
من ركام الحرب إلى أساس التعافي: الاستفادة من أنقاض المباني المدمّرة في إعادة إعمار سوريا
بعد أكثر من عقد من الحرب المدمّرة، تحوّلت مدن سورية كبرى إلى ساحات مفتوحة للأنقاض والركام، حيث تشير تقديرات البنك الدولي والاتحاد الأوروبي إلى أن حجم الدمار بلغ مستويات غير مسبوقة، لا سيما في مدينة حلب التي تعرّضت لأضرار طالت أكثر من 60% من بنيتها التحتية، بينما دُمّر نحو 50% من ريفها، وتكررت المشاهد ذاتها في حمص، ريف دمشق، ومعرّة النعمان، حيث تُغطي الأنقاض مئات الآلاف من الأمتار المكعبة، ما يجعلها عبئًا عمرانيًا واقتصاديًا وأمنيًا يعوق عودة السكان ويعرقل عمليات إعادة الإعمار.
في مواجهة هذا الواقع، برزت مبادرات محلية بدعم دولي تستهدف ترحيل الأنقاض وإعادة تدويرها لتكون رافعة للتعافي وإعادة البناء، ففي حلب، أطلق الدفاع المدني السوري مشروعًا بتمويل من "صندوق مساعدات سوريا" لترحيل أكثر من 75 ألف متر مكعب من الأنقاض في 16 حيًا، مع الالتزام الكامل بالمعايير الفنية والحقوقية، وتمت إعادة توجيه المواد القابلة للتدوير إلى معمل الراموسة لتحويلها إلى بلاط وبلوكات بناء، في حين نُقل الركام غير الصالح إلى مقالب مرخّصة.
وفي معرّة النعمان، استخدمت "الخوذ البيضاء" نحو 18 ألف متر مكعب من الأنقاض في تعبيد طرق محلية وإزالة العوائق أمام حركة السكان، أما في حمص القديمة، فقد نفّذ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) و"موئل الأمم المتحدة" (UN-Habitat) مشروعًا لإنتاج طوب خرساني ومواد تعبيد من ركام المنازل، بينما شهد ريف دمشق، وخصوصًا منطقة عين ترما، مشروعًا مماثلًا بدعم من برنامج "مدد" الأوروبي، جرى خلاله تصنيع طوب مجوف باستخدام المواد الناتجة عن التدوير.
هذه المشاريع انطلقت عبر مراحل دقيقة تبدأ من المسح الهندسي للأحياء المتضررة وتوثيق ملكيات الأبنية، ثم فرز الأنقاض باستخدام معدات متخصصة لفصل المواد الصالحة، وصولًا إلى إعادة تدوير الركام وتحويله إلى مواد قابلة للاستخدام في الطرق والمرافق العامة والمنشآت منخفضة الكلفة.
وقد بيّنت هذه التجارب أن الاستفادة من الأنقاض تسهم في خفض تكلفة مواد البناء بنسبة تصل إلى 40%، كما تحدّ من الاعتماد على المقالع الطبيعية، وتسرّع من وتيرة عودة المهجّرين، إلى جانب دعم جهود تأهيل البنية التحتية في الأحياء المحررة.
ورغم النجاحات المحققة، تواجه عملية تدوير الأنقاض تحديات كبيرة، أبرزها وجود مخلفات حربية غير منفجرة، وغياب إطار قانوني واضح ينظّم هذه العمليات، إضافة إلى تعقيدات تتعلق بنزاعات الملكية، ونقص في التمويل والمعدات الثقيلة الضرورية للعمل في نطاق واسع.
ومن هنا، تُطرح خارطة طريق عملية تتضمن على المدى القصير إعداد دليل وطني لإدارة الأنقاض، وعلى المدى المتوسط تضمين الركام المعاد تدويره ضمن كود البناء السوري، أما على المدى الطويل فتتمثل الخطوة الاستراتيجية في إنشاء مراكز إقليمية متخصصة بالفرز والتدوير، عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص وجهات دولية مانحة.
وبات تحويل أنقاض الحرب إلى مورد حيوي لإعادة الإعمار ضرورة وطنية في مسار تعافي سوريا. التجارب الميدانية أثبتت أن الركام ليس مجرّد بقايا دمار، بل طاقة كامنة لبناء مستقبل أكثر استدامة، وأن التحوّل نحو إدارة وطنية متكاملة للأنقاض سيشكّل خطوة مفصلية نحو تجاوز آثار الحرب والانطلاق نحو مرحلة جديدة من البناء والأمل.