نيويورك تايمز: أذرع النظام البائد تموّل حملة ضغط أمريكية بمليون دولار.. ومخططات تمرد مسلح من المنفى
أفاد تحقيق موسع أعدته صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية ونشرته في الرابع والعشرين من ديسمبر كانون الأول 2025 أن مجموعة من كبار قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية في نظام بشار الأسد البائد، الذين فروا إلى المنفى عقب انهيار النظام قبل عام، يعملون بشكل سري على تقويض الحكومة السورية الجديدة، في مساعٍ تشمل التخطيط لتمرد مسلح ومحاولات لبسط نفوذ سياسي يصل إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، بحسب ما كشفت عنه مراسلات مخترقة وتحليل موسع لنشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
وذكرت الصحيفة أن هؤلاء القادة، الذين كانوا في صلب آلة القمع التي واجهت الانتفاضة الشعبية السورية لأكثر من عقد، يسعون اليوم إلى استعادة موطئ قدم داخل سوريا، في وقت لا يزال فيه البلد يعيش حالة هشاشة بعد ثلاثة عشر عامًا من الحرب التي أودت بحياة أكثر من ستمئة ألف شخص.
ونقلت الصحيفة عن مقابلات مع مشاركين في هذه التحركات، إلى جانب مراجعتها لعشرات المكالمات الهاتفية والرسائل النصية والمحادثات الجماعية، أن الخلافات الداخلية بين هؤلاء الجنرالات لم تمنعهم من الإصرار على إعادة فرض نفوذهم داخل البلاد.
شبكات مسلحة قيد التشكيل ورسائل مخترقة
بحسب ما أوردته النيويورك تايمز، فإن بعض قادة النظام السابق يعملون من منفاهم على بناء نواة تمرد مسلح، فيما دعم أحدهم حملة ضغط في واشنطن بلغت كلفتها مليون دولار.
وأشارت الصحيفة إلى أن عددًا منهم يطمح إلى اقتطاع شريط من الساحل السوري، حيث تتركز الأقلية العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد وكثير من كبار ضباطه.
ونقلت الصحيفة عن تسجيل هاتفي جرى اعتراضه في أبريل نيسان من لبنان، دون علم صاحبه، قول اللواء السابق في الفرقة الرابعة غياث دلة البالغ من العمر أربعة وخمسين عامًا لأحد مرؤوسيه “لن نبدأ قبل أن نكون مسلحين بالكامل”، في إشارة مباشرة إلى التحضير لعمل عسكري منظم.
وأوضحت الصحيفة أن هذه المكالمة كانت واحدة من عشرات الوثائق الصوتية والنصية التي سلمتها للصحيفة مجموعة من ناشطين سوريين أكدوا أنهم اخترقوا هواتف قادة بارزين في نظام الأسد قبل سقوطه، وواصلوا مراقبة اتصالاتهم منذ ذلك الحين. وأضافت أن الصحيفة دققت المواد وقاطعت معلوماتها مع مسؤولين سوريين يتابعون تحركات شخصيات النظام السابق، إضافة إلى أشخاص على تماس مباشر مع من تم اختراقهم، بينما رفض الناشطون الكشف عن هوياتهم حرصًا على استمرار قدرتهم على المراقبة.
حسن ودلة وهاجس الساحل
حددت الصحيفة شخصيتين محوريتين في هذه التحركات، هما سهيل الحسن، القائد السابق للقوات الخاصة في جيش النظام، وكمال حسن، الرئيس الأسبق لشعبة المخابرات العسكرية، وهما شخصيتان خاضعتان لعقوبات دولية بتهم ارتكاب جرائم حرب. ووفق ما نقلته الصحيفة، فإن الرسائل المتبادلة والمقابلات مع مشاركين في هذه الشبكات أظهرت قيامهما بتوزيع أموال وتجنيد مقاتلين، إضافة إلى سعي شبكة سهيل الحسن للحصول على أسلحة.
وأفادت الصحيفة بأن الرجلين فرا إلى موسكو برفقة بشار الأسد في ديسمبر كانون الأول 2024، إلا أن المراسلات تشير إلى قدرتهما على التنقل رغم العقوبات، إذ التقى سهيل الحسن متعاونين معه في لبنان والعراق وحتى داخل سوريا خلال العام الماضي، بحسب رسائل ناقشت أماكن وجوده.
كما تضمنت الرسائل إشارات إلى زيارات لكمال حسن إلى لبنان، وهو ما أكده للصحيفة مساعد ومجند وأحد معارفه، جميعهم تحدثوا شريطة عدم الكشف عن أسمائهم.
في المقابل، ذكرت الصحيفة أن سهيل الحسن لم يرد على طلبات التعليق، بينما نفى كمال حسن عبر رسالة نصية أي دور له في التحريض على تمرد مسلح، في حين قلل مسؤولون سوريون يراقبون هذه التحركات من خطورة أي تمرد محتمل، مؤكدين، بحسب ما نقلته الصحيفة، أن التهديد مبالغ فيه.
بيئة هشة واستقطاب طائفي
وسلط التحقيق الضوء على السياق العام في سوريا، حيث لا تزال البلاد منقسمة بشدة، مع مناطق لا تخضع إلا جزئيًا لسيطرة الحكومة الجديدة، في وقت يتوجس فيه كثيرون من الخلفية المتطرفة للرئيس السوري أحمد الشرع، الذي سبق أن تحالف مع تنظيم القاعدة قبل قيادته الهجوم الذي أطاح بالأسد.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين سابقين في النظام يتعاونون مع الجنرالات المنفيين قولهم إنهم يعتقدون بقدرتهم على التجنيد داخل المجتمع العلوي، الذي وصفوه بالخائف والمثقل بأعداد كبيرة من الجنود السابقين، رغم إقرارهم بأن مدى الاستجابة ما يزال غير واضح، في ظل نقمة شريحة واسعة من العلويين على النظام بعد سنوات الحرب.
“المحارب المقدس” وخطط العودة
أشارت الصحيفة إلى أن أقدم الاتصالات التي راجعتها تعود إلى أبريل نيسان 2025، عندما لاحظ الناشطون الذين اخترقوا الهواتف تصاعدًا في النشاط، وذلك بعد شهر من مقتل أكثر من ألف وستمئة شخص، معظمهم من العلويين، في موجة عنف طائفي على الساحل السوري، أعقبت هجومًا منسقًا لقوات أمنية سابقة على قوات الحكومة الجديدة أدى إلى مقتل ستة عشر جنديًا.
واعتبرت الصحيفة أن تلك المجزرة شكلت مادة تعبئة استخدمها مسؤولو النظام السابق لاستقطاب مقاتلين علويين، في خطط متنافسة كانت قد أشارت إليها سابقًا وكالة رويترز وموقع إرم نيوز.
وبرز في هذا السياق سهيل الحسن، الملقب بـ”النمر”، والذي اشتهر، بحسب الصحيفة، بتكتيكات الأرض المحروقة واتهم بإصدار أوامر بقصف مدنيين، وكان من أقرب الضباط إلى روسيا التي سارعت إلى إجلائه مع بداية انهيار النظام.
وذكرت الصحيفة أن الحسن لم يمكث طويلًا في موسكو دون نشاط، إذ أظهرت المراسلات بين أبريل والصيف أنه أرسل جداول مكتوبة بخط اليد تتضمن أعداد المقاتلين والأسلحة في قرى الساحل، موضحًا أنه تحقق من هويات أكثر من مئة وثمانية وستين ألف مقاتل، بينهم عشرون ألفًا يملكون رشاشات، وثلاثمئة وواحد وثلاثون مدفعًا مضادًا للطيران، ومئة وخمسون قاذفًا مضادًا للدروع، وخمسة وثلاثون قناصًا لا تزال بحوزتهم أسلحتهم، مختتمًا رسائله بتوقيع ثابت “خادمكم برتبة محارب مقدس”.
تمويل ودعم من رجال النظام السابق
أوضحت الصحيفة أن الحسن لم يسمِّ صراحة “القائد العام” الذي كان يراسله، إلا أن ثلاثة مشاركين في هذه الخطط أكدوا أنه يعمل مع رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد وأحد أبرز رجال أعمال النظام، والذي فر بدوره إلى موسكو، حيث مول هذه التحركات وأرسل مبالغ كبيرة لعائلات علوية فقيرة في الساحل.
ونقلت الصحيفة عن مقربين من مخلوف أنه يقدم نفسه كشخصية خلاصية قادرة على قيادة العلويين، ويعتقد أنه يستطيع التنبؤ بالأحداث عبر نصوص غامضة بحوزته، بينما رفضت عائلته ترتيب مقابلة معه.
وبحسب التحقيق، انضم غياث دلة إلى شبكة الحسن في الربيع، حيث أبلغ في إحدى الرسائل عن توزيعه ثلاثمئة ألف دولار شهريًا على مقاتلين وقادة محتملين، برواتب تتراوح بين مئتي دولار وألف دولار، كما طلب الموافقة على شراء معدات اتصال عبر الأقمار الصناعية بنحو مئة وستة وثلاثين ألف دولار.
وذكر دلة في مراسلاته أنه يقيم مع عائلته في منزل متواضع داخل لبنان، بلا كهرباء أو طلاء للجدران.
وأضافت الصحيفة أن دلة تحدث في اتصالاته عن اجتماعات مع قادة ميليشيات عراقية موالية لإيران لمناقشة تهريب السلاح دون استهداف إسرائيلي أو كشف من السلطات السورية، كما أشار إلى إحباط خطط اغتيال ومحاولات للحصول على طائرات مسيرة وصواريخ مضادة للدروع، بعضها قال إنه مخبأ داخل سوريا.
أذرع استخباراتية ومحاولات ضغط دولي
وفي أبريل نيسان، بحسب النيويورك تايمز، ضم الحسن ودلة إلى شبكتهما اللواء الطيار السابق محمد الحصوري، المتهم بتنفيذ هجوم كيميائي على خان شيخون عام 2017، حيث كتب الحسن أن مسؤولين إيرانيين نقلوا الحصوري وعشرين طيارًا آخرين إلى فندق في لبنان، وأبدوا استعدادهم للانضمام إلى التمرد مقابل تغطية نفقاتهم، قبل أن تفشل هذه الخطط لاحقًا وفق أحد المسؤولين السابقين.
أما كمال حسن، الرئيس السابق لشعبة المخابرات العسكرية، فقد أظهرته المراسلات، بحسب الصحيفة، وهو يقدم أموالًا لمؤيدين ومجندين محتملين، رغم نفيه هذه الاتهامات واعتبارها “ادعاءات سياسية غير موثقة”. ونقلت الصحيفة عن متعاونين معه أنه يركز أكثر على بناء شبكة نفوذ سياسي، من خلال مؤسسة “تنمية غرب سوريا” التي تتخذ من بيروت مقرًا لها، وتروج لنفسها كجهة داعمة للأقليات، بينما تستخدم، بحسب هؤلاء، للضغط في واشنطن من أجل فرض “حماية دولية” لمنطقة الساحل.
وأشارت الصحيفة إلى أن سجلات أمريكية كشفت في أغسطس آب أن المؤسسة تعاقدت مع شركة الضغط السياسي “تايغر هيل بارتنرز” والمستشار السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترامب جوزيف شميتز بعقد قيمته مليون دولار. وبينما نفى كمال حسن لاحقًا أي صلة مباشرة بالمؤسسة، أكدت الشركة، بحسب الصحيفة، أنها تعمل لضمان تمثيل وحماية الأقليات السورية.
قلق دبلوماسي من مسار النفوذ
ونقلت النيويورك تايمز عن دبلوماسيين في سوريا قولهم إنهم يرون محاولات الضغط في واشنطن أخطر من خطط التمرد نفسها، لأنها قد تمهد تدريجيًا لمطالب بكيان شبه مستقل في الساحل.
وقال الدبلوماسي السوري بسام برابندي، بحسب الصحيفة، إن هذه الطروحات “لن تجد صدى اليوم”، لكنه حذر من أنها قد تصبح خيارًا مطروحًا بعد عامين أو ثلاثة إذا فشلت الحكومة الحالية في ترسيخ الاستقرار، ما قد يدفع بعض صناع القرار في الولايات المتحدة إلى البحث عن بدائل.