١٠ سبتمبر ٢٠١٧
من المسلمات أن بقاء الأسد يعني استمرار سيطرة إيران على سوريا ولبنان، فضلاً عن سيطرتها على العراق، ويعني انتصار المشروع الفارسي في المنطقة، وقادة إيران يعلنون مشروعهم منذ أن نجحت ثورتهم ووضعوا خطتهم لتصديرها، وهو يعني كذلك بقاء روسيا التي وقعت عقوداً طويلة المدى مع الحكومة السورية وأعلنت أنها باقية. ولعل السوريين يرون في روسيا أهون الضررين رغم أنها هي التي حمت النظام من السقوط كما صرح قادتها. إلا أن الروس سيبحثون عن مصالحهم وحدها في المستقبل، وليست لديهم إيديولوجيا يبشرون بها كما يفعل الإيرانيون الذين يحملون شعارات عقائدية يتوافق السوريون على رفضها بمختلف طوائفهم ومذاهبهم الدينية، وكان إعلانها من الأسباب التي دعت إلى ظهور شعارات دينية مواجهة، اختطفت شعارات الثورة في الحرية والكرامة والديموقراطية واتجهت لمواجهة المشروع الإيراني بخطاب ديني. وقد وقعت في الفخ الذي أراده النظام وخطط له بأن يجعل الثورة ذات صبغة إسلامية، وأن يحشوها بالتطرف والإرهاب فيحول القضية من صراع من أجل الحرية، إلى صراع مع تنظيمات إرهابية، ومع أن العالم كله يعرف حقيقة ما حدث فإنه وقع في ارتباك كبير بين استنكاره للعنف غير المسبوق الذي واجه به النظام شعبه، وبين قلقه من انتصار هذا الشعب، خشية عدم القدرة مستقبلياً على السيطرة عليه.
وعلى رغم أن المجتمع الدولي يقر بأن الأسد مجرم حرب وأنه ارتكب مجازر كبرى ضد الإنسانية، ولدى العديد من دول العالم ملفات قانونية ووثائق خطيرة لإدانته أمام محاكم دولية، ولعل آخرها تقرير لجنة الأمم المتحدة الصادر أول أمس برقم A/HRC/36/55 والذي أكد على استخدام بشار الأسد لغاز السارين في الهجوم الذي وقع على مدينة خان شيخون بتاريخ 4 نيسان عام 2017، فإن بعض دول العالم بدأت تتراجع باستحياء عن فكرة رحيله مع بدء المرحلة الانتقالية. وقد أقنعها الروس بأن رحيل الأسد المفاجئ سيعني انهيار مؤسسات الدولة وانفراط عقد الجيش كما حدث في العراق، وسيفتح ساحات جديدة للصراع على السلطة كما حدث في ليبيا، وأن الأفضل هو الإبقاء على الأسد وتقليم مخالب النظام، بشكل تدريجي.
ولا أستبعد أن يكون الروس أنفسهم خائفين من ردة فعل الأسد على رغم أنهم أبلغوه أنه لا دور له في مستقبل سوريا كما رشح من معلومات، ولكنهم يخشون إذا ما انقلبوا عليه وطالبوه بالرحيل الفوري أن يفسد عليهم حضورهم في الساحل حيث ثروة الغاز والنفط الكبرى الواعدة. وهم يعلمون أن لدى الأسد ميليشيات قادرة على أن تعكر صفو روسيا بدعم إيراني، ولاسيما أن إيران التي دفعت دماء ومالاً لن تقبل أن تخرج صفر اليدين، وانتهاء حكم الأسد لا يعني خروجها من سوريا فقط، وإنما سيعني خروجها من لبنان ومن العراق أيضاً، وانتهاء تهديدها للمنطقة العربية.
ويبدو أن الروس حائرون، فلا هم قادرون على متابعة مشروعهم مع إيران التي ستبقى شريكاً محاصصاً في كل مقدرات المنطقة، بما سيعني تحالفاً استراتيجياً مديداً بين روسيا وإيران لن يرضى عنه الغرب طويلاً، ولا هم قادرون على التنكر لإيران والقبول باستبعادها وهي تملك قوة عسكرية على أرض سوريا، كما أنها تملك قدرة على نقل الإرهاب إلى روسيا إذا خرجت من حلفها.
وأنا واثق من أن الروس يعرفون أن الأسد لا يملك قدرة على ضمان الاستقرار في سوريا، وأنه من المستحيل أن يقبل السوريون بحكمه لهم ويداه تقطران من دمائهم، والأسد نفسه يعرف استحالة ذلك، ولهذا نجده يخشى عودة المهجرين السوريين ويشيد بما حدث من تجانس اجتماعي بعد رحيل خمسة عشر مليون سوري، وهم في الأكثرية الساحقة من أهل السنة. وقد عبر عن خشيته من عودة المهجرين والنازحين حين شدد على وصفهم في خطابه الأخير بأنهم حثالة، وحين بدأ النظام حملة تهديد لكل من يفكر بالعودة، وقد عبر عن موقفه عضو في القيادة القطرية لحزب «البعث» حين جعل تقبيل البوط العسكري شرطاً لقبول عودة المعارضين المهاجرين، بينما صعد أحد ضباط المخابرات الذي يكتب باسم مستعار وقال: «ستكون أمامهم المشانق»! والطريف قوله: «إن بلداً بلا مشانق جدير بأن يخان»! وهدف هذا التصعيد هو تحذير المهاجرين من خطر التفكير في العودة إلى سوريا، وقد حدث أن تذلل بعض الخارجين كثيراً في استجداء قبول العودة ولكن النظام رفضهم بإهانة معلنة، وأما الذين انضموا إلى اتفاقيات خفض التصعيد فهم يعيشون حالة من التوجس والحذر، وقد ضمنت لهم روسيا وليس النظام بقاءهم في أماكنهم.
والسؤال الأهم: هل تضمن الدول التي تدعو لبقاء الأسد أن تقبل أجهزة الأسد الأمنية بأن تخفض شيئاً من صلاحياتها، أو أن تبدل شيئاً من سلوكها؟ وهل تضمن الدول التي وقفت ضد النظام ألا ينتقم منها بعصاباته الإرهابية كما انتقم من شعبه الذي ثار عليه؟ ويبدو معيباً أن يقول أحد «لا بديل عن الأسد» فهذا يعني «لا بديل عن الديكتاتورية».
٩ سبتمبر ٢٠١٧
بشرنا ستيفان دي ميستورا بإمكان البدء في التفاوض على الحل السياسي في سورية مطلع الخريف، ودعا المعارضة إلى «الواقعية»، والنظام إلى أن يعلم بأن الحرب لا يمكن ربحها عسكرياً.
ليست الوقائع الميدانية وحدها التي دفعت الموفد الدولي إلى تذكيرنا بوجوده. هناك أفكار لموسكو حفزته.
العرض الروسي على معارضي بقاء بشار الأسد بأن يقبلوا تصدره المرحلة الانتقالية للحكم في دمشق، في أي حل سياسي مقبل، والتعهد بإخراج الميليشيات المدعومة من إيران، يخضع للكثير من الأسئلة في الأروقة المعنية بقبوله أو برفضه، سواء في الدول التي رأت استحالة في أن يكون له دور في مستقبل البلد بعد جرائمه، أم في تشكيلات المعارضة التي ما زالت على موقفها بضرورة رحيله.
وعلى افتراض أن العرض الروسي يبقي الأسد في سدة الرئاسة عند بدء العملية السياسية التي ينص القرار الدولي 2254 في شأنها على إنشاء «هيئة حكم انتقالية في غضون 6 أشهر»، كان يفترض أن تبدأ مطلع عام 2016 أي بعد صدور القرار المذكور في 18 كانون الأول (ديسمبر) عام 2015، على أن تمتد 18 شهراً، فعلى الذين يفترض أن يشاركوا الأسد في بداية هذه المرحلة أن يحددوا ما يمكن أن تكون عليه العلاقة بينهم وبين رأس النظام وشكل الحكومة ومن يرأسها، حتى إجراء الانتخابات العامة والرئاسية، المفترضة خلال 18 شهراً.
والخيار الثاني هو أن تنتهي رئاسة الأسد بنهاية المرحلة الانتقالية، أي بحصول هذه الانتخابات مع حقه في أن يترشح للانتخابات الرئاسية وأن يتمكن خصومه من هزمه في انتخابات بإشراف دولي تتيح إجراء عمليات اقتراع نزيهة في الداخل وللنازحين برقابة المجتمع الدولي. وهذا يفترض وجود قوات مراقبة دولية، إذا لم يكن مطلوباً انتشار قوات دولية لاستبعاد تأثير نفوذ السلطات والمخابرات التي تخضع لإمرة الأسد وتملك قدرة هائلة على التزوير والضغط والإكراه.
أما إذا كان المقصود بتعايش معارضي الأسد مع بقائه، أن يقبلوا استمراره في السلطة حتى نهاية ولايته الحالية عام 2020، فإن تأخير تنفيذ القرار الدولي أمن له ذلك. وهذا الخيار يعني التسليم بأن تكون الشراكة الانتقالية مقتصرة على من يقبلون الخضوع الكامل للنظام الحالي بكل سطوته ودمويته وتسليطه الأجهزة الأمنية على التشكيلات المعارضة. فالأسد سبق له أن وصف المعارضين بـ «الحثالة... وبلا وزن وأدوات تستخدم لمرة واحدة وترمى في سلة المهملات»، في خطابه بتاريخ 20 آب (أغسطس) الماضي، منتشياً بتقدم قواته في عدد من المناطق، ومتسلحاً بالصواريخ المجنحة وضربات الطيران الروسية، وعدم الاكتراث الأميركي والأوروبي. وعلى الذين سبق أن خبروا حكم الأسد وشاركوه في السلطة كحزبيين أو أصدقاء، قبل انشقاقهم عنه بعدما صدمتهم عمليات الإبادة والقتل والتدمير واستقدام الميليشيات الإيرانية، أن يعودوا صاغرين وخاضعين له، أو أن يبقوا مشردين خارج البلاد. وعلى آلاف الضباط الذين تمردوا رافضين أوامر قتل الناس وانضموا إلى تشكيلات مقاتلة ضد النظام، أن يرجعوا إلى بيت الطاعة.
أما عن عرض موسكو سحب الميليشيات الأجنبية، لا سيما التي استقدمتها إيران: العراقية والأفغانية أو «حزب الله»، فإن القيادة الروسية تراها ممكنة طالما أن سلة الحل التي تقترحها والعمليات العسكرية التي تقوم بها ستؤدي إلى إنهاء سيطرة «داعش» و «جبهة النصرة» وإلى خروج المسلحين الأجانب من سورية، ما يحتم مغادرة الميليشيات الأخرى بما فيها «حزب الله». لكن موسكو لا تلتزم خروج «الحرس الثوري» الإيراني والتشكيلات العسكرية الإيرانية من بلاد الشام، «طالما أنها موجودة بطلب رسمي من الحكومة الشرعية»، مثلما هو وجود القوات الروسية التي ستساعد في تثبيت الأمن والحل السياسي، من خلال معاهدة وقعها الأسد.
قد تكون مراهنة موسكو على إدخال قوات مصرية إلى سورية، لأن القاهرة على علاقة جيدة بالنظام من جهة، وعلى صلة وثيقة بالدول المناهضة له، لا سيما دول الخليج من جهة ثانية، وسيلة لإحداث توازن ما مع الوجود الإيراني الذي بات أمراً واقعاً. لكن التقدم الإيراني الأخير يخالف هذه المراهنة. وقد يراهن العسكريون الروس على العودة لفكرة إنشاء مجلس عسكري يعيد تنظيم الجيش ودمج الوحدات المنشقة مع قوات الأسد، بإشراف قاعدة حميميم الروسية، لكن ما يحصل مع زهاء 4 آلاف ضابط موجودين في تركيا، يجري تسريح من شاؤوا العودة أو إخضاع البعض الآخر، لا يوحي بإعادة توحيد المؤسسة العسكرية.
كيف سيقنع دي ميستورا المعارضة التي «لم تربح الحرب»، بعد تثبيت الأمم المتحدة واقعة استخدام الأسد الغاز الكيماوي في خان شيخون؟
٩ سبتمبر ٢٠١٧
كان لافتاً جداً الصمت المطبق الذي لفّ روسيا وتركيا حيال صفقة «حزب الله» مع تنظيم داعش، هل لأن مقاتلي التنظيم كانت وجهتهم حسب الاتفاق العراق، حيث هبّ هناك الممولون من إيران يتهمون الولايات المتحدة بالازدواجية، وبأنها فتحت منفذاً لمقاتلي «داعش» من تلعفر للهرب باتجاه كردستان، وادعى ممثل «كتائب حزب الله العراق» مساء الأحد من على شاشة «الميادين»، إن لديه الإثباتات بأن مسعود البرزاني الرئيس الكردي أعطى الأمر باستقبالهم؟ هل هناك طبخة ما تُحضر ضد أكراد العراق؟ أو ضد الأكراد بشكل عام؟ وهل لهذا السبب أطبق الصمت على روسيا وتركيا؟
في العام الماضي تحسنت العلاقات بين تركيا وروسيا، وترى الدولتان ضرورة التعاون في مجالات كثيرة، والتركيز الأساسي هو على الحرب في سوريا، حيث تتداخل مصالح البلدين. ثم إن تحسين العلاقات الاقتصادية والعسكرية الثنائية يلعب دوراً مهماً، وطبقاً لمسؤولين أتراك وروس، فإن جميع الاستعدادات قد تم اتخاذها كي تشتري تركيا نظام دفاع صاروخي روسياً من طراز إس – 400 (الثالث من الشهر الحالي)؛ الأمر الذي أثار قلق حلفاء تركيا في الحلف الأطلسي، مع العلم أن الصفقة قد لا تتحقق في النهاية؛ إذ لا يزال المحللون يشككون فيما إذا كانت تركيا ستتسلم بطاريات صواريخ أرض – جو الدفاعية، ويرون أن المهم هي الرسالة الموجهة إلى الغرب أكثر من للاستحواذ الفعلي.
وحسب محلل سياسي بريطاني، فإن كلاً من موسكو وأنقرة تستخدمان هذه القصة سياسياً لإظهار عدم رضا كل منهما عن الغرب، وبالذات أنقرة التي تشعر بالإحباط العميق من جراء التعاون العسكري الأميركي المستمر مع أكراد سوريا.
في التقارب بين الدولتين، هناك مشاركة روسية في بناء محطة نووية في تركيا، ومشروع أنبوب الغاز التركي الذي سيمكّن روسيا من تعزيز صادراتها من الغاز إلى جنوب أوروبا عن طريق التحايل على أوكرانيا.
إن الساحة الأولى للتعاون بينهما هي الحرب في سوريا. وعلى الرغم من أن لكل منهما وجهات نظر مختلفة حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، فإن موسكو وأنقرة تتعاونان من أجل السيطرة على التطلعات الإقليمية للقوميين الأكراد داخل سوريا.
منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، وروسيا تعمل بشكل وثيق مع إيران. وبطبيعة الحال، هذا التعاون أبعد الجانب التركي، لكن، تتردد من وقت إلى آخر تلميحات بأن لروسيا وإيران خلافات حول مستقبل سوريا. مثلاً، لا تتضمن الصيغة الإيرانية لدعم النظام السوري أي تنازلات بشأن عائلة الأسد، وبالذات بشار، فهو المتلقي والمتجاوب المرن، في حين أن روسيا كانت دائماً على استعداد لتقديم بعض التنازلات على الجبهة الدبلوماسية، طالما أن مصالحها الأساسية في سوريا مضمونة: القواعد العسكرية والنفوذ السياسي.
في سوريا، تلتقي أحياناً وجهات النظر الروسية والتركية حول تقييد طموحات إيران الإقليمية. ما يجمع بين أنقرة وموسكو ويدفعهما إلى التعاون هو الولايات المتحدة الأميركية. تركيا عضو في الحلف الأطلسي، وأقل ما يمكن أن تقوم به هو التحالف الوثيق مع القوى الغربية في سوريا. إلا أنها تسعى وراء مصالحها الخاصة القائمة على ضروراتها الجغرافية ومصالحها في الشرق الأوسط الكبير. ليس خفياً قلق أنقرة من المساعدات الأميركية للأكراد في سوريا، وأزعجتها وجهات نظر واشنطن المتغيرة حول مستقبل نظام الأسد، كذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا التي تشعر بالقلق إزاء العمليات الأميركية في سوريا، على الرغم من أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أوقف مؤخراً المساعدات العسكرية للمعارضة السورية، وتوصلت واشنطن وموسكو إلى وقف لإطلاق النار في جنوب غربي سوريا في مطلع يوليو (تموز) الماضي، لكن يبقى أن التقارب التركي – الروسي تدفعه جزئياً معارضتهما المشتركة للمصالح الأميركية.
بعيداً عن معضلة الشرق الأوسط تتشارك تركيا وروسيا في علاقات صعبة مع الاتحاد الأوروبي، وقبل أن تقطع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورقة الخروج الأخير لتركيا من الاتحاد، فإن أنقرة تعرضت لانتقادات حادة من قبل بروكسل، بينما تصطدم موسكو مع أوروبا منذ عام 2014 بسبب أوكرانيا.
لكن الاختلافات الجيوسياسية لا تزال كما هي بين البلدين. أحد هذه المسارح هو منطقة البحر الأسود. جغرافية تركيا تعطيها أطول شاطئ على البحر الأسود، ثم إن تحكمّها الطبيعي بمضيقي البوسفور والدردنيل يجعلها قادرة على إبراز قوتها العسكرية والاقتصادية على كل البحر الأسود.
تاريخياً كانت المنطقة ساحة قتال بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية على امتداد القرن الثامن عشر وحتى نهاية الحرب الباردة، وبالتالي فإن تركيا، مثل روسيا لديها مصلحة طبيعية في توسيع منطقة نفوذها في البحر الأسود؛ مما يترك مجالاً ضيقاً للبلدين لإيجاد حل توفيقي على المدى الأطول. لكن التحركات العسكرية الروسية في المنطقة منذ عام 2014 عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، التي، نظراً لموقعها الجغرافي، أعطت الروس اليد العليا من حيث البنية التحتية العسكرية والقدرة على تغطية جميع شواطئ البحر الأسود.
على شرق البحر الأسود وفي جنوب القوقاز، فإن تركيا وروسيا تواجهان معركة تاريخية طويلة الأمد حول جورجيا، وأرمينيا وأذربيجان. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي عملت تركيا وبنشاط على إعادة ربط منطقة جنوب القوقاز بسوقها المتنامية لاستهلاك الطاقة، من خلال بدء وتسهيل مختلف مشاريع الطاقة والبنية التحتية من الشرق إلى الغرب. خطوط أنابيب باكو – تبليسي – جيهان، وباكو – تبليسي – سوبسا، فضلاً عن سكة حديد باكو – تبليسي – كارس، وهذه ليست سوى بضعة مشاريع تدعمها أنقرة حاليا. وعلى الرغم من أنه من المستبعد جداً في الوقت الحالي أن تواجه تركيا روسيا عسكرياً في المنطقة، فإن هذا لا يمنع بأن أنقرة تفكر في زيادة قدرات جورجيا وأذربيجان العسكرية.
هناك مجال آخر من الخلافات العميقة بين روسيا وتركيا، وهو الصراع الناجم عن ناغورنو كاراباخ. لروسيا أجندة خاصة بها لحل هذا الصراع. والواقع، فإن موسكو تفضل إبقاء الوضع على ما هو عليه لأطول فترة ممكنة. لهذا؛ تريد روسيا من تركيا حليفة أذربيجان، أن تبقى أبعد ما يكون عن ذلك الصراع، ويتردد أن موسكو تسعى لنشر قواتها لحفظ السلام في كاراباخ مقابل أن تتنازل أرمينيا عن مناطق عدة حول كاراباخ.
أما في شرق آسيا الوسطى، فإن أنقرة ترى نفسها الحليف الطبيعي لجميع دول آسيا الوسطى، حيث كانت هناك روابط عرقية قوية بين تركيا والشعوب التركية في كازاخستان، وقيرغستان، وتركمنستان وأوزبكستان (طاجيكستان كانت دائماً أكثر تأثراً بالثقافة الإيرانية).
لا تتحمل أي من الدولتين الآن معاداة بعضهما بعضاً. تركيا ترى في روسيا الباب إلى سوريا للمشاركة في المستقبل، وربما قد تكون الغطاء الذي ستحتاج إليه أنقرة إذا ما اضطرت إلى تقبل ابتلاع مرارة بقاء الأسد على بزوغ حكم ذاتي كردي يلوّح لها بين الحين والآخر بظل عبد الله أوجلان. ستواصل روسيا وتركيا العمل معاً في الساحة السورية، هدأت أو ظلت مشتعلة، وسوف تدفع الضرورات الفورية للبلدين إلى إيجاد أرضية مشتركة للتعاون بينهما، ومعارضة المصالح الإيرانية في الشرق الأوسط أحياناً أو، المصالح الأميركية. ثم إن تركيا لا تتحمل خسارة آخر نفوذ لها فوق أرض عربية. كما ستزدهر الاتصالات الاقتصادية والعسكرية بينهما؛ لأن روسيا لا تتحمل خسارة السوق التركية المهمة جداً لصادراتها من الغاز، ومع ذلك، وأبعد من هذا التعاون، فإن العلاقات بين روسيا وتركيا ستتعرض لضغوط جيوسياسية على أساس القضايا الجغرافية والأمنية، وسيظل البحر الأسود وجنوب القوقاز، وبدرجة أقل آسيا الوسطى المناطق الأكثر تنافساً بين موسكو وأنقرة.
في ظل هذه الخريطة التي تحيط بالمنطقة العربية، نرى عمليات، ومصالح، وتوسعاً، وقواعد عسكرية، وثقافات تتمدد وتتصادم، تأخذ من المسرح السوري ساحة تلاقٍ أو فرض نفوذ. هناك الروسي، والإيراني، والتركي، والأوروبي، والأميركي، وهناك الشيشاني، والأوزبكي، والقيرغستاني، الذي جاءنا وقتلنا بثياب «داعش»، وأطل أسيراً من على شاشة التلفزيون الكردي في العراق. لكن أين الدور العربي في كل هذا؟ لم نره بعد!
٩ سبتمبر ٢٠١٧
ما المشكلة لو أن إيران وهي دولة تمتلك الكثير من مقومات الدولة الحديثة قد انتصرت فعلاً على ذاتها وتحولت إلى دولة رائدة في منطقتنا، لو حاولت ولو مرة واحدة قراءة التاريخ بدلاً من الكتب الصفراء والأطماع الوهمية واستوعبت ظروف الزمان والمكان؟ لا مشكلة على الإطلاق لو أنها تحالفت مع دول المنطقة الغنية اقتصادياً على الأقل، ومضت في طريق النمو والتقدم وتجنبت العمل وراء كل هذه المصائب التي تعصف بمنطقتنا. لنتخيل مشكلات الدول العربية في السنوات الأخيرة لو لم توجد لإيران يد تتدخل هنا وهناك.
انتفاضة الشعب السوري تطيح نظام بشار ومن المؤكد بعد ست سنوات على انطلاقها أن سورية كانت ستصل إلى نوع من الاستقرار. بلا إيران ودعمها الأعمى للنظام وسماحها للميليشيات المتنوعة لم نكن لنرى مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين من الشعب السوري الشقيق. لبنان القطعة الأوروبية في عالمنا العربي التي أنجبت الرحباني وفيلمون وهبي و «ميس الريم» ومسرح بيت الدين وشاطئ الروشة ومصايف برمّانا وفقرا وجبل صنين ونبع الصفا وكل ما يميزها عن غيرها، كانت ستصل إلى مصاف دول العالم في الوجهة الاستثمارية والسياحية. كنا سنرى المجمعات المتطورة في المتن وإقبال العالم على امتلاك الشقق والتمتع ربما بأكبر منظومة أمنية في بلد متعدد الأعراق والطوائف والألوان والديانات، لولا ذراع إيران في لبنان لكان لبنان نموذجاً يحتذى به في التنمية وجذب رؤوس الأموال.
العراق كان حتماً سيعود إلى مقوماته وما يميزه تنافسياً ويستقر. أليس مذهلاً أن نرى دول ما يسمى الربيع العربي قد انقسمت إلى قسمين، دول لم تتدخل فيها إيران وهذه عادت نسبياً الى الاستقرار وأمامها الكثير من إعادة البناء، ودول تدخلت فيها إيران وتحولت إلى حمامات من الدم تسيل إلى يومنا هذا.
لو كانت إيران قد انتصرت حقاً لتحولت نفسها إلى قبلة استثمار لتجار السعودية ودول الخليج بل والعالم، لما يتمتع به شعبها من قوة استهلاكية وإرث حضاري هائل، ولما يمكّنها الموقع والتضاريس من تفعيل كل فصول السنة وانفتاح البلاد على العالم. ماذا عن الصناعات والتبادل التجاري ونقل المعرفة بينها وبين العالم العربي والعالم بعيداً عن التشكيك والأطماع؟ لو لم يحمل الخميني ذلك الملف الأسود لما اضطرت ملايين العقول الإيرانية للهجرة إلى الغرب. أكتب هذه المقالة من منطقة تقع شمال لوس أنجليس وتغص بهؤلاء الإيرانيين ممن أسسوا أعمالهم هنا وبادروا في العمل والنجاح. لا توجد خدمة في هذه المنطقة (سان فرناندو فالي) إلا وتشاهد إيرانياً يشترك في تقديمها، بدءاً من الخدمات المصرفية والتطوير العقاري، وانتهاء بالمتاجر الصغيرة ومغاسل السيارات.
مذهل حقيقةً عندما تشاهد مجموعة من كبار السن الغارقة عقولهم الماضوية في التخلف العلمي والتنموي، يسيطرون على شعب خلّاق متعدد المواهب والإنتاج ولمدة تقترب اليوم من أربعة عقود من دون وجود أي مؤشرات إلى زوال هؤلاء وابتعادهم عن الحكم.
لتفسير بقائهم في السلطة، هناك أسباب تعتمد على الطرق القمعية والوحشية، يكفي أن تعلم أن مؤسسة «الحرس الثوري» هناك، وهي تختلف عن الجيش النظامي وعن الشرطة، تعتبر المؤسسة الحكومية الأضخم في إيران. مساهمة هذا الفصيل الحكومي القامع لأي حراك شعبي تساهم في ما يزيد على ٣٠ في المئة من الناتج القومي الإيراني، ومكوّناتها عبارة عن محافظ استثمارية ومؤسسات خيرية ومؤسسة تقاعد خاصة بمنسوبيها وتأمين اجتماعي خاص، إضافة بالطبع إلى النشاط العسكري والكرم الحاتمي في توزيع السلاح على كل أنواع العصابات في الخارج. خلل هائل في توزيع الثروة وفي تنويع مصادر الدخل في دولة تعتمد على الغاز والنفط بنسبة غالبة وإسراف لا تستفيد منه غير الأقليات الحاكمة بقبضتها الحديدية. ربما أن الأجدر هو تسمية الدولة «جمهورية الحرس الثوري» واستبعاد إيران من الاسم. لا شيء يقدمه هذا «الحرس» ويعود بالنفع على إيران وشعبها.
لم تنتصر إيران على الإطلاق خلافاً لما قد يظنه البعض، ربما نجاحها الوحيد حتى الآن بعد محاصرة عدد من الأماكن الأخرى، هو تودّد دولة قطر، لكن ذلك ليس قياساً مستقيماً. حكومة قطر نفسها أصبحت في مهب الرياح، والسياسة التي كانت قائمة في الدوحة انكشفت والوضع هناك مقبل على ما يشبه العزلة التامة وفرض العقوبات الدولية عليها كما هي حال حكومة طهران بالضبط. الذي جمع بين «القلبين» موقتاً هو الخروج على القانون ودعم الإرهاب تحت عشرات المسميات والطرق الملتوية، لذلك فالتحالف مع قطر ليس علامة للنصر ولا للتفوّق. كيف نقول إن طهران تنجح في سياساتها وهي تحتفل بانفراج بسيط لرفع العقوبات الدولية، ونعلم اليوم أن الولايات المتحدة والدول الست عموماً تعيد النظر في تلك الاتفاقية الأوبامية الغامضة.
إطلاق مفردة الانتصار في هذا الزمن يخضع لمعايير عدة لا تتوافر لدى إيران. الهند مثلاً والصين تنتصران وتنهضان وتنافسان دول العالم في كل شيء على رغم التعداد الهائل للسكان وارتفاع نسب البطالة. السبب في حال الهند ببساطة أن غاندي ونهرو يختلفان تماماً عن الخميني وخامنئي في الفكر وسلامة العقل. بعض دول أوروبا الشرقية نهضت وارتفعت مؤشراتها. المملكة العربية السعودية ستتجاوز مرحلة الاعتماد على النفط وستنتصر مع تطبيق خططها المستقبلية. دولة الإمارات تنتصر وتتقدم في مبادرات عدة تنافس أعرق دول العالم في تقديمها. هناك العديد من الأمثلة على النجاح، أما القول إن إيران تتقدم فهو كمن يقول إن كوريا الشمالية تتقدم لمجرد وجود حكومة متهوّرة صنعت صواريخ عدة يمكن تدميرها في ليلة ظلماء.
انتصار إيران سيعتمد فقط على تحوّلها من دولة مارقة خارجة عن القانون يعيش عدد كبير من شعبها دون خط الفقر إلى واحة للصناعة والعلم وتصدير العقول والمنتجات. ما لم ترتفع مؤشرات النمو سنة بعد أخرى وترتفع مستويات الأجور وينتقل نصف من هم تحت خط الفقر إلى الغنى ويعود نصف عدد المهاجرين وهم بالملايين إلى بلادهم فلا نجاح يذكر. لذلك علينا التنبه من إطلاق بعض المقولات أو التصريحات. مواقف حكوماتنا من بعض القضايا والجماعات والأحزاب هنا أو هناك في بلداننا العربية لا يجب أن تدفعنا إلى تشجيع سياسة إيران من دون قصد بالطبع، وإيهام العامة أن طهران تتقدم وغيرها متورّط في سياساته وخططه ولا يدرك مصالحه.
٨ سبتمبر ٢٠١٧
ألا يحق للشعب اللبناني أن يتخلص من حزب الله بعد كل ما سببه من كوارث وخيبات، أم أنه كُتب عليه أن يظل رهين محبس ذلك الحزب الذي يفعل ما يملى عليه من قبل إيران؟ ليس أمام اللبنانيين سوى أن يعلنوا عصيانا فريدا من نوعه في التاريخ من أجل طي صفحة ماض صار يهدد بالزحف على مستقبلهم.
فحزب الله لا يخطط لإلغاء الدولة اللبنانية بعد أن احتواها، بل يسعى إلى أن يكون الممثل الشرعي الوحيد للبنانيين، بغض النظر عن موقفهم منه. منذ سنـوات وحسن نصراللـه يلقن الـدولة اللبنانية دروسا في حسن السلوك، واليوم جاء دور اللبنانيين لكي يتعلموا منه حسن التعامل مع قتلة أبنائهم باعتبارهم ضيوفا.
الدرس اللبناني حظي بترحيب عراقي من قبل حزب الدعوة الحاكم منذ أكثر من عشر سنوات مستعدا لخوض غمار انتخابات يأمل أن يكون الرابح فيها. ناهيك عن إعجاب النظام السوري بتلك الرحلة المرحة التي نظمها حزب الله لإرهابيي تنظيم داعش من أجل وصولهم إلى حاضنتهم الأم.
لقد تحدى حزب الله التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من جهة، وتحدى روسيا من جهة أخرى. من أجل الفكرة المسلية والمتوحشة وحدها يستحق حسن نصرالله أن تُرفع له العمائم.
إرهابيون قتلة يتجولون في الأراضي السورية تحت أعين المجتمع الدولي المفتوحة عجبا من غير أن ينالهم أي سوء. علينا أن نفكر في تلك المعجزة السلبية في الـوقت الـذي مُحيت فيـه مـدن عظيمـة مثل حلب والموصل بحجة وجود إرهابيين فيها.
لقد فرض حزب الله على العالم معادلة جديدة، يكون فيها قتل الإرهابي جريمة ضد الإنسانية. أليس في الأمر ما يدعو إلى الريبة من جهة كواليسه السرية؟ استغرب الكثيرون أن يكون الوصول الآمن لقافلة الإرهابيين هو مطلب حزب الله وإيران وحزب الدعوة مجتمعين.
فذلك يعني أن الأطراف الشيعية الثلاثة لم تكن صادقة في حربها على من تسميهم بالتكفيريين، بل إن أولئك التكفيريين هم بضاعة عزيزة ينبغي الحفاظ عليها وعلى سلامتها. هدية حزب الله التي حرص حزب الدعوة على الترحيب والاحتفاء بها كانت عبارة عن حطب احتياطي لحرب أهلية يحتاجها حزب الدعوة، وهو يستعد للتأهل للسلطة في ولاية رابعة.
ما يفعله حزب الله إنما يدخل في نطاق استراتيجية إيرانية بعيدة المدى. لقد صار ممكنا أن يلعب حزب الله اللبناني دورا مؤثرا في الحياة السياسية العراقية من خلال بعثته التبشيرية التي أرسلها إلى الحدود العراقية لتكون بمثابة رأس الحربة الوهمي لشبح إرهابي، يمكن اتخاذه حجة للانتقام من خلاله من سنة العراق.
أجبر حزب الله اللبنانيين على التخلي عن حق أبنائهم القتلى نظير أن يُقتل المزيد من العراقيين. وهو ما يعني أن حزب الله قد وجد في العراقيين ضالته في القتل بدلا من أن يقتل الدواعش. إنها حرب إيران المستمرة على العرب.
فإذا كان حزب الله قد يسَّرَ لإيران جزءا من حربها في العراق، البلد الذي يخضع له، يمكننا أن نتخيل الرثاثة التي وصل إليها ذلك الحزب في تطبيع الوجود الإيراني لبنانيا.
لن يكون على اللبنانيين أن ينتظروا طويلا لكي يُعلن بلدهم ولاية إيرانية.
ذلك الأمر ليس مستبعدا بالنسبة لكل من تابع سلوك حزب الله وخطابات حسن نصرالله التي تعبر عن إيمان مطلق بحق إيران في التهام المنطقة وتفكيك دولها على أساس طائفي اعتمادا على مبدأ تصدير الثورة.
لذلك فإن الدور الخطير الذي انغمس حزب الله فيه يحتاج التصدي له إلى جهد رسمي وشعبي هائل لا من أجل تحجيم تلك الميليشيا وإعادتها إلى لبنان، البلد المبتلى بها، بل من أجل وضع حد نهائي لها والتخلص منها باعتبارها تنظيما إرهابيا يسعى إلى تمهيد الأرض لاستعمار إيراني سيكون ليله طويلا. لقد صار واضحا ومنذ سنوات أن شعار مقاومة إسرائيل الذي يرفعه حزب الله هو مجرد غطاء لحرب يشنها ويديرها ذلك الحزب على العرب.ش
٨ سبتمبر ٢٠١٧
تفاخرت موسكو وطهران بدخول القوات السورية والإيرانية معقل «داعش» في دير الزور بعدما كانت وصلت إلى الحدود مع العراق، في تحد للقرار الأميركي بإبقائها بعيدة منها، وأعلن فلاديمير بوتين رؤيته للتسوية بعد «النصر الاستراتيجي» على التنظيم المتطرف. لكن، هل فرضت روسيا وإيران فعلاً أجندتهما على الأميركيين في سورية، وهل كان الأميركيون جادين أصلاً في عدائهم لنظام الأسد وراغبين في تغييره؟
الإجابة عن هذا السؤال تكمن في طرح أسئلة أخرى: ماذا تعني حقوق الإنسان في العالم العربي للإدارات الأميركية؟ وهل يصدق أحد أن الولايات المتحدة منشغلة ومهمومة بمصير ملايين السوريين المقتولين والمعتقلين والمشردين إلا بمقدار ما يؤثر خروج قضيتهم عن حدود بلدهم في النظام الإقليمي الذي ترعاه واشنطن؟
طوال أربعة عقود قبل الثورة، شكل القتل والبطش والسجن وسائر أنواع العسف، أدوات التعامل الوحيدة للنظام السوري مع شعبه، لكن «عاطفة» أميركا لم تتحرك أو تتأثر بالتقارير الصادرة عن المنظمات الدولية وهيئات حقوق الإنسان، باستثناء حالات نادرة، عندما كانت تريد الضغط على النظام لجعله يقبل صاغراً بدور ما في ملف ما، في حال أبدى «مقاومة» هدفها تحصيل ثمن أكبر.
كانت الولايات المتحدة، وأوروبا التي تلعب دوماً دور التابع للسياسة الخارجية الأميركية، حتى لو حرصت على إظهار بعض التمايز غير المؤثر، تعتمدان نظام دمشق منذ انقلاب حافظ الأسد في مطلع سبعينات القرن الماضي، ركناً أساسياً في نظامهما الإقليمي، غير عابئتين على الإطلاق بما يفعله بشعبه ومعارضيه.
لهذا السبب ذاته، دخل جيش الأسد لبنان ونكل بشعبه وقصف مدنه، بناء على قبول، بل توكيل أميركي واضح، ودور إسرائيلي مساند، ومن دون أي حساب أو مساءلة. كان لبنان «جائزة» دمشق لدورها في معالجة «الخطر الفلسطيني» الذي كان يحتل يومذاك الأولوية في حسابات واشنطن. وكان تطويع منظمة التحرير وإضعافها تمهيداً لدفعها إلى أحضان إسرائيل المهمة الأولى للسياسة الأميركية وتابعها السوري.
هذا الدور الذي رُسم لنظام الأسد جعل الأميركيين يرفضون منذ أكثر من ست سنوات تقديم دعم فعلي للشعب السوري المنتفض عليه. ظلوا ينتظرون ويقدمون الوعود وبعض المساعدات «غير الفتاكة» للمعارضين، فقط لحفظ خط الرجعة في حال نجح هؤلاء في إسقاط الديكتاتور، إلى أن تمدّد «داعش» و «النصرة» إلى الأرض السورية، أو أُرسِلا إليها، فأزاحا حملاً عن ظهورهم.
بعد ذلك، بات في إمكان الأميركيين التركيز على «أولوية محاربة الإرهاب» بدلاً من الانشغال الشكلي بمطالب السوريين التواقين إلى نيل حريتهم والعيش في وطن عادي، وصار مبرراً نفض اليد من تشكيلاتهم الحالمة ببناء بلد ديموقراطي وانتخابات وتداول للسلطة.
لو صح أن الأميركيين راغبون في سورية ديموقراطية، لساهموا في تغيير مسار المواجهات المسلحة التي بدأها النظام وأمعن فيها، ولساعدوا المعارضة في التصدي لدور الميليشيات الإيرانية المتعاظم، بدلاً من منح روسيا توكيلاً بالالتفاف على اتفاقات جنيف وصوغ حلول تناسبها مع حلفائها. ولو كانت هناك إرادة دنيا في إنقاذ السوريين من فظائع الأسد وحلفائه، لما تغاضت استخبارات الأميركيين عن ظهور «داعش» وانتقاله إلى سورية، مانحة إياهم ذريعة للتراجع عن شعار تغيير نظام يخدم مصالحهم منذ قيامه قبل نصف قرن.
التسوية التي يريدها الأميركيون الآن ويعملون لتحقيقها بالتنسيق التام مع الروس، هي إحياء نسخة معدلة من النظام الإقليمي القديم تشمل دوراً «منضبطاً» لإيران، أي لملمة الوضع «الفائض» وإعادة الجنّي إلى القمقم السوري. فلتبق الأزمة داخل سورية. وليفعل النظام ومعه إيران وروسيا ما يريدون بالسوريين، لكن دوماً داخل الحدود، وبما لا يهدد النظام الإقليمي الذي أُفشِلت محاولات خرقه في مصر وليبيا. وتستعين الولايات المتحدة على تغطية هذه الحقيقة بالخطب والشعارات والمجاملات وبيانات الاستنكار والإدانة وأكياس الدقيق والسكر.
٨ سبتمبر ٢٠١٧
في10 حزيران من عام 2014 قام تنظيم "داعش" بالسيطرة على الموصل طارداً القيادات السياسية والأمنية والقوات الرسمية، التي كانت تقدر آنذاك بـ 40 الى 50 ألف مقاتل مجهزة بأحدث ما أنتجته مصانع السلاح الأميركية، والتي أصيبت بـ"انهيار أمني كامل"، حسب تعبير وزارة الخارجية الأميركية آنذاك، وفي حديث تلفزيوني لاحق للمحافظ أثيل النجيفي أكد النجيفي أن سلطاته لم تسلم الموصل للمسلحين "وإنما الذي سلمها الجيش التابع لرئيس الوزراء نوري المالكي الذي سحب كل الصلاحيات الأمنية والعسكرية من كل المحافظين، وأعطاها فقط للقوات العسكرية الموجودة من خلال قيادة عمليات نينوى". إذا قام نوري المالكي وبدم بارد الذي كان رئيساً لحكومة العراق ومدعوماً من إيران بتسليم الموصل الى "داعش".
عند بداية الثورة السورية وعندما بدأ بشار الأسد يشعر بأن المصيدة بدأت تضيق عليه وبأن الثورة قد تنتصر قام بإطلاق 1000 من سجنائه المدربين والعائدين من الحرب مع القاعدة في أفغانستان أو العراق من سجونه وأفلتهم داخل الأراضي السورية ومن هؤلاء المساجين الشهير أبو مالك التلي.
والتقرير الذي نشرته "الدايلي بيست" “The Dealy Beast” بعنوان "كيف نبني "داعش"، كفيل بشرح كيف كان بشار ونظامه ومنذ 2003 وراء صعود الجماعات المتطرفة وكيف أنه يقوم باختراق تلك الجماعات ويوظفها لصالحه عند الحاجة، إذ إن الجمع ببين المقاتلين السابقين من تنظيم "القاعدة" مع ناشطين من المجتمع المدني ليس مجرد صدفة عابرة.
ادعى بشار الأسد في بداية الثورة السورية أن مجموعات متطرفة تتكون من إرهابيين مسلحين كانت تقود الاحتجاجات في عام 2011، وهذا ما لم يكن منطقياً في ذلك الوقت.
حيث كان سجن حلب المركزي مسرحاً لعمليات تشويه تستهدف الثورة السورية منذ بدايتها.
وكان جون كيري، وزير الخارجية الأميركية السابق صريحاً إذ قال: "إن تنظيم الدولة صُنع من طرف بشار الأسد"، ورئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي اللذين قاما بتحرير سجناء تنظيم القاعدة في بلديهما. وكان الأسد يسعى إلى وضع العالم بين خيارين سيئين: "إما أنا أو الإرهابيون".
وفي وثيقة سربت عبر "ويكيليكس أوضحت: "أن الجنرال علي مملوك، أحد كبار المستشارين الأمنيين في نظام بشار الأسد قال متحدثاً عن سياسة النظام السوري في التعامل مع الجماعات الإرهابية "من ناحية المبدأ، نحن لا نقتل أو نهاجم على الفور. نحن نندس داخلهم، وننتظر اللحظة المناسبة للتحرك".
جاءت صفقة "حزب الله" اللبناني و"داعش" هذه المرة كانت أوضح ومحددة أكثر إذ إنها كانت أمام الإعلام وظهر حسن نصر الله، وقال: "إننا تفاوضنا مع داعش"، الصفقة تمت.
ظاهرياً كانت لمعرفة مصير العسكريين المخطوفين، أما باطنياً كانت للمقايضة على جثة الجندي الايراني محسن حججي، فحسب قول نصر الله: إنه ذهب الى الرئيس بشار الأسد وإنه "يتمنى عليه الحصول على "خدمة"، ونَقل عن الأسد قوله: "إذا أنتم حزب الله تريدون أن تفاوضوا ليس لديّ مشكل". على الرغم من ركاكة اللغة والحوار وأنه توجه بهذا الحوار إلى جمهوره ولم نعلم إذا كان قد أقنع جمهوره بهذه الصيغة، ولكن هذه الصيغة لا تقنع الأطفال، إذا إن الجندي محسن حججي هو أساس الصفقة وليس الجنود اللبنانيون، محسن حججي هو عنصر بارز في الحرس الثوري الإيراني وهو الذي أعدمه "داعش" بقطع رأسه وصوّر الاعدام في شريط فيديو ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي، هذا ما جعل المرشد الإيراني الإمام علي خامنئي أن يهتم بنفسه بهذه القضية التي جرى التداول بها على نطاق واسع في الاعلام الايراني منذ تدخل إيران في الحرب السورية وللمرة الاولى، وتضمنت الصفقة التفاوض أيضا على أسير لحزب الله، أما بالنسبة للعسكريين المخطوفين فقد كان مصيرهم معروفا ومنذ 2005 كما أوضح المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم، إذاً لا دخل للصفقة لا من قريب ولا من بعيد بالشأن اللبناني.
بكل الأحوال إن استسلام هؤلاء المقاتلين كان سوف يتيح لعناصر "حزب الله" أن يسحب منهم المعلومات بكل سهولة ولنظام بشار الاسد باع طويل في سحب المعلومات في أقبية سجونه، يعني أن الصفقة خدعة وكلام نصر الله عن قلقه على مصير الحدود اللبنانية وخوفه من تفشي الإرهاب مجرد ذر رماد في العيون، لأن هذا "الإرهاب" كان موجودا في جرود بعلبك والقاع منذ 2014، الصفقة جاءت لإخراج هؤلاء المقاتلين سالمين وإيصالهم إلى الحدود السورية العراقية ومن ثم إدخالهم إلى العراق أو إعادة توزيعهم كما تقتضي الحاجة.
بات من الواضح أن حسن نصرالله يريد أن ينصب نفسه مرشداً أعلى للجمهورية اللبنانية، عندما لم يأتِ هذا التعيين من مرجعية عربية أو إقليمية استعجل التعيين ولكن القاعدة الفقهية تقول: "من تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمــــــانه".
أولا، من المبكر إعلان الانتصار على كل المكونات اللبنانية، اذ اننا لم نرَ ردة فعل رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون الى الان، رئيس الجمهورية الذي كان يطل من الرابية اقوى بكثير وكنا ننتظر منه مواقف بشأن اعلانات النصر ولكنها لم تعلن حتى الان، فهل يبتلع افعال وتطاول "حزب الله" على كل مكونات الدولة؟ ولذلك حديث آخر.
ثانيا، من المبكر اعلان الانتصار على "داعش" عدا عن أن "داعش" هو فكر ونهج، ان "داعش" لا يزال كمجموعات وخلايا نائمة منتشر، وهو غب الطلب في ايدي انظمة مجرمة سوف يستعين به عند الحاجة وستسعين.
تماما كما في أفلام هوليوود عندما لا يتم سحق المجرم وابادته يهرب ويختبئ يداوي جروحه ويتعافى ولكن هذه المرة يخرج أقوى ولكن مشوه، وهنا "داعش" لم يهرب بل خرج معززاً مكرماً وعاد الى الحضن الدافئ اي حضن النظام السوري "الاب"، سوف يتم غسل دماغ عناصره من جديد وإعادة تدويرهم وإعطائهم هويات وماركة جديدة كي يتم إعادتهم الى الميادين ولكن هذه المرة بشكل أشرس وأهداف إجرامية أشد فظاعة وأقوى، أين منها "الذئاب المنفردة".
هؤلاء المقاتلون هم أولاد النظام وهم مدربون وجاهزون وغب الطلب لأي عمل ارهابي جديد في أي مكان في العالم وهم كالسلاح النووي الفتاك بل أشد فعالية لأنهم قنابل بشرية "زومبي" خالية من أي عقول جرى العمل عليها منذ وقت طويل كي تصبح كالروبوتات فكيف سيفرط بهم؟ لذا هي غالية على قلوب اصحابها لهذا جرى سحبهم من أرض المعركة بهذه الطريقة اي حافلات مكيفة معززون وقام "حزب الله" بنقل وقائع استسلامهم بطريقة كاريكاتورية هزيلة أقل ما يقال فيها انها تبعث على الضحك، اذا ان من كان في الفيديوهات هم عناصر انتحارية وليس "لوريل" و"هاردي" صوروا وكأنهم حملان وديعة وتلك ادلة اضافية على ان عناصر "داعش" هم ابناء "النظام السوري".
وصولا الى الحديث عن بيان "حزب الله "الاخير الذي جاء ليشوش على صفقته التي سوف تبقى محرجة له ووصمة عار ابدية سوف يبقى يبررها دائما، في بيانه اتهم الامريكيين بأنهم وراء هروب اكثر من ألف مقاتل داعشي وخصوصاً من الأجانب من مدينة تلعفر واللجوء الى المناطق الكردية في شمال العراق".
هنا بيت القصيد اين سيستعمل هذا التنظيم في المرحلة الاولى، ان استفتاء استقلال كردستان العراق الذي حدد تاريخه في 25 من الشهر الجاري قد يكون هو المستهدف الاول من تهريب عناصر "داعش" الى الاراضي الكردية، لان من مصلحة ايران وتركيا والنظام السوري منع الاستفتاء الكردي من ان يحصل، وذلك لاعتبارات عدة قد نتكلم عنها في بحث اخر، لذا قد يتم استعمال هذه العناصر داخل كردستان للتشويش على الاستفتاء وبالتالي المطالبة بالاستقلال.
إعادة التدوير هي كتغيير اسماء المنتوجات والسلع و"داعش" سلعة وسوف تعاد "منتجته" باسم اخر ولكن بإضافات اشد شراسة ووحشية، على الاقل، الان باتت معروفة مصانعه وخلفياته ومن وراءه، "داعش" لم يهزم بعد، وهذا ما يذكرنا بدستور القاعدة "إدارة التوحش"، من سيقضي على التوحش في هذا العالم في المرحلة المقبلة؟
٨ سبتمبر ٢٠١٧
خلط وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لودريان، أوراق سياسة بلاده تجاه سورية، وخرج يوم الجمعة بتصريح يختلف كليا عن كل التصريحات التي صدرت عنه وعن رئيس الدولة، إيمانويل ماكرون، في ما يتعلق برئيس النظام السوري بشار الأسد، وقال إنّ الأخير "لا يمكن أن يكون الحل"، رافضاً بقاءه في المرحلة الانتقالية.
وشكّل تصريح لودريان مفاجأة، كون مواقف وزير الخارجية ورئيس الدولة الفرنسية ماكرون منذ حوالي شهرين التزمت السير على خط واحد، وأكدا أنهما لا يريان "بديلا شرعيا للأسد"، وأن "فرنسا لا تعتبر رحيل الأسد شرطا للتفاوض" مع النظام السوري.
وقال لودريان، لإذاعة لوكسمبورغ الجمعة، إنّه "لا يمكن أن نبني السلام مع الأسد. لا يمكنه أن يكون الحل. الحل هو في التوصّل مع مجمل الفاعلين إلى جدول زمني للانتقال السياسي يتيح وضع دستور جديد وانتخابات، وهذا الانتقال لا يمكن أن يتم مع بشار الأسد الذي قتل قسماً من شعبه".
جاء تصريح الوزير الفرنسي بعد زيارته إلى العراق، وانعقاد المؤتمر السنوي للسفراء الفرنسيين في نهاية الشهر الماضي، وعقب خطاب الرئيس ماكرون أمام مؤتمر السفراء الذي أعلن فيه أن فرنسا ستعلن تشكيل "مجموعة اتصال" جديدة حول سورية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلث الأخير من شهر سبتمبر/ أيلول الحالي. وحسب أوساط فرنسية مطلعة، فإن التغير الذي حصل في الموقف جاء بفعل النقاشات التي شهدها مؤتمر السفراء حول السياسة الخارجية، ولم يكن قبل ذلك، لأن الوزير سبق له أن كرّر في بغداد يوم 26 أغسطس/آب خلال لقائه مع نظيره العراقي، إبراهيم الجعفري، المواقف السابقة التي صدرت عنه وعن ماكرون، وقال إن "باريس لا تطرح رحيل الرئيس السوري بشار الأسد شرطا مسبقا، إنما ترى أولويتها في الحرب على تنظيم داعش في الأراضي السورية".
جاء الضغط بضرورة إجراء مراجعة سريعة في السياسة الخارجية الفرنسية من داخل مؤتمر السفراء الذي شهد انتقادات حادة لسياسة ماكرون التي وصفها بعضهم بأنها "سطحية وخالية من العمق، ولا تدرس مصالح فرنسا جيدا، ولا تمتلك تقديرا دقيقا للأزمات"، وجرى ضرب مثال على السطحية الاجتماع الذي نظمته باريس، في يوليو/تموز الماضي، بين رئيس حكومة الوفاق الليبي فايز السراج وقائد جيش حكومة طبرق اللواء خليفة حفتر، والذي أسفر عن اتفاق لم يصمد أكثر من 24 ساعة، وسبب ذلك انتقادات واسعة للدبلوماسية الفرنسية المعروف عنها عادة أنها لا تتعامل بهذه الخفة مع أزمات معقدة.
ويتركز النقد على سياسات ماكرون تجاه سورية، والتي حاولت التماهي مع الموقفين الأميركي والروسي، حيث اعتبر أولا أن الأولوية لمحاربة داعش وفق ما سارت عليه إدارة الرئيس دونالد ترامب، وثانيا أن رحيل الأسد ليس شرطا مسبقا للتفاوض، وهو ما تتمسّك به موسكو منذ بدء عملية جنيف في 2012، وتريد منه فعليا إعادة تأهيل الأسد، بدل محاكمته أمام محكمة الجنايات الدولية بسبب ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ويرد في الانتقادات الموجهة إلى موقف ماكرون من الأسد أنه تنازلات مجانية، لم تجن فرنسا من ورائها أي مقابل، بل خسرت أخلاقيا بسبب تراجعها عن الدعوة إلى محاكمة الأسد. وفي حين كانت تنتظر من الرئيس الأميركي تراجعا بصدد اتفاقية المناخ، فإن ترامب استمر على تعنته حين زار باريس ضيف شرف في احتفالات العيد الوطني في 14 يوليو/ تموز الماضي، والأمر ذاته بالنسبة إلى موسكو التي عوّل عليها ماكرون أن تشرك فرنسا في الترتيبات المقبلة في سورية، وخصوصا إعادة الإعمار، لكنه لم يحصل على أي وعد من نظيره فلاديمير بوتين.
تصريحات لودريان الجديدة هي من باب المراجعة، حسب معلومات مصادر وزارة الخارجية الفرنسية، وهذا هو السبب وراء إعلان ماكرون عن تشكيل "مجموعة اتصال" جديدة حول سورية، على الرغم من أن تجارب مجموعات الاتصال السابقة لم تكن ناجحة من جهة، ومن جهة ثانية تلعب أستانة دور نقطة اتصال، حيث تشارك في اجتماعاتها الأطراف المعنية بالوضع الميداني.
في جميع الأحوال، سوف تشكّل مبادرة ماكرون مدخلا وفرصة لتصليب موقف فرنسا، من مسألة رحيل الأسد الذي تؤكد التطورات الميدانية في سورية أنه يستحيل التقدم من دون تجاوز هذه العقبة.
٧ سبتمبر ٢٠١٧
لم يكن اتفاق جرود عرسال بين زعيم المقاومة وسيدها حسن نصر الله ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية بزعامة خليفة المسلمين أبو بكر البغدادي، خارجا عن المألوف كما قد يعتقد بعضهم، إنه أمر طبيعي أن يتفاوض نصر الله مع أمير المؤمنين، أو من ينوبه، لتجنيب المدنيين الموت وسفك الأرواح بلا مبرر، وتهديم مدن كاملة على ساكنيها، إنه أمر طبيعي.
ليس ذلك سوى جزءٍ من ملهاة مبكية، كوميديا سوداء إن شئت الدقة، نعيشها اليوم، فالمختلفان أيدلوجيا وعقائديا، ممن يرى في قتل عدوه فرصةً لدخول الجنة، يتفاوضون، ويتفقون، ويتم نقل مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، الذين شكلت الولايات المتحدة حلفا من ستين دولة لقتالهم، وأنفقت بلايين الدولارات لقتلهم وطردهم، بواسطة باصات تابعة لنظام بشار الأسد، بعد اتفاق بين حزب الله، المقاول الأوحد المتكفل بمشاريع المقاومة، وهؤلاء المقاتلين.
لست هنا ضد الاتفاق ما دام يحقن دماء الأبرياء، ولست ضد أن يتم إجلاء عوائل مقاتلي التنظيم، ونقلهم إلى أماكن أخرى، فذلك، من وجهة نظر عقلانية، أفضل بكثير من أن يتم قتل عشرات الآلاف من المدنيين وسحقهم بجريرة 300 مقاتل، وتدمير مدن وحواضر كاملة، ولكني ضد أن يكون هذا الأمر مقبولا لا لشيء سوى لأن بطله نصر الله، بينما لا يمكن أن يقبل في العراق مثلا، وينقذ من خلاله نحو مليوني نفس بشرية كانت محصورة في الموصل، عقب استيلاء التنظيم عليها، وتدمير مدينة تاريخية وحاضرة مثل الموصل لن يجود الزمان بمثلها.
الجيد أن هذه الصفقة كشفت وجها قبيحا من وجوه حزب الله وإيران، وجوه ظلت تتاجر بالطائفية وفلسطين والإسلام، وجه قبيح جعل من المقاومة مقاولة محصورة على موظفي حسن نصرالله، صفقة جعلت عراقيين كثيرين يفيقون من سباتهم الطويل، وهم يشاهدون كيف أن زعيم المقاومة، ومعه راعيته إيران، ينقلون مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، بباصات مكيفة، إلى مناطق قرب حدود العراق، حفاظا على منطقة حدودية مع لبنان كانوا فيها، وأيضا خشية من قتال "داعش" وما قد يجرّه عليهم ذلك من تهديداتٍ لمدنهم الداخلية.
إنهم لا يستحون من فعل ذلك، لا يستحون من حماية أنفسهم ومدنهم، حتى لو كانت صفقتهم مع الشيطان نفسه، إنها البراغماتية الإيرانية التي لا تعرف للمبدأ طريقا وللدين سبيلا، إلا بقدر ما يحققانه لها من مصلحةٍ تصب في خدمة مشروعها التوسعي.
في المقابل، السؤال الذي شغل العراقيين طوال الأيام الماضية: لماذا إذن لم تتفاوضوا مع "داعش" للخروج من الموصل؟ لماذا لم تسمحوا لهم بالهروب من المدينة، عندما بدأ القتال؟ لماذا هذا الإصرار على قتل مدينة يتجاوز عمرها سبعة آلاف عام، وشعب يزيد عن مليوني نسمة؟ لماذا أحرقت المدينة على من فيها، ناسها وتاريخها من أجل قتل بضع مئات منهم؟ لماذا حلال على حزب الله وإيران وحرام علينا؟
فقد العراقيون في الموصل وحدها قرابة المائة ألف ضحية، ناهيك عن عشرات آلاف من المصابين، وتشريد أكثر من مليون شخص، ودمرت المدينة عن بكرة أبيها بما لم يسبق أن شهد له التاريخ مثيلا، وقتها لم يسمح لهروب عناصر "داعش"، ولم يفتح حتى طريق لهروب المدنيين وخروجهم من الموصل، لماذا؟
لماذا قال نائب الرئيس العراقي، نوري المالكي، إن تلعفر مثلا سلمها عناصر التنظيم تسليما، وتم السماح لهم بالانسحاب من المدينة، الأمر الذي حسم المعركة في عشرة أيام؟
إنها الطائفية، يريدون تلعفر سالمة، لأنهم يخططون لتكون محافظة مستقلة عن الموصل، تسهل سيطرة إيران عليها التي تريد أن تمد خطها البري من طهران إلى سواحل البحر المتوسط عبر العراق، لهذا حافظوا عليها، خصوصا وأن المدينة مطروحة لتكون محافظةً، حتى قبل أن يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014.
لا يريد نصر الله أن يخوض حربا مع عناصر "داعش"، خشية من سقوط مزيد من القتلى في صفوف مقاتلي حزبه، وخشية من أن ترتد هذه الحرب على مدنه في داخل لبنان، بينما يدفع مقاتليه إلى الداخل السوري لإسناد بشار ودعمه ومنعه من السقوط.
اليوم، على كل المخدوعين بحزب الله وإيران أن يعيدوا حساباتهم. على كل المخدوعين بالحشد الشعبي، وأنه يمثل لونا عسكريا عراقيا، أن يعيدوا النظر بحساباتهم، فكل هؤلاء لا يهمهم كم يسقط من قتلى أو كم مدينة يمكن أن تدمرها التهم الحربية، المهم أن ينفذوا ما تمليه عليهم إرادة الولي الفقيه، وما تطلبه منهم.
الاستنكار الكبير لهذا الاتفاق على مواقع التواصل الاجتماعي محمود، يفيد بأن الوعي الشعبي في العراق بات على درجةٍ مقبولة، غير أن ذلك لا يكفي، ولن يكون مقبولا ما لم يعاقب الشعب كل من تاجر بدمه خدمة لأهداف خارجية، لا علاقة لها بالعراق ومصالح شعبه.
٧ سبتمبر ٢٠١٧
منذ الخطاب الأول لبشار الأسد بعد انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار من العام 2011 إلى خطابه أخيراً في 20 أغسطس/ آب الماضي، عبّر في خطاباته بفجاجة عن انفصال كامل عن الواقع، وكأن الخطابات تتحدّث عن بلد آخر غير سورية. وقد شكل خطاب الانفصال عن الواقع ميزة إستراتيجية للنظام لم يحد عنها أن روايته عما يجري في سورية هي الوحيدة التي يتعامل معها. وهي تقوم، أساساً، على نفي ما يحصل، بالتالي، لا تجعل النظام خارج أي مطالب فحسب، بل تجعل كل مطالبةٍ له بالتنازل غير مشروعة أيضاً. لأن حتى المطالب المشروعة هي المدخل الذي دخلت منه المؤامرة على سورية، وتوسعت بهذا الشكل، ركب المتآمرون موجة المطالب العادلة.
لا تُناقش هذه العجالة مواقع الانفصال في الخطاب السياسي للرئيس السوري، فهذه أكثر من أن تحصى، وأكثر فجاجة من أن تتطلب البحث عنها. لكن ما يراد أن يُلقى الضوء عليه هنا، هو كيف حوّل النظام الانفصال عن الواقع إلى ميزة استراتيجية، بدل أن تكون عيباً سياسياً. لأني أعتقد أنها كانت حالة مصنوعة ومقصودة، وليست حالة جهل بالواقع نفسه. لقد أنتج النظام نفسه هذا الانفصال عن الواقع من أجل المزيد من التحكم في المجتمع السوري. .. كيف حصل ذلك؟
إنها بدعة الأسد الأب مؤسس النظام، لا بدعة الوريث، بدعة الفصل بين مركز القوة في البلد والمواقع السياسية، فصل المواقع والمناصب السياسية في الدولة عن مصادر القوة الحقيقية فيها، وإخراج مصادر القوة من السياسة، وتحويلها إلى أدوات شخصية للرجل الأول في النظام، أدوات غير سياسية تفرض نفسها بقوةٍ على السياسة، الأول والوحيد، فليس هناك رجل ثانٍ في دولة حافظ الأسد، وليس هناك رجال أصلاً، هناك رجل واحد والباقي إمّعات.
كانت الفكرة ببساطة فصل المؤسسات عن قادتها، هناك وزير يدير وزارة من الناحية الشكلية، لكنه، في الواقع، لا يستطيع أن يتحكّم حتى بالحاجب عنده، وليس بطاقم الوزارة. أي متغير وأي موظف جديد بحاجة إلى تدقيقاتٍ من خارج الوزارة، من الجهات الأمنية تحديداً، وعندما لا توافق، يُقضى الأمر، لا يجرؤ أحدٌ على توظيف هذا الشخص. وهذا كان يشمل كل الوزارات ومديرياتها، من وزارة الدفاع التي شغلها رجل واحد أكثر من أربعة وثلاثين عاماً حتى أتفه وزارة في سورية، وزارة التموين.
أهم ما تم فصله عن قيادته هو مؤسسة الجيش، ليس على مستوى القمة فحسب، بل وحتى على مستوى كل الوحدات القتالية، من قيادة الأركان، مروراً بالفرق والألوية والكتائب والسرايا (لذلك لم نرَ انشقاقات وحدات عسكرية خلال الثورة، إنما انشقاق ضباط أفراد فقط). كان هذا الفصل فعالاً بتحطيم الجيش وإخصائه، حتى لا يقوم مرة أخرى بانقلابٍ على الرجل الذي جاء إلى السلطة بانقلابٍ عبر الجيش نفسه، وحتى لا يهدّد سيده، عليه أن يبقى مربوطاً بيد هذا السيد فقط. لذلك تم تفكيك الجيش من خلال التحكّم بكل مراكز القوة فيه، من أصغر الوحدات إلى رئاسة الأركان من خلال المؤسّسة الأمنية. حيث كان الأسد الأب يدرك أن أجهزة المخابرات تحمي النظام، لكنها لا تستطيع أن تقوم بانقلاب عليه، بعد تفريغها من أي معنى سياسي، وبالتالي يمكن استخدامها أداة سياسية، أو أداة في مواجهة السياسة من دون أن يكون لها أي خطر على النظام، طالما هي أداته الرئيسية التي يعطيها الصلاحيات الواسعة، والتي لا مرجعية لها، سوى شخصه، لا يلاحقها قانون ولا تخضع له، ولا يحاسبها أي رجل غيره. بذلك باتت بنية النظام كما صمّمها الأسد الأب أقرب إلى مسرح الدمى، هناك مسرح كبير، هو الدولة ومؤسساتها ووزارتها وجيشها، ظاهر للعلن، تملأ الأخبار والصحف. لكن المتحكّم الفعلي بمسرح الدمى (الوزارات والمؤسسات العامة)، والذي لا يظهر على المسرح هو أجهزة المخابرات التي تتبع الأسد نفسه، والتي شخصنها وطيّفها وبات ولاؤها الوحيد له وحده، هذه الأجهزة هي التي أرعبت السوريين على مدار حكم العائلة الأسدية لسورية، الشبح الفعال.
هذه الماكينة التي اختارها الأسد الأب امتلكت آليتها الذاتية منذ منتصف الثمانينات، وبات التعامل مع الأسد بوصفه "إلهاً" منذ ذلك الوقت، كان الحدث الرئيسي الذي كرس هذا الإطلاق هو مذابح حماة في العام 1982، فلم يكن الناس الذي قضوا في تلك المذابح ضحية هذه المذابح فقط، بل كان ضحيتها رأس السياسة في سورية أيضاً. في هذه المذابح، قطع الأسد الأب رأس الطيف السياسي كاملاً في سورية، وتصحّرت الحياة السياسية بعد ذلك. وفي معركته لتحطيم السياسة في سورية، استخدم الأب الشعارات نفسها التي استخدمها الابن بعد ثلاثين عاماً، بالحديث عن المؤامرة والصراع مع إسرائيل، والغرب الذي يريد تحطيم صمود البلد، فلا مشكلة ولا خلاف ولا صراع بين السوريين أنفسهم.
خلت الساحة السورية من أي مخاطر حقيقية تهدّد النظام، وبات النظام الذي صمّمه الأسد الأب يعمل بآليته الذاتية. لذلك، كان يغيب فترات طويلة من دون أن تتأثر هذه الماكينة، حتى أن باتريك سيل يصف الأسد الأب، في تلك الفترة، أنه تحوّل إلى صوت على الهاتف بلا جسد، لا يستطيع الوصول إليه سوى ثلاثة أو أربعة مسؤولين في كل البلد.
بالوصول إلى عقد التسعينات من القرن الماضي، أمر الأسد الأب أن يكون خليفته ابنه الأكبر، فاشتغل مسرح الدمى ومديروه في تلميع "الولد المعجزة". وكان من المفارقة أنه عندما توفي "الولد المعجزة" في حادث سيارة، كان جميع المسؤولين السوريين يبكون بمبالغة في جنازته، ما عدا الأب كان يبتسم ويلوح للجماهير. وسرعان ما استبدل الولد بالثاني، وبعد أن كان الأول، "الولد المعجزة"، بات الثاني كذلك، طالما هو يُعدُّ لخلافة والده، ولم يكن يعني الأسد الأب الكلام الذي يقوله عن الصراع مع إسرائيل وعن مؤسسات الدولة، في وقتٍ يورث ابنه علناً، من دون أن ينبس أي أحد بكلمة واحدة عن الموضوع، أو يتطرّق له، هو يفعل ما يشاء بدون إعلان، ويعلن ما يشاء بصرف النظر عن علاقته بالواقع.
الماكينة التي امتلكت آليتها الذاتية، هي التي كلفها الأسد الأب بتنفيذ نقل السلطة للابن، إذا كان من الصحيح أن الأب توفي، إلا أن الماكينة بقيت خاضعة لأوامره، فجاء "الولد المعجزة" إلى الحكم. ولا مبالغة في القول إن الأسد الأب ما زال يحكم سورية، لأن الماكينة نفسها هي التي ما زالت تعمل، و"الولد المعجزة" لم يفعل سوى تشغيل آلة القتل التي صممها الأب، واستخدمها في حماة، أثبتت فعاليتها بالنسبة للنظام، فاستخدمها الابن على نطاق أوسع من الأب، ما أوحى أن الابن يتفوّق على أبيه، لكن في الحقيقة أن الابن كان أسير أبيه في كل ما يفعل.
٧ سبتمبر ٢٠١٧
تتزايد المعطيات الدالَّة على خروج الوضع الإقليمي عن الحدود التي تحرص عليها إسرائيل، يحدث هذا بسبب مآلات الصراع في سورية، من دون انقطاع عن جوارها في العراق، ولبنان، ولا يقتصر التغيير في توزيع النفوذ الدولي والإقليمي على توسُّع النفوذ الإيراني، وتمدُّده، بل يشمل ذلك بروز اللاعب الروسي دوليا، والتركي إقليميا، حيث تملأ موسكو الفراغ الذي تركته واشنطن، على أرضية تفاهمات وتنسيق بينهما.
فهنا، والآن، وعلى جوارها المباشر تحدث مُتغيِّرات، المُرجَّح أنْ تطول، بعد الضعف الكبير الذي لحق بنظام الأسد في دمشق؛ ما جعله غيرَ قادر على توفير ذلك الاستقرار الذي نعمتْ به إسرائيل، ما يزيد عن أربعين عاما، منذ اتفاقية فكّ الاشتباك عام 1974، هذا الضعف الذي يوفِّر فرصة حقيقية لروسيا لتقترب أكثر من المنطقة.
وممَّا يقلق إسرائيل الوجودُ الإيراني في جنوب سورية، وهي تصرِّح إن الوجود السوري هو الذي ينبغي أن يبقى، من دون أن يُنتقَص لصالح إيران، وحزب الله، وغيره من المليشيات، والمقاتلين الذين استقدمتْهم طهران إلى الحرب في سورية، وعليها.
يحاول المستوى السياسي في تل أبيب أن يحقِّق أقصى الطلب، وهو إبعاد نفوذ إيران عن سورية، وإرجاعه إلى سابق عهده، قبل ثورة السوريين؛ لأنها تخشى أن يعزِّز نفوذُ طهران في سورية من قدراتها على تمكين حزب الله في لبنان، فضلا عن أنه يوفر لها تحكُّما أصيلا، في دمشق وبيروت سيكون امتدادا ومعزِّزا لتحكُّمها في بغداد، وإن تعذَّر هذا الهدف، فهي ستعمل بجديَّة على إبعاد النفوذ الإيراني إلى أقصى ما يمكن عن الحدود الشمالية، ولا سيما أن ثمَّة موقعا لإيران ودورا، معترفا بهما، صراحة من موسكو، ومسكوتا عنهما من واشنطن. (وكانت هيئة الاستخبارات الوطنية الأميركية، في عام 2015 قد حذفت إيران وحزب الله من قائمة التهديدات الإرهابية التي تُهدِّد الولايات المتحدة، مشيرةً إلى دور إيران في محاربة "المُتطرِّفين السُّنة"، وإن بقيتا تهديدا إرهابيا في هيئات أميركية أخرى)
غير أن السكوت الأميركي عن شَغْل إيران موقعًا غيرَ هامشيٍّ، في خريطة المنطقة الجديدة، لا بدَّ أن تصحبَه، آلياتٌ لضبط هذا النفوذ الإيراني، كي لا يتَّسع أكثر مما يُسمَح به، ولا سيما أن في طهران قوى مهمَّة، كالحرس الثوري، ذات تطلُّعات توسُّعية مندفعة، وفي صُلْب دوافع هذا الضبط الأميركي، المخاوفُ الإسرائيلية، من تعاظم نفوذ طهران، ومن تعاظم قوَّة حزب الله الحليف الأخطر لها؛ تعاظما عسكريا، وتعاظما سياسيا، عسكريا بالتطوُّر النوعي في أسلحة الحزب، في امتلاك الصواريخ الأكثر دقَّة، وتهديدا، (حيث يمكنها أن تصل إلى أيِّ نقطة في الأراضي المحتلة، وأنْ تستهدف مرافق حساسة في إسرائيل)، بل في تصنيعه بعض تلك الأسلحة والصواريخ على أرض لبنان، وسياسيا بزيادة التنسيق بينه وبين النظام السوري من جهة، وبين الجيش اللبناني، ومِن ورائِه الدولةُ في لبنان، من جهة أخرى. وقد أضاف الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، في خطاب له أخيرا إلى معادلة "الشعب والجيش والمقاومة" (الجيشَ السوري !)؛ فلا بدَّ من "نقطة نظام" تستجيب إلى ترتيبات ما بعد الحرب في سورية، حيث العودةُ الضرورية، ولو في حدِّها الأدنى، إلى تهذيب الحُجُوم التي تزايدتْ للمليشيات الطائفية، لصالح الدول وجيوشها، ومنها حزب الله الذي لا يحظى دورُه وأولويَّاتُه بإجماعٍ في لبنان، كما لا يحظى بشرعيةٍ دولية، وهو المصنَّف إرهابيا.
ولذلك، مثلا، كان الحرص على أن تكون المعركة التي خِيضتْ ضدَّ "داعش" في جرود عرسال، وجوارها، معركة الجيش اللبناني، وحده، رسميًّا، وليس بالتعاون المعلن مع حزب الله، وهذا يصبّ في استبقاء حدود ضرورية، تريدها واشنطن بالدرجة الأولى؛ من أجل كبح الاندفاعة الإيرانية، متجسِّدة، لبنانيا، في حزب الله.
وهنا، وعلى هامش هذا المُحدِّد، لا تنسجم مبادرة إيران، أو حزب الله، إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل، في هذه المرحلة، مع الرغبة في تحصيل هذا الدور والنفوذ الموشك على التكريس، في كلٍّ من سورية ولبنان، وإن كان ذلك التوسُّع الإيراني الذي تخشاه إسرائيل، يستحضر، عند الأخيرة، ولو نظريًّا، خيارَ الحرب، لتفعيل صورة إيران وحزب الله، المُهدِّدة، ولتوظيف ذلك من أجل الدفع نحو مزيد من تحجيم النفوذ الإيراني، وعزله.
أما دلائل الضبط الأميركي لإيران، فمنها حديثُ المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي عن النشاط "غير الفعّال" لقوات "يونيفيل" في لبنان التي ينتهي التفويض الممنوح لها، الشهر الحالي، والتي أصبحت، هي والجيش اللبناني، المشرفة على تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 الذي ينصُّ على إخلاء المنطقة من الخطِّ الأزرق، وحتى نهر الليطاني، شمالا، من أيِّ أسلحة أو مُسلَّحين، عدا الجيش اللبناني و"يونيفيل". وقد يؤشر هذا الهجوم الأميركي على قوات "يونيفيل"، أو قائدها الجنرال الإيرلندي، مايكل بيري، واتهام قوَّاته بأنها لا تقدِّم عملًا فعّالًا ضدّ جماعات مُتشدِّدة، مثل حزب الله، قد يؤشِّر إلى مساعٍ لاحقة نحو تعزيز النفوذ الدولي والأميركي؛ بما يجعله قادرا على مضاهاة القوة التي اكتسبها حزب الله في لبنان، وفي ظلِّ إحكام السيطرة تقريبا، إيرانيا، على لبنان.
وكذلك يمكن أن يصبَّ استيقاظُ الحديث عن المشروع النووي الإيراني في تقييد الاندفاعة الإيرانية، بقدر ما يقترب من المطالب الإسرائيلية. مع استبعاد رجوع واشنطن عن الاتفاق النووي مع طهران. ويحاول رئيسُ الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الإيحاءَ بجدية خياره العسكري، ومن أجل إضفاء صدقية على التهديدات بتنفيذ هذا الخيار، أعلن ديوانه إنه ينوي تمرير تشريع في البرلمان يُعفيه من الحصول على موافقة الحكومة بكامل هيئتها، عند اتخاذ قرار بشنِّ حرب، وأنْ يكتفي فقط بموافقة المجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن.
مع أنَّ خيار الحرب، إسرائيليا، ليس سهلا، ولا في طاقة إسرائيل أنْ تنفرد في حرب شاملة في المنطقة، فإنها في هذه المرحلة الحسَّاسة، تبادر إلى فرض ترتيبات تُفضّلها، أمام خطط دولية، تحظى بتنسيق حثيث بين أميركا وروسيا، وتشترك فيها أطراف إقليمية، كإيران، وتركيا، وعربية كالأردن.
وكلّ هذه المعطيات، والمساعي الإسرائيلية الديبلوماسية والإعلامية الحثيثة، تهدف إلى إحداث مزيد من الضغط؛ لتحقيق ما يمكن تحقيقه من ضمانات، ومحاولة استبقاء أكبر قدر من (التوازن) الذي يحول دون تعظيم دور إيران ومليشياتها، في سورية وحزب الله في لبنان.
٧ سبتمبر ٢٠١٧
تتسابق التحضيرات العسكرية بين القوى المتصارعة في الساحة السورية لإطلاق معركة دير الزور، التي تعتبر -بالمقاييس العسكرية والجغرافية والاقتصادية وحتى الأيديولوجية- أم المعارك بعد معركة حلب. وأهمية معركة دير الزور لا تكمن في كونها المعركة الأخيرة الرئيسية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا فحسب، بل بسبب خصوصية المحافظة والتعقيدات المرافقة للعملية العسكرية فيها.
ولذلك فإن الإشكالية التي تواجه المعركة تكمن في القوى التي ستطلق المعركة، وفي الحدود الجغرافية المتاحة لكل طرف، فالمحور الأميركي الُممثل بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) و"مغاوير الثورة" أضعفُ من أن يُطلِق معركة دير الزور، في حين يبدو المحور الروسي الممثل بالجيش السوري والقوات التابعة لإيران قويا وقادرا على إطلاق هذه المعركة.
خصوصية المحافظة
محافظة دير الزور هي ثانية كبريات المحافظات من حيث المساحة، إذ تبلغ نحو 33 ألف كيلومتر مربع، وتلاصق محافظة الحسكة من الشمال ومحافظة الرقة من الشمال الغربي ومحافظة حمص من الجنوب الغربي، مما يجعلها منفتحة على وسط سوريا (البادية والقلمون الشرقي)، وعلى الشمال الشرقي والشمال الأوسط.
ولا تقتصر الأهمية الجغرافية لدير الزور على الداخل السوري، فهي ملاصقة لمحافظتين عراقيتين (نينوى والأنبار)، الأمر الذي يضفي عليها أهمية كبرى، إذ أنها المعبر الجغرافي الأهم بين سوريا والعراق، بسبب توافر البنى التحتية والكثافة السكانية والقرب الجغرافي للعاصمتين.
وذلك على خلاف الحسكة التي تعتبر بعيدة جغرافياً، وريف حمص الشرقي المتاخم للعراق النائي والمقفر من الحياة. وعليه فقد شكلت محافظة دير الزور امتدادا طبيعيا للأنبار، بقدر ما كانت محافظة الأنبار امتدادا طبيعيا وديمغرافياً لدير الزور.
تضاف إلى ذلك الثروات الطبيعية في المحافظة من الزراعة (القمح والقطن والسمسم وصخور وعروق يستخرج منها الملح الصخري عبر منجم التبني)، إلى الثروة النفطية (حقول العمر والتنك والجفرة والورد والتيم)، فضلا عن محطات النفط ("تي تو" T2 والخراطة) ومعامل الغاز.
أمام هذه المعطيات؛ تتجه أعين المتحاربين إلى دير الزور:
ـ بالنسبة للمحور الروسي، تعني استعادة السيطرة على المحافظة إعادة تأهيل النظام السوري اقتصاديا على المستوى النفطي والزراعي والحيواني، في وقت هو بأمس الحاجة إلى الدعم المالي. كما أن المحافظة ستشكل بالنسبة للنظام خزانا بشريا كبيرا لإمداد الجيش، مستفيدا من الوضع السيكولوجي للسكان بسبب الحياة المأساوية التي عاشوها تحت حكم تنظيم الدولة الإسلامية.
ومن الناحية العسكرية، تعني السيطرة على المحافظة تشكيل سد جغرافي يمتد إلى حماة غربا مرورا بريف حمص الشمالي الشرقي وريف الرقة الجنوبي، ومن شأن هذا الشريط الجغرافي أن يكون بمثابة الحاجز أمام "وحدات الحماية الكردية" لمنعها من التوجه نحو الجنوب إن قررت فعل ذلك، ولحصارها في الشمال.
وأخيرا ستمنح المحافظة للنظام إعادة فتح الممرات الاقتصادية والعسكرية مع العراق وإيران، ولن يكون بحاجة -لإتمام ذلك- إلى موافقة "قوات سوريا الديمقراطية" كما هو الحال في الحسكة.
عند هذه النقطة يلتقي النظام مع إيران إستراتيجياً، ذلك أن استعادة الطريق الدولي الرابط بين بغداد ودمشق، يعني عمليا نشوء ممر جغرافي مستدام ينطلق من طهران إلى لبنان، ومن شأن هذا التطور أن يمنح طهران سيطرة على شرق سوريا وغرب العراق.
ـ أما بالنسبة للمحور الأميركي، فلا توجد لديه أهداف إستراتيجية طويلة الأمد في المحافظة، وكل ما يصبو إليه هو أن يعزز وجوده في منطقة جغرافية حدودية مع العراق، وإن كان الأمر مقتصرا على نقاط جغرافية ضيقة ومحدودة، إضافة إلى الحصول على حصة من الثروة النفطية.
وعند هذه النقطة تتقاطع المصالح الأميركية مع فصائل المعارضة السورية التواقة إلى وضع يدها على حقول نفطية.
ارتباك المحور الأميركي
يعاني المحور الأميركي من تعقيدات وثغرات عديدة، فقوات "قسد" مثلا ليست لديها أهداف إستراتيجية في محافظة دير الزور، وهي إن شاركت في العملية العسكرية فإنها تقوم بذلك بطلب أميركي.
ورغم قوتها الكبيرة ونجاعتها في المعارك ضد التنظيم، فإنها تعاني من مشكلة السيطرة على مساحات واسعة تضاف إلى مناطق سيطرتها، فهي لا تمتلك العدد البشري الكافي لذلك.
وعليه يبدو أن دورها العسكري سيكون لوجستياً، أو على الأقل العودة إلى مناطق سيطرتها بُعيد الانتهاء من معركة دير الزور، كما أنها مثقلة بمعركة الرقةوالترتيبات العسكرية/المدنية التالية للمعركة.
أما القوى العسكرية العربية (مجلس دير الزور العسكري وقوات النخبة وجيش المغاوير) فهي أضعف من أن تطلق هذه المعركة بمفردها، أو أن تحقق انتصارات عسكرية.
و"مجلس دير الزور العسكري" لا يمتلك سوى مئات من المقاتلين، ومعظمهم لم يخبر تجارب عسكرية كافية، في حين يعاني "مغاوير الثورة" من تشتت في عناصره المنتشرين في الحسكة شمال محافظة دير الزور، وفي شرقي محافظة حمص جنوب محافظة دير الزور.
والأمر ذاته ينطبق على "قوات النخبة" بعد انضمام جزء من عناصرها إلى "قسد" على خلفية استبعادها من المشاركة في معركة دير الزور، خوفا من حدوث صراع عشائري سني/سني ينعكس سلبا على سير المعارك، ذلك أن معظم عناصر "قوات النخبة" التي تنتمي إلى عشيرة الشعيطات، لديها ثأر مع عشيرتيْ البوكامل والبكير اللتين تحالفتا مع التنظيم الذي قام بقتل عدد كبير من أبناء الشعيطات.
كل هذه المعطيات تجعل أميركا متشككة في نجاح العملية العسكرية بالمحافظة، وهذا ما يفسر إلى الآن تأخير انطلاق المعركة، لكن الوقت يسير على عكس صالح واشنطن، إذ أن أي تأخير سيمنح المحور الروسي القدرة على تحقيق انتصارات، خصوصا مع اقتراب قوات النظام من الحدود الإدارية للمحافظة.
وأغلب الظن أن الولايات المتحدة تربط معركة دير الزور بالمعارك غرب العراق في نينوى والأنبار، فانتشار القوات الحليفة لها في مدينة الشدادي جنوبي الحسكة يوحي بأن الهدف الأميركي هو شمالي محافظة دير الزور وجزء من شريطها الحدودي مع العراق، لكن من دون فتح معركة الحويجة ومحيطها في العراق ستتعرض القوات الحليفة لواشنطن لهجوم عنيف من التنظيم.
وبناء على ذلك؛ يمكن الوقوف عند ثلاث مسائل: الأولى أن الإدارة الأميركية ليست بصدد السيطرة على كامل المحافظة، فهذا الأمر خارج المخططات الأميركية، والثانية هي أن واشنطن تسعى إلى الابتعاد عن قوات النظام بحيث لا تكون محصورة من قبلها، وهذا يعني أن الاهتمام الأميركي منصب على الريف الشرقي للمحافظة.
والثالثة تتمثل في القوى الحليفة لأميركا التي ستناط بها مهمة الانتشار في المحافظة، وأغلب الظن أنها ستكون القوات العربية سواء تلك المنفصلة عن "قسد" أو تلك المنضوية في إمرتها، خوفا من استياء المكون العشائري العربي في المحافظة من دخول الأكراد إليها.
ثبات المحور الروسي
من الواضح أن المحور الروسي أكثر قوة وتماسكا من المحور الأميركي، حيث يجري التحضير لمعركة دير الزور بهدوء وروية، ووفق أهداف عسكرية محددة مسبقا وتقاسم دقيق للمهام. هكذا يقوم الطيران الروسي بضربات جوية مكثفة ضد تنظيم الدولة في الريف الجنوبي الشرقي لمحافظة الرقة، وفي ريف حماة الشرقي، وريف حمص الشرقي، لتعبيد الطريق أمام النظام للمضي قدما نحو دير الزور.
وفي حين يعمل الإيرانيون بهدوء على تشكيل صحوات عربية في الحسكة تكون يدا للنظام للمشاركة في المعركة إن اقتضت الظروف ذلك؛ تنتشر "حركة النجباء" العراقية على بعد 60 كيلومترا جنوب البوكمال استعدادا للتحرك باتجاهها.
هذا الواقع سمح لقوات النظام بالتقدم في الريف الغربي لدير الزور من محور الرقة ومحور السخنة في ريف حمص الشرقي، لينتهي الأمر بوصول قوات النظام إلى مشارف مدينة دير الزور.
وقد تمت العملية عبر محورين رئيسيين:
ـ الريف الجنوبي الشرقي للرقة، حيث عمل النظام على دفع تنظيم الدولة لمغادرة المحافظة باتجاه دير الزور، كمقدمة لجعل الجغرافية الجنوبية لنهر الفرات في دير الزور هدفا عسكريا. الأمر الذي مكنه من الوصول إلى مقر الفوج 137 غربي المدينة.
ـ ريف حمص الشرقي، انطلاقا من بلدة السخنة باتجاه مدينة دير الزور، حيث استطاعت قوات النظام التموضع على بعد نحو 12 كيلومتراً من المطار العسكري جنوب غرب المدينة.
وبناء على هذه الصورة؛ تبدو الغلبة في المحافظة للمحور الروسي، لكن الأميركيين الذين يسعون إلى تعبيد طريق عسكري بري يمتد من الشمال الشرقي (الحسكة) إلى الجنوب الشرقي (السويداء)، مضطرون إلى السيطرة على الشريط الجغرافي في المحافظة على طول الحدود العراقية، لمنع حدوث أسفين جغرافي بين مناطق وجودهم في الشمال ونظيرتها في الجنوب.
والمشكلة التي تواجه هذا الهدف هي انتشار بعض القوى المحسوبة على إيران -وفي مقدمتهم "النجباء"- في المنطقة الواقعة بين قاعدة الزكف في ريف حمص الشرقي، والحدود الإدارية لمحافظة دير الزور من جهتها الجنوبية الشرقية.
وليس معروفا إلى الآن كيف ستكون التسوية الجغرافية بين روسيا والولايات المتحدة، لكن يبدو من سير الأمور أن محافظة دير الزور لن تكون خالصة لأي طرف كما هو الأمر في الحسكة، ولن تكون ثمة غلبة لطرف على طرف كما هو الحال في الرقة وحلب؛ على الأقل الآن في ضوء المعطيات المتوافرة.