مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٠ ديسمبر ٢٠١٥
قرار روسي إيراني للحل في سورية

لا شك في أن هناك التقاء بين موقفي روسيا والولايات المتحدة بشأن الأزمة السورية، هو الذي سمح بالتصويت بالإجماع على القرار 2254.

فالدولتان اللتان ظلت مواقفهما متباعدة من هذه الأزمة، خصوصاً بالنسبة إلى المسؤولية عن تنامي التنظيمات الإرهابية وعن استمرار الحرب، بالإضافة إلى الخلاف على مستقبل بشار الأسد، تريدان الإيحاء الآن وكأنهما تقودان السفينة إلى ما يفترض أنه حل سياسي للحرب التي يقترب عمرها من خمس سنوات.

ما سمح بذلك هو تراجع في مكان ما من قبل إحدى الدولتين أو كليهما. والأرجح أن الطرف الأميركي هو الذي قدّم التنازلات الأكبر، مقارنة بالتسهيل الروسي. ويمكن تحديد أبرز نقطتين للتنازل من جانب الأميركيين بـ: أولاً مستقبل بشار، الذي تم تجنب الإشارة إليه عمداً في القرار الدولي الأخير، وثانياً وضع محاربة الإرهاب كأولوية بالنسبة إلى الدول الكبرى.

في هاتين النقطتين نجح النظام السوري وأنصاره في تسويق الخطة التي وضعوها منذ تعثرت قدرتهم على إسكات المعارضة بقوة الصواريخ والبراميل المتفجرة. تقوم هذه الخطة على دعوة العالم إلى الوقوف مع النظام في حربه المزعومة على الإرهاب، مع تجهيل الفاعل الذي سهّل وسمح منذ البداية بنمو هذا الوحش لتوظيفه في ما بعد، ثم دعوة العالم إلى دعم الشعار الذي رفعه بشار الأسد وأيده فيه الروس والإيرانيون، وهو أن تقرير مصير الرئيس السوري يجب أن يكون حقاً حصرياً للسوريين. هذا الشعار «الديموقراطي» من حيث الشكل، يُغفل الطريقة التي جاء بها بشار أصلاً إلى الحكم، كما يتجاوز العوامل التي سمحت له بالاستمرار منذ اندلعت الانتفاضة الشعبية ضده في ربيع عام 2011.

لم تتم هذه التنازلات لمصلحة النظام السوري بمحض الصدفة. فمنذ فرض الأميركيون مشاركة إيران في البحث عن حل، ودعوها إلى محادثات فيينا، كان واضحاً أن ميزان القوى يتبدل. وهو لم يتبدل أصلاً نتيجة ذلك فقط. بل حصل هذا التبدل منذ اختار باراك أوباما الوقوف مكتوف اليدين أمام مجازر النظام وجرائمه، في الوقت الذي كان أنصار النظام، الإقليميون والدوليون، يدعمونه بكل وسائل الحرب التي سهلت له الإمعان في ارتكاب المجازر.

بعد كل ذلك لم يكن مستغرباً أن يكون تقييم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقرار الدولي الأخير تقييماً إيجابياً على طريقة: لقد انتصرنا. لافروف اعتبر القرار رداً على محاولات فرض حل خارجي على السوريين، بما في ذلك ما يتعلق برئيسهم. كما أنه فرض محاربة الإرهاب كأولوية في خطة عمل الأسرة الدولية.

في ضوء كل ذلك، يصبح السؤال مبرراً عن فرص نجاح القرار الدولي الأخير في الوصول إلى حل في سورية، بعيداً من التفاؤل الذي يحاول واضعو القرار أن يبشروا به.

أولى علامات الاستفهام: ممن ستتشكل الحكومة الانتقالية وكيف ستكون حكومة «شاملة وذات صدقية» طالما أن مصير الأسد ودوره في هذه المرحلة لم يحسم؟ فالطرف المؤيد للنظام يرى أن هذا الدور يتقرر في الانتخابات الموعودة (بعد 18 شهراً)، فيما يرى الفريق الآخر أن كلمة «انتقالية» تعني بحد ذاتها انتقالاً من مرحلة إلى أخرى، فضلاً عن أن المنسق العام لهيئة التفاوض رياض حجاب، ورئيس «الائتلاف» خالد خوجة، إضافة إلى معارضين آخرين، أكدوا على ضرورة أن لا يكون للأسد أي دور، منذ بدء المرحلة الانتقالية.

أما علامة الاستفهام الثانية فتتعلق بتحول النظام السوري من خصم كان المجتمع الدولي يدعو إلى استبداله، إلى «شريك» في الحرب على الإرهاب. أليس هذا ما يمكن فهمه من أحد بنود القرار، الذي يستثني من وقف إطلاق النار الأعمال الهجومية ضد التنظيمات الإرهابية، ومن بينها «داعش» و «جبهة النصرة»؟ ألا يعني هذا أن قوات النظام وحلفائه، من دول وميليشيات، التي تزعم خوض الحرب في سورية لمحاربة الإرهاب، ستصبح عملياً معفاة من الالتزام بوقف النار، الذي لن ينطبق في هذه الحال سوى على فصائل المعارضة؟

فخاخ كثيرة في نص القرار الدولي بشأن سورية يمكن تلخيصها بما قاله لي بالأمس أحد قادة المعارضة الذي شارك في مؤتمر الرياض الأخير عن هذا القرار: إنه مشروع سياسي للحل لكنه جامع كل التناقضات، وسوف يطلق يد روسيا وإيران للإمعان أكثر في قتل السوريين.

اقرأ المزيد
٢٠ ديسمبر ٢٠١٥
أوهام موسكو عن مستقبل الأسد

نشأت سورية بحدودها الحالية وفقاً لاتفاق سري بين بريطانيا وفرنسا اسمه سايكس بيكو. كان ذلك في عام 1916. يوم الجمعة الماضي، أي أواخر الشهر الأخير من هذا العام 2015، يرسم قرار دولي من مجلس الأمن ما يفترض به أن يكون مستقبلاً جديداً لسورية يخرجها من مأساة حرب أهلية مدمرة أطلق عنانها النظام السوري، وليس أي طرف آخر، قبل قرابة خمس سنوات. ما بين التاريخين (1916-2015) مسافة من الزمن تصل إلى 99 سنة. وإذا عرفنا أن مفاوضات سايكس بيكو تمت في عام 1915، يمكن القول إن ما بين النشأة الأولى لسورية وقرار مجلس الأمن الأخير عن مستقبلها هو قرن كامل من الزمن. من هذه الزاوية، وقبل تبين دلالة هذا المسار التاريخي، يطرح السؤال البديهي نفسه: هل يمكن أن يؤدي قرار مجلس الأمن هذا إلى إنهاء الحرب الأهلية في سورية، ودخولها مرحلة انتقالية حقيقية تنتهي بإعادة بناء الدولة فيها على أسس علمانية وديموقراطية تجعل منها دولة تتسع للجميع وتكفل حقوقهم وأمنهم والمساواة في ما بينهم كمواطنين؟

هناك حقيقة لا يمكن تفاديها، وهي أن قرار مجلس الأمن هو نوع من الحل الوسط بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالأزمة السورية، وليس بين السوريين أنفسهم. المعارضة والنظام، يجدان نفسيهما مجبرين على التعايش مع هذا القرار، وليس القبول به نهائياً. في حقيقته القرار تفاهم بين دولة عظمى، هي الولايات المتحدة، لا تريد الانخراط سياسياً وليس عسكرياً في الأزمة السورية، ودولة عظمى أخرى وإن كانت أقل درجة هي روسيا، انخرطت عسكرياً وسياسياً في هذه الأزمة، وأصبحت تمسك بملفها أكثر من غيرها. انطلاقاً من ذلك، فإن إمكان تنفيذ القرار ونجاحه في إخراج سورية من مأزقها يعتمد قبل أي شيء آخر على ما تنوي روسيا أن تفعله لتحقيق هذا الهدف. هل ستلتزم هي نفسها أولاً كطرف في الحرب الآن بوقف إطلاق النار؟ وهل ستتوقف تبعاً لذلك عن استهدافها المدنيين والمعارضين للأسد من غير تنظيم الدولة (داعش)؟ ثم هل موسكو على استعداد أن تفرض على حليفها الأسد التزام وقف إطلاق النار أيضاً، خصوصاً التوقف عن استخدام البراميل المتفجرة؟ وهل تملك إقناع إيران بالتخلي عن الأسد باعتباره الحليف الذي لا ترى بديلاً له في سورية؟ من دون الإجابة في شكل واضح على هذه الأسئلة لا يمثل القرار الأخير لمجلس الأمن أكثر من أنه ورقة أخرى تضاف الى ملف الأزمة السورية.

من الواضح أن روسيا نجحت في ترك مستقبل الرئيس السوري في القرار غامضاً لا يلزم أحداً بشيء. لكنها الطرف الأقوى الآن في الساحة السورية. هي تردد دائماً بأن مستقبل الأسد يعود للسوريين أنفسهم. وهذا من حيث المبدأ صحيح تماماً. لكن عملياً، وفي إطار الصراع الدائر واللعبة السياسية المنبثقة عنه، هو شيء آخر أبعد ما يكون عن الصحة والمنطق. تعرف موسكو أن الرئيس السوري ونظامه الدموي هو في حقيقة الأمر من قرر مصير الشعب السوري، وليس العكس. وهذا واضح مما انتهى إليه حال هذا الشعب المغلوب على أمره. وإذا كانت روسيا صادقة في ما تردده عن هذه المسألة، فإن هذا يلزمها أخلاقياً وسياسياً بتصحيح هذه المعادلة عن انحرافها، بحيث يصبح الشعب هو حقاً من يقرر مصير الرئيس وليس العكس. لكن تدخلها العسكري وإعلانها الالتزام بترجيح كفة الأسد ونظامه في الصراع يشير إلى أنها تريد توظيف القرار الدولي كغطاء لفرض المعادلة القديمة بالقوة ورعب التهديد بها، ومن ثم تكريسها كما كانت عليه منذ أكثر من نصف قرن. تخلي الرئيس الأميركي باراك أوباما ومعه أوروبا عن الشعب السوري، وإطلاق يد روسيا وإيران والنظام في الصراع، إضافة إلى الانقسام العربي الحاد حول الموضوع السوري، يقول للسوريين شيئاً واحداً: إنكم لوحدكم أمام ثلاثي النظام بتاريخه الدموي، وموسكو بحملة «السوخوي» التي أطلقتها، وطهران بميليشياتها وجنرالاتها. ماذا يمكن أن يكون موقف السوري العادي في هذه الحال، وبعد كل الدمار والقتل والتهجير الذي تعرض له؟ وإذا كانت روسيا تناور، كما يبدو، بشعار أن «الشعب يقرر مصير الأسد»، فهل ستقبل المعارضة السياسية والعسكرية بوقف لإطلاق النار، والبدء بالتفاوض قبل معرفة المصير النهائي للرئيس الأسد؟ هذا أمر مشكوك فيه تماماً. الثقة مفقودة تماماً في الرئيس السوري، والروس لم يقدموا شيئاً يشجع على الثقة بما يرمون إليه حيال هذه المسألة. تبقى مسألة أخطر وأهم من ذلك، وهي استحالة قبول السوريين أن يكون بشار الأسد جزءاً من مستقبلهم بمسؤوليته عن الدماء والدمار التي تسبب فيها قبل أي أحد غيره. كيف سيتعامل الروس مع هذه الحقيقة؟

لم يقدم القرار الدولي للشعب السوري أي شيء ملموس. أعطى لإدارة أوباما ورقة توت دولية تغطي بها تخبطها وافتقادها لسياسة خارجية متماسكة. وأعطى لموسكو نوعاً من الغطاء الدولي لمهمتها الغامضة في سورية. ما عدا ذلك لا يتضمن القرار أكثر من أمانٍ لا أحد يعرف كيف، ولا أين يمكن صرفها. بعبارة أخرى، ضاعف القرار الدولي الأخير من عتمة المستقبل السوري. وهذا يعيدنا إلى دلالة المسافة الزمنية بين كيف ومتى نشأت سورية من ناحية، وبين ما انتهت إليه على طاولة مجلس الأمن الجمعة الماضي من ناحية أخرى. فبعد مرور 100 عام من عمر دولتهم يجد السوريون أنفسهم مرغمين بالدم، والقتل، والتهجير، والتعذيب، والتدمير، والغرق في أعالي البحار، ولا مبالاة الدول الكبرى، على البدء من الصفر لإعادة تأسيس واستئناف نشأة هذه الدولة. لكنه صفر غامض، وإعادة تأسيس هي أقرب الى الأمنية منها لعملية سياسية ملزمة. والمؤلم أن هؤلاء السوريين يجدون أنفسهم مرة أخرى يفعلون ذلك تحت إشراف دولي. كأنهم لم يبلغوا الرشد. ذهبت سنوات التحرر الوطني، وما كان يعرف بالنضال ضد الاستعمار والتدخلات الأجنبية، والصراع العربي - الإسرائيلي هباءً تذروه رياح الزمن. نشأت إسرائيل بعد نشأة سورية بـ42 سنة. وهنا تتبدى مأساة الزمن، ومأساة النضال في التجربة السورية. أمامك ما انتهت إليه الشام في حدودها الحالية، وما انتهت إليه إسرائيل. باتت الأخيرة طرفاً، وإن غير مباشر، في الصراع على سورية بعد أن كانت الأخيرة تطمح للتوازن الاستراتيجي معها.

تبعاً لذلك، أصبحت سورية وبحكم ديناميكية الصراع بمعادلته الجديدة، تحت الاحتلال الإيراني، والاحتلال الروسي. وهذا وفقاً لقاموس حزب البعث وخطابه السياسي وليس أي خطاب آخر. باتت أرضها مسرحاً لكل الميليشيات، وسماؤها مسرحاً لكل سلاح طيران يريد أن يحارب «داعش». وفي هذه الغابة من الميليشيات والمقاتلين والطائرات من كل حدب وصوب، صار لزاماً على سلاح الجو الروسي أن ينسق من قاعدته في اللاذقية تحديداً مع سلاح الجو الإسرائيلي بمعرفة وموافقة الرئيس السوري. أي أن إسرائيل، التي يقال أن الأسد كان (في يومٍ ما) يقود المقاومة ضدها، تساهم مع الروس والإيرانيين في حمايته، وحماية نظامه من السقوط.

الأنكى من كل ذلك، أن حكم حزب البعث العربي الاشتراكي لسورية يقتطع قرابة نصف تاريخ الـ100 سنة الماضية، من حيث أنه بدأ في 1968. من هذه 45 سنة رزحت سورية خلالها تحت حكم حافظ الأسد (30 سنة)، ثم ابنه بشار الأسد (15 سنة). ما يعني أن مأساة سورية بدأت في أصلها من داخلها، ثم تفاقمت مع حكم البعث، وتحديداً حكم آل الأسد. ومع ذلك تصر موسكو على أن الشعب السوري هو من يجب أن يقرر مصير الرئيس. اللافت أن هذا الرئيس قال لصحيفة الـ «وول ستريت جورنال» الأميركية بتاريخ 31 كانون الثاني (يناير) 2011، أي قبل قرابة الشهرين من الثورة السورية، ما نصه حرفياً «إذا لم ترَ الحاجة إلى الإصلاح قبل ما حدث في مصر وتونس، فإن الوقت يصبح متأخراً لأي إصلاح». ولأنه هو من قال ذلك، وهو محق فيه تماماً، فإن سورية لم تعد حقاً في حاجة للإصلاح، ولا في حاجة إليه هو تحديداً بعدما فشل في شكل دموي أخرق في استيعاب الثورة. سورية لن تعود كما كانت، بما في ذلك الأسد وزمنه.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٥
تحالف لمنع نشوء أي فراغ

لعل تسمية التحالف العسكري الإسلامي، المعلن أخيراً، "العربي الإسلامي" هو الأقرب إلى واقع الحال، كون قرابة نصف عدد الدول الأعضاء في التحالف من الدول العربية، ومسرح العمليات المزمعة على أراضٍ عربية. هو تحالف ضد الإرهاب أيضاً، ويضم دولاً عديدة منضوية في التحالف الدولي الذي يقوم بعمليات جوية ضد داعش في سورية والعراق. والفرق الرئيسي بين التحالفين أن التحالف الجديد يتجه نحو المشاركة في عمليات برية ضد مراكز تهديد إرهابي، وليس الاقتصار على عمليات جوية.
كان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قد صرح، في مناسبات عدة، منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن هناك مشاورات جارية لتشكيل قوة عسكرية عربية برية لمحاربة داعش، بعدما ثبت أن العمليات الجوية غير كافية للقضاء على التنظيم، أو منع تمدده. ولهذا رحبت واشنطن بالإعلان الثلاثاء 15 ديسمبر عن التحالف الجديد الذي يتخذ من الرياض مقراً له، ولعبت السعودية دوراً بارزاً في تشكيله، وهو المفتوحة فرصة الانضمام إليه أمام دول إسلامية أخرى. وقد أوضح وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أن التحالف سوف يتعاون مع دول أخرى غير إسلامية، ففي مكافحة الإرهاب مصلحة للجميع.
التحالف الجديد بمثابة استكمال لمهمة التحالف الدولي (الجوي)، مع توسيع نطاق العمليات وإدامتها. وهو كذلك تجديد وتوسيع للتحالف الذي يخوض الحرب في اليمن ضد الانقلابيين. وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لدى تدخله العسكري في سورية، قد صرح مراراً إنه يسعى إلى بناء تحالف واسع ضد الإرهاب، وقد ضم تحالفه إيران وروسيا والعراق والنظام في دمشق، وبتنسيق جزئي مع الأردن يتعلق بالحدود مع سورية، واتخذ من بغداد مركزاً له. لم يقيّض لهذا التحالف أن يتسع، لأن الأداء الروسي في سورية جعل التصدي للجيش الحر والمعارضة المعتدلة واستهداف المدنيين في طليعة مهمات المقاتلات الروسية. ولم تلبث موسكو أن انصرفت عن مسعاها هذا، إذ انغمست في حرب أعصاب واستعراض قوة مع تركيا، فيما يتفرّغ وزير خارجيتها، سيرغي لافروف لمحاولة انتزاع تنازلات، المرة تلو المرة، من نظيره، جون كيري، ومن المبعوث الأممي دي ميستورا، بخصوص مستقبل سورية، وبغرض تصنيف كل من يعارض نظام الكيماوي والبراميل المتفجرة إرهابياً.
وبما أن الوضع في سورية هو الأشد تعقيداً والأكثر توتراً، من الملاحظ في هذا البلد أن سماءه مفتوحة للمقاتلات الروسية (فيما ينهمك التحالف الدولي بقصف داعش)، أما على الأرض، فإن
"موجة الربيع العربي قد حفرت تحت السطح، وأشاعت ثقافة الإصغاء لتطلعات الشعوب، تفادياً لخطر الإرهاب والاختراق الخارجي"
المليشيات الأفغانية واللبنانية والإيرانية والعراقية والباكستانية تشكل جيوشاً لمحاربة فصائل الجيش الحر، والتنكيل بالبيئات السنّية، كلما تسنى لها ذلك، الأمر الذي أفرز جموداً في الوضع العسكري مع تحسن طفيف لمصلحة النظام، وقد انعكس ذلك جموداً سياسياً، على الرغم من أن أجندة اجتماع فيينا ركّزت على حل متتابع الخطوات، يبدأ مع مطلع يناير/كانون الثاني 2016 بمفاوضات بين النظام والمعارضة. اللافت أن مسؤولين روسا تحادثوا مع نظرائهم الإيرانيين، بعد اجتماعات فيينا، وصرّحوا، بصورة متناغمة، أنهم يرفضون "فرض حلول خارجية على سورية"! وبعد مؤتمر الرياض للمعارضة السورية الذي حقق قدراً من النجاح، كان يُفترض أن الجمود السياسي تم كسره. لكن، لا شيء من ذلك قد حدث. وكأن اجتماعات فيينا بمشاركة عشرات الدول لم تتفق على شيء سوى على تدخل عسكري روسي مباشر(!).
يملأ التحالف الجديد المعلن عنه في الرياض الفراغ بالفعل، فراغ غياب المنعة الذاتية القومية، فراغ غياب قوات برية عربية وإسلامية تحمي المدنيين السوريين والليبيين والعراقيين. جاء التدخل الروسي ليضاعف محنة المدنيين، وليوقع مزيداً من الضحايا، ويتسبب بموجات لجوء جديدة، ويفترض أن يملأ التحالف فراغ انكفاء أميركا من المنطقة، مكتفية بتحالفها مع إسرائيل وغير مبالية بالتمدد الإيراني.
وعلى الرغم من الصفة العسكرية الصريحة التي يحملها هذا التحالف، فإن المغزى السياسي لقيامه لا يقل أهمية، وهو التقاء أكثر من ثلاثين دولة إسلامية لمهمة التصدي للإرهاب، ابتداء من داعش وليس توقفاً عندها أو اقتصارا عليها. وباستثناء الجزائر وسلطنة عمان والعراق، فقد جمع التحالف غالبية الدول العربية الرئيسية، بما فيها اليمن وليبيا مثلاً، على الرغم من الأوضاع غير المستتبة فيهما. (أما لبنان الذي أعلن رئيس حكومته، تمام سلام، انضمام بلاده إلى التحالف، فإن وزير الخارجية باسيل جبران تحدث عن عدم علم وزارته بهذا الانضمام، وكأن مسألة الاشتراك في تحالف إقليمي واسع شأن دبلوماسي خالص يتعلق بوزارات الخارجية!). وقد نجحت الرياض في جمع المروحة الأوسع من الدول العربية، وبما وضع جامعاً مشتركاً بين دول متباعدة سياسياً.
لم تتضح بعد آليات عمل التحالف. لكن، تبيّن أن الإعلان عنه جاء حصيلة لقاءات واسعة ومشاورات مكثفة، شارك فيها رؤساء أركان وأجهزة أمنية معنية في الرياض، طوال الأشهر الماضية، وهذا هو التطور الثاني الذي يصدر عن الرياض هذا العام، بعد اندلاع حرب عاصفة الحزم، أواخر مارس/آذار الماضي، وينطوي هذا التطور على قيمة استراتيجية كبيرة، مفادها بأن العرب هم من سيملأون أي فراغ، وهم من سيتصدون لمختلف منظمات الإرهاب، وفي مقدمتها داعش، وأنه لن ينشأ فراغ سياسي وعسكري في منطقتنا بعد اليوم، ولن يتم انتظار قوى غربية لتصحيح المعادلات، ولا قبول وجود أية قوة إقليمية أو أجنبية في ديار العرب.
إلى سنوات قليلة خلت سبقت موجة الربيع العربي، كانت الأنظار تتطلع إلى حراك سياسي يكسر الجمود هنا وهناك. قبل انتهاء هذا العام 2015، نشهد حراكاً عسكرياً ذاتياً على المستوى العربي من أجل مكافحة الإرهاب، ووقف الاختراق الخارجي. مع ملاحظة أخيرة تتعلق بعودة الجيوش للعب دورها في الإطار نفسه، بعد أن شاعت خلال عقد على الأقل نظرية مزاحمة الجيوش الخاصة (المليشيات والجماعات المسلحة) للجيوش النظامية. والهدف هو نفسه، مكافحة الإرهاب، حماية المدنيين، والتصدي للاختراق الخارجي. وهذا يدل على أن العالم العربي في سبيله إلى التغيير، إن لم يكن قد بدأ يتغيّر، ولعلها موجة الربيع العربي قد حفرت تحت السطح، وأشاعت ثقافة الإصغاء لتطلعات الشعوب، تفادياً لخطر الإرهاب والاختراق الخارجي.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٥
كيري و"تلميع" الأسد

أتحفنا وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في حواره مع مجلة نيويوركر بمعلومات أو مواقف ربما تصرح بها الولايات المتحدة للمرة الأولى. منذ البداية، كنا ندرك أن الموقف الأميركي مما هو قائم في سورية غير واضح، وأن الإدارة الأميركية تتروى في اتخاذ موقف، تجنباً لتكرار سياسات سابقة، وتحديداً ما قامت به إدارة جورج بوش في العراق، وهو ما صرح به كيري بشكل مباشر في التقرير المطول، والذي يظهر ما يخفيه الأميركيون تجاه الوضع السوري.

الإدارة الأميركية، وبحسب قراءة ما بين سطور حوارات كيري، لا تزال متمسكة ببقاء نظام بشار الأسد، على عكس التصريحات العلنية التي يخرج بها المسؤولون الأميركيون، تحديداً في الفترة الحالية، والكلام عن الفترة الانتقالية، والجدال حول دور الأسد فيها. كيري لم يقل ذلك في كلامه بشكل صريح، لكن، من الواضح أن هذا ما يسرّه الأميركيون، ولا يعلنونه بشكل مباشر، حرصاً على مواقف الحلفاء، وتحديداً الدول الخليجية. لا تزال الإدارة الأميركية غير واثقة بأي خيار بديل، قد يكون مطروحاً ليتولى إدارة سورية بعد رحيل النظام. لذا، هي تشير، بوضوح، إلى أن الغاية هي الإبقاء على النظام، وربما تغيير رأسه.
لكن، حتى هذا الرأس، لا ترى واشنطن من هو مؤهل لتولي المهمة في الوقت الحالي، بل أنكى من ذلك، يؤشر ما جادت به قريحة كيري في التقرير إلى تلميعٍ ما لبشار الأسد شخصياً، بداية من الحديث عن "أخطائه"، مروراً بحرصه على "العلمانية"، وصولاً إلى دور المحيطين به في التأثير على قراراته.
فرئيس الدبلوماسية الأميركية، والتي من المفترض أنها تدين، منذ البداية، الجرائم التي يرتكبها النظام السوري ضد شعبه، لم ير في هذه الجرائم إلا "أخطاء" بشار الأسد إلى القيام بها من دون أن يرغب في ذلك. هذا ما أشار إليه كيري بوضوح في مقابلاته، فالمسؤولون المباشرون عن هذه الأفعال، بحسب الوزير الأميركي، هما والدة الرئيس السوري، أنيسة، وشقيقه، ماهر الأسد، في إطار مخاوفهما على مكاسب الطائفة العلوية، على حسب ما جاء في "نيويوركر".
ويعيد كيري، بأطروحته هذه، الديباجة التي راجت في الأيام الأولى للثورة السورية، وتحدثت عن رغبة الرئيس السوري في القيام بإصلاحات في نظامه، غير أن أطرافاً أخرى في "مجلس العائلة" منعته. وهي مزاعم ثبت كذبها من كلام الأسد نفسه، ومن كثير من المسؤولين والشخصيات الذين التقوه، أو هم على دراية بخفايا ما يدور في أروقة النظام، والذين أشاروا إلى أن الأسد مدرك، منذ البداية، للأفعال التي يقوم بها، والتي تندرج في إطار جرائم الإبادة الجماعية، غير أن كيري لم ير فيها إلا "أخطاء".
أيضاً كيري، وفي إطار ما يروج النظام لنفسه، عمد إلى إمرار الحديث الذي دار بينه وبين الأسد حول "انتشار الحجاب والتطرف"، ورواية كيف أن والدة الأسد لم تعد تستطيع الخروج خشية هؤلاء المتطرفين، وهي رواية مضحكة جداً لمن يعرف حياة "العائلة المالكة" في سورية، إذ تصوّر والدة بشار الأسد وزوجة حافظ الأسد وكأنها مواطنة عادية، تخرج للتسوق وشراء الخضار على سبيل المثال. لكن، بغض النظر عن هذه المفارقة الكوميدية، مرّر كيري المعلومة عن رغبة الأسد في الإبقاء على النظام العلماني في بلاده. توقيت إمرار هذه الرسالة في ظل المخاوف من الأسلمة المنتشرة عالمياً.
لم يكتف الوزير الأميركي بهذا القدر من "التنويه" بالأسد، بل أضاف إليه معطى ثالثاً، تمثّل في استعداد الرئيس السوري للتوقيع على اتفاق سلام مع إسرائيل، وهو كان سيقوم بذلك في عام 2010، غير أن تعنت بنيامين نتنياهو حال دون ذلك.
معلومات وتصريحات بمجملها لا تصب إلا في خانة تلميع صورة الأسد غربياً، والتي يبدو أنها مهمة أخذ كيري على عاتقه القيام بها.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٥
«ورقة» الأسد تحسّن «دفاتر» شروط موسكو وطهران

يُعقد اليوم في نيويورك، الاجتماع الثالث للمجموعة الدولية الإقليمية حول سوريا. وكان عقده مهدداً قبل زيارة وزير الخارجي الأميركي جون كيري لروسيا الثلاثاء الماضي، نظراً إلى مطالب موسكو ومواقفها، إلا أن زيارة كيري أفضت إلى قبولها باستمرار عقده في موعده، لكن لا تزال هناك نقاط تباين بين واشنطن وموسكو حول الحل، وفي مقدّمها مصير رئيس النظام السوري بشار الأسد.

ومصير الأسد سيُناقش، وسط استمرار للخلافات في وجهات النظر حول ذلك، الغرب يريد التوصل الى تفاهم حول موعد مغادرة الأسد الحكم في المرحلة الانتقالية، وما إذا كان في منتصف هذه المرحلة أو في نهايتها، او حتى في بدايتها. إنما روسيا وإيران تقولان إن على الشعب السوري ان يقرر مصيره. وتكشف مصادر ديبلوماسية، أن روسيا وإيران لن تتخليا عن هذا الموقف، لأن في ذلك تخلياً عن ورقة تفاوضية تمكنهما من تحقيق مزيد من المطالب والمصالح، وهي ورقة أساسية بالنسبة اليهما. إذ إنه في حال وافقتا على رحيله بهذه البساطة، فلن يعود هناك من فريقين دوليين متناقضين حول أهداف معينة. وبالتالي، إصرارهما على بقاء الأسد طبيعي من باب التمسّك بتلك الورقة لتحقيق شروط أفضل في أية عملية سياسية.

كل ذلك يعني أن اقتراب رحيل الاسد غير مضمون على الرغم من صدور خارطة طريق الحل السياسي في اجتماع فيينا الثاني للمجموعة الدولية الاقليمية. مصير الأسد لا يزال غير واضح، وهو ما على الدول توضيحه والتفاهم حوله لمنع تفسيرات متعددة كما حصل مع «وثيقة جنيف». وايران وروسيا لم تعلنا مرة واحدة ان الاسد سيغادر السلطة. كما لم يحصل في فيينا اتفاق على انتهاء حكمه وتوقيت ذلك. ولم يلحظ بيان فيينا شيئاً عن الأسد، وقد رفضت روسيا وإيران كل إشارة إليه في مشروع البيان الذي خلا من اسمه فعلاً.

وفضلاً عن ذلك، سيبحث الاجتماع وضع آلية محددة لوقف إطلاق النار في سوريا. إذ إن بيان فيينا نص على وقف النار ابتداء من كانون الثاني المقبل وبدء محادثات سلام بين النظام والمعارضة.

روسيا لم تكن متحمسة لاجتماع نيويورك، الامر الذي حدا بوزير الخارجية الاميركي لزيارتها تلافياً لتعطيل الاجتماع، الذي يناقش الخطوات التفصيلية لبيان فيينا. ولان المواضيع بالغة الدقة وكانت تحتاج الى لقاء كيري مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت المؤشرات تقول إن اجتماع نيويورك سيتأجل. الاميركيون يتهمون الروس بأنهم يعرقلون لكي يكسبوا دوراً أكبر. موسكو كانت ترفض مكان الاجتماع، لأن الولايات المتحدة برأيها، على أراضيها تكون ماسكة اوراق اللعبة كلها وادارتها، لذلك فضّلت ان يكون الاجتماع في اوروبا، وهذا ما كانت تفضله إيران أيضاً. أي في أمكنة محايدة في أوروبا، لا تعطي لأي فريق سلطة على الفريق الآخر. ولهذا السبب لم يقع الاختيار على باريس او لندن او موسكو. وهناك خلافات بين الدول على الادوار التي يفترض أن تتمتع بها كل دولة خلال الاجتماعات.

موسكو تجاوزت مواقفها السابقة حول جهود توحيد المعارضة السورية حيث كانت قد اعتبرت ان من بين الفصائل إرهابيين. روسيا تطالب، لا بل تلح، على تصنيف الجهات الارهابية، وكلف الاردن بالقيام بهذه المهمة عبر إعداد لائحة بالمنظمات الارهابية، لكن مصادر ديبلوماسية استبعدت ان تضم اللائحة اطرافاً جديدة غير «داعش» و»جبهة النصرة». هناك 2000 مجموعة تقاتل في سوريا. لكنّ هناك فارقاً بين المجموعات، فمنها تضم 100 مقاتل ومنها ما يصل عدد أفرادها الى 6000. المجموعات الكبيرة معروفة وسيكون لها دورها في العملية السياسية، وفي انتظار نتائج الدور الأردني والاجتماعات على مستوى الأمنيين، فإن الكل متفق على أن «داعش» و»النصرة» هما الإرهابيتان وهذا موقف مجلس الأمن منهما، ولن يتم الاتفاق على اي منظمة إرهابية جديدة.

الغرب يشكّك دائماً بنيات الروس ويعتبر أنهم لا يضربون «داعش» بل المعارضة المعتدلة. كما أن الغرب يطالب بحل متوازن يؤدي الى رحيل الاسد. أي أنه يجب أن لا يكون للأسد دور في مستقبل سوريا، والغرب يشكك بصدقية الدور الروسي حول الحل.

بالنسبة الى تشكيك الغرب بأن روسيا تضرب المعارضة المعتدلة اكثر مما تضرب «داعش»، تقول المصادر، إنه منذ 30 أيلول الماضي حتى اليوم ضربت روسيا 80 في المئة من أهدافها، المعارضة المعتدلة، و20 في المئة «داعش». في المقابل، يهم الروس صدور لائحة بالمنظمات الارهابية، لا سيما الجماعات التركمانية المسلحة التي يجب إدراجها على تلك اللائحة. والسبب ان روسيا حمّلت مسؤولية إسقاط طائرة «السوخوي» الروسية الى التركمان. ويأتي هذا الموقف من باب الضغط على تركيا، لتصعيد الأمور رداً على إسقاطها.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٥
المشهد السوري.. محاذير الاستعجال

لو جمعنا التصريحات والمواقف والبيانات الصادرة عن كل من البيت الأبيض والكرملين والقادة العسكريين في التحالفين الروسي والأميركي، المتعلق بآلاف الطلعات الجوية والضربات التي وجّهت إلى «داعش» وعدد المواقع التي دمّرت، وصهاريج النفط والآبار التي استهدفت، والمناطق التي تحرّرت، لكان من المفترض أن يكون هذا التنظيم قد انتهى أو على وشك الانتهاء. أما الواقع فيشير إلى أنه لا يزال يسيطر على مواقع كثيرة، ويكسب أموالاً وفيرة، وهذا أيضاً موجود في بيانات أخرى صادرة عن الجهات ذاتها، وتتحدث عن واردات التنظيم وقدراته المالية، ويتقدم في مناطق جديدة في ساحات القتال. فضلاً عن تمدده في اليمن وليبيا ووصوله إلى عواصم دول كبيرة، ونجاحه في اختراق ساحات ومجتمعات باتت تعيش قلقاً من تواجده. إذاً، أين هو نجاح التحالفين وغيرهما من القوى التي تقول إنها تقاتل «داعش»؟ نحن أمام استباحة كاملة لأراض ومجتمعات ودول تحت عنوان مكافحة الإرهاب. ولكل دولة «إرهابها» المنطلق من تعريفها للإرهاب وحساباتها الخاصة ومصالحها.

في سوريا، جاء التدخل الروسي تحت عنوان ضرب «داعش»، وكل الفصائل المعارضة انطلاقاً من التأكيد الرسمي الروسي أن كل المعارضات متشابهة، كما أعلن أكثر من مرة.

واللافت في هذا المجال التخبّط الذي ميّز المواقف الروسية الأخيرة. فالمعروف أن المسؤولين الروس قالوا في بداية تدخلهم إنه ليس ثمة شيء اسمه معارضة معتدلة، وأنه ليس ثمة شيء اسمه «الجيش الحر»، ثم أعلن عن زيارة عدد قادة هذا الجيش إلى موسكو، ثم قال الرئيس بوتين نفسه أمام كبار قادة جيشه في بداية هذا الشهر إن «بلاده تدعم فصائل من الجيش الحر»!

غريب، أين وجدوا هذا الجيش؟ كيف ولد؟ متى اكتشفوه؟ لماذا اعترفوا به؟

رئيس أركان الجيش الروسي «فاليري غيراسيموف»، أكد الموقف الذي أعلنه بوتين. لكن «ديمتري بيسكوف» الناطق باسم بوتين، قال بعد ساعات على كلام رئيسه إن روسيا تدعم الجيش النظامي وليس «الجيش الحر»! ناطق باسم الرئيس يناقض كلام الرئيس! خرج بعض المسؤولين الروس ليفسّر الموقف بأنه «تكتيك» «وتنسيق سري»، وسياسة لتضييع كل الآخرين! في النهاية إذا كان الأمر صحيحاً فهذا انقلاب على المواقف الأولى التي أطلقتها موسكو وكانت مخالفة للواقع. يعني «الجيش الحر» كان موجوداً ولا يزال موجوداً، فلماذا غيرت موسكو مواقفها؟ وإذا كان الأمر غير صحيح، فهذا يعني أن بوتين يطلق مواقف غير صحيحة، لا تندرج في خانة المناورات في مرحلة يتم فيها الحديث عن تشكيل وفود المعارضة والنظام إلى التفاوض و«الجيش الحر»، هو ركيزة أساسية في هذه العملية، وبالتالي لا يستطيع بوتين أو غيره إنكار هذا الأمر!

الأمر ذاته وقعت فيه الإدارة الأميركية في مرحلة سابقة وتحدثنا عنه في حينه، حيث كانت الإدارة تعتبر أنه ليس ثمة معارضة معتدلة، بل ستسعى إلى خلقها وذهبت في هذا الاتجاه من خلال برنامج التدريب الخاص الذي انتهى بأربعة أو خمسة عسكريين فقط! ووصفوا العملية بالفضيحة، هم أنفسهم قالوا ذلك في محيط أوباما!

عندما تدخلت موسكو عسكرياً في سوريا خرج الأميركيون إلى العلن ليقولوا إنهم يزوّدون المعارضة المعتدلة بالسلاح، ثم طوروا الموقف ليتحدثوا عن قوات كردية - عربية لمواجهة «داعش»!

في السياسة، ما جرى في الأيام الأخيرة من تحولات في المواقف الفرنسية والبريطانية لناحية المشاركة في ضرب «داعش» والتراجع عن شرط إزاحة الأسد الآن، وكذلك في موقف المعارضة التي اجتمعت غالبية فصائلها في الرياض، ثمة موافقة مبدئية على مفاوضات تنطلق بوجود الأسد. ويبقى الخلاف على انتهائها. هل يبقى الأسد فيها ولو لفترة ما أم لا؟ في هذا الوقت ستكون عمليات عسكرية - مشتركة أو غير مشتركة - ضد «داعش»، يعني سيستمر النظام مدعوماً من موسكو وإيران والميليشيات التابعة لها في مواجهة «داعش». وستعمل فصائل المعارضة الأخرى أو معظمها على الأقل مدعومة من أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسعودية وتركيا وغيرها من الدول في المواجهة ذاتها وفي ذلك ترجمة لرغبة أميركية سابقة!

في هذا الوقت يجري العمل لإغلاق الحدود التركية - السورية، مع الاحتفاظ بالإدارة الذاتية للأكراد في مناطق معينة. والبحث في ضمانات لحماية التركمان في مناطق أخرى، وبالتالي الموازنة بين مصالح الدول المختلفة إضافة إلى إعادة برمجة العمل على الساحة العراقية لسحب القوات التركية من الموصل، مع دور أساسي في ذلك لإقليم كردستان العراقي، والسعي إلى تفاهم مع الأميركيين لتحرير المدن الأساسية من «داعش» بعد تحرير «سنجار» من قبل الأكراد وإقامة إدارتهم الذاتية فيها حتى الآن!

في المقلب الآخر هدنة في اليمن، وموافقة أميركية بل دعم أميركي لـ«الحوثيين» بالذهاب إلى التفاوض في سويسرا دون إعلان موافقتهم مسبقاً على قرار مجلس الأمن! وفي هذا الموقف مسايرة كبيرة لإيران. كثيرون نسوا وهم يتحدثون عن حلول أو هدنات هنا أو هناك من لبنان إلى اليمن وسوريا، أن ثمة اتفاقاً وقع بين إيران وأميركا. والأسابيع المقبلة حاسمة في بدايات تطبيقه لناحية رفع العقوبات والدخول في امتحان النوايا والأفعال بعدها لاستثماره. مع الانتباه الدائم إلى تطور العلاقات الإيرانية- الروسية. على ضوء ذلك يمكن التطلع إلى إمكانية حدوث اختراقات آخذين بعين الاعتبار مجدداً أن مصالح روسيا لا تقف عند حدود سوريا. في الأساس تبدأ من أوكرانيا لتمر إلى حدود روسيا أما سوريا فكانت ساحة لتعزيز الدور الروسي! وقد أعلن الوزير «كيري» أنه سيتابع مع زميله «لافروف» وبتفويض من أوباما وبوتين العمل لإيجاد الحلول في سوريا وأوكرانيا. فهل ثمة أوضح من ذلك؟

حذار من الاستعجال، والغرق في تحليل التمنيات، فنحن لا نزال في البدايات.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٥
يرحل أوباما …ويبقى الأسد

 

الرقص فوق الركام السوري لم يكن متيسرا لولا تغاضي 'رئيس القوة العظمى' باراك أوباما، المولع باهتمامات أخرى، عن المأساة السورية لأنها لم تكن من أولوياته ولم تمس مصالحه العليا.

منذ خمس سنوات، كانت الشرارة عندما أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه مشعلا ثورات الربيع العربي، وإذا كان البعض في تونس يسخر الآن من “ثورة الياسمين” ويصفها بثورة “عربات بيع الخضار” مستندا إلى الصعوبات الحالية وصعود الإرهاب، فإن ذلك لا ينفي أن تونس تعتبر أفضل نموذج في مسار التحولات العربية.

وهناك نغمة نشاز مشابهة نسمعها عند أوساط سورية موالية أو انتهازية أو يائسة أو خائفة من الأعظم، تعتبر أن الخطأ – الخطيئة كان في الانتفاضة من أجل الحرية، وكأنه كان الأجدر الاستماع لتحذير النظام منذ الأيام الأولى للاحتجاح: “يبقى الأسد أو نحرق البلد” وهذا يترادف مع “الأسد للأبد”.

ومما لا شك فيه أن “المؤامرة الكونية” التي تكلم عنها الرئيس السوري بشار الأسد كانت موجهة، في الحقيقة، ضد طموحات الشعب السوري وسوريا كدولة وكيان وموقع، إذ أن النظام تقاطع مع قوى داخلية (متشددة أو جرى توريطها في العسكرة)، ومع غالبية “محفل الأمم” في تدمير البلاد وبنيتها التحتية ومؤسساتها وجيشها وقتل شعبها وتدبير أكبر تغريبة مؤسسة لتغيير سكاني منهجي. بالطبع كل ذلك “الرقص” فوق الركام السوري لم يكن متيسرا لولا تغاضي “رب بيت العالم” أو “رئيس القوة العظمى” باراك أوباما، المولع باهتمامات أخرى، والمتغاضي عن المأساة السورية لأنها لم تكن من أولوياته ولم تمس مصالحه العليا.

والآن وعلى ضوء اجتماع نيويورك (18 ديسمبر) المتمم لمسار فيينا الذي ينصُّ على مهلة زمنية من ثمانية عشر شهرا قبل الانتخابات الرئاسية السورية القادمة (لاحظوا عمق الحرص على الديمقراطية وعلى حق تقرير المصير عند جوقة “العهر الدولي”)، وعلى ضوء إصرار المحور الروسي – الإيراني يمكننا القول وفق حساب بسيط إن باراك أوباما سيغادر البيت الأبيض آخر 2016 عند انتهاء ولايته، بينما سيبقى بشار الأسد في “قصر المهاجرين” وربما سيروي لأبنائه وأحفاده أن باراك أوباما الذي اعتبر أيامه معدودة في أغسطس 2011، رحل قبله، وأنه انتصر باسم “الممانعة” على قوى “الامبريالية العالمية”.

في هذا الزمن المتغير والمباغت منذ نهايات 2010، ربما تحصل مفاجآت تطيح بهذا السيناريو، وغالبا ما كان التاريخ نتاج ما هو غير منتظر.

بيْدَ أن صعوبة الإحاطة بتقلبات اللعبة الكبرى الجديدة في القرن الحادي والعشرين (بين آخر التطورات ارتسام تقارب إسرائيلي – تركي في محاكاة أو تنافس مع التنسيق الروسي – الإسرائيلي) وكذلك بديناميكيات التغيير والتحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ العالم العربي المعاصر، وتفاقم الوضع في سوريا والعراق إلى ليبيا مرورا باليمن، دفع بالكثيرين إلى استنتاج طي صفحة “الربيع العربي” مع استمرار تحطيم الدول المركزية، والتفتت والاهتراء نظرا لمخاطر امتداد النزاع السني ـ الشيعي وآثاره السلبية على وحدة المجتمعات، ولصعود الإرهاب وتحول تنظيم “داعش” إلى تهديد عالمي لا سابق له حسب وصف أحد قرارات مجلس الأمن الدولي.

كل ذلك يتقاطع مع الذين يتكلمون عن “الشتاء الإسلاموي” في توصيف للحراك المنطلق من محافظة سيدي بوزيد التونسية في إنكار لكل إيجابيات التحولات الحاصلة، إلا أن المقاربة الواقعية تدفعنا إلى التذكير بتعبير “ربيع الشعوب” الذي جرى إطلاقه على الثورات الأوروبية في 1848، وهذا الربيع لم تكن نتائجه آنية وتلقائية، بل سرعان ما انتكس في 1849. وهذا لم يُغيّبْ إنجازات هذه الثورات التي كانت علامة فارقة في التاريخ الأوروبي. صحيح أنها كانت معركة خاسرة في البداية إلا أنها لم تكن نهاية الحرب والكلمة الفصل، وهذا الدرس المستخلص من تجارب أخرى يعد رسالة واضحة بأن التغيير قادم ولو بعد حين، مهما طال الزمن.

بعد التدخل الروسي وإقرار خريطة طريق للعملية السياسية في مسار فيينا، ومؤتمر الرياض للمعارضة السورية والتوافق الأميركي – الروسي على الخطوط الكبرى، ينتظر بعد اجتماع نيويورك للمتابعة صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يعطي إشارة الانطلاق لبدء تنفيذ خارطة الطريق العتيدة. وفي ما يتعدى أسلوب وزير الخارجية الأميركي جون كيري الذي يبدو وكأنه يسلم بدور عراب المسار لنظيره سيرجي لافروف، كان فلاديمير بوتين واضحا في مؤتمره الصحفي السنوي يوم الخميس 17 ديسمبر حينما طلب من الجميع قبول تنازلات من أجل الحل السياسي، والأرجح أن هذا الكلام موجه للنظام في سوريا ولإيران. وهنا يكمن الرهان الأميركي والأوروبي على الدور الروسي على المدى القصير في عدم إفشال المسار لأنه يضمن عدم غرق موسكو في المستنقع السوري، وعلى المدى المتوسط في التخلص من رأس النظام كي يتم الإبقاء على الجسم.

حاولت واشنطن في اجتماع أصدقاء الشعب السوري في باريس أوائل هذا الأسبوع، اقتراح تعديل في تركيبة الوفد السوري المعارض في المفاوضات وبعض فقرات البيان الختامي لمؤتمر الرياض (لجهة إيجاد تعبير خلاق أو مطاطي حول رحيل بشار الأسد) لكنها لم تفلح، لكن هذا لا يعني أن الرياض وأنقرة والدوحة، كما باريس ولندن، لن تدفع لبدء التفاوض في يناير أو فبراير القادم لوضع النظام وحلفائه على محك الاختبار.

إنها الخطوة الأولى على درب شائك، خاصة أن الشعب السوري الذي يتعرض للأهوال يحتاج، فعلا، إلى هدنة إنسانية وفرصة لالتقاط الأنفاس، لكن الطامة الكبرى في سوريا تكمن في اختصار الدولة والنظام بشخص الرئيس، وعدم بقاء الجيش كمؤسسة وطنية حامية للدولة والمجتمع. بيد أن تبلور إرادة دولية حيال ما يسمى “أولوية الحرب على الإرهاب”، والخوف من غول التطرف يمكن أن ينتج تسوية ولو عرجاء يتطلب استكمالها تغييرا في التوازنات والمقاربة، وهذا غير ممكن نظريا قبل نهاية عهد الإدارة الأميركية الحالية.

والأدهى من كل ذلك، وعلى المدى الطويل، وجوب التنبه إلى الطابع النادر للنزاع السوري، إذ أنه أول صراع دولي متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين، وربما لا بد من الرهان على معاهدة وستفاليا جديدة (أو اتفاق يالطا جديد) في نطاق الشرق الأوسط الواسع ما بين الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والقوى الإقليمية البارزة، لمنع تحول سوريا وجوارها إلى نقطة ارتكاز لنزاعات طويلة مهددة للمنطقة والعالم.

اقرأ المزيد
١٩ ديسمبر ٢٠١٥
حديث طائفي عن سورية... ولكن


يتحاشى الكتّاب وأصحاب الرأي تحليل الأحداث على أساس طائفي، لتخلّفه وعدم قدرته على إبراز المكون الحداثي في ثقاقتهم، ولأنه ينطوي على إشكالية منهجية تؤثر في نتائج التحليل، لارتكازه على التعميم، واعتباره الجماعات مغلقة على قيم وثقافة ورؤى سياسية واحدة. وبين قناعة ذاتية وإشكالية منهجية، يجري إلغاء معطيات وحقائق كثيرة، وإخراجها عنوةً من الحقل التحليلي، لتنتج تحليلاً مشوهاً، يزيد من تشويه الخريطة المعرفية للحدث.
لكن الوقائع تفرض، أحياناً، استخدام أدوات هذا المنهج، لعدم وجود إمكانية لمقاربتها بغيرها، فإذا كان الواقع طائفياً بوسائله ونتائجه، يصبح من التضليل مقاربته بطرق مختلفة، وكثيراً ما يقع اللوم على التفسير الطائفي للأحداث، بذريعة أنه يتسبب في الانقسام، ويتم التغافل عن السلوك الطائفي الذي يصنع هذه الأحداث، وكأن الاستمرار في التعمية عنها هو السبيل للقضاء عليها.
غالباً ما يجري، في سورية، الالتفاف على هذا الواقع وتجميله، بالقول إنّ الإشكالية تتمثّل بوجود نظام استبدادي لا يفرّق بين طرف وآخر، فهناك حلفاء سنة مع النظام، وحتى بين قوّاته، وبالتالي، لا تستهدف منظومته الحربية وأجهزته الأمنية الناس بصفتهم المذهبية، بقدر ما تستهدف المعارضين، بدليل أن ثمة معتقلين من كل أطياف المجتمع السوري. ولكن، نتيجة ثورة رفعت شعار المواطنة والحرية، جرى تدمير نسيج المكون السنّي بغالبيته، وجرى تصميم استراتيجيات المواجهة لهذه الثورة من أجل تحقيق هذا الغرض. ولفهم ذلك بشكل أعمق، يمكن التدقيق بمخرجات هذه الإستراتيجية التي تمظهرت، غالباً، بالحصار والتفريغ السكاني والمجازر الجماعية والاعتقال العشوائي والإخفاء القسري والاغتصاب والقصف العشوائي بالبراميل وقذائف المدفعية، حتى أبناء الأقليات الذين تم اعتقالهم، من نشطاء ومثقفين وسياسيين، كانت التّهم الموجّهة لهم: التعاون مع الإرهابيين "السنّة"، أو تقديم خدمات لوجستية لهم، أو إغاثتهم، أو تقوية موقفهم السياسي.
وقد ساعد وجود العراق وإيران في إيجاد عمق إستراتيجي لإنجاح هذه الإستراتيجية، بمدّها بكل مستلزماتها من أدواتٍ ماديةٍ وكوادر لإنجاز هذه المهمة، فإيران دخلت الحرب على أساس طائفي بحت، وكذلك حكومات العراق، في عهدي نوري المالكي وحيدر العبادي، فضلاً عن حزب الله، وبالتالي، اندمجوا ضمن أهداف ومكونات الإستراتيجية الطائفية التي تقوم على إلغاء الطرف الطائفي الآخر، واحتلال الحيز الجغرافي الذي يملكه، وإضعاف مكونه الديمغرافي إلى أبعد حد.
واتبع نظام الأسد، وحليفته إيران، استراتيجية متدحرجة، تقوم على إيجاد وقائع يومية جديدة
"بعد أقل من عقد، نكون أمام خريطة ديمغرافية مختلفة، يصبح معها الوجود السني نادراً"
سيئة، تصعّب استمرار سنّة سورية وتحطّم قوتهم، وتقوم على احتمال أنه، حتى في حال فرض هدنة، أو حتى جرى إخضاع الثورة في سورية، يجب أن تشكّل أيضاً دينامية لاقتلاع السنة وإضعافهم، المهم في الخطة أن تستمر عمليات الاقتلاع والإبادة، وطالما بقي الأسد يسطو على الشرعية ويمتلك الدولة، فإن هذه الأليات التشغيلية تستمر بعملها.
واستتباعاً، تجري الحرب، اليوم، بضراوة على التجمعات المحلية للسنة التي تشكّل كثافة كبيرة، حمص وأرياف دمشق وأرياف حلب، كما جرى وضع جنوب سورية تحت إشراف روسيا وإسرائيل ومراقبتهما لمرحلة مقبلة. أيضا الحرب تقوم على تنظيف مربعات وتوسيع المربع الذي تحت السيطرة، وإخراج السنة منه على أساس الاستمرار في عملية استكمال توسيع المربع إلى المرحلة التي يصار فيها إخراج السنة نهائيا من سورية.
وقد شكل دخول روسيا عاملاً مساعداً على إنجاز هذه الإستراتيجية، حيث تنفذها بحرفية كاملة بإصرارها على تحطيم بنية مرتكزات السنّة في سورية، وتجريدهم من كل عوامل القوة، وقد أضاف بوتين إلى هذه الإستراتيجية إغلاق كل منافذ الحياة على مناطق الشمال والجنوب، وفتح إمكانية لإسرائيل للقيام بجزء من عملية التطهير والإفراغ. وتستثمر روسيا وحلفاؤها مناخ الحرب على الإرهاب، لإدماج مشروعها في إطاره، وفي ظل الصمت العالمي، كما تستثمر حالة اللبس بين الحرب على التطرف وحق السوريين في الحياة والاستقرار.
نتيجة ذلك كله، أصبحت المجتمعات السنية ضعيفة ومنهكة، وهي تقف على بوابات الاقتلاع، وتساعد على إتمام هذه المهمة التحضيرات اللوجستية التي يتم تجهيزها، حيث تؤسس إيران لبنية عسكرية مذهبية، قوامها مئات آلاف المقاتلين العراقيين والأفغان والإيرانيين، كما تضاعف روسيا من أصولها العسكرية بدرجة ملحوظة في سورية، ما يعني أننا، وبعد أقل من عقد، نكون أمام خريطة ديمغرافية مختلفة، يصبح معها الوجود السني نادراً.
عملياً، وبعد تهجير أكثر من خمسة ملايين، وقتل وإخفاء واعتقال حوالي مليونين، ومحاصرة مثلهم، وارتهان عدة ملايين بين حواجز النظام، وهروب جيل الشباب، فإننا أمام دينامية اقتلاع خطيرة، ستقذف كل يوم آلافاً من سنة سورية الذين باتوا أقلية، وليس أقلية مستقرّة، بل مجموعات متناثرة في مواجهة العاصفة، ومسموح استخدام كل آليات التدمير والاقتلاع بحقهم. ويتوجب، تالياً، على المجتمع الدولي المهتم بالأقليات الاهتمام بهذه الأقلية، ورفع درجة الإنذار لحمايتها من بطش مجموعة من الدول.

اقرأ المزيد
١٨ ديسمبر ٢٠١٥
هل يحوّل القرار الأممي سوريا لـ"ملعب" بآلاف الكُرات و مثلها من الأهداف !؟

ساعة ونصف هو الوقت الاجمالي الذي احتاجه دول العالم ، وكذلك مجلس الأمن ، لتخرج متفقة على ذات المبادئ التي تم اقرارها في مؤتمرات سابقة (جنيف بشقيه- وفيينا) .

نفس الكلمات تكررت ، وقف لإطلاق النار ، فك الحصار ، حماية المدنيين ، حكومة انتقالية ، انتخابات و اشراف اممي و دولي ، محاربة الإرهاب ، و ما إلى ذلك ، دون الإقتراب إلى لب المشكلة و أساسها ألا وهو "بشار الأسد" ، الذي يبدو أنه سيبقى لمدة لا تقل عن عام و نيف ، مع إمكانية التمديد له لسبع سنوات أو استبداله بشبيه يحافظ على ذات النظام ، لنكون أمام سوريا ذاتها التي ألفنها منذ ١٩٧٠ .

الإرهاب و تعريفه الفضاض يجعل كل من يعترض تحت هذه القائمة ، و كل من يقف بوجه أي حرف مما تم الاتفاق عليه ، عبارة عن متمرد في أحسن الأحوال .

القضية المركزية التي تم تأجيلها لـ ١٨ شهراً ، ماهي إلا قنبلة ليست مؤقتة ، وإنما مصنع قنابل سيضع كل ما تم في مهب الإنفجار ، و الأمور باتجاه التفلت الغير محدود العواقب ، زمانياً ومكانياً.

سلّم من توجه إلى الرياض ساسة أم عسكر ، أن الثورة خرجت و تطورت للوصول إلى هدف ثابت لم يتغير ، وهو انهاء الأسد ، العودة بسوريا إلى مدنيتها ، و حسم الشأن العسكري إلى غير رجعة ، من خلال التفاوض و رحيل المشكلة الرئيسية "الأسد" ، لكن بعد ترك الباب موارباً أمام إدخال و إخراج الموجودون ، تبعاً لأهواء هذا الطرف أو ذاك ، سيجعل من هذا الباب هو الصاعق الذي سيحول سوريا إلى قنبلة ستتناثر شظياها بكل صوب .

الحقيقة المنطوق الفضفاض ، لقرار مجلس الأمن ، و غياب أي اشارة من قريب أو بعيد عن بشار الأسد و أركان نظامه و مليشياته ، يجعل من القرار عبارة عن اجتماع لمّ الوزراء ، و تبادلوا أطراف حديث نسائي صباحي ، و كل منهم عاد إلى بلاده ، ليكرر إحدى الاسطوانتين "على الأسد الرحيل " أو "الشعب يقرر رحيل الإسد" .

و بالعودة إلى الداخل السوري و الذي يعتبر هو الأصدق و الأكثر تأثراً ، فإن المنعكسات لمنطوق القرار الدولي ، ستكون في غاية التعقيد ، وتهدد اللحمة و الإلفة التي فرضها و أسس لها وحدة العدو "الأسد" ، ومع هذا القرار ستشق الصفوف في الداخل إلى عشرات الصفوف و التكتلات ، لتكون سوريا ساحة صراع من نوع جديد يتمثل بجملة " الجميع يحارب الجميع لأجل البقاء".

من الممكن استباق هذا الإرتداد من خلال مقترح الأخذ بفكرة جيش الفتح و التوسع بها بحيث يكون هناك حكومة سياسية إلى جانب العسكرية ، هو الحل الذي طرأ على من هم في الداخل ، على مبدأ "العزل عن الخارج" ، متابعة الطريق في معركة غير معروفة الأعداء أو الجهات و الجبهات التي تفتح .

القرار اللغز  سيزيد من حجم المتاهة الموجودة و الفارضة لنفسها ، فالجميع يريد الاحتفاظ بالكرة ، و كل طرف يرى المرمى في مكان ، مختلف عن الآخر ، لتبقى الكرات في الملعب ، تنتشر "جهات الاستهداف" بكل مكان ، بحثاً عن الهدف الذي يحسب لهذا على ذاك ، و بنفس الوقت ضد الجميع ، و الجميع هنا هم الشعب ...

اقرأ المزيد
١٨ ديسمبر ٢٠١٥
روسيا وإيران لتغيير مسار فيينا ... بعد «صدمة» الرياض

هل بدأت روسيا وإيران عملية منهجية لإسقاط مسار فيينا لإنهاء الأزمة في سورية، بعدما أحبطتا مسار جنيف قبله؟ المؤكّد أن لديهما أسباباً، خصوصاً روسيا التي تعتبر أن الأطراف الأخرى الجالسة إلى الطاولة لم تغيّر موقفها من نظام بشار الأسد، أي أنها لم تفهم بعد مغزى التدخل الروسي أو لا تريد الاعتراف بالتغيير الذي طرأ على موازين القوى داخلياً لمصلحة النظام. أما إيران فكانت ولا تزال رافضة صيغة جنيف لـ «حكم انتقالي»، والفارق بينها وبين روسيا أن الأخيرة تقبل تكتيكياً البحث في «الانتقال» كطريقة جدلية لتسويق مفهومها لـ «بقاء الأسد».

منذ عشية مؤتمر الرياض للمعارضة، بدأت موسكو تطلق إشارات اعتراضية متتالية تلقتها واشنطن بالإعلان فجأة عن زيارة جون كيري روسيا. كانت بداية الاعتراضات على نقل لقاء «مجموعة فيينا» إلى نيويورك، وتواصلت باستعجال الحصول على قائمة «التنظيمات الإرهابية» التي كلّف الأردن بإعدادها، ثم برفض الصفة التمثيلية للمعارضين المدعوين إلى الرياض، وكان آخرها تساؤل سيرغي لافروف لماذا ترفض واشنطن إشراك «نظام الأسد» في الحرب على «داعش»... كل ذلك يشي بأحد أمرين: إمّا أن الروس يرون أن الخطوات التمهيدية لتطبيق «خريطة فيينا» لا تسير على النحو الذي يناسبهم، وإما أنهم يريدون مساومة الأميركيين على شروط جديدة لاستمرارهم في تبنّي هذه «الخريطة». وقد مهّدوا للمساومة أولاً بالتصعيد المفتعل للتوتر مع تركيا، ثم بتكثيف القصف على مناطق المعارضة، وكذلك بغضّ النظر عن العمليات الوحشية التي يقدم عليها النظام في منطقة الغوطة.

غضبت موسكو وطهران لأن مؤتمر الرياض استبعد «المعارضين» المزيفين الموالين لهما أو للنظام. لذلك، أجمعت الأطراف المتضررة من المؤتمر على ذريعة واحدة لتبرير غياب عملائها، وهي أن المؤتمرين، أو بعضاً منهم، «إرهابيون». فالخارجية الروسية قالت أن قسماً «كبيراً» من المعارضين السوريين قاطعوا «لأنهم رفضوا الجلوس إلى الطاولة نفسها مع متطرفين وإرهابيين». أما نائب وزير الخارجية الإيراني فقال أن «مجموعات إرهابية على صلة بداعش تشارك في هذا الاجتماع». وبالطبع، قال الأسد أنه يرفض التفاوض مع «جماعات إرهابية» إلا بعد «تغيير منهجها والتخلي عن سلاحها». وإذ قدّمت تصريحات «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، مساندة للنظام والإيرانيين، بتهجّمه على ممثلي الفصائل المقاتلة الذين قال أنهم لا يستطيعون تنفيذ ما يلتزمونه، فإن هذه المساندة ملتبسة لأنها تبعد شبهة الإرهاب عن تلك الفصائل.

ولكي تكتمل الصورة فإن رئيس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي صالح مسلم، وهو أحد المستبعدين، اختار اللغة نفسها لتوكيد المحور الذي ينتمي إليه ولم يوفّر أي سبب يدعو إلى تخطئة استبعاده، إذ قال أن «الهدف الأساسي للمؤتمر كان إضفاء شرعية على منظمات وفصائل مشتقّة من تنظيم القاعدة». واعتبر أن كيانات أخرى عربية وكردية وتركمانية «معروفة بمعارضتها للنظام» استُبعدت عمداً لأنها لا تدعم مواقف الأطراف الخارجية ولا تلبي أجنداتها، وكان الأجدى أن يذهب بالصراحة إلى أقصاها للقول أن حزبه وتلك «الكيانات» غُيّبت لأنها تدعم أجندة إيران، وبما أن إيران تدعم النظام وتعتبره «خطاً أحمر» (وفقاً لعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد)، فهذا يعني أن تلك «الكيانات» ملتزمة هذا «الخط»، ولو دُعيت إلى الرياض لوجب فتح المؤتمر لعدد لا يُحصى من «المعارضين»، ولما أمكن التوافق على شيء.

ولأن مؤتمر الرياض كان لحظة حاسمة لدسّ مَن صنّعتهم استخبارات روسيا وإيران ونظام الأسد في «خريطة الحل السياسي»، ولا وجود لهم على الأرض، فإن غيابهم شكّل خسارة لمن استثمروا فيهم منذ زمن. وللتخفيف من الخسارة جرى ترتيب ذلك «المؤتمر» في المالكية، إحدى مناطق سيطرة قوات حزب «الاتحاد» الكردي، وكان بين أولوياته مناقشة «مسألة الفيديرالية الديموقراطية»... هذا يدفع بالخيارات إلى ما هو أبعد من «خريطة فيينا»، بل يرمي إلى توجيه «الحل السياسي» نحو هدف كان لا يزال محور تفكير النظام وإيران، فالفيديرالية هو الاسم الآخر للتجزئة والتفتيت واالتقسيم. وجاءت روسيا الآن لدعم هذا التوجّه، بدليل خدماتها الجويّة لعمليات «التطهير العرقي» الذي تنفّذها قوات النظام ضد التركمان بعد التطهير المذهبي للسنّة، مواكبة للتطهير العرقي الذي أقدم عليه حزب «الاتحاد» للعرب في محيط تل أبيض ويواصله حالياً بتهجير التركمان. وليس مصادفةً أن يتزامن ذلك مع استكمال إفراغ حمص من سكانها السنّة. وكلّها عمليات لا بد من التذكير بأنها تكرّر السيناريوات الإسرائيلية لاقتلاع السكان الفلسطينيين. وهكذا، فإن «مؤتمر المالكية» لم يكن للردّ على مؤتمر الرياض فحسب، بل خصوصاً لخدمة أغراض التحالف الأسدي – الإيراني بالردّ على أولى الثوابت التي أجمعت عليها المعارضة في الرياض، وهي «الوحدة أرضاً وشعباً».

واقع الأمر أن روسيا وإيران لا تكتفيان بأن تتمثّلا بوفد النظام في أي مفاوضات مزمعة، بل تتضامنان مع هذا النظام في السعي إلى الاستحواذ على حصة مهمة في وفد المعارضة، وطالما أنهما لم تحصلا عليها، فقد وجهتا سهام النقد إلى مؤتمر الرياض بأنه استضاف «إرهابيين». وتلك ذريعة دعائية أصبحت مستهلكة، لا يدحضها سوى أن «إرهاب نظام الأسد» فاقع البروز في بديهيات صورته وتكوينه وممارساته، ولم يضف إليه تحالفه مع روسيا وإيران سوى «شرعنة» هذا الإرهاب، وهما المشهورتان بترهيب معارضيهما، أما ما نقص من تلك «الشرعية» فاستكمله النظام من وحشية «داعش»، حتى أصبح قادراً على تخيير المجتمع الدولي بين إرهاب «دولة الأسد» وإرهاب «دولة البغدادي». والأكيد أن روسيا وإيران والنظام يريدون مفاوضات بين وفدين متطابقين، ففي أي عقل يمكن أن يستقيم ذلك؟ فقط في العقل الذي سبق للإسرائيليين أن عبروا عنه بسعيهم إلى فرض تسوية على الفلسطينيين تقوم على «موازين القوى العسكرية»، والروس والإيرانيون يتمثّلون بهذا النهج المستمدّ من كل ما يعنيه الاحتلال من استبداد وعدوانية. فكما أن الإسرائيليين يتوقعون من المفاوض الفلسطيني الرضوخ لإملاءاتهم، كذلك يريد الروس والإيرانيون من المعارض المفاوض أن يبارك بقاء النظام ويكتفي بما يعرضه عليه.

لذلك، يوافق سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف ظاهرياً على بيانات فيينا التي تقول أن مرجعية الحل السياسي هي بيان «جنيف - 1»، أما خارج الاجتماعات فيتمسّك الروسي بـ «حكومة وحدة وطنية» نافياً أي صفة «انتقالية» للحل المنشود وللمفاوضات بمجملها، بل شاطباً البند الأول من «جنيف - 1» وهو إقامة «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة». ويفسّر الأسد والإيرانيون الكلام الروسي بأنه يعني استمرار النظام مع حكومة مطعّمة بمعارضين حدّدوا أعدادهم وأسماءهم وحقائبهم مسبقاً. وإذا لم ينجح هذا الخيار، وهو لن يمرّ بأي حال، فإنهم يعتبرون أن الحسم العسكري عاد متاحاً بوجود الحليف الروسي الذي لا تبدي الولايات المتحدة أي إرادة أو رغبة في مواجهته.

بالطبع، هناك أسباب كثيرة للاعتقاد بأن أميركا غير مستعدة لدعم من يرغب من حلفائها الإقليميين في خوض مواجهة طويلة الأمد مع الروس، لأنها غير موافقة عموماً على النتيجة المحتملة لصراع كهذا، وكانت غير مقتنعة بدور عسكري للمعارضة وازدادت اقتناعاً بعد التدخّل الروسي. فأقصى ما تتمناه هو إقناع روسيا بأن تكون لديها استجابة واقعية لمتطلبات حل سياسي «معقول ومتوازن» يمكن الضغط على المعارضة وداعميها لقبوله. لكن، كلما اقتربت واشنطن من لحظة مفصلية في الشأن السوري، متوقّعة أن تلاقيها موسكو في منتصف الطريق، رفعت الأخيرة ورقة أوكرانيا والعقوبات، أي «اعطوا هنا لتأخذوا هناك». ولأنها ترفض أن «تعطي» في أوكرانيا، فإنها لن «تأخذ» في سورية. لذا، بدت مشوّشة ومرتبكة، إذ لم يفصل سوى ساعات بين بيان للخارجية الأميركية يرحّب بنتائج مؤتمر الرياض، وبين إعلان جون كيري أن لديه «مشكلتين» في تلك النتائج. فهل كان يتصوّر مثلاً أن تقرّر المعارضة الموافقة على حل سياسي «بوجود الأسد وزمرته»، أم كان يتوقّع التزاماً أقل بـ «حكم انتقالي» (بيان جنيف - 1) وقبولاً أكثر بـ «حكومة وحدة وطنية» (بيان فيينا). لو كان هذا هو المطلوب لما أمكن أصلاً عقد مؤتمر الرياض.

اقرأ المزيد
١٨ ديسمبر ٢٠١٥
سورية والحل الروسي: عن التسوية الأخطر من الحرب

يشكل توحيد موقف المعارضة السورية وإعلان إنشاء الهيئة العليا للتفاوض في مؤتمر المعارضة السورية في الرياض، 8-9 ديسمبر/ كانون أول الجاري، خطوة كبيرة على طريق الدخول في مفاوضات محتملة مع ما تبقى من النظام، بمقدار ما تنزع ذريعة أساسية من الذرائع التي كان يستخدمها حلفاء الأسد في طهران وموسكو، من أجل تبرير رفضهم أي حل سياسي. لكنها حتى لو تم "إصلاحها" بإضافة بعض الشخصيات "المعتدلة جداً"، حتى لا نقول المعادية للثورة أصلاً، كما تريد موسكو، فلن يتغير الوضع كثيراً ولن تكون، لا هي ولا النظام، طرفاً مهماً في الحل. بل على الأغلب، كما أظهرت التطورات الأخيرة، ألا تكون هناك مفاوضات حقيقية أبداً، أو ألا يكون دور مائدة المفاوضات التي سيجتمع من حولها السوريون، إلا ذريعة لتمرير التسوية الدولية التي تطبخها الولايات المتحدة بهدوء، والتي تهدف إلى طي صفحة "الأزمة" السورية، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة الرد على المخاوف والتطلعات الخليجية، والسعودية منها بشكل خاص، في ما يتعلق بمصير سورية ومصير المنطقة ككل، وبالجوهر بدور إيران الإقليمي.

بين المكابرة الكلامية والتسليم بالأمر الواقع
وعلى الرغم من بعض المظاهر التي تشير إلى العكس، لا توجد بين المقاربتين، الأميركية والروسية تناقضات، ولا حتى اختلافات عميقة. الهم الرئيسي لواشنطن، ومن ورائها أكثر فأكثر العواصم الغربية، أن تطمئن الرياض على موقعها في سورية، من أجل أن تلعب الدور الإيجابي الذي ينتظره منها الجميع، وروسيا أيضا. وتعتقد واشنطن عن حق أنها، بغياب أي إرادة في الانخراط من باراك أوباما، أن روسيا مفتاح الحل. وتشعر موسكو، منذ بادرت إلى التدخل العسكري المباشر، وركبت مخاطره، بأنها مكلفة من المجتمع الدولي بأكمله بهذه المهمة، أعني الخلاص من "الأزمة السورية"، وطي ملفها بأي ثمن، لقطع طريق التوسع غير المسيطر عليه للإرهاب العالمي، كما تشعر بأنها الوحيدة القادرة على تنفيذها بكل ما تتضمنه من أعمال قذرة، تستدعي القضاء على مزيد من المدنيين السوريين، في سياق كسر القوة الضاربة للجيش الحر، وإجباره على الاستسلام، وإجبار السوريين جميعاً، من وراء ذلك، على القبول المؤقت بحكم الأسد، والتخلي عن حلم الانتقال السياسي وتغيير النظام، وكذلك بما يقتضيه تنفيذها، أيضاً، من أعمال "إيجابية" تنطوي، بشكل رئيسي، على إقناع الرياض وطهران بتخفيض سقف مطالبهما للتوصل إلى تسوية توقف القتال في سورية، وتعيد توحيد الدول الإقليمية، تحت قيادة روسيا، حول مهمة الحرب المقدسة ضد الإرهاب واستئصال داعش والمنظمات الجهادية السنية، ما سيشكل برهاناً ناصعاً على عودة موسكو المدوية إلى ساحة السياسة الدولية.
ومن الواضح أن الأمم المتحدة ليست بعيدة عن المصادقة على هذا التكليف، ولا تجد فيه ما يناقض رسالتها، بعد أن عجزت عن القيام بأي دور لحفظ حياة المدنيين، ووقف القصف بالبراميل المتفجرة، ووضع حد لحصار التجويع والموت البطيء الذي يعاني منه ملايين السوريين. ولا يقوم ممثلها، ستيفان دي ميستورا، بشيء آخر سوى انتظار نتائج الخطة الروسية لتمهيد الأرض ليبدأ عمله، تحت شعار بدء مفاوضات سورية سورية، تستكمل التسوية الإيرانية الخليجية، وتكون ملحقاً مرتبطاً بها. وفي هذه الحالة، لن يحتاج المبعوث الدولي إلى عبقرية كبيرة، حتى يستطيع أن يكيف مطالب المعارضة السورية، بعد أن جرّد لحمها عن عظمها، مع مطالب التسوية الإقليمية، وأن يقنع السوريين بأن الحصول على عظمة مبلولة بمرق السلام والديمقراطية الانتخابية، وبوعود إعادة الإعمار أفضل من البقاء في العراء، تحت نيران القنابل الحارقة والصورايخ الباليستية والمجنحة، القادمة من البر والبحر والجو. باختصار، ما سيقال للسوريين إن من الأفضل لكم أن تحافظوا على حياة ما تبقى من أبنائكم، بدل دغدغة أحلام الحرية والتعلق بأوهام الثورة وقيم الكرامة والسيادة المستحيلة. ولن يكون صعباً إقناع من اختير من بين السوريين ليمثل المعارضة بأن حظ السوريين عاثر، لأن ثورتهم جاءت في سياقات إقليمية ودولية صعبة، وإن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.
 
ولا يتناقض السعي الأميركي الروسي إلى ترتيب تسوية إقليمية على حساب الشعب السوري،
"على الرغم من بعض المظاهر التي تشير إلى العكس، لا توجد بين المقاربتين، الأميركية والروسية بشأن سورية أية تناقضات، ولا حتى اختلافات عميقة"
بمساعدة أشقاء وحلفاء وأصدقاء، مع البيان الذي وقعت عليه أقلام المعارضة السورية في الرياض، والذي يتمسك بموقف المعارضة المعروف من دون تغيير، سواء في التأكيد على مرجعية جنيف1 أو في التمسك بمرحلة انتقالية، تقود إلى تغيير نظام الحكم الديكتاتوري بنظام حكم ديمقراطي جديد. بل هو جزء من عملية التصفية نفسها، والتعبير الفاقع عنها. وينطبق الأمر نفسه على خطاب "عنترة" الأسد، وإصراره التاريخي على رفض الاعتراف بالثورة وبالمعارضة، أو التفاوض معها على أي شيء، قبل أن تلقي السلاح، وأن يقدم لها بعد استسلامها أكثر من موقع أجير صغير ينضم إلى حكومة وحدة وطنية، يقودها بنفسه، كما قادها في كل وقت، حسب إرادته ومزاجه، لكن، هذه المرة، تحت رعاية روسيا العظمى. فمراعاة الطرفان في خطابيهما أمر ضروري لحفظ ماء وجهيهما وتشجيعهما على الانخراط من جهة، ولرعاية أوهام القوة والسيادة والانتصار التي يحتاجان إليها كي يتمكنا من إقناع قاعدتيهما بالسير وراء الخطة شبه السرية المطروحة.

عندما تصبح موسكو الخصم والحكم
لكن، لا بيانات المعارضة الاستعراضية، ولا خطابات الأسد وأحاديثه العنترية هي التي ستحكم مسار التسويات، وتقرر مصير السوريين، وتوزيع الحصص والمنافع ومناطق النفوذ على هؤلاء وأولئك. ليس ذلك كله سوى الغلالة المطلوبة للتغطية على المداولات الدولية المعقدة والمكثفة التي تدور في الأقنية السرية، والتي آخر من يعلم بها هم السوريون على مختلف أطيافهم ومواقعهم وانتماءاتهم، فالمفاوضات المزمع إطلاقها ليست، بالأساس، سورية سورية، لكنها مفاوضات دولية لفك الاشتباك بين الدول الإقليمية المتورطة في الحرب السورية وتوحيدها ضد الإرهاب، ولا تعني السوريين إلا بمقدار ما يتوجب عليهم تنفيذ مخرجاتها، من خلال حكومة وحدة وطنية والانخراط جميعا، موالين ومعارضين، معها في الحرب المقدسة، متناسين مشكلاتهم "الصغيرة".
في هذا السياق، لا تصبح القضية السورية عادلة أو غير عادلة تستحق الاهتمام بها ومواجهتها كمشكلة أساسية، حتى من منظور حرب أهليةٍ، لا من كونها صراعاً شرعياً لشعبٍ ضد طاغية، وإنما تتحول إلى عقبةٍ، ينبغي التخلص منها للتفرغ لقضية أكبر تمس مصير الإنسانية، ولا يتوقف أذاها على السوريين وحدهم. فعلى السوريين أن ينسوا، اليوم، نزاعاتهم، ويرتقوا إلى مستوى المشاركة في الحرب الدولية على الإرهاب، ويتجاوزوا نزاعهم مع طاغيتهم، هذا واجبهم، وما ينتظره العالم منهم، ولا يهم على أي قاعدة وبأي ثمن.
هذه هي النتيجة الطبيعية والمنطقية لتغييب المسألة السورية، مسألة الثورة ضد الديكتاتورية الدموية، وراء مسألة داعش والحرب ضد الإرهاب. وهو ثمرة الاستراتيجية الطويلة المدى التي طبقها حلفاء الأسد، منذ البداية، بإطلاق سراح معتقلي القاعدة في السجون السورية والعراقية، وفتح مخازن أسلحة جيوشهم لهم، وكذلك بالنفخ في نار حربٍ طائفيةٍ موازيةٍ للحرب السياسية، من خلال زج المليشيات الطائفية العراقية واللبنانية في المعركة، وإغراق سورية بالدم وجرائم الإبادة الجماعية هنا وهناك. وهي الاستراتيجية التي أتقنها الأسد، ومارسها مع حلفائه، من خلال اختراق التنظيمات المتطرفة أو تكوينها، على مدى عقود، في سورية ولبنان والعراق وفلسطين.
وبصرف النظر عن المظاهر المخادعة، تلتقي جميع الأطراف الدولية اليوم، الصديقة والعدوة،
"تلتقي جميع الأطراف الدولية اليوم، الصديقة والعدوة، على تغييب القضية السورية، واعتبار مواجهة الإرهاب القضية المركزية اليوم في سورية والعراق والعالم أجمع"
على تغييب القضية السورية، واعتبار مواجهة الإرهاب القضية المركزية اليوم في سورية والعراق والعالم أجمع، وأن المطلوب لوقف انتشار الهمجية هو جمع الأطراف الإقليمية والدولية في تحالف واحد. وفي السياق نفسه، جمع قوى المعارضة إلى جانب النظام، من أجل استئصال داعش وأخواتها. ولا مانع، في البداية للوصول إلى هذا الهدف، من استخدام مزيد من الهمجية والقتل، لإقناع قوى المعارضة المسلحة بتغيير منحى القتال وهدفه. وهذا ما يعكسه، بشكل فاضح، الصمت الدولي عن العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الروسية الجوية، بالتنسيق مع طهران والأسد، والتي تستهدف، بشكل رئيسي، قوات المعارضة، وتتسبب بمجازر ودمار لا مثيل لهما في المدن والأحياء المستهدفة.
بالتأكيد، لا يعني رسو المناقصة في التخلص من القضية السورية على موسكو أن مواقف جميع الأطراف متطابقة، أو أن هناك تفاهماً مسبقاً حول نتائج التسوية المطلوبة، السورية أو الإقليمية. كما لا يعني تسليم الولايات المتحدة لروسيا بقيادة عملية التسوية تطابق مواقفهما، أو الاتفاق المسبق على كل ما يحصل. هناك تعاون وتنسيق، لكن لكل طرف مصالحه، وعليه أن يتحمل مسؤولياته. وربما ستكون واشنطن سعيدةً، إذا غرقت موسكو في المستنقع السوري، أيضاً، وفشلت في الوصول إلى أهدافها. لذلك، لا يعني التنازل لها عن قيادة العملية أنه لم تعد هناك خلافات، أو أن التسوية السورية، وأهم منها التسوية الإقليمية، أصبحت جاهزة.
إلقاء واشنطن والغرب المسؤولية على روسيا يهدف إلى الهرب من المسؤولية بأرخص الأثمان. وهذا أخطر ما في الأمر. فهذا ما يجعل روسيا تعتقد أنها وحدها تستطيع أن تقرر صيغة التسوية المطلوبة ومضمونها. وهذا ما تحاول أن تفعله، بسعيها إلى إخراج الأطراف التي تتعارض مع رؤيتها وتهميشها، وفي طليعتها تركيا، كما يظهر ذلك تفاقم التوتر بين أنقرة وموسكو، وكذلك قوات المعارضة التي ترفض القبول بتوجهاتها ورؤيتها للحل. والنتيجة أن معركة موسكو من أجل التسوية تنزع إلى أن تتطابق بشكل أكبر مع معركة روسيا للدفاع عن مصالحها القومية في الشرق الأوسط، أو لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها، وإعادة تعريف مصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، على حساب جميع الأطراف الأخرى. وهذا ما يجعل من دور روسيا إشكالياً، ويهدد التسوية نفسها، السورية والإقليمية، ويظهر أنها ليست جاهزة بعد، بعكس ما يتراءى لأطراف إقليمية ودولية وسورية عديدة، تعتقد أنها في طريقها إلى الخروج من الأزمة واحتواء مخاطر استمرارها.

تغييب القضية السورية لن يسهل الحل
ليس لدى موسكو أي مشكلة مع الغرب في تطبيق رؤيتها والدفاع عن مصالحها، فمن جهةٍ لم يعد للغربيين في سورية عموماً مصالح حيوية يدافعون عنها. ومن جهة ثانية، لم يعد الاستثمار العسكري والسياسي يقدم فيها أي عائد مغرٍ، مع تعاظم الرهانات الموضوعة عليها والاستثمارات الكبرى من القوى الإقليمية المتنازعة. ولولا ضغط مسألة الإرهاب الدولي، وتفاقم أزمة اللاجئين، لما استمرت القوى الغربية توليها أي اهتمام، ولتركتها بؤرة للحرب والنزاع والفوضى، كما هو الحال في مناطق كثيرة في العالم.
وبالمثل ليس لموسكو مشكلة مع إسرائيل، فمشروع التسوية الذي تقترحه، والذي يعني جوهرياً
"معركة موسكو من أجل التسوية تنزع إلى أن تتطابق بشكل أكبر مع معركة روسيا للدفاع عن مصالحها القومية في الشرق الأوسط، أو لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها"
تحييد الشعب السوري، وإخراجه من المعادلة، لصالح الحفاظ على النظام المفصول عن شعبه، هو تماماً ما تريده إسرائيل، ويتطابق مع خططها في الحفاظ على غلالة نظامٍ، لم يعد سوى ظل نفسه، تستطيع في ظله استكمال عملها في إفراغ سورية من قوتها السياسية والعسكرية، والاقتصادية، وتدمير أسلحتها الاستراتيجية، وتقويض آمال إعادة بنائها دولة وطنية، وبالتالي، ضمان سيطرتها على الوضع والتحكم به، والتكريس النهائي لضم أراضي الجولان المحتلة.
لكن الوضع يختلف عندما يتعلق الأمر بالسوريين وبالدول الإقليمية، فعلى روسيا لكي تنجح في فرض تسوية دائمة تكرس نفوذها، وتحفظ لها حصة الأسد في توزيع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والجيوسياسية في سورية، أن تقنع الشعب السوري بأن القبول بعودة الديكتاتورية الدموية لآل الأسد والحفاظ على أجهزتها القمعية المتوحشة، مصلحة قومية سورية ينبغي التمسك بها. وهذا لن يحصل من دون الاستمرار في الحرب، لكسر إرادته، ولتحييد مقاتليه وإرهابهم.
وعليها ثانياً أن تجد جائزة ترضية تليق بمقام طهران و"بابها العالي" التي وضعت كل ثقلها في الحرب منذ خمس سنوات، والتي تعتقد على الرغم من أنها لا تشترك بأي حدود أو قربى ثقافية مع دمشق، أن سورية أصبحت جزءاً من مجالها الحيوي، وأن السيطرة عليها مصلحة قومية إيرانية، ولن تقبل تقاسم السيطرة والنفوذ فيها مع أي أطراف إقليمية منافسة لها، بعد أن رفضت ذلك مع الشعب السوري نفسه.
وعلى موسكو، ثالثاً، أن تقنع تركيا التي تربطها بسورية حدود مشتركة تتجاوز 900 كلم، والتي تحملت العبء الأكبر من المحنة الإنسانية للحرب، مع وجود أكثر من مليوني لاجئ ومقيم سوري فيها، أن تنسى علاقاتها التاريخية والسياسية والثقافية والتجارية الطويلة مع دمشق، وتغض النظر عن مخاطر تمدد داعش والتنظيمات الإرهابية على حدودها، وعن المخاوف التي تتسبب فيها إعادة إحياء المشكلة الكردية القومية، وتقبل بأن تسحب أنقرة يدها من المسألة، وربما أن تقر بخطئها وتعترف بمسؤوليتها عن تغذية الإرهاب في سورية والمنطقة، وتعتذر عنها.
وعليها رابعاً أن تضمن لدول الخليج التي تشكل سورية امتداداً جغرافياً لها، وتجمعها معها وشائج القومية والثقافة والدين، وتمثل من دون نقاش خط الدفاع الأول عنها، في مواجهة إرادة التوسع والهيمنة الإيرانية على المنطقة، أن أمنها القومي لا يستدعي رحيل الأسد الذي تحول إلى بيدق في يد طهران، وإنما في تعزيز سلطته وإعادة تأهيله.
ما من شك في أن مكانة الدول ومواقعها التي تطورت بالتدريج، وتكرست، على مدى عقود سابقة، على الساحة الإقليمية، قد تغيرت بعد سنوات الحرب الطويلة، وظهرت خريطة جديدة لتوزيع المصالح ومناطق النفوذ، وبرزت مصالح استراتيجية واقتصادية، لم تكن واضحة أو مهمة من قبل، وانهارت أحلام دول، وولدت مطامع دول جديدة. ومن هذه المصالح ما يرتبط، اليوم، بالصراع على السيطرة على سوق الغاز الذي تتنازع فيه، وعليه، روسيا وإيران ودول الخليج، والذي تشكل السيطرة على حقوله الكبيرة المكتشفة في الساحل السوري، بالإضافة إلى دور الجغرافية السورية طريقاً للعبور نحو أوروبا، مصدر نزاعات جديدة، تنطوي بالنسبة لبعضهم على رهانات استراتيجية كبرى. وكما لم يعد من الممكن العودة بالمنطقة إلى التوازنات السابقة على الحرب التي ضمنت بقاء نظام الأسد والتوافق عليه. لم يعد من السهولة تحويل هذا النظام نفسه إلى مرتكز لإعادة بناء توازنات جديدة، ولم يعد نظام الأسد نفسه قادراً على البقاء بنفسه حتى يضمن بقاء مثل هذه التوازنات الإقليمية. الاحتفاظ بالأسد، بعكس ما يعتقد الروس، بدل أن يساعد على الحل، يعني، بحد ذاته وفي جوهره، الرفض القاطع للتسوية، وفرض الأمر الواقع، أي ببساطة الاستمرار في الحرب.
وكما كان إسقاط النظام الديكتاتوري الهدف الذي وحّد من حوله الشعب السوري، يشكل التمسك ببقائه، والإلحاح عليه الدافع الأكبر لتقسيمهم. وكما كان إنهاء النظام ورمزه المشخص جوهر ثورتهم، لاستعادة كرامتهم وسيادتهم كشعب، سيكون تثبيته والتمسك برمزه الأسد تعبيراً عن الاستمرار في إنكار ثورتهم وتضحياتهم الهائلة، وتجريدهم من حقوقهم، وفي مقدمها حقهم الأسمى في تقرير مصيره.
تقاتل جميع الأطراف على الأرض السورية، من أجل زيادة مكاسبها وتعظيم نفوذها، أما السوريون فيقاتلون دفاعاً عن وجودهم وكرامتهم وحقوقهم، أي عن إنسانيتهم. وإذا استمر الروس، ومن يساندهم في إصرارهم، على إخراج الشعب السوري من المعادلة، وترتيب تسوية إقليمية على حسابه، سواء جاء ذلك بذريعة ضعف معارضته أو انقسامه وتنوعه الديني والإثني الواهية، فلن تكون النتيجة تسوية توقف الحرب، وإنما أفغانستان جديدة، على امتداد المشرق بأكمله، أكثر مأساوية في نتائجها وعواقبها المحلية والعالمية، من كل ما عرفته المنطقة في كل تاريخها.

اقرأ المزيد
١٧ ديسمبر ٢٠١٥
اللّعب بـ «الديموغرافيا السوريّة»

مع الاتّهام التركي روسيا مؤخّراً بممارستها التطهير العرقي ضدّ الأقليّة التركمانيّة في سورية، يكون أحد فصول الصراع العثماني الروسي التاريخي قد عاد للحياة مجدداً ليستكمل التغييرات الكبيرة التي كان أحدثها في تركيبة السّكان أواسط القرن لتاسع عشر، امتداداً من القوقاز إلى المشرق. فالعنف الذي مارسه الروس ضدّ مسلمي القوقاز والبلقان في إطار صراعهم مع العثمانيين كان المحرّك الأبرز لتلك التغييرات، الأمر الذي أنتج عدداً من موجات الهجرة التي وصلت تأثيراتها إلى المشرق حيث تتواجد اليوم جاليات من الألبان والشركس والشيشان وغيرهم.

ويمكن القول إنّ الميل إلى التلاعب المباشر بالتركيبات السكانية سواء كان تطهيراً عرقياً أم تهجيراً قسرياً، أصبح ركيزة من ركائز السياسة الروسية إذ حافظت على وجودها وانتقلت ممارستها من العهد القيصري إلى السوفياتي عبر ستالين، وها هو بوتين اليوم يعيد الاعتبار لها مُجدداً.

في المقابل كان لتركيا نموذجها في التدخّل بالتركيبات السكّانية واستثمار العامل الديموغرافي، إلا أنّه لم يكن ذا طابع عُنفي في بدايته، ذاك أنّه اقتصر على فكرة تمكين الديموغرافيا العثمانية خارج حدود السلطنة ومحاولة إدماجها في ديموغرافيا إسلاميّة أوسع. وهذا ما ظهر بوضوح خلال العهد الحميدي كردّ على صعود الهويّات الصغرى في عموم السلطنة، وخصوصاً في أقاليمها المسيحيّة التي كان للروس الدور الأكبر فيها عبر تقوية ثنائية الانتماء السلافي - الأرثوذكسي، ليأتي بعدها انفراط السلطنة وزوال الرابطة العثمانية التي صعدت مكانها القومية التركية التي نتجت منها المجازر ضدّ الأرمن.

وتساهم تعقيدات القضيّة السورية اليوم في تسليط الضوء على ذاك التاريخ وتعيد الاعتبار لتلك الهويّات والانتماءات التي تمّ التلاعب بها أو قمعها، لتكون بذلك جزءاً من جبل الثلج المخفي من الصراع في سورية وعليها. ولئن كانت تركيا تحاول اليوم اللّعب بالورقة الديموغرافية في سورية، سواءً عبر سياستها تجاه اللاجئين السوريين وما يُشاع عن تجنيس بعضهم، أو عبر الأقليّة التركمانية، فإنّها لا تبدو في موقع القادر على منافسة الروس. فهُم أقدر اليوم على الكسب من اللّعب بالورقة الديموغرافيّة وما يتعلّق بها من انتماءات، بسبب قوّة كنيستهم وارتباطها بقوّة الانتماء القوميّ السلافي، إضافة إلى موقع روسيا الحالي كقوّة عُظمى. وهذا كلّه ممّا يصبّ في مصلحة لاعب آخر بورقة الديموغرافيا السورية المتمثّل بالإيرانيين.

لكنّ استعادة التاريخ بظروف اليوم لا يمكن لها أن تكرّر نتائجه السابقة ذاتها، فلا احتلال روسيا وإيران سورية، ولا امتلاك تركيا أوراق الماضي، يمكن أن يضمنا استقرار أي تغيير في تركيبة المشرق. وهذا ما لا يبدو أنّ أصحاب الأحلام الامبراطوريّة يدركونه بعد.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٢٠ أغسطس ٢٠٢٥
المفاوضات السورية – الإسرائيلية: أداة لاحتواء التصعيد لا بوابة للتطبيع
فريق العمل
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى