
العنف المدرسي في سوريا.. حادثة داريا تفتح جرحاً قديماً
دمشق - شبكة شام الإخبارية
عاد الجدل حول العنف في المدارس السورية إلى الواجهة بعد انتشار مقطع مصوّر يظهر مديرة إحدى مدارس داريا وهي تعنف طلابها بعصا خشبية أمام زملائهم، في مشهد أثار موجة غضب واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، وجدّد النقاش حول حدود التأديب في المؤسسات التعليمية ومسؤولية الدولة في حماية الأطفال من الإيذاء الجسدي والنفسي.
العنف التربوي.. إرثٌ لم يغادر المدارس
يُعدّ استخدام المعلمين أسلوب العنف من أكثر الممارسات التربوية قسوة وتأثيراً، إذ يخلّف آثاراً نفسية وجسدية عميقة على الطلاب، ويقوّض شعورهم بالأمان والانتماء إلى المدرسة، كما يؤثر سلباً على تحصيلهم الدراسي واستقرارهم النفسي.
وعلى الرغم من صدور تعليمات وزارية وقوانين واضحة تمنع الضرب والعقاب الجسدي، فإن هذه الظاهرة لا تزال تتكرّر بأشكال مختلفة، ما يشير إلى ضعف الرقابة داخل المؤسسات التعليمية، وإلى إرثٍ اجتماعي قديم لم ينجح كثير من المعلمين في التخلّص منه، رغم التحوّلات التربوية التي شهدتها البلاد.
حادثة داريا.. صدمة أعادت الملف إلى الواجهة
أعادت حادثة داريا النقاش إلى دائرة الضوء بعد أن أظهر المقطع المتداول مديرة مدرسة وهي تضرب عدداً من الطلاب، ما أثار موجة استنكار واسعة. وسارع ناشطون وأولياء أمور للمطالبة بمحاسبة المسؤولة عن الحادثة ووقف أي شكل من أشكال العنف في المؤسسات التعليمية.
وأكدت وزارة التربية لاحقاً اتخاذ إجراءات فورية شملت توقيف المديرة عن العمل وتشكيل لجنة خاصة للتحقيق ومتابعة القضية، مشيرة إلى أن أي تجاوز لتعليمات الوزارة في هذا الشأن يُعد مخالفة يعاقب عليها القانون.
ويرى مراقبون أن سرعة الاستجابة الرسمية تعكس تغيّراً تدريجياً في الوعي المؤسسي بأهمية حماية الطلاب، لكنها تظل غير كافية ما لم تُترجم إلى آليات رقابة ومساءلة دائمة داخل المدارس.
أسباب العنف المدرسي.. موروث ثقافي وغياب رقابة
يُرجع خبراء تربويون استمرار هذه الممارسات إلى تكرار النماذج القديمة في التعليم، حيث اعتاد بعض المعلمين على استخدام الضرب وسيلة للانضباط دون تطوير أدوات بديلة أكثر فاعلية، كما يساهم ضعف الرقابة داخل المدارس وصمت بعض الأهالي في استمرار الظاهرة، إذ ينظر بعض أولياء الأمور إلى العقاب الجسدي كأمر طبيعي “لتقويم السلوك”، في حين تعتبره فئة أخرى انتهاكاً صارخاً لحقوق الطفل يستوجب المحاسبة.
ويشير باحثون اجتماعيون إلى أن غياب التدريب النفسي والتربوي للمعلمين في بيئة ما بعد الحرب جعل المدرسة مرآةً لتوتر المجتمع وضغوطه، حيث يُترجم الإحباط والاحتقان الاجتماعي إلى سلوكيات عنيفة داخل الصفوف.
آثار نفسية وجسدية عميقة
يحذر الأخصائيون النفسيون من أن الضرب في المدارس لا يخلّف آثاراً جسدية فحسب، بل يزرع في نفس الطالب شعوراً بالخوف والقلق من المعلم، ويفقده الثقة بنفسه وبالمؤسسة التعليمية، ويؤكد خبراء علم النفس أن التعنيف المبرّح يسبب اضطرابات سلوكية وشعوراً دائماً بالتوتر والاغتراب، ما ينعكس سلباً على الأداء الدراسي وعلى علاقات الطالب بزملائه وأسرته.
كما يلفتون إلى أن الأطفال الذين يتعرضون للعنف في المدارس غالباً ما يعيدون إنتاجه في المستقبل، سواء في سلوكهم الاجتماعي أو في تعاملهم مع أقرانهم، ما يعني أن الظاهرة تتجاوز حدود المدرسة لتتحول إلى مشكلة مجتمعية.
التأديب الإيجابي.. نحو ثقافة تربوية بديلة
وفي مقابل أسلوب العنف، يطرح تربويون ومعلّمون مفهوم "التأديب الإيجابي" بديلاً قائماً على بناء الاحترام المتبادل وتحفيز السلوك الإيجابي عبر الحوار والتشجيع لا عبر العقاب. ويؤكد هؤلاء أن ضبط السلوك لا يتحقق بالخوف، بل بالتربية الواعية التي تُشرك الطالب في فهم خطئه وتصحيحه.
ويرى بعض المربين أن غياب الردع القانوني الحازم جعل تطبيق القوانين المانعة للضرب أمراً شكلياً، مطالبين بضرورة وضع لوائح تنفيذية صارمة ترافقها برامج توعية للأهالي والمعلمين على حد سواء، لضمان بيئة مدرسية آمنة خالية من الإيذاء.
ضرورة تشريعية ورقابية
تُبرز حادثة داريا الحاجة الملحّة إلى تحديث التشريعات التربوية وتفعيل الرقابة الميدانية في المدارس، مع إدراج برامج إلزامية للتدريب النفسي والسلوكي للمعلمين، فالقوانين وحدها لا تكفي دون تغيير في الثقافة التربوية العامة التي لا تزال، في بعض البيئات، تبرر العنف بوصفه "أداة ضبط".
تؤكد هذه الحادثة أن المدرسة ليست مكاناً للعقاب بل لبناء الإنسان، وأن استمرار العنف داخلها يعمّق الجراح النفسية لأجيالٍ نشأت في ظل الحرب وفقدت الإحساس بالأمان، ومع كل فيديو جديد يوثّق عنفاً في قاعة الدرس، تتجدد الأسئلة حول الدور الأخلاقي والتربوي للمؤسسات التعليمية، وحول مدى استعداد المجتمع السوري لطيّ صفحة العنف وبناء تربيةٍ تقوم على الحوار والاحترام، لا على الخوف والإذلال.