم نصر الله وبشار مرات عديدة، حملتهم ، بعد "انتصار إلهي" آخر، وتحت حماية مشدّدة، إلى الداخل السوري، ليواصلوا جرائمهم ضد المواطن الذي لن ينسى، ما دام فيه عرق ينبض، هذه "المأثرة" لنصر الله ومرشده.
١١ سبتمبر ٢٠١٧
ربما كان من الطبيعي أن يفكر بعض السوريين، وقد غرقوا في الكارثة، وغرق بلدهم بالخراب والدمار نتيجة سياسات نظام الأسد وحلفائه باللجوء إلى بريطانيا في عداد الدول الأوروبية التي توجه إليها النازحون، وثمة كثير من الحيثيات التي تدعم رغبة السوريين في الذهاب إلى بريطانيا، الأبرز بينها هو سهولة اللغة الإنجليزية، التي تعد الأكثر شيوعاً في التعليم السوري، وهي الأكثر انتشاراً في العالم، والثاني ما شاع من مزايا إنجليزية في مساعدة اللاجئين من سكن وطبابة، ووثيقة سفر هي بين الأفضل في الوثائق العالمية، والثالث أن بريطانيا بين الدول الأولى التي تشجع توطين الوافدين لتعديل النسبة السلبية في النمو السكاني، خصوصاً إذا كان الوافدون من الشباب.
غير أن رغبة النازحين السوريين الراغبين في اللجوء إلى بريطانيا بدت أمراً مختلفاً عن سياسة لندن في هذا المجال، إذ إنه وبالإضافة إلى التشدد البريطاني في منح تأشيرات السفر للسوريين منذ بداية حرب النظام في مارس (آذار) 2011، اتخذت إجراءات من شأنها زيادة المعيقات أمام وصول ولجوء السوريين إليها، ومنها تأخير إقامات اللاجئين، وإجبارهم على العيش في أماكن لا تتناسب مع أوضاعهم كوافدين جدد، والتضييق المادي وفي الخدمات الصحية عليهم ضمن سياسة تدفعهم إلى المغادرة إلى بلد آخر مع تقديم مساعدة مالية تشجعهم على هذه الخطوة، غير أن الأهم في هذه الإجراءات كان تقليص تدخل الإدارات الحكومية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني في ملف الهجرة واللاجئين، وحصره بوزارة الداخلية، أي جعله «ملفاً أمنياً»، بحيث صار خارج النقاش والتدخلات من أي مستوى كان.
ورغم أهمية وفعالية هذه الخطوات لمواجهة طالبي اللجوء الذين وصلوا إلى بريطانيا بشروط معينة، فقد استفادت السلطات البريطانية من حقيقة الحماية الجغرافية كونها جزيرة، ليس لها بشكل مباشر حدود برية مع أي بلد آخر، مما أعطاها مناعة نسبية، وجعلها أكثر قدرة في عدم التعرض لموجة الهجرة واللجوء، التي اجتاحت أوروبا في عامي 2015 و2016، وكان السوريون جزءاً أساسياً فيها، وقد أضافت السلطات البريطانية إلى ما سبق إظهار مزيد من التشدد حول موضوع الهجرة في علاقاتها مع شركائها في الاتحاد الأوروبي، فأصرت على إعادة كل وافد جاء من بلد عضو في الاتحاد وبصم فيه، وذلك طبقاً لاتفاقية «شينغن» التي ميزت بريطانيا نفسها بعدم القبول بفيزتها العمومية، كما نظمت السلطات البريطانية مع فرنسا مجموعة مشتركة على الأراضي الفرنسية لمنع تسلل وافدين غير شرعيين إلى بريطانيا.
لقد أحكمت السلطات البريطانية قبضتها على ملف اللاجئين الذي لا يضم سوى آلاف السوريين، ولم تحد من مجيئهم فقط، بل تتشدد بقبول وجودهم، وتقوم بترحيل بعضهم إلى جانب ممارسة سياسة التطفيش لترحيلهم بصورة غير مباشرة، وعتمت قدر المستطاع على هذه السياسة، تجنباً لإثارة مؤيدي حقوق الإنسان وداعمي حقوق اللاجئين ومنظماتهم، التي تواطأ بعضها مع سياسات الحكومة، وقلصت فرص طرح الموضوع في الصحافة البريطانية قدر المستطاع، حتى لا تتحول قضية اللاجئين إلى قضية رأي عام.
وذهبت الحكومة البريطانية لدعم سياستها المتشددة في موضوع اللاجئين إلى خطوتين محسوبتين، لتزين تلك السياسة بأقل قدر من المسؤولية، أولاها السير على طريق دول أخرى في الانخراط ببرنامج إعادة التوطين الذي تتابعه الأمم المتحدة، وهو برنامج يشمل أعداداً محدودة، ويستغرق تنفيذه زمناً طويلاً لإتمام عمليات اللجوء، وثانيتها القيام بمشاركة دول أخرى باختيار لاجئين من تجمعات اللاجئين في دول الجوار السوري ولا سيما الأردن ولبنان، والقيام بجلبهم للإقامة في بريطانيا. وإن بدا الهدف البريطاني من الخطوتين المساعدة على معالجة قضية اللاجئين السوريين، فإنه في الجانب الأهم إعلامي ودعائي، هدفه التغطية على السياسة البريطانية العميقة في هذا المجال والموصوفة بالتشدد والسلبية.
إن مئات قصص اللاجئين السوريين في بريطانيا تروي معاناتهم وظروفهم الصعبة وغير الإنسانية، التي يعيشون في ظلها، وهناك عشرات التقارير الصحافية وجزء منها منشور في الصحافة البريطانية، التي تناولت تلك الصعوبات، والتي لا تستمر فقط، وإنما تتراكم، وتترك أثرها لدى أنصار اليمين البريطاني لممارسة مزيد من التصرفات العنصرية ضد اللاجئين والسوريين منهم، فيتم الاعتداء عليهم وعلى بيوتهم، وتوجه إليهم الاتهامات بأنهم يستولون على فرص عمل البريطانيين وعلى بيوتهم، ورغم أن ذلك لا يمثل ظاهرة واسعة الانتشار في أوساط البريطانيين، إلا أنه يفسح المجال أمام نمو هذه الممارسات، إذا استمرت سياسة الحكومة البريطانية حيال اللاجئين السوريين.
ولعله لا يحتاج إلى تأكيد قول، إن ثمة حاجة لقيام الحكومة البريطانية بمراجعة سياسات وإجراءات سياسة اللجوء حيال السوريين، وتقويمها بما ينسجم مع روح الاتفاقات الدولية وشرعة حقوق الإنسان، بل ومع مشاعر وروح الرأي العام البريطاني والقيم الإنسانية التي يتبناها ويدافع عنها، ومنها حق الإنسان في الحصول على ملجأ آمن، يوفر شروطاً إنسانية للحياة.
غير أن الأهم فيما مطلوب من الحكومة البريطانية في معالجة المشكلة، هو التقدم للمساهمة الجدية والفعالة إلى جانب القوى الإقليمية والدولية في حل القضية السورية، التي تخلق مزيداً من تهجير السوريين، نتيجة استمرار نظام الأسد وحلفائه بالحرب على السوريين، وإجبارهم على وقف الحرب وتوطيد السلام والبدء في مرحلة انتقالية تعيد بناء سوريا، وتوقف هجرة السوريين، وتتيح فرصة لعودة المهجرين وبعض اللاجئين إلى بلدهم.
١١ سبتمبر ٢٠١٧
في أواخر آب /أغسطس الماضي أدلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بالتصريح التالي: «إذا كان أيّ طرف في الشرق الأوسط أو سواه يخطط لانتهاك القانون الدولي عن طريق نسف سيادة ووحدة أراضي أية دولة، بما في ذلك الشرق الأوسط وشمال افريقيا، فإنّ هذا مدعاة إدانة». كان لافروف يردّ على أسئلة المراسلين الصحافيين، حول تأكيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنّ إسرائيل لن تتردد في قصف أية أهداف داخل سوريا يُراد منها تمرير أسلحة ستراتيجية إلى «حزب الله».
وفي آذار /مارس الماضي أعلن بشار الجعفري، ممثل النظام السوري في الأمم المتحدة، أنّ روسيا قد أبلغت إسرائيل بأنّ «قواعد اللعبة» في سوريا قد تغيرت، وأنّ حرّية النشاط الإسرائيلي في الأجواء السورية قد انتهت. وروى الجعفري حكاية مثيرة عن قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستدعاء السفير الإسرائيلي، وإبلاغه أنّ «اللعبة انتهت». وكان أيضاً تحت وطأة الحماس الملتهب الذي دبّ في أفئدة، وعلى ألسنة، وفي أقلام، أنصار النظام ومعلّقيه والمتعاطفين معه، بعد إطلاق نيران المضادات الأرضية لإبعاد طيران حربي إسرائيلي كان يحلّق في الأجواء السورية.
لم يكن هذا رأي الرادارات الروسية في مطار حميميم، ولا في قاعدة طرطوس الروسية، ولا على أيّ من البوارج الروسية في عباب المتوسط، حينما نفذت إسرائيل ضربة جوية فجر أمس، استهدفت معسكر الطلائع الذي يستضيف مصنعاً للأسلحة الكيميائية والصاروخية، تابعاً لـ»مركز البحوث»، في ظاهر مصياف، وعلى مبعدة كيلومترات قليلة من هذه المنشآت العسكرية الروسية. لزمت هذه الرادارات صمت القبور، في المجاز الشائع، وصمت المتيقظ البصير العارف، في المعنى الفعلي لقدرات هذه الرادارات على التنصت والرصد والتنبيه، كي لا يتحدث المرء عن الإنذار والتشويش والتعطيل.
هيهات، بالطبع، أن تتدخل روسيا لإيقاف عملية مثل هذه، ولا عزاء لأمثال لافروف (حول «انتهاك سيادة» الدول)، أو الجعفري (بصدد تغيير «قواعد اللعبة»)، فضلاً عن المعلقين البؤساء الذين بُحّت حناجرهم في وصف «رعب» إسرائيل من انطلاق مضادات النظام. يومها، للتذكير المفيد، ذهب بعض المعلقين إلى مستوى رسم اصطفاف جديد لقوى «الممانعة»، يبدأ من الضاحية الجنوبية في لبنان، ويمرّ من نظام الأسد، ويلتقي مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي (وعفّ البعض، في حياء مبتذل مفضوح، عن تسمية «الحشد الشعبي» وعصائب غلاة الشيعة)، ثمّ ينتهي في طهران (وتفادى الحياء الرخيص إياه ذكر الجنرال قاسم سليماني و»الحرس الثوري» الإيراني)، ولا ضرر في أن يعرّج قليلاً على اليمن وعبد الملك الحوثي!
لكنّ الحمقى، وبائعي التصريحات الجوفاء، وشبيحة النظام، وأبواق «الممانعة»، هم وحدهم الذين تجاسروا على التفكير بأنّ الكرملين (متمثلاً في بوتين، حصرياً، وليس البتة في لافروف وأضرابه)، يمكن أن يذهب إلى مواجهة مع إسرائيل، أو حتى ملاسنة لفظية، دفاعاً عن مصنع سلاح تابع للنظام، أو تديره إيران ذاتها. في المقابل، لا يحتاج كلّ ذي بصر وبصيرة إلا إلى استذكار واقعة زيارة نتنياهو إلى موسكو، في أيلول /سبتمبر) 2015، كي يستعيد الحقيقة البسيطة الساطعة: أنّ «قواعد اللعبة»، أو بالأحرى قواعد فضّ الاشتباك، بين موسكو وتل أبيب، في كلّ ما يخصّ تدخّل روسيا لصالح النظام أو تدخّل إسرائيل ضدّ منشآت النظام العسكرية، رُسمت هناك، يومئذ، وهي التي تظلّ سارية المفعول حتى إشعار آخر، طويل… طويل!
وللتذكير المفيد، لم تكن زيارة نتنياهو مبرمجة مسبقاً، على غرار ما يجري عادة بين الدول، خاصة وأنها الأولى العلنية (بعد زيارة سرّية، في خريف 2009، دامت ساعات قليلة)، وكان لائقاً أن تسبقها سلسلة تحضيرات ومراسم واستقبال ومظاهر احتفاء، فضلاً عن توقيع اتفاقيات مشتركة مختلفة. لقد ذهب نتنياهو صحبة غادي أيزنكوت رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وهرتزل هاليفي رئيس الاستخبارات العسكرية، وبدا جلياً بالتالي أنّ جدول أعمال الزيارة يتناول تفصيلاً ملموساً واحداً، هو الانتشار الروسي في مطار حميميم، وتعزيز القاعدة الروسية في طرطوس، والتفاهمات الروسية ــ الإسرائيلية العملياتية في حال قيام الطيران الحربي الإسرائيلي بأية عمليات في الأجواء السورية، وضمان عدم وقوع سوء تفاهم من أيّ نوع بين بين قاذفات الـ»سوخوي 27» الروسية، والـ»F-15» الإسرائيلية. ولقد برهنت الأشهر اللاحقة، منذ أيلول/سبتمبر 2015 وحتى أيلول/سبتمبر 2017، أنّ سوء التفاهم لم يقع أبداً، ليس في الأجواء السورية وحدها، بل كذلك على أرض الجولان، وفي الأجواء اللبنانية (باحة إيران الخلفية وساحة «حزب الله).
جانب آخر، في قراءة صمت رادارات موسكو عن عمليات إسرائيل في الأجواء السورية، هو أنّ بوتين ونتنياهو تمكنا ــ سريعاً، ودون عناء كبير في الواقع ــ من التوصّل إلى مسلّمة مشتركة، بسيطة وجوهرية في آن: أنّ اتفاقهما على إبقاء نظام بشار الأسد، في المدى المنظور، لا يعني إطلاق يد إيران في سوريا، خاصة لجهة تمكين «حزب الله» في المنطقة، وليس في لبنان وحده، على صعيد التسلّح الستراتيجي. وما دامت إسرائيل لا تقصف الفرقة الرابعة أو «الحرس الجمهوري» أو ما تبقى من أفواج وألوية النظام (إلا حين تمرّ، من مواقع انتشارها، قوافل السلاح المتوجهة إلى «حزب الله»)، فلا ضرر عند موسكو، ولا ضرار في تل أبيب! العكس هو الصحيح، في الواقع، لأنّ واحدة من روافع ضغط روسيا ضدّ اتساع نفوذ إيران في قلب النظام السوري، هو تحجيم دور «حزب الله» العسكري في سوريا، وإبقاء سقف تسليحه عند مستويات دنيا، أو هي لا ترتقي إلى السوية الستراتيجية.
جانب ثالث، لعلّ أهل «الممانعة» يعضون على النواجذ كلما استذكروه واضطروا إلى إغفاله عن سابق عمد، هو أنّ «هوى» بوتين الشخصي كان إسرائيلياً على الدوام، وليس سورياً أو فلسطينياً أو لبنانياً أو عراقياً أو مصرياً… ولعلّ سيّد الكرملين لا ينسى أنّ أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، لم يتردد في مباركة خيارات الجيش الروسي العنفية، وممارساته الوحشية، في الشيشان. ومؤشر العلاقات الروسية ــ الإسرائيلية في عهد بوتين لا يُقارَن، على أيّ نحو، بعلاقات موسكو مع حلفائها السابقين، أو اللاحقين، في العالم العربي، ويكفي استذكار واقعة راهنة تقول إنّ موسكو سبقت واشنطن في الحديث عن «القدس الغربية كعاصمة لدولة إسرائيل».
وفي التعليق على الغارة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مركز البحوث، في ظاهر مصياف، فجر أمس، كان عاموس يدلين، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، قد غرّد على «تويتر» بأنّ الضربة «ليست روتينية»، وفي تنفيذها وجهت إسرائيل ثلاث رسائل هامة: أنها لن تسمح بإنتاج أسلحة ستراتيجية، وأنها تعتزم فرض خطوطها الحمراء حتى إذا أهملتها القوى الكبرى، وأنّ حضور الدفاعات الجوية الروسية لن يعيق توجيه الضربات. ولم يفت يدلين أن يجمّل وجه إسرائيل القبيح، حين طالب المجتمع الدولي بتهنئة بلاده على ضربة «حميدة أخلاقياً»، لأنّ مصنع مصياف ينتج، أيضاً، البراميل المتفجرة التي «قتلت آلاف المدنيين السوريين»!
يبقى التذكير بما باح به الجنرال أمير إشيل، القائد السابق لسلاح الجوّ الإسرائيلي، من أنّ عدد الغارات ضدّ مواقع النظام السوري العسكرية، منذ 2012 فقط، يُحتسب بثلاثة أرقام، أي الـ100 فما فوق بالطبع. نصفها، أغلب الظنّ، نُفّذ تحت سمع وبصر الرادارات الروسية، وصمتها المطبق!
١١ سبتمبر ٢٠١٧
بعد يوم واحد من إصدار الأمم المتحدة تقريرها الذي يؤكّد قيام النظام السوري باستخدام السلاح الكيميائي 27 مرّة ضد شعبه، وتأكيد مسؤوليته عن مجزرة بلدة خان شيخون التي قصفها بغاز السارين، قامت إسرائيل بقصف موقع لبحوث وتخزين السلاح الكيميائي قرب مدينة مصياف، في مقاربة خبيثة لهذه المسألة تريد، بحجر واحد، ضرب العديد من الرؤوس وإيصال الكثير من الرسائل، ليس للنظام السوري فحسب، بل كذلك لرعاته في روسيا وإيران، وللتفاهمات العالمية التي تجري فوق جثث مئات آلاف السوريين الذين قتلوا منذ عام 2011 وحتى الآن.
أفظع هذه الرسائل وأكثرها إيلاماً هو تنطّع إسرائيل، عدوّة العرب الأولى، لتقليم أظافر نظام بشار الأسد الكيميائي، وهو ما يعطي تل أبيب، في ساحة العلاقات العامة، أفضليّة على الأمم المتحدة العاجزة عن جلب المتّهم بقتل شعبه إلى المحاكمة، فتنسى مسؤوليتها التاريخية عن احتلال فلسطين، وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني، كما تغيب علاقتها بظهور أنظمة الطغيان العسكرية والأمنية، كنظام الأسد نفسه، وتضيع صلة القربى الوثيقة بين نظام الاحتلال العنصريّ الإسرائيلي وأنظمة الاستبداد العربية الهمجية.
رسائل القصف الجديد عديدة طبعاً، فالرابط «الكيميائي» للحدث يتناظر مع مناورات شاملة وواسعة يجريها الجيش الإسرائيلي على الحدود الشمالية استعدادا لحرب جديدة مع «حزب الله» (أو بالأحرى مع إيران). والحقيقة أن إسرائيل تنظر للجغرافيتين بترابط، لأن تل أبيب ترى بوضوح أن الإيرانيين صاروا أكثر قوة، وإعلان استعادة الأسد السيطرة على سوريا، إذا حصل، قد يكون إعلاناً لمجابهة مع إيران، وقد تزداد فرص المواجهة هذه إذا انسحبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع طهران.
الرسالة موجّهة أيضاً إلى روسيا، لأنها تقول من جديد إن تل أبيب قادرة على اجتياز خط الدفاع الروسي في سوريا، ومنظومة الكرملين الصاروخية هناك، كما أنها تقول إن على موسكو أن تراعي مصالح إسرائيل ومخاوفها الأمنية.
الطرف المهم الآخر هو الولايات المتحدة الأمريكية، التي من الواضح أنها اتفقت مع روسيا على مواقع نفوذ داخل سوريا، وكل الدلائل تشير إلى أن واشنطن تشارك موسكو فكرة تعويم نظام الأسد وإعادة تأهيله قبل وبعد القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية».
حسب المعلومات التي نشرها الإعلام الإسرائيلي، ونسبها إلى معلومات استخباراتية غربية، فهناك ثلاثة مواقع سرية في سوريا لا تزال تعمل على إنتاج الأسلحة الكيميائية، كان موقع مصياف الذي تعرّض للقصف واحداً منها. الموقعان الباقيان هما مركز البحوث في برزة ومعسكر جمرايا قرب دمر، وكلاهما في ضواحي مدينة دمشق، كما أن الإعلام الغربي نشر قبل فترة أن شحنتي سلاح كيميائي من كوريا الشمالية إلى النظام السوري تم إيقافهما في عرض البحار، وكل ذلك يعني أن النظام مصرّ على إنتاج واستيراد واستخدام الأسلحة الكيميائية رغم صدور قرار أممي يجعل أي خرق في هذا الإطار جريمة أممية تقتضي محاكمة مسؤولي النظام، وأن إسرائيل، من بين كل دول الأرض، هي المعنيّة الوحيدة بقصف الأسلحة الكيميائية، ليس احتراماً لأرواح الأبرياء، بل لمخافتها من استخدامها ضدها.
أما السوريون والفلسطينيون (والعرب عموما) فليس لهم في هذا الصراع «العائلي» بين كبار البلطجية والمجرمين سوى أن يتمنوا أن يضرب الله الظالمين ببعضهم البعض.
١٠ سبتمبر ٢٠١٧
يبدو أن ضرر التمدد الإيراني لن يقتصر على العرب السنة أو القوميات كالأكراد أو مصالح الدول الكبرى كالولايات المتحدة فحسب، بل تعدى الشيعة العرب أنفسهم التي تدعي إيران الدفاع عنهم، مما يمهد لصراع داخلي شيعي - شيعي، وان كان يبدو الحديث عنه سابق لأوانه إلا أن البوادر التي تشهدها العراق حاليا بين جناحي الشيعة، يجعل الصراع أقرب مما يتوقع و أشد مما ينتظر.
فالمشهد السياسي الشيعي في العراق، يمر بتحولات كبيرة قبل الانتخابات البرلمانية في العام المقبل والتي يمكن أن تؤثر على نفوذ إيران في البلاد، وباتت التوترات المتصاعدة بين الكيانات السياسية الشيعية الموالية لطهران تبعث على القلق، ما دفع المرشد الأعلى الإيراني، "آية الله علي خامنئي"، إلى إرسال رئيس تشخيص مصلحة النظام، "محمود الهاشمي الشاهرودي"، كمبعوث له إلى العراق الأسبوع الماضي في مهمة لتوحيد الأطراف المتنازعة.
وقد أجرى مبعوث خامنئي، محادثات مع رئيس المجلس الأعلى الإسلامي السابق في العراق، "عمار الحكيم"، الذي استقال من منصبه في يوليو الماضي، وأسس تيار الحكمة الوطني، إضافة للقائه برئيس الوزراء العراقي، "حيدر العبادي"، لكنه لم يتمكن من مقابلة رجل الدين الشيعي "مقتدى الصدر" وآية الله "علي السيستاني"، الرافضان للنفوذ الإيراني في العراق.
لكن يبدو أن بعض الكتل الشيعية العراقية بدأت تتطلع إلى الانسحاب من تحت سيطرة إيران، بعد أن هيمنت الأخيرة بشكل كامل على قراراتها، ويبدو أن التطورات الأخيرة والخلافات بين الشيعة في العراق، إضافة إلى تسريبات عن زيارة مفاجئة للصدر الشهر الماضي إلى السعودية والإمارات العربية، هي محاولة لتشكيل حركة شيعية عراقية مفتوحة على الدول العربية السنية.
ورأى زميل الأكاديمية في مركز الأبحاث البريطاني شاثام هاوس، "ريناد منصور"، أن هذه الخطوة لم تكن مفاجئة إذ كان هناك دائما نزاع شيعي داخلي في العراق حول دور إيران، بل أن مقتدى الصدر وعلي السيستاني كانا الأكثر انتقادا لنفوذ إيران في العراق.
بدورها أدركت إدارة الرئيس الأمريكي، "دونالد ترامب" مع كبار معاونيه المتمرسين في حرب العراق، مثل وزير الدفاع، "جيم ماتيس"، مستشار الأمن القومي، "وأيتش آر مكماستر"، على ضرورة حد للتوسّع الإيراني في المنطقة.
وهنا تكمن أهمية الصراع على شرق سوريا في الحسابات الجيواستراتيجية الأميركية، وأدركت إن سيطرة إيران على هذه المنطقة، سيخلق هلالاً شيعياً يمتد من إيران شرقاً حتى لبنان غرباً، لذا فقد تدخلت صقور داخل مجلس الأمن القومي، للتصعيد ضد إيران، بل وتغيير النظام في طهران.
ولم يقتصر التورط الإيراني المخزي، فقط في دعم نظام الأسد وفي تحريك الشيعة بالعراق لخلق الفوضى ووضعها تحت ابطه، بل إن تقرير منظمة العفو الدولية عن الإعدامات الجماعية للسجناء السياسيين التي قام بها نظام الأسد في سجن صيدنايا العسكري يسلط ضوءً جديدا أيضا على تورط إيران في سوريا، حيث تنفق طهران نحو خمسة مليارات دولار سنويا لحماية نظام الأسد أقرب حليف إقليمي لها.
لذا فقد تيقظت واشنطن لواقع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط وسارعت للتصرف وفقا لذلك، مدركة أن استمرار التوسع الإيراني الشيعي سيؤدي في النهاية إلى خلق تغيير في الشرق الأوسط والوصول إلى التوازن الجيوسياسي لصالح طهران إلى الأبد.
أما عن الداخل الإيراني، فيبدو أن الحكومة الإيرانية الجديدة، لن تهنأ بسلام وسط بلادها، ومن المحتمل أن تنشب حرب أهلية في البلاد نتيجة زيادة نشاط قوات الحرس الثوري في المناطق التي تقطنها أغلبية من الطائفة السنية، أي أن إيران ستشرب من نفس الكأس الذي روت منه دول الشرق الأوسط.
وتوقع تقرير إيراني، نشره موقع "آمد نيوز" المقرب من المعارضة الإصلاحية، أمس السبت، أن زيادة نشاط وتحركات قوات الحرس الثوري بشكل منتظم، في محافظة سيستان وبلوشستان جنوب شرق البلاد، ذات الأغلبية السنية، قد تؤدي في المستقبل إلى حروب طائفية.
إذ أن نشاطات ايران التشيعية لم تتوقف على سوريا والعراق والبحرين وبعض المناطق السعودية فحسب، بل زاد نشاط رجال الدين والمؤسسات التابعة للحرس الثوري، التي تبشر بالتشيع وتصر على إقامة المناسبات الدينية الشيعية، من بينها عيد الغدير الذي أقيم السبت في العديد من المناطق السنية، بمحافظات سيستان وبلوشستان وخراسان، ما أثار استفزاز ديني لأهل السنة.
وفي النظر إلى تصريحات إسرائيل وتخوفها من التوسع الإيراني ونفوذ حزب الله اللبناني، اليد الطائلة لإيران في سوريا ولبنان، وبالتمعن في إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، "بنيامين نتنياهو"، أن تل أبيب لن تقبل بتجاوز الخطوط الحمراء التي تضعها في كل ما يتعلق بسورية، وتأكيده على عدم بقاء أي نوع من الوجود العسكري لإيران أو المليشيات التابعة لها وبضمنها حزب الله في الأراضي السورية، هو أكبر مؤشر أن الدول الكبرى ستبدأ بكف يد ايران عن المنطقة، إلا إن كانت مسرحية أبطالها يمارسون التمثيل على الشعوب العربية بأقنعة تجيد أبجدية العقل العربي، ليكون التواجد الإيراني في المنطقة أفضل من غيره، أم أن إسرائيل ستنفذ تهديداتها في المستقبل القريب؟
١٠ سبتمبر ٢٠١٧
سجّل دخول «حزب الله» المتدرّج الأراضي السورية ومشاركته في معارك دفاعه عن نظام بشار الأسد مرحلة جديدة من تاريخه أكّدت، من جهة، موقعه الراسخ كقوّة إقليمية ضاربة لصالح إيران، ولكنّها، من جهة أخرى، أصابت سرديّته السياسية حول مقاومة إسرائيل و«الشيطان الأكبر» الأمريكي في مقتل وأظهرت وجهاً طائفيّاً صريحاً كما كشفت انتهاكات بالغة بحق المدنيين السوريين وخططاً للتغيير الديمغرافي عبر القتل والتهجير الممنهجين.
أظهرت تداخلات «حزب الله» الإقليمية، والتي تجاوزت سوريا إلى العراق واليمن والبحرين، تناقضات واسعة لا يمكن لـ«البراغماتية» السياسية لقيادته رتق خروقها، كما أنها أشّرت إلى مناطق شديدة الغموض والإلغاز يتداخل فيها الأمنيّ والعسكريّ مع قضايا الاغتيالات والفساد الماليّ والإرهاب وتأمين التغطية لتجار مخدّرات كبار وإدارة معتقلات مرعبة داخل سوريا، بحيث يحضر ملفّ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري مع ملفّات أكثر غموضاً لمقتل مسؤولين محسوبين على النظام السوري و«حزب الله» نفسه.
شهد تاريخ تنظيم «الدولة الإسلامية» (وهبوطه)، في المقابل، حلقة واسعة أيضاً من الألغاز التي حيّرت المحللين السياسيين والعسكريين، بدءاً من جذوره في «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، ووصولاً إلى استيلائه العاصف والسريع على الموصل في العراق والرقة في سوريا، وعملياته المخيفة المصوّرة ضد ضحاياه من غربيين وعرب، وتحوّله، لاحقاً، إلى ظاهرة عالميّة مرعبة.
لا تقتصر الفروق بين التنظيمين على اختلاف السرديّات والمظلوميات والمرجعيّات والحواضن الطائفية لكليهما، والتي تؤهّلهما لخصومة طبيعية تتّسع حسب تخوم التصادم الجغرافية والعسكرية، كما حصل مؤخراً على الحدود اللبنانية، لكنّ هذه الخصومة الأيديولوجية والطائفية لا تمنع، مع ذلك، وجود نقاط تشابه وإمكانيّات اتفاق (وإعجاب مبطّن) بين التنظيمين «الإسلاميين»، كما حصل في اتفاق جرود عرسال الأخير والذي أثارت تفاصيله وتوابعه استغراباً شعبيّاً وسياسيا غير مسبوقين.
من نافل القول تأكيد دور إيران، في نقل طلائع مقاتلي «القاعدة» من أفغانستان إلى العراق، وبعدها تواطؤ النظام العراقي، أيام نوري المالكي، في إطلاق المئات من سجناء التنظيم المذكور، الذي تناظر مع اشتغال النظام السوري الحثيث على دعم ظهور تنظيمات متطرفة إرهابيّة عبر إطلاق سراح قادة سلفيين من سجونه، وهو ما ساهم عمليّاً في ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، ما أدّى، خلال السنوات اللاحقة إلى إجهاض الحراك السلميّ في العراق وسوريا، الذي اضطر لحرب ثلاثية غير متكافئة مع النظامين، وتنظيم «الدولة» وحزب العمال الكردستاني، وتأطير الثورات ضمن سرديّة الإرهاب العالميّة، ما أدّى، بالتدريج، إلى كل ما نراه حاليّاً، حيث تم هدم الثورات وصار لازماً القضاء على «الدولة» بعد انتهاء المطلوب منه، محلّياً وإقليميّاً وعالميّاً.
يفيد هنا التذكير بخطاب للأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، عام 2016، قال فيه للعراقيين: «الانتصار العراقي الحقيقي هو أن تضرب داعش وأن يعتقل قادتها ومقاتلوها ويزج بهم في السجون، لا أن يفتح لهم الطريق إلى سوريا»، وهو خطاب يتناقض مع اتفاق «حزب الله» لنقل 600 من مسلحي «الدولة» وأهاليهم إلى دير الزور، وانتقاده لقيام الطائرات الأمريكية بمنع حافلات التنظيم، ومنع المساعدات الإنسانية عنها.
وبعد مفاجأة إعلان «حزب الله» قيام أمينه العام بزيارة بشار الأسد لتأمين مرور قافلة التنظيم إلى محطتها الأخيرة، جاءت مفاجأة أكبر في تسوية النظام السوري وحليفه «حزب الله» لأوضاع 113 مسلّحاً من تنظيم «الدولة» قاموا بتسليم أنفسهم إلى قوات النظام وتسوية أوضاعهم، وهي سابقة عجيبة وغير معروفة أبداً لعناصر التنظيم، ولا يمكن فهمها عمليّاً من دون قراءة السياق السياسي والأمني والعسكري لظهور «الدولة الإسلامية» (وتراجعه) ودور إيران والنظامين العراقي والسوري فيه.
١٠ سبتمبر ٢٠١٧
أثارت الصفقة التي رعتها طهران بين حزب الله وتنظيم داعش بنقل مسلحي هذا التنظيم إلى منطقة دير الزور المحاذية للحدود العراقية غضباً رسمياً وشعبياً في بغداد، حيث اتهمت النخب السياسية العراقية إيران ولبنان وسوريا بالتواطؤ ضد الدولة العراقية، خصوصاً بعد أن كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن انتقال أعداد كبيرة من «داعش» إلى العراق عبر مناطق يسيطر عليها النظام السوري، وقد اعتبر رئيس الوزراء حيدر العبادي الصفقة التي أعلن رفضه لها وعن عدم معرفته بتفاصيلها، أنها تشكل تهديداً مباشراً للشعب العراقي، معتبراً أن «تنظيم داعش يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولا يجوز منحه فرصة للتنفس... هذا خطأ». فقد تسبب اتفاق حزب الله - «داعش» في صدمة للعراقيين الذين اعتبروا أن ادعاءات هذا المحور بالدفاع عن العراق أمام خطر الإرهاب تلاشت، عندما وصلت إلى نقطة المصالح الخاصة التي كشفت عن أولويات إيرانية بحماية النظام السوري على حساب مصالح العراق العليا، وقد جاء دفاع أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، عن الصفقة ليصبّ زيتاً على نار الغضب العراقي من مواقف محور طهران - دمشق - حارة حريك، الذي اهتم باسترجاع جثامين مقاتليه ولم يعرْ أي اهتمام لمصير 800 عراقي مفقودين في سوريا، والمستاء أصلاً من الخطاب الأخير لبشار الأسد الذي تنكر فيه لتضحيات بعض الفصائل العراقية في الدفاع عن نظامه حيث تعمد الأسد عدم شكرهم، وذلك ضمن رده المبطن على موقف حيدر العبادي الرافض لمشاركة فصائل من الحشد الشعبي في الحرب السورية، متمسكاً بموقف المرجعية الدينية في النجف التي أصدرت الفتوى للدفاع عن العراق ومقدساته فقط، وليس القتال في أي بلد آخر، وهو ما يعتبره نظام الأسد موقفاً سلبياً منه. عراقياً ودولياً، يُتهم النظام السوري بتسهيل وصول المتشددين إلى العراق بعد 2003 من أجل ضرب استقراره، وبأن قدرته على البقاء يستمدها من خلال تصدير أزماته، وخصوصاً الأمنية إلى الخارج، حيث كان العراق ما بعد صدام مسرحاً استخدمه الأسد من أجل إبعاد التهديدات الغربية عنه، وبخاصة بعد خروجه من لبنان جرّاء اتهامه باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
ففي الذاكرة العراقية الورمة هي ليست المرة الأولى التي تتواطأ فيها طهران ضد مصلحته، ولكنها المرة الأولى التي تجاهر فيها بالوقوف في صف خصومه المتحالفين معها، سابقاً وفي أحداث مماثلة، أجبرت طهران رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي على التراجع عن دعوته إلى محاكمة بشار الأسد دولياً، بعد تأكد الحكومة العراقية أن النظام السوري يقف وراء هجمات بغداد الدامية سنة 2009، إلا أنه هذه المرة اصطدمت طهران بموقف حيدر العبادي الصلب الرافض للصفقة، وبموقف أكثر تشدداً أطلقه التيار الصدري ضد النظام السوري وحزب الله، وجاء على لسان أحد ممثليه في مجلس النواب عواد العوادي الذي قال إن «على الحكومة السورية أن تذهب إلى الجحيم، إذا كانت ستزهق دماء الشعب العراقي من أجلها». فالمواقف الصادرة من بغداد تعرقل أهداف طهران المكشوفة في إبعاد الخطر عن نظام الأسد وحزب الله، حتى لو تطلب ذلك إعادة إرباك المشهد العراقي من جديد، بعدما تمكن العراق من اجتياز المرحلة الأصعب في حربه على الإرهاب، واستعداده إلى دخول مرحلة ما بعد «داعش»، وهي نقطة التحول التي تقلق نظام دمشق ومن يدافع عنه، فمنذ سقوط نظام البعث في العراق سنة 2003، وعلى الرغم من أن الانتخابات أنتجت نظاماً موالياً لطهران، فإن حذر دمشق المستمر كان من إمكانية توافق بين الدول الكبرى على إعادة الاستقرار إلى عراق ما بعد 2003 وسوريا ما بعد 2011 الذي يتطلب الوصول إليه قبول الأطراف الدولية والإقليمية بمعادلة التوازن الطائفي والديموغرافي بين البلدين، بحيث يصبح من الطبيعي أن يسقط نظام البعث السوري ومن المنطقي أن تصل الأغلبية السورية إلى السلطة، وهذا ما يعني سقوط حكم الأسد ومنظومته الأمنية، وانتهاء الهيمنة الإيرانية على سوريا ولبنان، وهو ما يضر بمصالح إيران الجيوسياسية التي لا تجد مانعاً من إبقاء حالة عدم الاستقرار في العراق إلى أجل غير مسمى، من أجل الحفاظ على نفوذها... وللحديث بقية.