في وداع ضحايا الكنيسة.. تصعيد من البطريرك ضد السلطة ومواقف سياسية ترفض الانفعال
في وداع ضحايا الكنيسة.. تصعيد من البطريرك ضد السلطة ومواقف سياسية ترفض الانفعال
● أخبار سورية ٢٥ يونيو ٢٠٢٥

في وداع ضحايا الكنيسة.. تصعيد من البطريرك ضد السلطة ومواقف سياسية ترفض الانفعال

حمّل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، يوحنا العاشر يازجي، الحكومة السورية في دمشق المسؤولية الكاملة عن التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة، وذلك خلال مراسم تشييع ضحايا الهجوم، والتي أقيمت في كنيسة الصليب المقدس بحضور شعبي ورسمي واسع.

وقال البطريرك يازجي، في كلمة وسط الجنازة التي شارك فيها المئات: "نحن نشكر اتصال سيادة الرئيس الهاتفي البارحة، لكن هذا لا يكفينا"، مضيفاً أن الجريمة التي وقعت أكبر من التعزية، وأن المسيحيين في سوريا يستحقون حماية فعلية، وشدد على أن "الحكومة تتحمل كامل المسؤولية" عن الحادث، داعياً إلى إعطاء الأولوية لأمن المواطنين على اختلاف طوائفهم ومناطقهم.

وقد شارك في مراسم التشييع عدد من الشخصيات السياسية والدينية، من بينهم وزيرة الشؤون الاجتماعية هند قبوات، حيث نُقلت الجثامين في توابيت بيضاء مزينة بالورود، في مشهد مهيب خيّم عليه الحزن والغضب.

في المقابل، أثارت كلمة البطريرك جدلاً في الأوساط العامة والإعلامية، حيث انتقد الناشط السياسي توما الحكيم بشدة خطاب يازجي، واعتبره خروجاً عن المألوف في التقليد الكنسي السوري، وذلك خلال مداخلة له في برنامج "سوريا اليوم" على شاشة تلفزيون سوريا.

وقال الحكيم إن الخطاب اتسم بطابع "شعبوي وتعبوي"، معتبراً أنه لا يعبّر عن التقاليد التي اعتادت عليها الكنيسة في سوريا من حيث اللغة والمضمون، وأضاف: "رجل الدين لا ينبغي أن يتحدث بهذه النبرة الغاضبة أو يوجه اللوم المباشر لرئيس الجمهورية أو للحكومة، لأن موقعه الروحي يتطلب الحكمة والتجميع لا التحريض والانقسام".

ورأى الحكيم أن المؤسسات الدينية في سوريا ما تزال تحمل البنية الخطابية التي صاغها نظام الأسد البائد، مما يجعل من الصعب الاعتماد على مواقفها السياسية كمؤشرات لنبض الشارع، وأكد أن الأهم في هذه المرحلة هو روح التضامن الإنساني بين السوريين من كل الطوائف، كما حصل عقب التفجير عندما سارع كثيرون إلى التبرع بالدم دون النظر إلى الخلفيات الدينية للضحايا.

واختتم بالقول إن الكنائس الحقيقية في سوريا اليوم هي "قلوب المؤمنين من جميع السوريين"، مشدداً على أن سوريا بأكملها، بكل طوائفها ومكوناتها، هي الكنيسة الأقدس التي يجب أن تُصان من كل أشكال الإرهاب والتفرقة.


وفي أعقاب الهجوم الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق، تصدّر علماء الدين في سوريا المشهد الوطني بخطابٍ واضحٍ وقويّ يعكس تحوّلاً جذريًا في الدور الديني بعد سقوط نظام الأسد البائد، حيث بات صوت العلماء ركيزة أساسية في ترسيخ قيم الوحدة ونبذ الفرقة الطائفية، ورفض استغلال الدين كأداة للفتنة أو التجييش.

وفي موقف لافت، أدان الدكتور محمد راتب النابلسي، عضو مجلس الإفتاء، الجريمة الإرهابية، مؤكدًا أن استهداف دور العبادة في لحظة وطنية حرجة تحاول فيها سوريا النهوض من رماد الاستبداد، ما هو إلا محاولة لإجهاض حلم السوريين باستعادة وطنهم. 

واعتبر النابلسي أن سوريا الجديدة بدأت تتلمّس ملامحها، وأن القوى الظلامية – سواء من فلول النظام السابق أو الجماعات المتشددة – تحاول إعادة البلاد إلى مربع الكراهية والتناحر، من خلال ضرب الرموز الدينية المشتركة.

وتميّز بيان النابلسي بتأكيده على الطابع الوطني الجامع للضحايا، رافضًا اختزال الجريمة في بعدها الديني، ومشدداً على أن ما حدث ليس استهدافًا لمكوّن بعينه، بل هو اعتداء على سوريا كلها، وعلى نسيجها التاريخي القائم على التعايش والاحترام، ودعا إلى مواجهة الفكر المتطرّف بكل أشكاله، وإلى سنّ تشريعات تعزّز العدالة الانتقالية، وتحاصر المساحات التي يمكن أن تتسلّل منها دعوات الغلو والكراهية.

وفي الاتجاه ذاته، عبّر الشيخ أسامة الرفاعي، المفتي العام للجمهورية، عن موقف وطني جامع، أدان فيه الهجوم وأكّد أن العنف والإرهاب لا يمثّلان أي دين، وأن استهداف دور العبادة هو جريمة بحق الإنسان السوري بكل طوائفه، موجهًا التعازي إلى كل السوريين دون تمييز.

كما أدان رئيس المكتب الاستشاري للشؤون الدينية في رئاسة الجمهورية، عبد الرحيم عطون، التفجير الإرهابي، مؤكداً أن ما جرى يُعد جريمة محرّمة في الشرع ومجرّمة قانوناً، ومرفوضة من حيث القيم والأعراف الوطنية.

وقال عطون، إن "ما جرى يمثل جملة من الجرائم المتداخلة التي ترفضها الشريعة الإسلامية، ويعاقب عليها القانون، وتتعارض مع أعراف وتقاليد المجتمع السوري، وهي شكل صارخ من أشكال الإفساد في الأرض، ما يستوجب إنزال أقصى العقوبات بحق مرتكبيها وردع كل من تسوّل له نفسه تكرار هذا الفعل الجبان".

وفي موازاة الموقف الإسلامي، جاءت كلمات القادة الروحيين المسيحيين لترسّخ ذات المعنى، فقد أدان بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، يوسف العبسي، التفجير ووصفه بأنه "جريمة بحق الوطن بأكمله"، داعيًا إلى التمسك بوحدة السوريين وإفشال محاولات التفرقة.

كما شدد المطران نقولا أنطونيو، متروبوليت حلب والإسكندرونة للروم الأرثوذكس، على أن سوريا لا يمكن أن تعود إلى زمن الخوف والتشظي، وأن الكنيسة ترفض الردّ على الكراهية بالكراهية، بل بالدعوة إلى المحبة والسلام والمواطنة المتساوية.

وأشارت بطريركية السريان الأرثوذكس في بيانها إلى أن استهداف الأبرياء في دور العبادة هو استهداف لمفهوم سوريا العريقة، التي كانت دومًا موئلًا للتعايش بين المسلمين والمسيحيين، وبين كافة المكوّنات.

بالإضافة إلى المواقف الإسلامية والمسيحية التي صدرت عقب الهجوم الإرهابي على كنيسة مار إلياس، شكّلت مواقف رجالات الدين الدروز في سوريا ركيزة أساسية في تأكيد وحدة الدم السوري، ورفض أي محاولة للعب على الوتر الطائفي، كما عبّرت عن وعي عميق بأهمية حماية السلم الأهلي في لحظة انتقالية مفصلية تعيشها البلاد بعد سقوط نظام الأسد البائد.

من جهتها، أصدرت الرئاسة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز بيانًا رسميًا دانت فيه الجريمة "بأشد العبارات"، مؤكدة أن استهداف دور العبادة، أياً كان انتماؤها، هو عمل إرهابي جبان لا يُمثّل أي مكوّن وطني، بل يمثل عدوًا مشتركًا للسوريين جميعاً.

تلاقت هذه المواقف، رغم تنوّع مرجعياتها، على تأكيد أن الجريمة لم تكن موجهة ضد المسيحيين كمكوّن ديني، بل ضد سوريا الجديدة، وضد مشروعها الوطني الجامع الذي بدأ يتشكّل بعد سقوط منظومة الاستبداد.

وشكّل صوت القيادات الدينية في سوريا مظلة حقيقية للوحدة، وردًا بليغًا على محاولات إعادة إحياء مناخات الطائفية، التي استخدمها نظام الأسد البائد لتقسيم الشعب وإضعاف الدولة، وبدلًا من الوقوع في فخ ردود الأفعال الغاضبة، جاءت بيانات الإدانة مليئة بالوعي، مؤكدة أن سوريا التي تتطلع للعدالة لا يمكن أن تتغذى على الكراهية.

ما يميّز هذا الخطاب الديني الجديد هو خروجه من أسر الاصطفاف الذي ساد في زمن نظام الأسد البائد، حيث تم توظيف المؤسسة الدينية طويلاً في تكريس الانقسام، وتغذية خطاب الحماية الطائفية، والتمييز بين المواطنين على أساس الانتماء المذهبي أو الديني.

الكاتب: فريق العمل
مشاركة: 
الكلمات الدليلية:

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ