
باحث سوري: السلم الأهلي لا يُبنى بالتجاوز عن حقوق الضحايا ولا بتمجيد رموز النظام السابق
قال الكاتب والباحث السوري "أحمد أبازيد"، إن عقد مؤتمر للسلم الأهلي في دمشق يُعد خطوة إيجابية من حيث المبدأ، وإن جاءت متأخرة، نظراً لكونه مطلباً ملحاً في ظل الظروف الراهنة، وشدد على أن مؤسسات الدولة مطالَبة بإعلان سياساتها وما تقوم به من إجراءات أمام الرأي العام، والخضوع للمساءلة الإعلامية على أقل تقدير، في ظل غياب آليات المساءلة الشعبية داخل الدولة نفسها.
ورأى أبازيد أن ما طرحه الأستاذ حسن صوفان عضو لجنة السلم الأهلي، ينطلق من مبدأ صحيح يتمثل في استحالة محاسبة كل من قاتل أو تعاون مع النظام السابق، إلا أن تطبيق هذا المبدأ تم بطريقة تُفرغ العدالة من مضمونها، إذ حُصرت المحاسبة فقط في كبار الضباط المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة، وهؤلاء إما غادروا البلاد، أو حصلوا على "أمان" من القيادة، ما يجعلهم فعلياً خارج نطاق المساءلة.
ولفت أبازيد إلى أن التسليم باستحالة محاسبة الجميع لا يعني بأي حال من الأحوال أن من حق الدولة إسقاط حقوق الضحايا أو التنازل عنها، فذلك ليس من صلاحياتها أصلاً، لا سيما حين يتعلق الأمر بمنفذي الجرائم المباشرين. وأضاف أن هذا النوع من التنازل لا يحقق السلم الأهلي، بل يقوّضه، إذ يغذّي الشعور بانعدام العدالة ويعزز فقدان الثقة بشرعية السلطة، ويفتح الباب أمام نزعات الانتقام الفردي.
وأوضح أن الحديث عن العدالة الانتقالية ودرجاتها وآليات تطبيقها لا ينبغي أن يتم من خلال مؤتمر صحفي يُعقد على عجل لامتصاص غضب منصات التواصل الاجتماعي، بل يجب أن يكون عبر هيئات وطنية ذات تمثيل شعبي واسع، تتوافق على أولويات العدالة وأساليب تحقيقها، وتضمن على أقل تقدير عزل وتهميش من لا تشملهم العقوبات القضائية، لا أن يُعاد تدويرهم في مواقع القرار، أو يُحتفى بهم كـ"قادة فاتحين"، بينما يُطالب الضحايا بالتسامح والانتماء والطاعة.
وانتقد أبازيد الخطاب الذي طغى على مداخلات الأستاذ صوفان وآخرين تحدثوا باسم الدولة، مشيراً إلى أن تركيزهم على مفاهيم مثل "ولي الأمر" و"الطاعة للقيادة" و"الثقة بالمحرِّرين" يُعيد إنتاج عقلية ما قبل الدولة الحديثة، ولا ينسجم مع منطق السياسة أو بناء المؤسسات. وأضاف أن هذه المقاربات لا تعود بالنفع، بل تزيد من نقمة الشارع وتغذي مشاعر الغضب من السلطة.
وأكد أن منطق الدولة يقوم على الفصل بين السلطات، وعلى وجود رقابة متبادلة فيما بينها، إضافة إلى مرجعية شعبية تمنح الشرعية وتضمن التوازن. أما منطق "الثقة بالقيادة" المطلقة دون مساءلة، فهو الأساس الذي قامت عليه جميع الديكتاتوريات العربية في القرن العشرين، ولا يجوز قبوله أو الترويج له حتى تحت ذرائع استثنائية، دون أن ينفي ذلك أهمية الاعتراف بجهود من ساهموا فعلاً في إسقاط النظام السابق.
وشدد على أن ما يصحّ في زمن المعركة من منح الأمان للمقاتلين أو حتى دمج بعضهم، لا يمكن أن يُنقل إلى منطق الدولة، إذ ينبغي أن يمر هذا الأمان عبر مؤسسات شرعية، مثل القضاء وهيئات العدالة الانتقالية والبرلمان، وأن يخضع لنقاش سياسي وشعبي وإعلامي مفتوح وشفاف.
وأضاف أن حجة "خصوصية الساحل" وضمان "السلم الأهلي" تُستخدم بالمقلوب، حيث يُصار إلى التعامل مع المجتمع العلوي من خلال ضباط النظام ومسؤوليه السابقين باعتبارهم الممثلين الشرعيين له، بينما الصواب هو بناء علاقة مباشرة مع مشايخ ومثقفي ومعارضي هذا المجتمع، بعيداً عن منظومة النظام، لعزله عنها لا تكريسه كامتداد لها. واعتبر أن ما جرى عملياً هو عزل المجتمع لصالح هؤلاء الضباط، وربط مصيره بهم.
ولفت أبازيد إلى أن التركيز الإعلامي على فادي صقر يُغفل دور شخصيات أخرى مثل خالد الأحمد، عضو لجنة السلم الأهلي، والذي شغل سابقاً موقع المستشار لدى بشار الأسد، وكان جزءاً من منظومة الحكم خلال سنوات الانتهاكات الكبرى.
وختم بالقول إن الدولة لا تزال تعتقد أن الغموض، والانفراد بالقرار، والابتعاد عن الشفافية والرقابة الشعبية، هو الطريق الأسهل والأسرع لضبط الأمور، إلا أن الأزمة الأخيرة أظهرت العكس تماماً، إذ أدت هذه السياسات إلى تعميق فجوة الثقة بينها وبين المجتمع، ولا سيما الحاضنة الثورية التي تُفترض أن تكون عماد شرعية الدولة وضمانة استمرارها.
وكان أثار المؤتمر الصحفي الذي عقدته "لجنة السلم الأهلي" في مبنى وزارة الإعلام بدمشق، بإدارة عضو اللجنة حسن صوفان، موجة واسعة من الغضب والرفض في أوساط السوريين، خصوصًا بين ذوي الضحايا وأبناء الثورة، لما تضمنه من مواقف اعتُبرت تبريرات صريحة لمجرمي الحرب وتطبيعًا مع رموز النظام السابق تحت شعار "السلم الأهلي" و"حقن الدماء".
الاستياء العام جاء عقب تصريحات صوفان خلال المؤتمر، والتي دافع فيها عن سياسة الإفراج عن عدد من ضباط النظام السابقين وعدم محاسبتهم وفق القانون وعبر محاكم علنية، وعلى رأسهم "فادي صقر"، متجاهلًا سجلهم الدموي الحافل، وذهب صوفان إلى حد اعتبار هؤلاء شركاء في النصر، معتبراً أن بعضهم ساهم في "حقن الدم السوري" وفي التعاون مع قيادة العمليات العسكرية خلال معارك "التحرير"، مطالبًا من ينتقدهم بتقديم "أدلة موثوقة" على تورطهم في الجرائم.
وتواجه الحكومة السورية الجديدة في دمشق، حالة واسعة من الانتقال والحنق الشعبي من طرف "أبناء الثورة" وذوي الضحايا والمفقودين، وسط حالة استنكار شائعة تُنذر بانفجار وشيك، مع حالة التماهي المتبعة مع أذناب والنظام البائد ومجرمي الحرب الذين يتم الإفراج عنهم تباعاً من السجون دون إخضاعهم لأي محاكم أو محاسبة.
خلال الأشهر الماضية، وفي سياق السياسة التصالحية بين كافة مكونات الشعب السوري التي اتبعتها السلطة الجديدة في سوريا، برز مايسمى "السلم الأهلي" لاسيما عقب أحداث الساحل الدامية في شهر آذار عقب هجمات فلول الأسد، لكن هذا السلم بدأ يأخذ منحى "استفزاز أهلي"، مع تصدير شخصيات متورطة بدماء السوريين في واجهة المشهد، والإفراجات المتكررة عن ضباط وعناصر للنظام البائد متورطون بالدماء.
ففي الوقت الذي لم ينجو إلا بضع مئات من المعتقلين المفقودين في سجون الأسد، وهروب كبار الضباط والمجرمين، وحالة الصدمة التي عاشتها مئات آلاف العائلات التي تجهل حتى اليوم مصير أبنائها، تصاعدت المطالبة بتطبيق "العدالة الانتقالية"، لإنصاف هؤلاء الضحايا، ولتأخذ العدالة مجراها كما في كل بلد يخرج من أتون الحرب، ويسعى لترميم الجراح ومداواتها وتعويذ ذوي الضحايا.
لكن مايجري حالياً - وفق رأي الغالبية العظمى من أبناء الثورة - الذين دفعوا الدماء والتضحيات وخسروا الكثير لايزال الآلاف منهم في المخيمات، بات استفزازياً ويسير في غير مساره الطبيعي، عقب الإفراج عن المئات من ضباط النظام وعناصره، كذلك التماهي في ملاحقة الشبيحة الذين عادوا لمناطقهم وبدئوا باستفزاز الأهالي.
ظهور "فادي صقر" وكثير من الشخصيات القيادية في عهد النظام البائد في صدارة الداعين للسلم الأهلي، وتأمين الحماية الأمنية لهؤلاء، كذلك شأن التجار ومجرمي الحرب الكبار المعروفين في عهد الأسد، ممن عادوا إلى دمشق مؤخراً، والموالين من الشبيحة والممثلين والفنانين والشخصيات التي ساندت الأسد لسنوات طويلة وروجت ودعت للقتل والتدمير، لاتزال في مأمن ودون محاسبة باسم "السلم الأهلي".
كل هذه الخطوات، باتت تدفع باتجاه حالة متصاعدة من الحنق والرفض الشعبي لهذا السياسة التصالحية الزائدة مع مجرمي الحرب، والمتورطين بالدم، وعدم محاسبتهم ومحاكمتهم وفق الأصول القانونية، بدأت تدفع تجاه الانتقام الفردي عبر خلايا مجهولة باتت تمارس عمليات القتل والانتقام في حلب وحمص والساحل وحماة بشكل يومي، مايعزز انتشار الجريمة وغياب سلطة الدولة ونشر الفوضى العارمة.
كانت حذّرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" من أن الصلاحيات المحدودة الممنوحة للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية في سوريا تُهدد بتقويض مصداقيتها وتُقصي العديد من الضحايا، داعية الحكومة السورية إلى ضمان مشاركة فعلية وواسعة للناجين والمجتمعات المتضررة في مسار العدالة الانتقالية.
وفي بيان أصدرته المنظمة تعليقاً على المرسوم الرئاسي القاضي بتشكيل كلٍّ من "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية والهيئة الوطنية للمفقودين"، اعتبرت أن "هاتين الهيئتين يمكن أن تمثّلا نقطة تحوّل مهمة في كشف حقيقة الفظائع المرتكبة في سوريا وتحقيق المساءلة، لكن نجاحهما سيعتمد على الشفافية والانفتاح ومشاركة الضحايا".
وأبدت المنظمة الحقوقية قلقها من أن مرسوم إنشاء هيئة العدالة الانتقالية جاء بصلاحيات "محدودة بشكل مقلق"، إذ يقتصر على الانتهاكات التي ارتُكبت من قبل النظام المخلوع بقيادة بشار الأسد، دون التطرق إلى الجرائم التي ارتكبتها جهات غير حكومية، كما أنه لا يوضح آليات إشراك الضحايا في تصميم وتنفيذ مهام اللجنة، ما يشكّل – بحسب المنظمة – "نقطة ضعف جوهرية".
وشددت المنظمة على أن استمرار الإقصاء سيزيد من عمق الانقسامات المجتمعية، وأشارت إلى أن سوريا تقف اليوم عند مفترق طرق، فإما أن تسلك مساراً حقيقياً للعدالة يُنصف الضحايا، أو تكرّس ممارسات الماضي التي أدت إلى الدمار والانقسام.
من جهتها، كانت أصدرت "الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان" تقريراً جديداً يحدد الأطر القانونية والمبادئ الأساسية التي ينبغي أن تستند إليها عملية تشكيل هيئة العدالة الانتقالية، تحت عنوان: "الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان توصي بإنشاء هيئة العدالة الانتقالية في سوريا عبر قانون صادر عن المجلس التشريعي."
أكد التقرير ضرورة تأسيس هيئة العدالة الانتقالية في سوريا بموجب قانون يصدر عن السلطة التشريعية، محذّراً من المخاطر التي قد تترتب على اللجوء إلى مرسوم تنفيذي كبديل عن المسار التشريعي.
وأوضح أنَّ اعتماد هذا الأسلوب من شأنه أن يهدد استقلال الهيئة ويقوّض فعاليتها، مستشهداً بتجارب دولية في دول مثل أوغندا وبيرو والمغرب، حيث أظهرت تلك التجارب أنَّ الهيئات التي أنشئت بقرارات تنفيذية غالباً ما تفتقر إلى السلطة الفعلية والشرعية المجتمعية، وتعاني من ضعف في قدراتها التحقيقية، ومحدودية في إشراك الضحايا، فضلاً عن تعرضها لتدخلات سياسية تُضعف أداءها وتؤثر على استقلالها.
وكان الرئيس السوري أحمد الشرع قد أصدر في 17 أيار/مايو 2025 مرسومين رئاسيين يقضيان بتشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" و"الهيئة الوطنية للمفقودين"، بهدف التصدي لإرث الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت خلال حكم النظام السابق، والكشف عن مصير أكثر من 100 ألف مفقود.
وقد لاقت هذه الخطوة إشادة واسعة من أطراف دولية ومنظمات حقوقية، واعتبرتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مؤشراً واضحاً على التزام الحكومة السورية الجديدة بالمسار الحقوقي، وتحقيق العدالة والمصالحة الوطنية، في إطار أوسع لبناء بيئة مستقرة وآمنة تُمهّد لإعادة بناء الدولة على أسس القانون والحقوق.
ووفق فعاليات أهلية وشعبية، فإننا نقف اليوم على مفترق طرق خطير، حيث بلغ الاستياء الشعبي في سوريا حدًّا ينذر بانفجار اجتماعي إذا لم يتم تداركه سريعًا إنّ حالة الغضب التي تعمّ الشارع السوري اليوم لا تنبع فقط من الظروف المعيشية أو الأمنية، بل من إحساس عميق بالظلم… وإهمال متواصل لأهم الملفات المصيرية:
وأكد هؤلاء أن تغييب العدالة عن المرحلة الانتقالية، وعدم محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت بحق أبناء هذا الشعب، يشكّل خرقًا صارخًا لكل وعود الإصلاح والتغيير، فلا يمكن الحديث عن مستقبل دون مصالحة حقيقية، ولا يمكن أن تقوم المصالحة على طيّ الصفحات قبل قراءتها ومحاسبة من لوّثها بالدم والفساد.